سبع سنوات مرت ورفيق بعيد عن أهله، أما أهله فكانوا قد تناسوه للهوهم بالعمل عن الافتكار به بعدما رأوا منه نفورا عنهم، وسلوكه معهم ذلك السلوك السيئ واستحياءه بهم وهم أهله ولهم عليه فضل ودين.
في هذه السنوات السبع كان أبو رفيق قد حصل على ثروة فاشترى بيتا لصغاره، وكان يأمل أن يشتري بيتا ثانيا في مطلع السنة الثامنة، وأن يفتح محلا لبيع البضائع بالجملة على أبناء بلاده حملة الجزادين، وصغاره يتعلمون في المدارس العمومية، وهو حاصر كل همه واجتهاده بجعلهم رجال المستقبل، بعيدين عن كل ما اتصف به أخوهم الأكبر.
أما رفيق؛ فقد عاش لنفسه بعيدا عن أب هيئته غير لائقة بمن كان ولده مثل حضرته، وأم تلبس أرخص مما يلبسه الغجر، وإخوة يبيعون الجرائد على قوارع الطرق كأولاد الشحاذين .
وقد شكر الله أنه بعيد عن أهله، وإلا فإن حبيبته «مالي» لا مراء تبتعد عنه ألوف الأميال إذا عرفت من أي الأهل هو. «مالي» أحبها رفيق، وتدرج به حبها إلى الهيام، وقد تعرف بها بالصدفة فحاكاها وحاكته، وشاهدها مرة أخرى في الشارع فرفع لها قبعته، وهي حيته، ثم اجتمع بها فهز يده بيدها وأخذ منها عنوانها، ثم دعاها إلى مناولة غداء معه، فصار يكتب إليها رسائل غرام حتى صارت له حبيبة يهدي إليها الهدايا، ويدعوها مرة في الأسبوع إلى التفرج على الصور المتحركة أو الملاعب التمثيلية.
كل هذا ورفيق يلح على حبيبته أن تتزوج به، وهي تأبى قائلة إنها لا ترضى إلا بما يرضي أباها، وإن أباها إذا عرف أنها تحب أجنبيا يقتلها لا محالة، وقد سألها مرة أن تسمح له بالذهاب إلى بيتها ليسأل يدها من أبيها فمنعته، وأخافته بأنه قد يغضب أبوها عليه وعليها وتكون العاقبة سيئة. ولما دعاها إلى الهرب معه زجرته، وكادت تغضب عليه لولا أنه راضاها وسحب كلامه معتذرا، إذ ذاك صرحت له مالي أنها وإن تكن تحبه فوالدها كل شيء عندها ورضاه غايتها. ومهما يكن الأمر فخاطره الأول والآخر، وأن الفتاة التي تهرب مع الشاب ليست ببنت أصل؛ فإن الشرفاء لا يأتون بمثل هذا.
وظن رفيق أن حبيبته من كبار القوم؛ ولهذا لا تحب أن تعمل إلا بإرادة أهلها، وتذكر حالة أهله مقابلا إياها بحالة أهلها كما يتصورهم، فعظم عليه الأمر وهاله، وأكد جيدا أنه إذا عرفت مالي أهله لا بد أن تبتعد عنه، وتندم على حبه.
وازداد هيامه بها حتى لم يعد بقادر على احتماله، وغالب فكره بالذهاب سرا إلى والدها لعله يستطيع إقناعه فيرضى عن زواجه بمالي وينتهي الأمر. وأخيرا قال: «لنضرب هذه الطينة بالحائط.» وحملته قدماه في ذات ليلة إلى منزل حبيبته لأول مرة، وكان في طريقه خافق القلب، ظانا أنه ذاهب إلى سراي أحد الأمراء أو الملوك، إلا أنه شد ما كان عجبه عندما مشى طويلا وقضى نحو ساعة يسأل المارين والبوليس عن الشارع الذي يسكن فيه ذوو مالي، ولما اهتدى ووصل إلى الرقم الذي يطلبه رأى هناك بيتا كذب ظنونه، فأعاد قراءة الرقم مرارا، ظانا أنه غلطان، ولما قرر الأمر دخل وقد بدأ يشمئز، فدق الباب فخرجت إليه امرأة عجوز بهيئة مخيفة تتوكأ على عصاها، فسألها عن المستر فرتس والد مالي، فقالت له: إنه لم يعد بعد من عمله ولا يعود إلا بعد منتصف الليل، ولكنها أدخلته لتعلم من هو، وماذا يريد.
فدخل إلى غرفة ليس فيها إلا سحارة عند الباب، وفي صدرها طاولة خشبية لها أربع قوائم عليها صحون وسخة، وبإحدى القراني وجاق للطبخ، وفي داخلها سرير عليه فراش مغطى بالوسخ. - من حضرتك يا مستر؟ - أنا رفيق مدور، وقد جئت لأرى المستر فرتس بأمر. - المستر فرتس لا تقدر أن تراه هذا المساء، فإذا شئت أن تقول لي حاجتك فلا بأس، فأنا مسس فرتس. - أأنت مسس فرتس والدة مالي؟ - نعم، أوأنت الشاب الذي يريد ابنتنا؟ - ما جئت لأتكلم بهذا، ولكني أحببت أن أتعرف عليكم.
وما أنهى رفيق هذه العبارة حتى دخلت مالي، ولما وقع بصرها على بصره رقص قلبها، وكاد يثب من مكانه، ولكنها هدأته بالقوة التي يستجمعها المحتار في ساعة مثل الساعة التي وجدت فيها، ولكن وجهها تلبس بالاصفرار وشفتيها تغطتا بالبياض وعينيها تضرمتا بالدم، أما هو فوقف لها ولم تكن حالته بأحسن من حالتها إلا أنه ود أن يختم مهمته بالتي هي أحسن، فقال لها إنه اضطر أن يزور منزل أهلها لأنه ذاهب إلى نيويورك في تلك الليلة؛ إذ بلغه أن أباه حرمه من الميراث وتخلى عنه، ولهذا جاء ليودعها إلى أن يعود.
وخرج رفيق من ذلك المنزل ويده على أنفه، وأخرى تشقل طرفي بنطلونه لئلا يصل إليه الوحل الكثير، وهو يقمز قمزا حتى وصل إلى الشارع العريض، فتابع سيره إلى حيث تنفس الصعداء.
অজানা পৃষ্ঠা