مقدمة
شجرة التنوب
تاك الصغير
فرخ البط القبيح
زهور آيدا الصغيرة
الجندي الصفيح الصامد
عقلة الإصبع
قصص الشمس
إبرة الرفو
بائعة أعواد الثقاب الصغيرة
الحبيبان
مباراة القفز
الأسرة السعيدة
الكائنات الخضراء الصغيرة
أول لوك اوي، رب الأحلام
الحصالة
شجرة البيلسان الأم
ملكة الثلج
الورود والعصافير
المنزل القديم
فرع شجرة التفاح المغرور
مقدمة
شجرة التنوب
تاك الصغير
فرخ البط القبيح
زهور آيدا الصغيرة
الجندي الصفيح الصامد
عقلة الإصبع
قصص الشمس
إبرة الرفو
بائعة أعواد الثقاب الصغيرة
الحبيبان
مباراة القفز
الأسرة السعيدة
الكائنات الخضراء الصغيرة
أول لوك اوي، رب الأحلام
الحصالة
شجرة البيلسان الأم
ملكة الثلج
الورود والعصافير
المنزل القديم
فرع شجرة التفاح المغرور
حكايات هانس أندرسن الخيالية
حكايات هانس أندرسن الخيالية
المجموعة
الأولى
تأليف
هانس كريستيان أندرسن
تحرير
جيني إتش ستيكني
ترجمة
دينا عادل غراب
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
مقدمة
سيظل عمل «حكايات هانس أندرسن» يقرأ في المدارس والبيوت، ما دام هناك أطفال يحبون القراءة. فليس هناك من يضاهي المؤلف بصفته راوي قصص أطفال في قدرته على الاستحواذ على مخيلة الصغار، والتحليق بها في آفاق طبيعية وصحية. وقدرته على أسر الألباب والارتقاء بها تجري كشيء حي في أي شيء يكتبه. ولقد نجحت قصصه في كل الاختبارات التي واجهتها وظلت محتفظة بشعبية لا تتراجع بين أفضل كتب الأطفال. إنها تعد معيارا، وحيث إن كتابات الأطفال تقيم بمقاييس أكثر دقة فإن مكانها في الأدب الخالد سيزداد حجما وثباتا. إن قليلا من مؤلفي كتب الأطفال سيرقى إلى منزلة الخلود، وهانس أندرسن واحد منهم.
وفرت الدنمارك وفنلندا الخلفية الطبيعية للخيال الطريف والعبقرية المتنامية لدى ابنهما الموهوب، وهو الذي كان قصاصا، ومؤلف مسرحيات، وشاعرا في آن واحد. إن حب الطبيعة، وحب الوطن، والمشاركة الوجدانية مع الحياة في كل شيء، وموهبة رائعة في إضفاء الحياة على كل شيء، كلها تآلفت معا لتثمر فيه شخصية ذات سحر يظهر في كل كتاباته. قد يكون عمله «قصة حياتي» هو أكثر كتاباته إثارة. كان أندرسن معروفا في بلاط الملوك وقلاع النبلاء ، وكان يقرأ قصصه هناك بنفس البساطة التي جعلها بها مألوفة في أكواخ الفلاحين، وجعلته محبوبا لكل من أنصت إليه على حد سواء. ورغم أن هذه السمات لا تفسر عبقريته، فهي تساعدنا في فهم سحرها. إن أبسط القصص توفي بالشرط الذي وضعه الناقد راسكين لقصة الأطفال والذي ينص على أن تكون جميلة وحزينة.
من بين أعمال أغلب الكتاب الذين أسهموا إسهاما كبيرا في أدب الطفل، من المرجح ألا يكتسب الخلود سوى القليل من الدرر المنتقاة. لكن الأمر مختلف مع أندرسن؛ فرغم أن هذه الدرر موجودة، فالقيمة الكبرى تكمن في تناول هذه القصص كنوع من الأدب والعيش فيه لوهلة، من خلال قوة القراءة التراكمية. وليس من المبالغة القول بأن في قصص أندرسن طابعا وروحا خاصين به وحده؛ فلسفة بسيطة تكتسب بالقراءة المتواصلة. لهذا السبب فمن المفيد للطفل أن يحوز هذه الكتب؛ فإعادة قراءتها من حين لآخر ستولد لديه توجها صحيا وطبيعيا في القراءة. كما أن العديد من القصص من المفيد قراءتها للأطفال في سن صغيرة جدا؛ فهي توجه مخيلتهم الوثابة إلى قنوات طبيعية.
نص الطبعة الحالية هو إعادة إنتاج لنص سابق كان قائما على المقارنة جملة بجملة بين أربع أو خمس ترجمات حالية في أوروبا وأمريكا. وقد أشيد به على نطاق واسع؛ استنادا إلى أن قراءته ممتعة، مع الاحتفاظ بروح الأصل الدنماركي ونصه. وقد اختصرت اثنتان من القصص الطويلة بقدر ضئيل. كما يلائم ترتيب القصص المختارة بين مستوى القراءة ونمو الطفل؛ فهي يفترض أن تكون سهلة بدرجة كافية للأطفال في سن الثامنة أو التاسعة تقريبا.
جيه إتش ستيكني
شجرة التنوب
في مكان بعيد في الغابة حيث هيأت الشمس الدافئة والهواء المنعش مكانا جميلا للراحة، نبتت شجرة تنوب قصيرة جميلة. ورغم أن الوضع كان أجمل ما يكون، فالشجرة لم تكن سعيدة؛ فقد تمنت بشدة أن تكون مثل رفيقاتها الطويلات، أشجار الصنوبر والتنوب النابتة حولها.
كانت الشمس تسطع، ونسمات الهواء الرقيقة تداعب أوراقها، والأطفال المزارعون الصغار يمرون بها، وهم يثرثرون جذلين؛ إلا أن الشجرة لم تكن تأبه لهم.
كان الأطفال أحيانا يأتون بسلة كبيرة مليئة بتوت العليق أو الفراولة المرصوصة على قش، ويجلسون بجانب شجرة التنوب ويقولون: «أليست هذه الشجرة قصيرة جميلة؟» وهو ما كان يزيدها تعاسة عما قبل.
لكن الشجرة كانت طوال هذه الفترة تزداد طولا بمقدار ثلمة أو عقدة كل عام؛ إذ يمكننا معرفة عمر شجرة التنوب من عدد العقد في ساقها.
إلا أنها ظلت حتى وهي تنمو تشتكي وتقول: «آه! كم أتمنى أن أكون في طول الأشجار الأخرى؛ ساعتها كنت سأمد فروعي في كل جهة، وكان رأسي سيطل على العالم الفسيح حولي. ولا بد أن الطيور كانت ستبني أعشاشها على أغصاني، وحين تهب الرياح، لا بد أنني كنت سأنحني بشمم مهيب مثل رفيقاتي السامقات.»
كانت الشجرة في غاية السخط، حتى إنها لم تكن تجد سعادة في أشعة الشمس الدافئة، أو الطيور أو السحاب الوردي الذي كان يطوف فوقها بكرة وأصيلا.
أحيانا في الشتاء حين كان الثلج ينبسط على الأرض بلونه الأبيض اللامع، كان هناك أرنب صغير يأتي واثبا إليها، ويقفز فوق قمة الشجرة القصيرة، وكم كانت تشعر بالضيق حينذاك!
مر على الشجرة فصلا شتاء، وحين حل الثالث، كانت قد زادت طولا حتى إن الأرنب كان يضطر إلى الركض حولها. إلا أنها ظلت غير راضية وكانت تصيح: «أوه! أريد أن أكبر وأكبر؛ ليتني أظل أنمو طولا وأزداد عمرا! فلا يوجد في الحياة شيء آخر جدير بالاهتمام.»
جاء الحطابون في الخريف كالعادة، وقطعوا العديد من الأشجار الباسقة؛ أما شجرة التنوب القصيرة التي كانت حينذاك بلغت طولا مناسبا يعد أقصى طول لها، فارتعدت حين هوت الأشجار الهائلة على الأرض محدثة صوت ارتطام كبيرا.
وبعد قطع الفروع، بدت الجذوع نحيلة وعارية للغاية، حتى إنه صار من الصعب التعرف عليها. ووضعت على عربات، الواحدة فوق الأخرى، وجرتها الخيول لتخرج بها من الغابة. إلى أين كان يمكن أن تذهب؟ وماذا سيحل بها؟ تاقت شجرة التنوب الصغيرة بشدة إلى أن تعرف.
لذا، في الربيع، حين جاءت طيور السنونو واللقلق، سألتها شجرة التنوب: «هل تعلمون إلى أين أخذت تلك الأشجار؟ هل قابلتموها؟»
لم تكن طيور السنونو تعلم شيئا؛ لكن أحد طيور اللقلق، بعد القليل من التفكير، أومأ برأسه وقال: «نعم، أعتقد أنني أعرف. حين طرت من مصر، لاحظت العديد من السفن الجديدة، وكان لها صوار رائعة تفوح منها رائحة تشبه رائحة أشجار التنوب. لا بد أن هذه كانت الأشجار؛ وأؤكد لك أنها كانت فخمة وتبحر في أبهة شديدة!»
قالت شجرة التنوب: «أوه، كم أتمنى لو كان طولي كافيا للذهاب إلى البحر. فلتخبرني ما هو هذا البحر، وكيف يبدو؟»
قال طائر اللقلق وهو يحلق بعيدا على عجل: «هذا الأمر شرحه يطول؛ يطول جدا.»
قال شعاع الشمس: «فلتبتهجي بشبابك، ولتنعمي بأغصانك الغضة وبالحياة الشابة الكامنة فيك.»
وقبلت الرياح الشجرة، وسقاها الندى بالدموع، لكن شجرة التنوب لم تأبه لهم. •••
اقترب وقت الكريسماس، وقطع العديد من الأشجار الشابة، ومنها ما كان أصغر طولا وعمرا من شجرة التنوب، التي لم تنعم براحة أو سلام لتلهفها إلى مغادرة غابتها. الأشجار الشابة التي اختيرت لجمالها، احتفظت بفروعها، ووضعت هي الأخرى على عربات وجرتها الخيول بعيدا خارج الغابة.
تساءلت شجرة التنوب: «إلى أين ستذهب؟ إنها لا تزيد عني طولا؛ وإحداها ليست طويلة جدا قطعا. ولماذا احتفظوا بكل فروعها؟ إلى أين هي ذاهبة؟»
شدت طيور السنونو قائلة: «نحن نعرف، نحن نعرف، لقد نظرنا من خلال نوافذ المنازل في البلدة، وعرفنا ما يحدث لها. أوه، لا يمكنك أن تتخيلي ما تلقاه من شرف وعظمة. فهي تتأنق بأسلوب غاية في الروعة. لقد رأيناها واقفة في منتصف غرفة دافئة، تزينها أشياء جميلة من شتى الأنواع؛ كعك العسل، والتفاح الذهبي، واللعب، ومئات عديدة من الشموع.»
سألتها شجرة التنوب وكل فروعها ترتجف: «وماذا بعد؟ ماذا يحدث بعد ذلك؟»
قالت طيور السنونو: «لم نر غير ذلك، لكنه كان كافيا لنا.»
حدثت شجرة التنوب نفسها قائلة: «أتساءل ما إن كان سيحدث لي أي شيء بهذه الروعة على الإطلاق؛ فهذا سيكون أفضل حتى من عبور البحر . إنني أتحرق شوقا إلى هذا. أوه، متى يحل الكريسماس هنا؟ فقد صرت الآن في طول وعمر تلك التي أخذت العام الماضي. ليتني كنت الآن موضوعة على العربة، أو واقفة في الغرفة الدافئة تحيط بي كل تلك الأضواء والروعة! لا بد أن شيئا أفضل وأجمل يحدث بعد ذلك، وإلا ما كانت الأشجار زينت هكذا. نعم، سيتبع هذا شيء أعظم وأروع. ماذا عساه يكون؟ إن الشغف يضنيني، وبالكاد أدرك ما هذا الذي يعتريني.»
قال الهواء وضوء الشمس: «فلتبتهجي بحبنا. فلتستمتعي بحياتك السعيدة في الهواء الطلق.»
لكن الشجرة لم تكن تبتهج، مع أنها كانت تزداد طولا كل يوم، وحين كان المارة يرون أوراقها ذات اللون الأخضر الداكن صيفا وشتاء، كانوا يقولون: «يا لها من شجرة جميلة!»
قبل الكريسماس التالي بفترة قصيرة كانت شجرة التنوب الساخطة أول ما سقط من الأشجار. حين قطعت البلطة الجذع بحدة وشقت اللب، سقطت الشجرة على الأرض متأوهة، شاعرة بالألم والإعياء وناسية كل أحلامها بالسعادة في حزنها على مغادرة وطنها في الغابة. فقد أدركت أنها لن ترى رفيقاتها القدامى الأشجار ثانية أبدا، ولا الشجيرات الصغيرة ولا الزهور المتعددة الألوان التي كانت تنمو إلى جانبها؛ بل ربما ولا الطيور حتى. كما أن الرحلة لم تكن ممتعة على الإطلاق.
استعادت الشجرة عافيتها لأول مرة حين أخرجت في فناء منزل، مع العديد من الأشجار الأخرى؛ وسمعت رجلا يقول: «نريد واحدة فقط، وهذه أجملها. هذه بديعة!»
ثم جاء خادمان في زي فخم، وحملا شجرة التنوب إلى غرفة فسيحة وجميلة. هناك، كانت الصور معلقة على الجدران، وبجانب المدفأة العالية المغطاة بالقرميد وقفت زهريات خزفية ضخمة ذات رسوم سوداء على أغطيتها. وكان هناك كراس هزازة، وأرائك حريرية، وطاولات كبيرة مغطاة بصور؛ وكان هناك كتب، ولعب بمئات مئات الدولارات - على الأقل - هكذا كان يقول الأطفال.
ثم وضعت شجرة التنوب في دلو كبير مليء بالرمال - لكنه لف بجوخ أخضر حتى لا يستطيع أحد ملاحظة أنه كان دلوا - ووضعت على بساط فاخر جدا. أوه، كم كانت شجرة التنوب مرتعدة! فما الذي سيحدث لها الآن؟ ثم جاءت بعض السيدات الشابات، وساعدهن الخدم في تزيين الشجرة.
علقوا على أحد الفروع أكياسا صغيرة من الورق الملون، وكان كل كيس مليئا بالحلوى. وتدلى من فروع أخرى تفاحات ذهبية وحبات جوز، كأنها قد نبتت هناك؛ وكان فوقها وفي كل مكان حولها مئات الشموع الحمراء والزرقاء والبيضاء المثبتة على الفروع. ووضع أسفل الأوراق الخضراء دمى تبدو تماما كأنها رجال ونساء بحق؛ وهي أشياء لم تر الشجرة مثيلا لها من قبل قط، وفي قمتها ثبتت نجمة لامعة مصنوعة من زينة ذهبية. أوه، لقد كانت في غاية الجمال. وإذا بالجميع يهتفون: «كم ستكون مبهرة هذا المساء!»
تفكرت الشجرة قائلة في نفسها: «ليت المساء يأتي وتشعل الشموع! فساعتها سأعرف ماذا سيحدث غير هذا. هل ستأتي أشجار الغابة لرؤيتي؟ ترى هل ستختلس طيور السنونو النظر من النوافذ وهي تطير؟ هل سيكون نموي هنا أسرع مما كان في الغابة، وهل سأحتفظ بكل هذه الزينة في الصيف والشتاء؟» لكن لم يكن التخمين ذا جدوى كبيرة؛ فقد أحست بألم في ظهرها من التفكير، وهذا الألم كريه بالنسبة لشجرة تنوب قصيرة مثل الصداع لنا.
وأخيرا أشعلت الشموع، فتألقت الشجرة في هالة من النور والروعة! وكانت كل فروعها ترتجف بشدة من الفرحة، حتى إن إحدى الشموع سقطت بين الأوراق الخضراء وأحرقت بعضا منها. صرخت السيدات الشابات: «النجدة! النجدة!» لكن لم يقع ضرر؛ فقد أطفئوا النار سريعا.
حاولت الشجرة بعد ذلك ألا ترتجف على الإطلاق، ورغم أن النار كانت تخيفها، فقد كانت حريصة على ألا يصيب الضرر أيا من قطع الزينة الجميلة، حتى إن كان تألقها يبهرها.
ثم فتحت الأبواب القابلة للطي، وأهرعت مجموعة من الأطفال كما لو كانوا يقصدون إزعاج الشجرة، وتبعهم على مهل أكثر ذويهم الكبار. وقف الصغار للحظة في صمت مشدوهين، ثم أخذوا يصيحون في مرح حتى تردد صدى صيحاتهم في الغرفة، وأخذوا يرقصون فرحين حول الشجرة والهدايا تؤخذ واحدة بعد الأخرى من فوقها.
قالت الشجرة في نفسها: «ماذا يفعلون؟ ماذا سيحدث بعد ذلك؟» وفي النهاية، تضاءلت الشموع على الفروع وانطفأت. ثم أخذ الأطفال الإذن لاغتنام ما على الشجرة من زينة.
أوه، كم اندفعوا إليها وتكالبوا عليها! ساد هرج شديد حتى إن فروعها شرخت، ولولا أنها كانت مثبتة إلى السقف بالنجمة اللامعة، لكانت ستسقط أرضا.
ثم رقص الأطفال بألعابهم الجميلة في أنحاء الحجرة، ولم ينتبه أحد إلى الشجرة إلا مربية الأطفال، التي جاءت وجالت ببصرها بين الفروع لترى ما إن كان قد نسيت تفاحة أو تينة. •••
صاح الأطفال وهم يشدون رجلا قصيرا بدينا ناحية الشجرة قائلين: «قصة، قصة.»
قال الرجل وهو يجلس تحتها: «لنجلس الآن في الظل الأخضر، وهكذا ستستمتع الشجرة هي الأخرى بسماع القصة؛ لكنني سأحكي قصة واحدة فقط. يا ترى، ماذا ستكون؟ إيفيد أفيد أم هامتي دامتي الذي سقط على الدرج، لكنه نهض سريعا مرة أخرى، وتزوج من أميرة في النهاية؟»
هتف البعض: «إيفيد أفيد»، وصاح آخرون: «هامتي دامتي»؛ وتعالت الصيحات. لكن شجرة التنوب ظلت ساكنة تماما وحدثت نفسها قائلة: «هل لي أي علاقة بكل هذا؟ هل علي أن أصيح أنا أيضا؟» لكنها كانت قد أبهجتهم بالفعل بقدر ما أرادوا، فلم يأبهوا لها.
بعد ذلك حكى لهم الرجل العجوز قصة هامتي دامتي؛ كيف سقط، وكيف نهض ثانية، وكيف تزوج أميرة. صفق الأطفال بأيديهم وصاحوا: «فلتحك واحدة أخرى، فلتحك واحدة أخرى»؛ فقد أرادوا سماع قصة إيفيد أفيد، لكنهم لم يسمعوا هذه المرة سوى قصة هامتي دامتي. بعد هذا لاذت الشجرة بالصمت التام واستغرقت في التفكير. إن الطيور في الغابة لم تحك قط قصصا مثل قصة هامتي دامتي، الذي سقط من فوق الدرج، لكن تزوج من أميرة.
ثم قالت الشجرة في نفسها: «أوه، أجل! هذا يحدث في العالم!» وصدقت القصة برمتها لأن من حكاها كان رجلا لطيف الطباع.
قالت الشجرة في نفسها: «أوه، حسنا! من يدري؟ ربما أسقط أنا أيضا وأتزوج من أمير.» وتطلعت للمساء التالي في فرح، متوقعة أن تزين مرة أخرى بالأنوار والألعاب والذهب والفاكهة. وتحدثت إلى نفسها قائلة : «غدا لن أرتجف، وسوف أستمتع بكل بهائي، وسوف أسمع قصة هامتي دامتي مرة أخرى، وربما قصة إيفيد أفيد.» وظلت الشجرة صامتة تفكر طوال الليل.
في الصباح دخل الخدم. وقالت الشجرة في نفسها: «الآن سيعود لي كل بهائي مرة أخرى.» إلا أنهم جروها خارج الحجرة وصعدوا بها إلى العلية حيث ألقوها على الأرض في زاوية معتمة لا يظهر فيها ضوء النهار، وهناك تركوها. فتساءلت الشجرة في نفسها: «ما معنى هذا؟ ماذا سأفعل هنا؟ لا أستطيع سماع أي شيء في مكان كهذا.» ثم استندت إلى الحائط وراحت تفكر وتفكر.
وقد كان لديها وقت كاف للتفكير؛ فقد مضت أيام وليال دون أن يقترب منها أحد؛ وحين جاء أحد الأشخاص أخيرا، كان فقط ليضع بعض الصناديق الكبيرة في إحدى الزوايا. وهكذا توارت الشجرة تماما عن الأنظار، كأنها لم تكن موجودة قط.
قالت الشجرة في نفسها: «ها قد جاء الشتاء، وصارت الأرض صلبة ومغطاة بالجليد، وبهذا لن يستطيع الناس أن يزرعوني. أعتقد أنني سأبقى هنا حتى يأتي الربيع. كم يهتم بي الجميع ويرفقون لحالي! لكن ليت هذا المكان لم يكن معتما هكذا وموحشا بشكل مخيف هكذا، دون حتى أرنب صغير لأراه. كم كانت الحياة ممتعة في الغابة حين كان الثلج يغطي الأرض، وكان الأرنب يجري عليه، نعم، ويقفز فوقي أيضا، وإن كنت لم أحب ذلك آنذاك. أوه! كم أشعر بوحدة فظيعة هنا.»
صر فأر صغير وهو يتسلل بحرص ناحية الشجرة؛ ثم جاء فأر آخر، وأخذ الاثنان يتشممان شجرة التنوب ويتسللان داخلين خارجين بين فروعها.
قال الفأر الصغير: «أوه، البرد شديد. لولا ذلك لشملتنا راحة كبرى هنا، أليس كذلك يا شجرة التنوب العجوز؟»
قالت شجرة التنوب: «لست عجوزا؛ فهناك كثيرون أكبر مني عمرا.»
سألها الفأران وقد ملأهما الفضول: «من أين أتيت؟ وماذا تعرفين؟ هل رأيت أجمل الأماكن في العالم، وهل تستطيعين أن تحكي لنا عنها؟ وهل ذهبت إلى غرفة التخزين، حيث الأجبان موضوعة على الرف واللحم يتدلى من السقف؟ توجد هناك شموع من الشحم يمكن الجري عليها؛ ومن الممكن أن يدخلها أحدنا نحيفا ويخرج منها بدينا.»
قالت شجرة التنوب: «لا أعلم شيئا عن ذلك، لكنني أعرف الغابة حيث تسطع الشمس وتشدو الطيور.» وأخبرت الشجرة الفأرين الصغيرين بكل ما جرى في أيام شبابها. ولم يكونا قد سمعا بمثل تلك الأشياء في حياتهما؛ حتى إنهما بعد أن أصغيا إليها باهتمام قالا لها: «كم شاهدت من أشياء عديدة! لا بد أنك كنت سعيدة جدا!»
صاحت الشجرة: «سعيدة؟!» ثم قالت وهي تتأمل ما كانت تحكيه لهما: «أوه، نعم! فقد كانت تلك أياما سعيدة على كل حال.» لكن حين واصلت الكلام وحكت كل ما حدث في عشية الكريسماس، وكيف زينت بالكعك والأنوار، قال الفأران: «كم كنت سعيدة حتما يا شجرة التنوب العجوز!»
أجابت الشجرة: «لست عجوزا على الإطلاق؛ فقد جئت من الغابة هذا الشتاء. والآن قد توقف نموي.»
قال الفأران الصغيران: «يا لها من قصص رائعة تلك التي تستطيعين حكيها!» وفي الليلة التالية جاء أربعة فئران أخرى معهما لسماع ما لدى الشجرة من قصص. وكانت كلما تحدثت عاودها المزيد من الذكريات، فحدثت نفسها قائلة: «صحيح، تلك كانت أياما سعيدة؛ لكن ربما تعود مرة أخرى. فرغم أن هامتي دامتي سقط على الدرج فإنه تزوج الأميرة. ربما أتزوج أنا أيضا أميرا.» ثم أخذت شجرة التنوب تفكر في شجرة البتولا القصيرة الجميلة التي كانت في الغابة؛ لقد كانت بالنسبة لها أشبه بأمير بحق، أمير وسيم.
سألتها الفئران الصغيرة: «من هو هامتي دامتي؟» فقصت عليهم الشجرة الحكاية بأكملها؛ إذ استطاعت أن تتذكر كل كلمة. وقد سرت الفئران الصغيرة بها للغاية حتى إنها كانت على استعداد للقفز أعلى الشجرة. وفي الليلة التالية ظهر العديد من الفئران الأخرى، وفي يوم الأحد جاء معها اثنان من الجرذان؛ لكن الجرذين قالا إنها لم تكن قصة حلوة على الإطلاق، وشعرت الفئران الصغيرة بأسف بالغ؛ فقد جعلها هذا تنبذها هي الأخرى.
ثم سألها الجرذان: «هل تعرفين هذه القصة فقط؟»
أجابتهما شجرة التنوب: «أعرف هذه القصة فقط، وقد سمعتها في أسعد أمسية في حياتي؛ غير أنني لم أعلم أنني كنت سعيدة جدا في ذلك الوقت.»
قال الجرذان: «نرى أنها قصة بائسة جدا. ألا تعرفين أي قصص عن اللحم أو الشحم الذي في غرفة التخزين؟»
أجابتهما الشجرة: «لا.»
فرد عليها الجرذان: «شكرا جزيلا لك إذن.» ثم ذهبا إلى حال سبيلهما.
كذلك ابتعدت الفئران الصغيرة بعد ذلك، وتنهدت الشجرة وقالت: «كان الوقت ممتعا جدا حين كانت الفئران الصغيرة المرحة تجلس حولي وتنصت لي وأنا أتحدث. الآن صار كل هذا ماضيا أيضا. لكنني سوف أصير سعيدة حين يأتي أحد ليخرجني من هذا المكان.»
لكن هل سيحدث هذا أبدا؟ نعم؛ فقد جاء أناس ذات صباح لتنظيف العلية؛ حيث خزنت الصناديق، وأخرجت الشجرة من الزاوية وألقيت بقسوة على الأرض؛ ثم جرها الخادمان على الدرج حيث كان ضوء النهار ساطعا.
قالت الشجرة مبتهجة بأشعة الشمس والهواء المنعش: «الآن بدأت الحياة مرة أخرى.» ثم حملت إلى أسفل وأخذت إلى الفناء سريعا جدا حتى إنها نسيت أن تفكر في نفسها، ولم يسعها إلا النظر حولها؛ فقد كان هناك الكثير لتطالعه.
كان الفناء على مقربة من حديقة، بدا كل ما فيها متألقا؛ فقد تدلت ورود نضرة وذكية فوق السياج القصير. وكانت أشجار الزيزفون مزهرة، فيما حلقت طيور السنونو هنا وهناك وهي تغرد قائلة: «سيأتي خليلي»، لكنها لم تكن تقصد شجرة التنوب.
صاحت الشجرة فرحة، وهي تمد فروعها: «الآن سوف أحيا»، لكن وا حسرتاه! كانت كلها ذابلة وصفراء، ووضعت الشجرة في زاوية بين الحشائش ونباتات القراص. كانت النجمة المصنوعة من الورق الذهبي ما زالت مثبتة في قمة الشجرة، وراحت تلمع في ضوء الشمس.
كان يلعب في الفناء نفسه اثنان من الأطفال المرحين الذين رقصوا حول الشجرة في الكريسماس، وكانوا في غاية السعادة آنذاك. رأى أصغرهما النجمة اللامعة، فهرع وشدها من فوق الشجرة، وقال وهو يمشي على الفروع حتى تشرخت أسفل حذائه: «انظر ماذا وجدت على شجرة التنوب العجوز القبيحة.»
وشاهدت الشجرة كل الزهور النضرة اليانعة في الحديقة، ثم نظرت إلى حالها، وتمنت لو كانت ظلت في الزاوية المظلمة في العلية. وتذكرت شبابها الغض في الغابة، وعشية الكريسماس السعيدة، والفئران الصغيرة التي أنصتت إلى قصة هامتي دامتي.
قالت الشجرة المسكينة: «كل هذا انتهى! انتهى! أوه، ليتني استمتعت بحياتي حين كان يتسنى لي ذلك! لكن فات الأوان الآن!»
ثم جاء خادم وقطع الشجرة قطعا صغيرة، حتى تكومت في حزمة كبيرة على الأرض. ووضعت القطع في نار، فاشتعلت سريعا متوهجة، في حين راحت الشجرة تتنهد بعمق بالغ حتى كانت كل تنهيدة بمثابة طلقة من مسدس صغير. ثم جاء الطفلان اللذان كانا يلهوان، وجلسا أمام النار، وتطلعا إليها وصاحا: «طق، طق.» لكن مع كل «طقطقة»، وهي التي كانت تنهيدة عميقة، كانت الشجرة تفكر في يوم من أيام الصيف في الغابة أو إحدى ليالي الشتاء حين كان بريق النجوم ساطعا، وفي عشية الكريسماس، وفي هامتي دامتي - القصة الوحيدة التي سمعتها أو عرفت كيف تحكيها على الإطلاق - حتى فنيت أخيرا.
ظل الطفلان يلعبان في الحديقة، ووضع أصغرهما على صدره النجمة الذهبية التي زينت بها الشجرة في أسعد أمسية في حياتها. انتهى الآن كل شيء؛ انتهت حياة الشجرة وكذلك القصة؛ فكل القصص لا بد لها من نهاية في وقت ما.
تاك الصغير
تاك الصغير! اسم غريب بلا شك! إلا أنه لم يكن الاسم الحقيقي للصبي الصغير. إنما كان اسمه الحقيقي كارل؛ لكنه حين كان صغيرا جدا ولا يستطيع نطق الكلام بوضوح، اعتاد أن يسمي نفسه تاك. من الصعب معرفة السبب؛ فهو ليس مثل اسم كارل مطلقا، لكنه يفي بالغرض، ما دمت تعرفه.
ترك تاك الصغير في المنزل ليعتني بأخته جوستافا، التي كانت تصغره بكثير؛ وكان عليه أيضا أن يستذكر دروسه. هكذا كان عليه أن يفعل شيئين في الوقت نفسه، وهما لا ينسجمان معا على الإطلاق. جلس الفتى المسكين وأخته على حجره، يغني لها كل الأغاني التي يعرفها، وكان يلقي نظرة، من وقت لآخر، على كتاب الجغرافيا خاصته الذي وضع مفتوحا بجانبه؛ إذ كان لا بد أن يكون قد حفظ بحلول صباح الغد أسماء كل البلدات التي في سيلاند عن ظهر قلب، وأن يكون قادرا على أن يذكر أقصى قدر ممكن من المعلومات عنها.
ثم جاءت أمه أخيرا، وأخذت جوستافا الصغيرة بين ذراعيها. فجرى تاك سريعا إلى النافذة، وراح يقرأ ويقرأ حتى لم يعد قادرا على القراءة؛ إذ كان الظلام مقبلا، ولم تكن أمه تستطيع شراء شموع.
قالت أمه وهي تنظر من النافذة: «ها هي غاسلة الملابس العجوز تسير في الحارة. يا للمسكينة! إنها بالكاد تقوى على السير، والآن عليها أن تحمل الدلو الثقيل من مضخة المياه. لتكن فتى طيبا يا تاك الصغير، وتسرع لتساعد السيدة المسكينة.» ركض تاك الصغير بسرعة، وساعد في حمل الدلو الثقيل. لكن حين عاد إلى حجرته، كان الظلام دامسا. لكنه لم ينبس بكلمة عن الشموع، ولم يكن هناك جدوى من تمني واحدة؛ وكان لا بد أن يذهب إلى فراشه النقال الصغير الذي كان مصنوعا من دكة قديمة.
اضطجع وهو لا يزال يفكر في درس الجغرافيا، وفي سيلاند، وفي كل ما كان معلمه قد قاله. لم يستطع أن يقرأ الكتاب مرة أخرى، كما كان يتوجب عليه، لحاجته إلى الضوء. لذلك وضع كتاب الجغرافيا أسفل وسادته؛ فقد أخبره أحد الأشخاص من قبل أن هذه طريقة رائعة للمساعدة على تذكر درسه، إلا أنه لم يتأكد أبدا من أنه يمكن الاعتماد على هذا الأمر.
استلقى في فراشه وظل يفكر ويفكر، حتى شعر فجأة كأن أحدا يغلق ثغره وعينيه بلطف بقبلة. فنام ولم ينم، فقد تراءى له أنه يرى عيني الغاسلة العجوز الوديعتين الحنونتين مثبتتين عليه، وأنه يسمعها تقول: «لا شك أنه سيكون من المؤسف ألا تكون عالما بدرسك غدا، يا تاك الصغير. لقد ساعدتني؛ والآن سأساعدك أنا، وسيساعدنا الرب نحن الاثنين.»
وفجأة بدأت أوراق الكتاب تخشخش أسفل رأس تاك الصغير، وسمع شيئا يحبو تحت وسادته.
صاحت دجاجة وهي تسير ببطء نحوه: «كاك، كاك، كاك! إنني دجاجة كوجيه.» (فقد كانت آتية من بلدة كوجيه.) ثم أخبرته بعدد سكان البلدة الصغيرة ، وعن المعركة التي حدثت هناك في الماضي، وكيف أنها صارت بالكاد تستحق الذكر الآن، لوجود أشياء عديدة أعظم شأنا. «تك، تك!» والآن قفز على السرير طائر خشبي كبير؛ ببغاء من ميدان إطلاق النار في براستو. وكان قد أحصى عدد السكان في براستو، ووجد أنهم كثيرون بقدر عدد الريش الذي في جسده. وكان طائرا فخورا بنفسه، إذ قال: «كان تورفالسن يعيش في إحدى نواحي براستو، على مقربة مني. ألست طائرا جميلا، وببغاء مرحا؟»
لم يعد تاك الصغير الآن راقدا في فراشه؛ ففجأة، أصبح على صهوة جواد، وأخذ يعدو ويعدو. فقد حمله على جواده فارس مهيب ذو خوذة لامعة بريش متطاير - فارس من العصور القديمة - وانطلقا معا في غابة بلدة فوردينبورج العتيقة، التي كانت هي الأخرى بلدة كبيرة مزدحمة. وكانت أبراج قلعة الملك الشاهقة تشق عنان السماء، والأضواء المبهرة ترى وهي تومض عبر النوافذ. بالداخل ترددت أصداء الموسيقى وتجلت مظاهر الاحتفال؛ وكان الملك فالديمار يقود سيدات بلاطه النبيلات ليرقصن معه.
وإذا بالصبح قد طلع فجأة، فبهتت أضواء المصابيح، وبزغت الشمس، وتلاشت أشباح المباني، وأخيرا بقي برج عال واحد كعلامة للمنطقة التي كانت تقوم فيها القلعة الملكية. فقد تقلصت البلدة الشاسعة إلى بلدة فقيرة صغيرة بسيطة. وقال التلاميذ، وهم خارجون من المدرسة حاملين تحت أذرعهم كتب الجغرافيا: «ألفان من السكان»؛ لكن هذا كان محض تفاخر؛ فلم يكن بالبلدة هذا العدد مطلقا.
كان تاك الصغير في فراشه؛ ولم يدر ما إذا كان ما قد شهده حلما أم لا، لكنه وجد على مقربة منه شخصا آخر مجددا.
صاح صوت: «يا تاك الصغير! يا تاك الصغير!» كان صوت بحار صغير. وأضاف: «لقد جئت حاملا إليك السلام من كورسر. كورسر بلدة جديدة، بلدة نابضة بالحياة، بها البواخر وعربات البريد. كان الناس في الماضي يقولون إنها مكان حقير وقبيح، لكنهم لم يعودوا يقولون هذا.
تقول كورسر عن نفسها: «أقع على ساحل البحر؛ ولدي طرق واسعة وحدائق ترفيهية عامة؛ وأنجبت شاعرا، شاعرا ساخرا، وهو أفضل من سائر الشعراء. فكرت ذات مرة في إرسال سفينة لتطوف حول العالم بأسره؛ لكنني لم أفعل، رغم أنني كنت أستطيع. أستمتع كثيرا بمكاني قرب الميناء؛ وتفوح مني رائحة العطور، إذ تتفتح حولي أجمل أنواع الورود، قريبا من بواباتي».»
وكان باستطاعة تاك الصغير أن يشتم رائحة الورود وأن يراها وأوراقها الخضراء النضرة. لكنها اختفت في لحظة؛ إذ انتشرت الأوراق الخضراء وتكاثفت، انبثقت أجمة رائعة فوق مياه الخليج المتلألئة، وقام فوق الأجمة برجان عاليان لكنيسة مهيبة قديمة. من جانب التل المغطى بالحشائش تدفقت ينابيع جرت فيها المياه بألوان قوس قزح، وتصاعد منها صوت موسيقي مرح، وجلس بالقرب منها ملك يضع على شعره الداكن الطويل تاجا ذهبيا. كان هذا هو الملك هرور ملك الينابيع؛ وقريبا من هناك كانت توجد بلدة روسكيلا (التي تعني «ينابيع هرور»). وأعلى التل، على طريق واسع، ذهب كل ملوك الدنمارك وملكاتها، مرتدين تيجانا ذهبية؛ ودخلوا الكنيسة يدا بيد، وامتزجت موسيقى الأرغن العميقة مع خرير الينابيع الصافي؛ إذ كان يرقد في هذه الكنيسة الجميلة كل ملوك الدنمارك وملكاتها تقريبا. وقد شاهد تاك الصغير وسمع كل ذلك.
قال الملك هرور: «لا تنس البلدات.»
ثم اختفى كل شيء، إلا أنه لم يعرف أين ذهب. بدا الأمر شبيها بتقليب صفحات في كتاب.
بعد ذلك وقفت أمامه فلاحة عجوز من سورو، البلدة الهادئة الصغيرة التي تنمو فيها الحشائش في موقع السوق. وكان مئزرها من الكتان الأخضر مسدلا على رأسها وظهرها، وكان مبتلا جدا، كأن الأمطار كانت تهطل بغزارة.
قالت له السيدة: «وهذا ما حدث.» ثم حكت الكثير جدا من الحكايات الشيقة من مسرحيات هولبيرج الكوميدية، وألقت قصائد غنائية عن فالديمار وأبسالون؛ فقد أقام هولبيرج أكاديمية في بلدتها.
وفجأة جثمت وهزت رأسها كأنها ضفدعة على وشك القفز. ثم صاحت: «كواك! الجو ممطر، إنه ممطر دائما، ويخيم السكون على سورو مثل القبر.» ثم تحولت إلى ضفدعة. صاحت: «كواك!» ثم تحولت إلى سيدة عجوز مرة أخرى، وقالت: «لا بد أن يرتدي المرء من الملابس ما يناسب الطقس.»
ثم أضافت: «الجو ممطر ! الجو ممطر! بلدتي مثل الزجاجة؛ تدخلها من فتحة صغيرة، ومن نفس الفتحة تخرج منها. في الماضي كان لدينا أفضل الأسماك؛ والآن لدينا صبية صغار بوجوه متوردة في أسفل الزجاجة. إنهم يتعلمون الحكمة اليونانية؛ اليونانية والعبرية! كواك!»
بدا صياحها مثل نقيق الضفادع بالضبط، أو كأن هناك من يسير على المستنقعات الكبيرة بحذاء ثقيل. كان صوتها مرهقا للغاية، وثابتا على نبرة واحدة، حتى إن تاك الصغير غشيه النوم؛ وكان هذا مفيدا جدا له.
لكن حتى حين نام راوده حلم، أو أيا كان اسمه. رأى أخته الصغيرة جوستافا، بعينيها الزرقاوين وخصلات شعرها الأشقر الملتفة، وقد صارت فتاة فارعة حسناء تستطيع الطيران، رغم أنها لم يكن لديها أجنحة؛ وها هي الآن تطير فوق سيلاند؛ فوق غاباتها الخضراء، ومياهها الزرقاء. «استمع! هل تسمع صياح الديك يا تاك الصغير؟ «كوكو كوكو!» إن الطيور قادمة من كوجيه إلى هنا، وسوف يكون لديك مزرعة، مزرعة دواجن كبيرة جدا ملك لك! لن تعاني الجوع أو الفاقة قط. سيكون لديك الإوزة الذهبية، طائر الحظ السعيد؛ وسوف تصير رجلا ثريا وسعيدا. وسيرتفع منزلك مثل أبراج الملك فالديمار ويزين بالكثير من التماثيل الرائعة مثل تماثيل تورفالسن التي في براستو.
فلتع ما سأقوله جيدا يا تاك الصغير؛ ستذيع سيرتك الطيبة في العالم بأسره، مثل السفينة التي كانت ستبحر من كورسر، وفي روسكيلا سوف تتحدث وتقدم المشورة بحكمة وبصواب، يا تاك الصغير، مثل الملك هرور، وحين ترقد أخيرا في قبرك الهادئ سوف تنام في وداعة كأنك ...»
قال تاك: «كأنني نائم في سورو.» ثم استيقظ. كان صباحا صحوا، ولم يستطع تذكر حلمه، لكن ذلك لم يكن ضروريا؛ فالمرء ليس بحاجة إلى معرفة ما سيراه في المستقبل.
وهنا قفز سريعا من فراشه، وبحث عن كتابه الذي كان قد وضعه أسفل وسادته. ثم قرأ درسه، فوجد أنه يعرف البلدات على نحو جيد جدا.
أطلت الغاسلة العجوز من الباب وقالت وهي تهز رأسها بمحبة: «شكرا يا فتاي الطيب على مساعدتك أمس. فليحقق الرب أسعد وأجمل أحلامك! إنني أثق أنه سيحققها.»
كان تاك الصغير قد نسي ما حلم به، لكن لا يهم؛ فهناك في السماء من يعلم كل شيء.
فرخ البط القبيح
كانت الأجواء جميلة في القرية؛ إذ كان الوقت فصل الصيف، وكانت حقول القمح بلون الذهب، وكان الشوفان أخضر، فيما كدس القش في أكوام هائلة في المروج الخضراء. وأخذ طائر اللقلق يتبختر وسطها بساقيه الطويلتين الحمراوين، وهو يثرثر بكلام باللغة المصرية، وهي اللغة التي تعلمها من أمه.
أحاطت بالمروج وحقول الذرة من كل ناحية غابة كثيفة، وفي منتصف الغابة كانت توجد بحيرة عميقة. حقا، كانت الأجواء جميلة ومبهجة في القرية.
وفي منطقة مشمسة كان يوجد بيت ريفي قديم جميل تحيط به قنوات عميقة من كل النواحي؛ وكان ينمو من جدران البيت حتى حافة المياه نباتات أرقطيون ضخمة، بالغة الارتفاع، حتى إنه من الممكن لطفل صغير أن يقف أسفل أطولها منتصب القامة. كانت المنطقة مقفرة كما لو كانت واقعة في قلب غابة كثيفة.
في هذا الملاذ الآمن جلست بطة على عشها، في انتظار أن يفقس بيضها؛ إلا أن السعادة التي كانت قد أحست بها في البداية كادت تختفي؛ إذ بدأت تراها مهمة شاقة؛ فقد استغرق الصغار وقتا طويلا جدا في الخروج من البيض، وهي قلما يأتيها زوار. فقد كانت البطات الأخريات يفضلن السباحة في القنوات على تسلق الضفاف الزلقة والجلوس أسفل أوراق الأرقطيون للتسامر معها، فاستطال عليها كثيرا الجلوس وحدها.
مع ذلك، فقست بيضة في نهاية المطاف، وسرعان ما تبعتها أخرى، وخرج من كل بيضة كائن حي رفع رأسه وصاح: «بيب، بيب.»
قالت الأم: «كاك، كاك»؛ فحاول الجميع أن يصيحوا هكذا أيضا، بقدر ما استطاعوا، وهم ينظرون حولهم في كل اتجاه إلى الأوراق الخضراء الطويلة. وسمحت لهم أمهم بالنظر حولهم كما يحلو لهم؛ لأن اللون الأخضر مفيد للعين.
حين وجد الصغار أن لديهم مساحة أكبر كثيرا عن التي كانت داخل البيضة قالوا: «يا له من عالم كبير حقا!»
قالت الأم: «هل تعتقدون أن هذا هو العالم بأسره؟ انتظروا حتى تروا الحديقة. إنها أوسع من ذلك حتى إنها تمتد حتى حقل الراعي، رغم أنني لم أغامر بالذهاب بعيدا هكذا قط. هل خرجتم جميعا؟» وواصلت الكلام وقد نهضت لتنظر: «لا، ليس كلكم؛ يا للدهشة، فأكبر بيضة ما زالت هنا. ترى حتى متى سيستمر هذا الأمر؛ فقد كدت بحق أسأم منه.» لكنها جلست مرة أخرى رغم ذلك.
صاحت بطة عجوز جاءت لزيارتها: «حسنا، كيف حالك اليوم؟»
قالت الأم الحانية، التي كانت راقدة بلا حراك على عشها: «إحدى البيضات تستغرق وقتا طويلا لتفقس. فقشرتها صلبة ولا تنشرخ. لكن انظري للآخرين. أليس لدي أسرة جميلة؟ أليست أجمل فراخ بط صغار رأيتها على الإطلاق؟ إنهم يشبهون أباهم؛ عديم النفع! فهو لا يأتي ليراني قط.»
قالت البطة العجوز: «دعيني أر البيضة التي لم تفقس. إنني متأكدة أنها بيضة دجاج حبشي. فقد حدث لي نفس الشيء ذات مرة، ويا للمشاكل التي سببها لي، فالصغار يخافون من الماء. أخذت أصيح وأنق لكن دون جدوى. دعيني ألق عليها نظرة. نعم، إنني على صواب؛ أقسم إنها بيضة دجاج حبشي؛ فلتعملي بنصيحتي ولتتركيها في مكانها. اذهبي إلى المياه وعلمي الصغار الآخرين السباحة.»
قالت الأم: «أعتقد أنني سأمكث لبعض الوقت. فقد رقدت كثيرا، ولن يفرق يوم أو يومان.»
قالت البطة العجوز وهي تنهض: «حسنا جدا، كما تريدين.» ثم رحلت. •••
أخيرا فقست البيضة الكبيرة، وصاح الطائر الأخير: «بيب، بيب»، وهو يزحف خارجا من البيضة. كم كان كبيرا وقبيحا! أخذت البطة الأم تحدق فيه وهي لا تدري فيم تفكر. ثم قالت: «هذا فرخ بط ضخم حقا، ولا يشبه أيا من الآخرين مطلقا. ترى هل سيصير دجاجا حبشيا. حسنا، سنرى حين نذهب إلى المياه؛ فلا بد أن ينزل المياه، حتى إن كنت سأضطر إلى دفعه إليها بنفسي.»
في اليوم التالي كان الجو لطيفا. وأشرقت الشمس ساطعة على أوراق الأرقطيون الخضراء، فأخذت البطة الأم أسرتها كلها إلى البركة وقفزت فيها فتناثرت المياه. وصاحت: «كاك، كاك!» فقفز البط الصغير واحدا تلو الآخر. غطست رءوسهم تحت المياه، لكنهم أخرجوها مرة أخرى في الحال وعاموا بشكل بديع للغاية، وأرجلهم تجدف تحتهم بمنتهى اليسر؛ فقد كانت أرجلهم تتحرك من تلقاء نفسها؛ وكان الفرخ القبيح ذو الريش الرمادي في الماء أيضا، يسبح معهم.
قالت الأم: «أوه، إنه ليس دجاجا حبشيا. انظروا كيف يستخدم رجليه جيدا، وكيف يشد عوده! إنه صغيري، وليس قبيحا جدا على كل حال، إن نظرتم إليه بالطريقة الصحيحة. كاك، كاك! تعالوا معي الآن. سوف آخذكم لمجتمع الكبار وأعرفكم على المزرعة، لكن لا بد أن تظلوا قريبين مني وإلا داستكم الأقدام؛ واحترسوا من القط بشكل خاص.»
حين بلغوا فناء المزرعة، كان هناك أعمال شغب مؤسفة؛ إذ كانت عائلتان تتعاركان على رأس سمكة أنقليس، والتي خطفها القط في النهاية. قالت البطة الأم وهي تحك منقارها؛ فهي نفسها كانت ترغب في رأس الأنقليس: «انظروا يا أطفال، هذا هو حال الحياة. هيا الآن، فلتعتمدوا على أرجلكم، ودعوني أر كيف تحسنون التصرف. لا بد أن تحنوا رءوسكم بلطف لتلك البطة العجوز هناك؛ فهي الأرفع نسبا بينهم جميعا ولديها عرق إسباني؛ ولذلك هي موسرة الحال. ألا ترون قطعة القماش الحمراء الملفوفة حول ساقها؟ إنها علامة على منزلة كبرى وشرف كبير بين البط؛ إنها دليل على أن على الجميع الحرص على الانتباه لها، وأنه على كل من الإنسان والحيوان احترامها. هيا الآن، لا تقبضوا أصابعكم؛ البط الصغير المهذب يقف مباعدا بين قدميه، تماما مثل أبيه وأمه، بهذه الطريقة؛ والآن أحنوا رقابكم وقولوا: «كاك»!»
فعل البط الصغير ما أمروا به، لكن البط الآخر ظلوا يحدقون، وقالوا: «انظروا، ها هي فراخ أخرى؛ كأن المكان لم يضق بنا بالفعل! ويا للهول، يا له من كائن غريب الشكل الذي بينهم؛ إننا لا نريده هنا!» ثم طار أحدهم وعضه في رقبته.
قالت الأم: «دعه وشأنه؛ إنه لا يسبب أي أذى.»
قال ذكر البط الشرير: «نعم، لكنه كبير وقبيح جدا. إنه مخيف للغاية. ولذلك لا بد من طرده. القليل من العض سيفي بالغرض.»
قالت البطة العجوز ذات القماشة الملفوفة حول ساقها : «الصغار الآخرون شكلهم جميل جدا، كلهم ما عدا ذلك. أتمنى أن تستطيع أمه أن تلطف من شكله بعض الشيء؛ فهو دميم حقا.»
أجابت الأم: «هذا مستحيل يا صاحبة السمو. إنه ليس حسن الشكل، لكنه حسن الطباع للغاية ويسبح مثل الآخرين بل أفضل منهم. أعتقد أنه سيصير جميلا حين يكبر، وربما أصغر حجما. لقد مكث طويلا جدا في البيضة؛ ولهذا لم يتكون شكله على النحو الصحيح.» ثم ربتت على رقبته ومسدت ريشه، وهي تقول: «إنه ذكر؛ لذا ليس لشكله أهمية كبيرة. أعتقد أنه سيكون قويا حين يكبر وقادرا على العناية بنفسه.»
قالت البطة العجوز: «البط الصغير الآخر جميل بالقدر الكافي. والآن فلتتصرفوا كأنكم في منزلكم، وإن عثرتم على رأس أنقليس فلتأتوني به.»
وهكذا مضوا مطمئنين؛ لكن فرخ البط المسكين الذي كان آخر من خرج من بيضته بعد الجميع وكان يبدو قبيحا جدا، عضته وزجرته وسخرت منه كل الطيور الداجنة، وليس البط فقط.
قال الجميع: «إنه كبير جدا»؛ أما الديك الرومي، الذي ولد بشويكات في رجليه وكان يتخيل نفسه إمبراطورا بحق، فقد انتفخ مثل سفينة ناشرة كل أشرعتها وهاجم فرخ البط. كان رأسه قد احمر غضبا تماما، حتى إن الصغير المسكين لم يعلم أين يذهب، وكان بائسا جدا؛ لأنه كان قبيحا لدرجة أن كل من في فناء المزرعة سخر منه.
وتوالت الأيام، وساء الحال أكثر فأكثر. كان الجميع ينبذ الفرخ الدميم؛ حتى أشقاؤه وشقيقاته كانوا قاسين معه ويقولون له: «أوه، يا لك من مخلوق دميم، ليت القط يمسك بك!» وحتى أمه سمعت وهي تقول إنها تتمنى لو أنه لم يولد قط. وكان البط ينقره، والدجاج يضربه، والفتاة التي تطعم الطيور الداجنة كانت تدفعه بقدميها. لذلك هرب في النهاية، فأخاف الطيور الصغيرة التي عند سياج الأشجار وهو يطير فوق الأوتاد. وقال: «إنهم خائفون لأنني قبيح جدا.» لذلك ظل يطير مبتعدا، حتى وصل إلى مستنقع كبير يسكنه بط بري. وهناك مكث الليلة بطولها، وهو يشعر بأسى شديد.
في الصباح، حين ارتفع البط البري في السماء، راحوا يحدقون في رفيقهم الجديد. ثم قالوا جميعا، وهم يلتفون حوله: «من أي أنواع البط أنت؟»
فانحنى لهم وكان لطيفا معهم قدر استطاعته، ولكنه لم يجب عن سؤالهم. قال البط البري: «إنك قبيح للغاية، لكن هذا لا يهم ما دمت لن تتزوج واحدة من أسرتنا.»
يا للمسكين! فهو لم يكن يفكر في الزواج؛ إنما كل ما أراده السماح بالجلوس بين نباتات الأسل والشرب من ماء المستنقع. وبعد أن مر عليه يومان في المستنقع، جاء اثنان من الإوز البري، أو بالأحرى أفراخ الإوز، فلم يكونا قد خرجا من البيضة منذ وقت طويل، وهذا مما يفسر وقاحتهما. قال أحدهما لفرخ البط: «اسمع يا صديقي، إنك قبيح جدا حتى إننا أحببناك للغاية. هلا أتيت معنا وصرت من الطيور المهاجرة؟ يوجد مستنقع آخر على مقربة من هنا، يوجد فيه بعض الإوز البري، كلهم غير متزوجين. إنها فرصة لك لتحصل على زوجة. فقد يحالفك الحظ رغم قبحك.»
ثم دوى في الهواء صوت «طاخ، طاخ»، وسقط ذكرا الإوز البري صريعين بين نباتات الأسل، وتلونت المياه بلون الدم. تردد الصوت «طاخ طاخ» في جميع الأرجاء، وقامت أسراب بأسرها من الإوز البري من بين النباتات.
ظل الصوت يأتي من كل اتجاه، فقد أحاط الصيادون بالمستنقع، حتى إن بعضهم جلسوا على فروع الأشجار، المطلة على نباتات الأسل. ارتفع دخان البنادق الأزرق مثل السحب فوق الأشجار الداكنة، وبينما هو يطفو بعيدا فوق المياه، قفز عدد من كلاب الصيد بين النباتات، التي انثنت تحتها أينما ذهبت. كم أرعبت فرخ البط المسكين! فقد أدار رأسه ليخبئه أسفل جناحه، وفي نفس اللحظة مر كلب ضخم مريع قريبا جدا منه. كان فكاه منفرجين، ولسانه متدليا من فمه، وعيناه تلمعان لمعانا مخيفا. وقد دس أنفه مقتربا من فرخ البط، كاشفا عن أسنانه الحادة، ثم دخل في الماء، محدثا رذاذا كبيرا، دون أن يمسه.
تنهد فرخ البط وقال: «أوه، كم أنا ممتن لقبحي الشديد؛ فحتى الكلاب تأبى أن تعضني!»
هكذا جلس في سكون تام، والطلقات تخترق النباتات، وبندقية تلو الأخرى تطلق الرصاص فوقه. ولم تهدأ الأجواء قبل ساعة متأخرة من اليوم، لكن حتى آنذاك لم يجرؤ الصغير المسكين على الحركة. إذ انتظر ساعات في صمت، ثم نظر حوله بحذر قبل أن يفر مسرعا من المستنقع بأقصى ما استطاع من سرعة. جرى عابرا حقلا ومرجا حتى قامت عاصفة، استطاع أن يسير خلالها بمشقة شديدة.
مع اقتراب المساء وصل إلى كوخ صغير رديء بدا على وشك الانهيار، وبدا أنه لم يبق قائما إلا لأنه لم يستطع أن يقرر الجانب الذي سيسقط عليه أولا. ظلت العاصفة تهب عاتية حتى إن فرخ البط لم يقو على التقدم أكثر من ذلك. جلس قريبا من الكوخ، ثم لاحظ أن الباب لم يكن مغلقا تماما؛ لأن إحدى مفصلاته قد انخلعت. لذلك كان ثمة فتحة ضيقة قرب أسفل الباب تكفي ليتسلل منها، وهو ما فعله في هدوء شديد، وهكذا حصل على مأوى من أجل المبيت. كان يعيش في هذا الكوخ امرأة وقط ودجاجة. القط الذي كانت تناديه سيدته: «ولدي الصغير»، كان له حظوة كبيرة لديها؛ فقد كان يستطيع أن يقوس ظهره، ويخرخر، بل كان يستطيع حتى أن يطلق شررا من فرائه إن ربت عليه بطريقة خاطئة. أما الدجاجة فقد كان لديها ساقان قصيرتان جدا، لذا كانت تدعى «تشيكي القصيرة». وكانت تضع بيضا جيدا، وكانت سيدتها تحبها كأنها طفلتها. في الصباح اكتشفوا الزائر الغريب؛ فأخذ القط يخرخر والدجاجة تقوق.
قالت السيدة العجوز وهي تجول بنظرها في أنحاء الحجرة: «لماذا هذه الضجة؟» إلا أن نظرها لم يكن قويا؛ لذلك حين رأت فرخ البط اعتقدت أنه لا بد أن يكون بطة سمينة ضلت الطريق. هتفت قائلة: «أوه، يا لها من غنيمة! أرجو ألا يكون ذكرا، فساعتها سأحصل على بعض بيض البط. لا بد أن أتريث.»
هكذا سمح لفرخ البط بالبقاء ثلاثة أسابيع على سبيل التجربة؛ لكن لم يكن هناك بيض.
كان القط هو سيد المنزل، وكانت الدجاجة هي سيدته؛ وكانا دائما يقولان: «نحن والعالم»، إذ كانا يعتقدان أنهما نصف العالم، بل إلى حد كبير نصفه الأفضل كذلك. وكان فرخ البط يعتقد أنه من الممكن أن يكون للآخرين رأي مختلف حول الأمر، لكن الدجاجة لم تكن تلقي بالا لمثل تلك الشكوك.
سألته الدجاجة: «هل تستطيع أن تبيض؟» فأجابها قائلا: «لا.» فقالت: «فلتتحل بالصمت إذن.» وسأله القط: «هل تستطيع أن تقوس ظهرك أو تخرخر أو تطلق شررا؟» فقال: «لا.» قال القط: «إذن ليس من حقك أن تعبر عن رأيك حين يتحدث أشخاص حكماء.» هكذا جلس فرخ البط في ركن، شاعرا بحزن شديد؛ لكن حين دخل ضوء الشمس والهواء المنعش الحجرة من الباب المفتوح، بدأ يراوده شوق شديد للسباحة، فلم يستطع كتمانه.
قالت الدجاجة: «يا لها من فكرة سخيفة! ليس لديك شيء آخر لتفعله؛ لذلك لديك خيالات حمقاء. لو كنت تستطيع الخرخرة أو وضع البيض، لكانت ستزول.»
قال فرخ البط: «لكن السباحة في الماء ممتعة جدا، ومن المنعش جدا أن تشعر بالماء وهي تغمرك وأنت تغوص إلى الأعماق.»
قالت الدجاجة: «ممتعة حقا! لا بد أنها نوع غريب من المتعة. ويحي، لا بد أنك مجنون! فلتسأل القط؛ فهو أمهر الحيوانات التي عرفتها؛ اسأله إن كان يود السباحة في الماء، أو الغوص فيها؛ فأنا لن أتحدث عن رأيي الخاص. فلتسأل سيدتنا، السيدة العجوز؛ فليس هناك في العالم من هو أذكى منها. هل تعتقد أنها قد تستمتع بالسباحة والسماح للماء بأن يغمر رأسها؟»
قال فرخ البط: «أعتقد أنكم لا تفهمونني.» «لا نفهمك؟ ترى من يستطيع أن يفهمك؟ هل تعتقد أنك أذكى من القط أو السيدة العجوز، ناهيك عني أنا؟ لا تتخيل مثل تلك الترهات أيها الصغير، واشكر حسن حظك على ما لاقيته من حسن استقبال هنا. ألست في مكان دافئ وصحبة يمكنك أن تتعلم منها شيئا؟ إلا أنك ثرثار، وصحبتك ليست بالمقبولة. صدقني؛ فأنا لا أتكلم إلا من أجل مصلحتك. قد يكون فيما أخبرك به حقائق قاسية، لكن ذلك دليل على صداقتي. لذلك أنصحك بأن تبيض وتتعلم أن تخرخر بأسرع ما يمكن .»
قال فرخ البط: «أعتقد أنني لا بد أن أخرج إلى العالم مجددا.»
قالت الدجاجة: «أجل، فلتفعل.» هكذا ترك فرخ البط الكوخ وسرعان ما وجد ماء أمكنه السباحة والغوص فيه، إلا أن كل الحيوانات الأخرى تحاشته بسبب منظره الدميم.
وجاء الخريف، وتلونت أوراق الأشجار في الغابة باللونين البرتقالي والذهبي؛ وحين أقبل الشتاء، التقطتها الرياح حين سقطت ودارت بها في الهواء البارد. وانخفض السحاب في السماء، مثقلا بالبرد وندف الثلج، ووقف الغراب بين عيدان الخيزران، ينعق: «كروك، كروك.» إن النظر إليه كفيل أن يجعل الجسد يرتجف بردا. أصاب كل هذا فرخ البط الصغير المسكين بغم شديد.
ذات مساء، بينما كانت الشمس تغرب بين السحب الوضيئة، خرج سرب كبير من الطيور الجميلة من بين الشجيرات. لم يكن فرخ البط قد رأى مثيلا لها من قبل. كانت بجعات؛ وكانت تلوي أعناقها الجميلة، بينما يلمع ريشها الناعم بلون أبيض مبهر. كانت تردد صيحة فريدة وهي تمد أجنحتها البديعة وتطير بعيدا عن هذه المناطق الباردة إلى بلاد أكثر دفئا وراء البحر. بينما كانت ترتفع أكثر فأكثر في الهواء، اعترى فرخ البط الصغير القبيح شعور غريب إذ يشاهدها. أخذ يدور في الماء مثل العجلة، واشرأب بعنقه تجاهها، وأطلق صيحة غريبة جدا حتى إنها أفزعته هو شخصيا. هل يمكنه أن ينسى أبدا تلك الطيور الجميلة الهانئة؟! وحين غابت أخيرا عن نظره، غاص تحت الماء وخرج مرة أخرى وهو في قمة الإثارة. لم يكن يعرف أسماء هذه الطيور ولا إلى أين طارت، لكنه أحس تجاهها بمشاعر لم يحس بها تجاه أي طيور أخرى في العالم.
إنه لم يشعر بالغيرة من هذه المخلوقات الجميلة؛ فلم يخطر له مطلقا أن يتمنى لو كان جميلا مثلها. لقد كان هذا المخلوق الدميم المسكين سيعيش راضيا حتى مع البط، لو كانوا فقط أحسنوا معاملته وشجعوه.
ازدادت برودة الشتاء أكثر فأكثر؛ وكان يضطر إلى السباحة في الماء ليمنعه من التجمد، لكن في كل ليلة كانت المساحة التي يسبح فيها تضيق أكثر فأكثر. في نهاية المطاف تجمد الماء بشدة حتى إن الجليد كان يطقطق وهو يتحرك في الماء، وكان على فرخ البط أن يجدف بساقيه بقدر ما يستطيع، ليمنع المساحة من التقلص. لكن حل به الإنهاك في النهاية، فرقد بلا حراك عاجزا، وقد تجمد في مكانه في الجليد.
في الصباح الباكر رأى فلاح أثناء عبوره في الجوار ما جرى. فحطم الجليد بحذائه الخشبي وحمل فرخ البط معه إلى المنزل لزوجته. أعاد الدفء الحياة إلى المخلوق الصغير المسكين؛ لكن حين أراد الأطفال اللعب معه، اعتقد فرخ البط أنهم سيمسونه بأذى، لذا هب مفزوعا، وطار مصطدما بوعاء الحليب، فتناثر الحليب في أنحاء الغرفة. صفقت السيدة بكفيها، مما أثار فزعه أكثر؛ فطار أولا إلى برميل الزبد، ثم وعاء الطحين وخرج منه ثانية. يا للحالة التي كان فيها! راحت السيدة تصرخ وتضربه بالمساكة؛ وأخذ الأطفال يضحكون ويصرخون ويتعثرون بعضهم ببعض في محاولاتهم للإمساك به، لكنه هرب لحسن الحظ. فقد كان الباب مفتوحا؛ واستطاع المخلوق المسكين بمشقة التسلل بين الشجيرات والاستلقاء في تعب شديد على الثلج الذي سقط حديثا.
سيكون من المثير لبالغ الحزن أن أسرد كل البؤس وألوان الحرمان التي عاناها فرخ البط الصغير المسكين خلال الشتاء القاسي؛ لكنه حين انتهى وجد نفسه مستلقيا ذات صباح في مستنقع بين نباتات الأسل، حيث شعر بأشعة الشمس الدافئة وسمع شدو القنبرة، ورأى مظاهر الربيع البهي تحيط به من كل ناحية.
حينها، شعر الطائر الصغير أن جناحيه قويان، وهو يرفرف بهما ويرتفع عاليا في الهواء. وظلا يحملانه متقدما حتى وجد نفسه في حديقة كبيرة قبل حتى أن يدرك حقا كيف حدث هذا. كانت أشجار التفاح كاملة النضج، فيما أنزلت أشجار البيلسان العطرة فروعها الخضراء الطويلة إلى الجدول، الذي أحاط بمرج منبسط. بدا كل شيء خلابا في رونق أوائل الربيع. جاءت ثلاث بجعات بيض جميلات من أجمة قريبة، يسمع لريشها حفيف بينما تعوم في خفة في المياه الرائقة. رأى فرخ البط هذه الطيور الجميلة فانتابه حزن غريب أكثر من أي وقت مضى.
صاح فرخ البط: «سوف أطير إلى هذه الطيور العظيمة، وسوف تفتك بي لتجرئي على الاقتراب منها رغم قبحي. لكن هذا لا يهم؛ فمن الأفضل أن أقتل بأيديها عن أن ينقرني البط، أو يضربني الدجاج، أو تدفعني بقدميها الفتاة التي تطعم الدواجن، أو أتضور جوعا في الشتاء.»
ثم طار إلى الماء وسبح متجها إلى البجعات البديعات، التي ما أن لمحت الطائر الغريب حتى أسرعت لملاقاته بأجنحة ممدودة.
قال الطائر المسكين: «فلتقتلوني»، ثم أحنى رأسه لسطح الماء وانتظر الموت.
لكن ما الذي رآه في صفحة الماء الصافي تحته؟ رأى صورته. لم يعد طائرا رماديا داكنا، قبيحا وكريه المنظر، وإنما ذكر بجع رشيق وجميل.
ليست هناك مشكلة في أن يولد الطائر في عش بط في فناء مزرعة ما دام خرج من بيضة بجعة. الآن شعر بسعادة لما عاناه من حزن ومتاعب؛ لأنه منحه القدرة على أن يستمتع أكثر بكل البهجة والسعادة التي حوله؛ فقد راحت البجعات الكبيرات يسبحن حول الوافد الجديد وتربت على عنقه بمناقيرها، على سبيل الترحيب.
بعد قليل جاء إلى الحديقة بعض الأطفال الصغار، وألقوا بخبز وكعك في الماء.
صاح أصغرهم: «انظروا، يوجد طائر جديد.» وكان الباقون مسرورين، وجروا إلى أبيهم وأمهم، وهم يرقصون ويصفقون ويصيحون في مرح: «هناك بجعة أخرى جاءت؛ لقد جاء طائر جديد.»
ثم ألقوا بمزيد من الخبز والكعك في الماء وقالوا: «الطائر الجديد هو أجملهم جميعا؛ إنه صغير ومليح للغاية.» وأحنت البجعات الكبيرة رءوسها له.
حينها، شعر بخجل شديد وأخفى رأسه أسفل جناحه، إذ لم يدر ماذا يفعل؛ فقد كان سعيدا للغاية، إلا أنه لم يشعر بالزهو على الإطلاق. كان قد تعرض للاضطهاد والاحتقار لقبحه، والآن سمعهم يقولون إنه الأجمل بين كل الطيور. حتى شجرة البيلسان انحنت بفروعها في الماء أمامه، وسطعت الشمس دافئة ومتوهجة. ثم نفض ريشه، وقوس عنقه الرفيع، وصاح فرحا، من أعماق قلبه: «لم أحلم قط بمثل هذه السعادة حين كنت فرخ البط القبيح المذموم.»
زهور آيدا الصغيرة
قالت آيدا الصغيرة: «زهوري المسكينة ذابلة تماما! أمس مساء كانت جميلة للغاية، والآن كل أوراقها صارت مرتخية.» ثم سألت الطالب الذي كان جالسا على الأريكة: «لماذا تبدو هكذا؟» كان الطالب محببا جدا لديها؛ لأنه اعتاد أن يقص عليها أجمل القصص ويصنع لها من الورق أشكالا غاية في الروعة؛ قلوب بداخلها سيدات صغيرات يرقصن، وقلاع مرتفعة بأبواب يمكن فتحها وغلقها. لقد كان طالبا مرحا. سألته مجددا وهي تريه باقة من الزهور الذابلة: «لماذا تبدو حالة الزهور مزرية هكذا اليوم؟»
أجابها الطالب: «ألا تعلمين؟ لقد ذهبت الزهور إلى حفل راقص ليلة أمس؛ لذا فهي متعبة. ولذلك تدلي رءوسها.»
صاحت الفتاة: «لا يمكن؛ فالزهور لا تستطيع الرقص!» «بل تستطيع الرقص بالطبع! حين يحل الظلام، ونذهب جميعا إلى الفراش، تظل تقفز في فرحة عارمة. إنها تقيم حفلا راقصا كل ليلة تقريبا.»
سألته آيدا: «وهل يستطيع أطفالها الذهاب إلى الحفل الراقص أيضا؟»
أجابها الطالب: «أوه، بالتأكيد، زهور الأقحوان والزنابق الخاصة بالوادي الصغيرة جدا.» «ومتى ترقص أجمل الزهور؟» «ألم تذهبي إلى الحديقة الكبيرة الواقعة خارج بوابة البلدة، أمام القلعة التي يقيم فيها الملك في الصيف؛ الحديقة المليئة بزهور جميلة؟ لا بد أنك تتذكرين البجع الذي يأتي سابحا حين تعطينه فتات الخبز؟ صدقيني، لديهم هناك حفلات رقص رائعة.»
قالت آيدا: «لقد كنت هناك للتو أمس مع أمي، لكن لم يكن هناك أوراق على الأشجار، ولم أر زهرة واحدة. فما الذي حدث لها؟ كان هناك الكثير جدا منها في الصيف.»
أجابها الطالب: «إنها داخل القصر الآن. بمجرد أن يعود الملك وكل حاشيته للبلدة، تسارع الزهور بمغادرة الحديقة وتدخل القصر، حيث تنعم بأوقات رائعة. يا ليتك تستطيعين مشاهدتها! إذ تجلس أجمل زهرتين على كرسي العرش، وتتصرفان كأنهما الملك والملكة. وتصطف أمامهما كل زهور عرف الديك الطويلة الحمراء على الجانبين وتنحني لهما؛ فهم خدم البلاط. ثم تأتي كل الزهور الجميلة، ويقام حفل راقص كبير. تقوم أزهار البنفسج الزرقاء بدور طلبة البحرية؛ ويرقصون مع زهور الخزامى والزعفران، التي تؤدي دور السيدات الشابات. أما زهور التوليب والزنابق ذات البتلات البرتقالية المنقطة الطويلة، فهي السيدات الكبار - النبيلات - اللواتي يتأكدن من أداء الرقص بشكل صحيح وأن كل الأشياء يجري كما ينبغي.»
تساءلت آيدا الصغيرة: «لكن ألا يوجد من يعاقب الزهور على التجاسر على الرقص في قلعة الملك؟»
أجابها الطالب: «لا أحد يدري أي شيء عن الأمر. ربما يدخل المسئول العجوز عن القلعة مرة واحدة بسلسلة مفاتيحه الكبيرة أثناء الليل ليرى إن كان كل شيء على ما يرام؛ لكن بمجرد أن تسمع الزهور جلجلة المفاتيح تقف دون حراك أو تختبئ خلف الستائر الحريرية الطويلة التي تغطي النوافذ. وحينئذ يقول الرجل العجوز: «إنني أشم رائحة زهور هنا، أليس كذلك؟» لكنه لا يستطيع رؤيتها.»
صاحت آيدا الصغيرة وهي تصفق في فرح: «كم هذا طريف! لكن ألن يمكنني أن أرى الزهور؟»
أجابها الطالب: «بالطبع يمكنك أن تريها. فقط لا تنسي اختلاس النظر من وراء النوافذ في المرة القادمة حين تذهبين إلى القصر. لقد فعلت ذلك هذا اليوم تحديدا، ورأيت زنبقة صفراء طويلة مستلقية على الأريكة. كانت من سيدات البلاط.» «هل تذهب الزهور التي في الحديقة النباتية إلى الحفل الراقص؟ هل تستطيع أن تقطع كل تلك المسافة الطويلة؟»
قال الطالب: «بالتأكيد؛ فالزهور تستطيع الطيران متى أرادت. ألم تري الفراشات الحمراء والصفراء الجميلة التي تشبه الزهور كثيرا؟ إنها ليست في الواقع سوى زهور. لقد طارت من فوق سيقانها عاليا في الهواء، ورفرفت ببتلاتها الصغيرة كأنها أجنحة، وبهذا استطاعت التحليق. إنها تكافأ على حسن سلوكها الدائم بالسماح لها بالطيران أثناء النهار أيضا، بدلا من الجلوس بلا حركة على سيقانها في مكانها، حتى صارت بتلاتها أجنحة حقيقية. وقد رأيت هذا بنفسك.
لكن من المحتمل ألا تكون الزهور التي في الحديقة النباتية قد ذهبت إلى قلعة الملك قط. ربما لم تسمع بأشكال اللهو التي تقام هناك كل ليلة. لكن لدي فكرة؛ حين تذهبين المرة القادمة إلى هذه الحديقة، فلتهمسي إلى واحدة من الزهور بأنه يقام حفل راقص كبير هناك في القلعة، وسينتشر الخبر من زهرة إلى أخرى، وستطير كلها إلى هناك . بعد ذلك حين يأتي البروفيسور إلى حديقته لن يكون هناك أي زهور؛ ولن يستطيع أن يتخيل ما قد حدث لها.» «لكن كيف يمكن أن تخبر زهرة زهرة أخرى بالأمر؟ إنني متأكدة أن الزهور لا تستطيع الكلام.»
رد الطالب: «صحيح؛ أنت على حق في هذا. إنها لا تستطيع الكلام، لكنها تستطيع القيام بإشارات. هل لاحظت من قبل أنه حين تهب الرياح قليلا تومئ الزهور بعضها لبعض، وتحرك كل أوراقها الخضراء؟ إنها تستطيع أن تفهم بعضها بهذه الطريقة تماما كما نفعل نحن بالحديث.»
سألته آيدا: «وهل يفهم البروفيسور إيماءاتها الصامتة؟» «أوه، بالطبع؛ جزء منها على الأقل؛ فقد جاء إلى الحديقة ذات صباح، ورأى نبات قراص كبير يومئ بإشارات بأوراقه لزهرة قرنفل حمراء جميلة. كان يقول لها: «إنك جميلة جدا، وإنني أحبك من كل قلبي!» لكن لم يرق ذلك التصرف للبروفيسور، فضرب القراص على أوراقه، التي هي بمنزلة أصابعه؛ لكنه وخزه، ومنذ ذلك الوقت لم يجرؤ قط على لمس أي نبات قراص.»
ضحكت آيدا الصغيرة وقالت: «تلك حكاية مضحكة جدا.»
قال محام شاب مثير للضجر، كان قد أتى للزيارة: «كيف يمكن لأحد أن يضع مثل هذه الأشياء في رأس طفلة؟» لم يكن المحامي يحب الطالب وكان دائما يوبخه حين يراه وهو يقص أشكالا غريبة من ورق الكرتون، مثل رجل معلق في مشنقة ويحمل قلبا في يده للدلالة على أنه كان لص قلوب، أو ساحرة عجوز راكبة عصا مكنسة وتحمل زوجها على طرف أنفها. لم يكن المحامي يتقبل تلك الطرفات، وكان دائما يقول، كما قال الآن: «كيف يمكن لأي شخص أن يضع مثل تلك الأفكار في رأس طفلة؟ هذه مجرد تخيلات حمقاء.»
أما آيدا الصغيرة فكان كل ما أخبرها به الطالب مسليا جدا، وظلت تفكر فيه مرارا وتكرارا. لقد صارت الآن على يقين أن زهورها التي كانت جميلة أمس تدلت رءوسها لأنها متعبة، وأن التعب الذي اعتراها سببه أنها ذهبت إلى الحفل الراقص. لذلك أخذتها إلى المنضدة التي وضعت عليها لعبها. كانت دميتها نائمة ، لكن آيدا قالت لها: «لا بد أن تنهضي، وحسبك الليلة أن تنامي في درج المنضدة؛ فالزهور المسكينة مريضة، ولا بد أن تنام في فراشك؛ وربما تكون على ما يرام مرة أخرى غدا.»
وفي الحال أخرجت الدمية، رغم أن الدمية بدت متكدرة من التنازل عن مهدها للزهور.
وضعت آيدا الزهور في فراش الدمية وشدت عليها الغطاء تماما، وهي تطلب منها الاستلقاء دون حراك بينما تعد لها بعض الشاي لتحتسيه، عسى أن تصير على ما يرام في اليوم التالي. وشدت الستائر التي تحيط بالفراش، حتى لا تسطع الشمس في أعينها.
لم تفكر في شيء طوال المساء سوى ما أخبرها به الطالب؛ وحين ذهبت إلى الفراش هي نفسها، جرت إلى النافذة التي وضعت عندها زهور أمها من التوليب والخزامى. وهمست لها: «أعلم جيدا أنكم ستذهبون إلى حفل راقص الليلة.» تظاهرت الزهور بأنها لم تفهم ولم تهتز لها ورقة، لكن هذا لم يغير شيئا مما تعرفه آيدا.
حين اضطجعت آيدا في الفراش ظلت مدة طويلة تفكر كم سيكون من المبهج حتما أن ترى الزهور وهي ترقص في قلعة الملك، وتساءلت في نفسها: «ترى هل ذهبت زهوري هناك حقا؟» ثم غشيها النوم. •••
وفي الليل استيقظت من النوم؛ فقد رأت في الحلم الطالب والزهور والمحامي الذين أخبروها أنهم كانوا يمزحون معها. كان كل شيء ساكنا في الحجرة، والمصباح الليلي كان منيرا على الطاولة، وأبوها وأمها نائمين.
تساءلت آيدا في نفسها: «ترى هل ما زالت زهوري في فراش صوفي؟ كم أود أن أعرف!» ثم نهضت قليلا ونظرت صوب الباب، الذي كان نصف مفتوح، وبالداخل كانت الزهور وكل ألعابها. تسمعت، فبدا لها أنها سمعت أحدا يعزف على البيانو، لكنه عزف غاية في الرقة، وأكثر عذوبة من أي شيء سمعته من قبل.
قالت في نفسها: «لا بد أن كل الزهور ترقص الآن. أوه، كم أتوق إلى رؤيتها!» لكنها لم تجرؤ على النهوض خوفا من أن توقظ أباها وأمها. «ليتها تدخل إلى هنا!» لكن الزهور لم تدخل، وظل صوت الموسيقى يتردد بعذوبة شديدة حتى إنها لم تستطع أن تمنع نفسها أكثر من ذلك، وتسللت من فراشها الصغير، ومشت خلسة إلى الباب، واختلست النظر إلى الحجرة. أوه، كم كان المنظر جميلا!
لم يكن في الغرفة مصباح ليلي، لكن كان الضوء فيها ساطعا؛ إذ تسلل ضوء القمر من خلال النوافذ إلى أرض الحجرة، فبدت كأنها في ضوء النهار. كانت زهور الخزامى والتوليب واقفة في صفين. ولم يتبق واحدة على النافذة حيث كانت أصص الزهور خالية. كانت الزهور ترقص على الأرض برشاقة، مؤدية كل الحركات، تمسك كل منها الأخرى بأوراقها الخضراء الطويلة وهي تدور في أرجاء الحجرة. وعلى البيانو جلست زنبقة صفراء كبيرة، تذكرت آيدا أنها كانت قد رأتها في الصيف، وتذكرت أن الطالب كان قد قال عنها: «كم تشبه الآنسة لورا!» وكم ضحك الجميع على هذه الملاحظة! أما الآن فهي تعتقد فعلا أن الزنبقة تشبه السيدة الشابة للغاية؛ فهي لها نفس الأسلوب في العزف، بالتمايل بوجهها الأصفر الطويل من جانب إلى آخر، وهز رأسها تماشيا مع إيقاع الموسيقى الجميلة.
تقدمت زهرة زعفران زرقاء طويلة، وقفزت إلى المنضدة التي وضعت عليها لعب آيدا، واتجهت مباشرة إلى مهد الدمية وأزاحت الستائر. كانت الزهور المريضة مستلقية هناك؛ لكنها نهضت في الحال، وحيت الزهور الأخرى، وقامت بإشارة تعني أنها تود المشاركة في الرقص. ولم تبد مريضة على الإطلاق آنذاك.
وفجأة سمع ضجيج عال، كأن شيئا قد سقط من المنضدة. التفتت آيدا تجاهها ووجدت أنها العصا التي كانت قد وجدتها في فراشها في ثلاثاء المرفع، وبدا أنها تود الانضمام إلى الزهور. كانت جميلة؛ فقد كان يعلوها تمثال شمع يشبه المحامي تماما.
راحت العصا ترقص، والتمثال الشمع الذي كان يعتليها صار طويلا وضخما، مثل المحامي نفسه، وأخذ يصيح: «كيف يمكن لأحد أن يضع مثل هذه الأشياء في رأس طفلة؟» كان المنظر طريفا جدا، ولم تستطع آيدا الصغيرة أن تمنع نفسها من الضحك، فقد ظلت العصا ترقص، واضطر المحامي أيضا للرقص، فلم يكن هناك مفر، سواء ظل طويلا وضخما أو صار تمثال شمع صغيرا مرة أخرى. إلا أن الزهور الأخرى دافعت عنه، خاصة تلك التي كانت راقدة في فراش الدمية، حتى تركته العصا لحاله أخيرا.
في الوقت نفسه كان ثمة طرق مرتفع داخل الدرج الذي وضعت فيه صوفي، دمية آيدا، مع لعب أخرى كثيرة. فقد أخرجت رأسها وسألت في اندهاش بالغ: «هل يوجد حفل راقص هنا؟ لماذا لم يخبرني أحد به؟» وجلست على المنضدة، منتظرة أن تطلب منها بعض الزهور الرقص معها؛ لكن حين لم تفعل، تركت نفسها تسقط على الأرض لتحدث ضجيجا شديدا؛ فجاءت الزهور جميعا متزاحمة لتسألها إن كانت أصيبت بأذى، وكانت في غاية التهذيب؛ خاصة تلك التي كانت راقدة في فراشها.
لم يصبها أذى مطلقا، وشكرتها الزهور على استخدام فراشها الجميل وأخذتها إلى وسط الحجرة، حيث سطع ضوء القمر، ورقصت معها، بينما أحاطتها الزهور الأخرى بدائرة. حينذاك شعرت صوفي بسعادة، وقالت إن بإمكانها الاحتفاظ بالفراش؛ فهي لا تمانع النوم في الدرج على الإطلاق.
لكن الزهور أجابتها: «نشكرك من كل قلبنا على كرمك، لكننا لن نحيا طويلا لنحتاجه؛ فسوف نموت تماما بحلول الغد. فلتطلبي من آيدا الصغيرة أن تدفننا بالخارج في الحديقة بالقرب من قبر عصفور الكناري؛ بعد ذلك سنقوم مرة أخرى في الصيف التالي، بل سنكون أكثر بهاء مما كنا هذا العام.»
قالت صوفي وهي تقبلها: «أوه، كلا، يجب ألا تموتن.» ثم جاءت مجموعة كبيرة من الزهور ترقص بينهن. اعتقدت آيدا أنها لا بد أن تكون قد أتت من حديقة الملك. كان في مقدمتها زهرتان جميلتان، ترتديان تاجين ذهبيين؛ ثم تبعهما زهور المنثور والقرنفل التي انحنت لكل الموجودين. وكانت قد أحضرت معها فرقة موسيقية. زهور الخزامى البرية وزهور الثلج الصغيرة كانت تقرع أجراسا مبهجة. كانت فرقة موسيقية مميزة للغاية. جاء بعدها عدد ضخم من الزهور، ترقص كلها - بنفسج وأقحوان وزنابق واد، وغيرها - وقد كانت كلها مبهجة للعين.
وفي النهاية تمنت كل الزهور السعيدة لبعضها ليلة هانئة. وآيدا الصغيرة أيضا تسللت عائدة إلى فراشها، لتحلم بكل ما شاهدته.
وحين استيقظت في الصباح التالي ذهبت في الحال إلى منضدتها الصغيرة لترى إن كانت زهورها هناك. أزاحت الستائر عن فراشها الصغير؛ وكانت الزهور فيه فعلا، لكنها كانت اليوم أكثر ذبولا بكثير عن اليوم السابق. صوفي أيضا كانت في الدرج، لكنها بدت ناعسة جدا.
سألتها آيدا: «هل تتذكرين ما عليك قوله لي؟»
لكن صوفي بدت ذاهلة تماما ولم تنطق ببنت شفة.
قالت آيدا: «لقد سمحت لك كل الزهور بالرقص معها مع أنك لست سمحة مطلقا.»
ثم انتقت من بين لعبها صندوقا صغيرا من الكرتون مرسوما عليه طيور، ووضعت فيه الزهور الميتة.
قالت: «سيكون هذا نعشك الجميل، وحين يأتي ابنا عمي لزيارتي قريبا، سيساعداني في دفنك في الحديقة، حتى تنبتي مرة أخرى في الصيف القادم وتصيري أكثر جمالا حتى عن الآن.»
ابنا العم كانا صبيين مرحين، اسمهما جوستاف وأدولف. كان أبوهما قد أعطى كلا منهما قوسا جديدة، أحضراهما معهما ليرياهما آيدا. أخبرتهما آيدا بأمر الزهور المسكينة التي ماتت وكان لا بد من دفنها في الحديقة. فسار الولدان في المقدمة وقوساهما معلقتان على كتفيهما، وتبعتهما آيدا الصغيرة، حاملة الزهور الميتة في نعشها الجميل. وحفر لها قبر صغير في الحديقة. قبلت آيدا الزهور أولا ثم أنزلتها في الأرض، وأطلق أدولف وجوستاف قوسيهما فوق القبر؛ إذ لم يكن معهما مسدسات أو مدافع.
الجندي الصفيح الصامد
كان هناك ذات يوم خمسة وعشرون جنديا من الصفيح. كانوا أشقاء؛ فقد صنعوا جميعا من نفس الملعقة الصفيح القديمة. وكانوا كلهم يحملون حرابهم على أكتافهم، ويقفون منتصبين، ويشخصون ببصرهم للأمام. كان زيهم أنيقا جدا - أحمر في أزرق - وبديعا للغاية. أول شيء سمعوه، حين أزيح الغطاء عن الصندوق الذي كانوا موضوعين فيه، كان كلمتي: «جنود صفيح!» نطق هاتين الكلمتين صبي صغير، وهو يصفق من الفرح. وكان قد أعطي الجنود؛ لأنه كان يوم عيد ميلاده، والآن، راح يخرجهم ويضعهم على الطاولة.
كان كل منهم مثل الباقين تماما، عدا واحدا كان بساق واحدة. فقد كان آخر من صب فيهم جميعا، ولم يكن هناك صفيح كاف لإتمامه؛ إلا أنه كان يقف على ساقه الواحدة بنفس ثبات الآخرين على ساقين، وكان هو من صار حظه مميزا جدا.
على المائدة التي رتب عليها الجنود الصفيح كان يوجد عدة لعب أخرى، لكن اللعبة التي استحوذت على أكثر الانتباه كانت قلعة ورقية صغيرة جميلة. كان من الممكن رؤية القاعة الرئيسية مباشرة من خلال نوافذها الصغيرة. وكان يقف أمام القلعة أشجار صغيرة، تحيط بمرآة صغيرة يراد بها أن تحاكي بحيرة صافية، يسبح على سطحها بجع من الشمع، وتعكس أشكالها.
كل هذا كان بديعا جدا، لكن أجمل شيء كان السيدة الصغيرة الواقفة على مدخل باب القلعة المفتوح. كانت هي أيضا مصنوعة من الورق، لكنها كانت تلبس رداء من الشاش الأبيض الشفاف وتضع شريطا أزرق رفيعا فوق كتفيها، كوشاح، تتوسطه وردة من الزينة اللامعة. كان ذراعا السيدة ممدودين؛ فقد كانت راقصة، وإحدى ساقيها كانت مرفوعة عاليا جدا حتى إن الجندي لم يرها مطلقا، واعتقد أنها كانت بساق واحدة، مثله.
حدث الجندي نفسه قائلا: «تلك كانت ستصير الزوجة المناسبة تماما لي، لو لم تكن رفيعة الشأن للغاية. لكنها تعيش في قلعة، وأنا أعيش في صندوق، مع خمسة وعشرين آخرين فيه. لن يكون ذلك مكانا مناسبا لسيدة نبيلة. لكن لا بد أن أحاول التعرف عليها.» تصادف وجود علبة نشوق على المنضدة، فاستلقى تماما خلفها، ومن هناك استطاع أن يراقب بسهولة السيدة الصغيرة الرقيقة، التي ظلت واقفة على ساق واحدة دون أن تفقد توازنها.
حين حل المساء وضع كل الجنود الآخرين في صندوقهم، وذهب أهل المنزل للفراش. حينها بدأ دور اللعب في اللهو؛ فتزاورت، وتشاجرت، وأقامت حفلات راقصة. انتفض الجنود الصفيح في الصندوق؛ فقد أرادوا الانضمام إلى الباقين، لكنهم لم يستطيعوا رفع الغطاء. راحت كسارات البندق تتشقلب وقفز القلم الرصاص بطريقة مسلية للغاية. كان الهرج شديدا حتى إن طائر الكناري استيقظ وبدأ يتكلم، ويلقي شعرا أيضا. الوحيدان اللذان لم يبارحا مكانهما كانا الجندي الصفيح والسيدة الراقصة. كانت هي واقفة على أطراف أصابع قدمها بذراعين ممدودتين، وكان هو بنفس الصمود يقف على ساقه الوحيدة دون يحول ناظريه عنها ولو مرة.
دقت الساعة الثانية عشرة، فرفع غطاء علبة النشوق، لكن لم يكن بها نشوق، وإنما عفريت أسود صغير. فلم تكن علبة نشوق حقيقية، ولكن عفريت علبة.
قال العفريت: «فلتغض بصرك أيها الجندي الصفيح. ولا تتطلع إلى ما لا يخصك!»
لكن الجندي الصفيح تظاهر بأنه لم يسمعه.
قال العفريت: «فلتنتظر فقط حتى غد إذن.»
في صباح اليوم التالي، حين استيقظ الأطفال كان الجندي الصفيح موضوعا على حافة النافذة، وسواء كان العفريت أو الريح هي من فعلت هذا، فقد انفتحت النافذة فجأة، فسقط الجندي الصفيح برأسه من الدور الثالث إلى الشارع بالأسفل. لقد كان سقوطا هائلا! فقد تشقلب في الهواء عدة مرات، حتى هبط أخيرا، حيث استقر بقبعته وحربته بين بلاط الشارع، بينما وقفت ساقه الواحدة منتصبة في الهواء.
نزلت الخادمة والصبي الصغير في الحال ليبحثا عنه، لكنهما لم يستطيعا العثور عليه رغم أنهما كادا يطآنه. لو كان الجندي صاح «ها أنا ذا!» ولو مرة واحدة، ربما كانا سمعاه بمنتهى السهولة، لكنه رأى أنه من غير اللائق أن يصرخ طالبا النجدة وهو في الزي الرسمي.
بدأ المطر يتساقط الآن؛ تسارعت القطرات أكثر فأكثر حتى صار المطر غزيرا؛ وحين توقف جاء صبيان متشردان.
قال أحدهما: «انظر، على الأرض جندي صفيح. لا بد أن يخرج ويبحر في قارب.»
هكذا صنعا قاربا من جريدة قديمة ووضعا الجندي الصفيح في وسطه، فأبحر بعيدا في مجرى التصريف، بينما أخذ الصبيان يركضان بجواره، وهما يصفقان.
يا للهول! كم هزت الأمواج القارب الورقي، وكم جرت المياه سريعا! أصيب الجندي الصفيح بدوار شديد، بينما راح القارب ينحرف سريعا جدا؛ لكنه ظل ثابتا دون أن يتحرك له ساكن، وإنما شخص ببصره إلى الأمام وتشبث بحربته جيدا.
وعلى حين غرة انتقل القارب إلى بالوعة، وساد ظلام كالذي كان يغمر بيته القديم داخل الصندوق. تساءل الجندي في نفسه: «إلى أين أنا ذاهب الآن؟ نعم، لا شك أن هذا كله من فعل العفريت. وا أسفاه! فقط لو كانت السيدة الصغيرة على متن القارب معي، ما كنت سآبه حتى إن كان الظلام مضاعفا.»
في تلك اللحظة انبثق بغتة أحد جرذان الماء الكبيرة التي تعيش في البالوعات.
سأله الجرذ: «هل لديك جواز سفر؟ أين جواز سفرك؟»
لكن الجندي الصفيح لاذ بالصمت وأحكم قبضته على حربته فحسب.
مضى القارب، لكن الجرذ تبعه. عجبا! لقد أخذ يجز على أسنانه ونادى على العيدان والقش، قائلا: «أوقفوه! أوقفوه! فهو لم يدفع رسم المرور! ولم يبرز جواز سفره!»
لكن تيار المياه أخذ يشتد ويشتد، واستطاع الجندي الصفيح أن يرى بالفعل ضوء النهار في نهاية نفق البالوعة؛ لكنه سمع في الوقت نفسه ضجيج اندفاع صاخبا، ربما كان ليرتعد منه رجل أكثر جسارة منه. في المكان الذي ينتهي فيه النفق، يندفع الماء بقوة شديدة إلى مصب البالوعة. كان الوضع خطيرا بالنسبة للجندي، كما يكون الإبحار في شلال هائل لنا.
صار قريبا جدا منه الآن حتى إنه لم يعد بإمكانه التوقف. فانطلق القارب، وتماسك الجندي الصفيح جيدا حتى إنه لا يمكن لأحد القول بأنه قد طرف له جفن. أخذ القارب يدور في حلقات ثلاث مرات أو أربعا؛ وصار ممتلئا لذروته بالماء وكان لا بد أن يغرق لا محالة.
وصل الماء إلى عنق الجندي الصفيح؛ ثم غاص القارب لأغوار أعمق فأعمق، وصار الورق هشا أكثر فأكثر، حتى غاص رأس الجندي تحت الماء. هنا راح يفكر في الراقصة الصغيرة الحسناء التي لن يراها ثانية أبدا، وتردد في أذنيه كلمات هذه الأغنية:
مصيرك يا أيها الغريب الشجاع
هو مغامرة مثيرة وخطر فتاك.
انشق القارب الورقي من النصف، وكان الجندي على وشك الغرق حين ابتلعته سمكة ضخمة.
كم كان الظلام حالكا داخل السمكة! أكثر حلكة حتى من البالوعة، وكان المكان ضيقا جدا؛ لكن الجندي الصفيح استعاد شجاعته؛ فقد استلقى تماما، حاملا حربته على كتفه كما كان.
راحت السمكة تسبح هنا وهناك، وهي تدور وتتلوى وتقوم بحركات غريبة جدا، حتى سكنت تماما عن الحركة في النهاية.
لقد اخترقها شيء مثل وميض من ضوء النهار، وقال صوت: «جندي صفيح!» كانت السمكة قد اصطيدت، وأخذت إلى السوق، وبيعت واشتريت، وأخذت إلى المطبخ، حيث قطعتها الطاهية بسكين كبيرة. أمسكت الطاهية الجندي الصفيح بالسبابة والإبهام وأخذته إلى الحجرة حيث كانت الأسرة جالسة، وحيث كان الجميع يتوقون لرؤية الرجل العظيم الذي سافر في حوصلة سمكة؛ لكن الجندي الصفيح ظل دون حراك؛ إذ لم يكن مزهوا على الإطلاق.
وضعوه هناك على الطاولة. لكن كيف يمكن أن يحدث شيء بهذه الغرابة البالغة؟ لقد صار الجندي في الحجرة نفسها التي كان فيها من قبل. ورأى نفس الأطفال، ونفس اللعب موضوعة على الطاولة، وبينها الفتاة الراقصة الحسناء، التي كانت لا تزال واقفة على ساق واحدة. وكانت هي الأخرى صامدة. تأثر الجندي بهذا الموقف بشدة، وكان من الممكن أن يذرف دموعا من صفيح، لكن لم يكن هذا لائقا. نظر إليها ونظرت إليه، لكن لم ينبس أي منهما ببنت شفة.
بعد ذلك أخذ أحد الفتية الصغار الجندي الصفيح ورماه في المدفأة. لم يذكر أي سبب لفعل ذلك، لكن لا شك أن لعفريت علبة النشوق علاقة بذلك.
صار الجندي الصفيح الآن وسط لهيب النار المتوهجة. كانت الحرارة التي شعر بها رهيبة، لكنه لم يدر ما إن كانت ناتجة من النار أم الحب المشتعل في قلبه. رأى الألوان وقد اختفت تماما من زيه الرسمي، لكن لا أحد يدري ما إن كان هذا قد حدث أثناء رحلته أم من جراء الحزن الذي اعتراه. نظر إلى السيدة الصغيرة، ونظرت إليه، وشعر بأنه ينصهر؛ لكنه ظل واقفا في ثبات كدأبه، حاملا الحربة على كتفه. وإذ فجأة انفتح الباب؛ وحملت الريح الراقصة وقذفت بها في المدفأة مباشرة إلى الجندي الصفيح، فاشتعل بها لهيب النار، وتوارت! انصهر الجندي الصفيح متحولا إلى كتلة من الصفيح؛ وفي اليوم التالي وجدته الخادمة في الرماد، في شكل قلب صفيح صغير، في حين لم يتبق شيء من الراقصة سوى الوردة اللامعة، التي احترقت حتى صارت سوداء كالفحم .
عقلة الإصبع
كان هناك امرأة تتوق كثيرا إلى أن ترزق بطفل صغير، فذهبت إلى ساحرة وقالت لها: «لشد ما أتمنى أن يصير لدي طفل صغير. هل تستطيعين إخباري أين يمكنني أن أجد واحدا؟»
قالت الساحرة: «أوه، ذلك أمر يسهل تدبره. ها هي حبة شعير، لكنها ليست من نفس النوع الذي ينمو في حقول المزارعين، والذي يأكله الدجاج. ضعيها في أصيص زرع وشاهدي ما سيحدث.»
قالت السيدة: «شكرا»؛ وأعطت الساحرة اثني عشر شلنا، وهو ما كان ثمن حبة الشعير. ثم ذهبت إلى المنزل وزرعتها، فأنبتت زهرة جميلة كبيرة، تشبه التوليب بعض الشيء في شكلها، لكن أوراقها مضمومة بإحكام كما لو كانت لا تزال برعما.
قالت السيدة: «إنها زهرة جميلة.» وقبلت البتلات الحمراء والذهبية اللون؛ وما إن فعلت هذا حتى تفتحت الزهرة، فرأت أنها كانت زهرة توليب بحق. لكن بداخل الزهرة، على الأسدية الخضراء المخملية، كانت تجلس فتاة صغيرة في غاية الرقة والحسن. كانت بالكاد في نصف طول إصبع الإبهام، فسموها عقلة الإصبع، لأنها كانت ضئيلة جدا.
دهنت قشرة جوز بألوان جميلة لتكون مهدا لها؛ كانت فرشتها من أوراق زهور البنفسج الزرقاء، والغطاء ورقة وردة. كانت تنام هناك ليلا، أما في النهار فكانت تلهو على الطاولة، حيث وضعت لها زوجة الفلاح صحنا مليئا بالماء.
أحاط بهذا الصحن أكاليل من الزهور وضعت سيقانها في الماء، وطفا فيه ورقة توليب كبيرة لتكون بمثابة قارب للفتاة الصغيرة. لقد كانت تجلس فيها وتجدف من جانب إلى الآخر، بمجدافين صنعا من شعر حصان أبيض. كان منظرا غاية في البهاء. كانت عقلة الإصبع تستطيع أيضا الغناء بصوت غاية في الرقة والعذوبة حتى إنه لم يسمع شبيه لغنائها من قبل قط.
ذات ليلة بينما هي مستلقية في فراشها الجميل، تسللت ضفدعة ضخمة قبيحة مبللة من خلال لوح زجاج مكسور في النافذة، وقفزت مباشرة إلى الطاولة حيث كانت عقلة الإصبع نائمة متلحفة بغطائها من ورقة الورد.
قالت الضفدعة: «يا لها من زوجة صغيرة جميلة لابني!» وحملت قشرة الجوز حيث كانت عقلة الإصبع نائمة، وقفزت بها من النافذة إلى الحديقة.
كانت الضفدعة تعيش مع ابنها في مستنقع على أحد جوانب جدول عريض في الحديقة. وكان الابن أشد قبحا حتى من أمه؛ وحين رأى الفتاة الصغيرة الجميلة في فراشها الأنيق، لم يسعه سوى الصياح: «كرواك، كرواك، كرواك.»
قالت له الضفدعة: «لا ترفع صوتك هكذا وإلا أيقظتها، وساعتها ربما تهرب، فهي خفيفة مثل ريشة البجعة. سوف نضعها على واحدة من أوراق زنابق الماء بالخارج في الجدول؛ ستكون بمثابة جزيرة لها، فهي خفيفة وصغيرة جدا، وحينئذ لن تستطيع الفرار؛ وبينما هي هناك سنسارع ونجهز الحجرة الموجودة أسفل المستنقع، التي ستعيشان فيها حين تتزوجان.»
كان ينمو بعيدا في الجدول عدد من زنابق الماء ذات أوراق خضراء عريضة وقد بدت طافية فوق سطح الماء. بدت أكبر هذه الأوراق أبعد من الباقي، فسبحت إليها الضفدعة العجوز بقشرة الجوز، التي كانت عقلة الإصبع لا تزال نائمة فيها.
استيقظت المخلوقة الضئيلة في وقت مبكر جدا من الصباح وراحت تبكي بمرارة حيت اكتشفت أين كانت، حيث لم تستطع أن ترى سوى الماء يحيط بالورقة الخضراء الكبيرة من كل جانب، ولا سبيل للوصول إلى البر.
في تلك الأثناء، كانت الضفدعة العجوز منهمكة للغاية أسفل المستنقع، تجهز حجرتها بنباتات الأسل والزهور البرية الصفراء، لتجعلها تبدو جميلة من أجل زوجة ابنها الجديدة. ثم خرجت لتسبح مع ابنها الدميم إلى الورقة التي كانت قد وضعت عليها عقلة الإصبع المسكينة. كانت تريد أن تحضر الفراش الجميل حتى تضعه في حجرة العرس ليكون جاهزا من أجلها. انحنت الضفدعة العجوز لها في الماء وقالت: «ها هو ولدي؛ سوف يكون زوجك، وسوف تعيشان معا في سعادة في المستنقع القريب من الجدول.»
هنا لم يستطع ابنها أن يعبر عن نفسه إلا بالصياح: كرواك، كرواك، كرواك. فأخذت الضفدعة الفراش الصغير الأنيق ورحلت به، تاركة عقلة الإصبع وحدها تماما على الورقة الخضراء، حيث جلست وأجهشت بالبكاء. إذ لم تستطع أن تتحمل فكرة العيش مع الضفدعة العجوز والزواج من ابنها القبيح. كانت الأسماك الصغيرة السابحة تحت الماء قد رأت الضفدعة وسمعت ما قالته، فأخرجت رءوسها لأعلى من تحت الماء لترى الفتاة الصغيرة.
وبمجرد أن أبصرتها أدركت أنها جميلة للغاية، فاغتاظت من فكرة اضطرارها إلى الذهاب والعيش مع الضفدعين القبيحين. «لا، يجب عدم السماح بحدوث هذا!» فاجتمعت معا في الماء، حول الساق الخضراء التي حملت الورقة التي كانت تقف عليها الفتاة الصغيرة، وراحت تقرضها بأسنانها من جذرها. فراحت الورقة تسير في الجدول، حاملة عقلة الإصبع بعيدا عن البر.
أبحرت عقلة الإصبع مارة بعدة بلدات، ورأتها الطيور الصغيرة على الشجيرات فشدت قائلة: «يا لها من كائن صغير وجميل!» وهكذا أبحرت بها الورقة بعيدا أكثر فأكثر، حتى أخذتها إلى أراض أخرى. ظلت فراشة بيضاء صغيرة رقيقة ترفرف حولها باستمرار، وفي النهاية حطت على الورقة. لقد أعجبت بالفتاة الصغيرة التي كانت مسرورة؛ فلم يعد من الممكن الآن أن تستطيع الضفدعة الوصول إليها، وكانت البلدة التي أبحرت فيها جميلة، إذ ألقت الشمس بشعاعها على الماء حتى لمع كأنه ذهب سائل. خلعت عقلة الإصبع حزامها وربطت أحد طرفيه بالفراشة، وشدت طرفه الآخر على الورقة، التي أخذت حينذاك تنطلق أسرع كثيرا عن ذي قبل، حاملة فوقها عقلة الإصبع.
بعد برهة طار خنفس كبير قريبا منهما. وما أن وقعت عيناه عليها حتى أحكم مخالبه حول خصرها الرقيق وطار بها إلى إحدى الأشجار. أما الورقة الخضراء فانجرفت مع الجدول، وطارت معها الفراشة، فقد كانت مربوطة إليها ولم تستطع الإفلات.
أوه، كم استبد الخوف بعقلة الإصبع حين طار بها الخنفس إلى الشجرة! لكنها كانت حزينة بوجه خاص على الفراشة البيضاء الجميلة التي ربطتها بالورقة؛ فهي إن لم تستطع تحرير نفسها فستموت جوعا. إلا أن الخنفس لم يكترث لذلك الأمر البتة؛ فقد جلس بجانبها على ورقة شجر خضراء كبيرة، وأعطاها بعض العسل من الزهور لتتناوله، وأخبرها أنها في غاية الجمال، وإن لم تكن في جمال الخنافس على الإطلاق.
بعد برهة من الوقت، جاءت كل الخنافس التي تعيش في الشجرة لتزور عقلة الإصبع. وأخذت تحدق فيها، ورفعت الخنفسات الشابة قرون استشعارها وقالت: «ليس لديها سوى ساقين! كم تبدو قبيحة!» وقالت إحداها: «ليس لديها قرون. وخصرها نحيل جدا. أف! إنها تشبه البشر.»
قالت كل الخنفسات: «أوه، إنها قبيحة.» صدق الخنفس الذي كان قد أتى بها كل الخنفسات الأخرى حين قالت إنها قبيحة. ولما لم يعد لديه شيء ليقوله لها، أخبرها أن بإمكانها الذهاب حيث تريد. ثم طار بها هابطا من الشجرة ووضعها على زهرة أقحوان، وأبكاها الظن بأنها قبيحة حتى إن الخنافس رفضت أن تخاطبها. لكنها كانت دائما أجمل المخلوقات التي قد تخطر على البال، وفي رقة ورهافة ورقة وردة بديعة.
ظلت عقلة الإصبع المسكينة طيلة الصيف وحيدة تماما في الغابة الفسيحة. ونسجت لنفسها فراشا من الحشائش وعلقته أسفل ورقة شجر كبيرة، لتقيها من الأمطار. وكانت تتغذى بامتصاص العسل من الزهور وشرب الندى من أوراقها كل صباح.
مر الصيف والخريف على هذه الحال، ثم أقبل الشتاء؛ الشتاء البارد الطويل. كل الطيور التي كانت تشدو لها بعذوبة شديدة طارت بعيدا، والأشجار والزهور ذبلت. ونبتة النفل الكبيرة التي كانت المظلة التي تعيش تحتها التفت حول نفسها وتقلصت؛ ولم يتبق منها سوى ساق صفراء ذابلة. شعرت عقلة الإصبع ببرد رهيب، فقد تمزقت ملابسها، وهي نفسها كانت في غاية الضعف والنحول حتى إنها كادت تتجمد حتى الموت. كذلك بدأت الثلوج تتساقط؛ وكانت ندف الثلج في سقوطها عليها مثل سقوط ملء مجرفة كاملة منه على أحدنا؛ فنحن طوال وهي لا يتعدى طولها بوصة واحدة. تلفعت عقلة الإصبع بورقة شجر جافة، لكنها تشققت من المنتصف ولم تمنحها دفئا، فراحت ترتعد من البرد.
كان يوجد بالقرب من الغابة التي تعيش فيها حقل ذرة كبير، إلا أن الذرة كانت قد حصدت منذ زمن طويل؛ لم يتبق شيء سوى بقايا الحصاد الجرداء الجافة قائمة على الأرض المتجمدة. كان الخوض هناك يشبه الخوض في غابة شاسعة.
أوه، كم كانت ترتجف من البرد! وأخيرا وصلت إلى باب أحد فئران الحقول التي كانت لديها بيت صغير أسفل بقايا حصاد الذرة. كانت الفأرة تعيش هناك في دفء وسكينة، وكان لديها حجرة كاملة مليئة بالذرة، ومطبخ، وحجرة طعام جميلة. وقفت عقلة الإصبع المسكينة أمام الباب، مثل شحاذة صغيرة، وطلبت جزءا صغيرا من حبة شعير؛ فقد ظلت بلا طعام طوال يومين.
قالت فأرة الحقل، التي كانت فأرة عجوزا طيبة حقا: «يا لك من صغيرة مسكينة! تفضلي إلى حجرتي الدافئة وتعشي معي.»
كانت مسرورة بوجود عقلة الإصبع، فقالت لها: «أرحب ببقائك معي طوال الشتاء أشد الترحيب إن أردت؛ لكن يجب أن تحافظي على نظافة منزلي وترتيبه، وتحكي لي قصصا؛ فإنني أحب سماعها للغاية.» وقد فعلت عقلة الإصبع كل ما طلبته منها فأرة الحقل، ووجدت هناك راحة شديدة.
قالت فأرة الحقل ذات يوم: «سوف يأتينا زائر قريبا. إذ يزورني جاري مرة كل أسبوع. إنه أيسر مني حالا؛ فلديه حجرات فسيحة، ويرتدي معطفا مخمليا أسود جميلا. ليتك تحظين به زوجا، فسوف يحسن إعالتك. لكنه كفيف، لذا لا بد أن تحكي له بعضا من قصصك الممتعة.»
لم تشعر عقلة الإصبع بأي اهتمام تجاه هذا الجار، فقد كان خلدا. إلا أنه جاء للزيارة، متشحا بمعطفه المخملي الأسود.
قالت فأرة الحقل: «إنه ثري جدا ومثقف، ومنزله أكبر من منزلي عشرين مرة.»
لا شك أنه كان ثريا ومثقفا، لكنه كان دائما ما يتحدث عن الشمس والزهور الجميلة باستخفاف؛ لأنه لم يرها قط. واضطرت عقلة الإصبع إلى أن تغني له: «فلتطيري لمنزلك أيتها الدعسوقة»، والعديد من الأغنيات الأخرى الجميلة. وقد أغرم بها الخلد لأن صوتها شديد العذوبة؛ لكنه لم يبح بشيء، فقد كان شديد الحذر والحرص. كان الخلد قد حفر منذ زمن قصير ممرا طويلا تحت الأرض، يوصل بين مسكنه ومسكن فأرة الحقل، وقد سمح لها آنذاك بالسير فيه مع عقلة الإصبع متى أرادت. لكنه حذرهما كيلا تنزعجا من رؤية طائر نافق كان مستلقيا في الممر. كان الطائر كامل البنية، بمنقار وريش، ولا يمكن أن يكون قد مات منذ مدة طويلة. كان موجودا حيث حفر الخلد النفق بالضبط . وضع الخلد في فمه قطعة من خشب ذي وميض، وقد أخذت تضيء مثل النار في الظلام، ثم تقدمهما لينير لهما السبيل في الممر الطويل المعتم. وحين بلغوا المكان الذي ارتمى فيه الطائر الميت، دس الخلد أنفه العريض في السقف، حتى ينزاح التراب ويسطع نور النهار على الممر.
كان مطروحا في منتصف الطريق طائر سنونو، ضم جناحاه البديعان إلى جانبيه، وانكمشت قدماه ورأسه تحت ريشه؛ كان جليا أن الطائر المسكين قد مات من البرد. اعترى عقلة الإصبع حزن شديد لرؤية هذا المنظر، فقد كانت تحب الطيور الصغيرة حبا جما؛ فقد ظلت طوال الصيف تشدو وتغرد لها كأجمل ما يكون الشدو والتغريد. إلا أن الخلد أزاحه جانبا برجليه المقوستين وقال: «لن يغني بعد الآن. كم هو مؤسف أن تولد طائرا صغيرا! أشعر بامتنان أن أبنائي لن يكونوا طيورا مطلقا، فهي لا تفعل شيئا سوى الصياح: «صوصو، صوصو»، ولا مفر من أن تموت دوما جوعا في الشتاء.»
قالت فأرة الحقل: «أجل، أنت على حق في قولك هذا كونك رجلا فطنا! فما فائدة تغريدها ما دامت - لا بد - تتضور جوعا أو تتجمد حتى الموت حين يأتي الشتاء؟ مع ذلك تظل الطيور سلالة رفيعة جدا.»
لم تنبس عقلة الإصبع بكلمة، لكن حين أدار الاثنان الآخران ظهرهما للطائر، انحنت وأزاحت الريش الغض الذي غطى رأسه، وقبلت جفنيه المغمضين. وقالت: «ربما هذا كان الطائر الذي شدا لي بصوته العذب في الصيف، وكم داخلني السرور بهذا، يا عزيزي الطائر الجميل!»
سد الخلد الثقب الذي سطع منه ضوء النهار، ثم رافق السيدتين للمنزل. لكن في الليل لم تستطع عقلة الإصبع النوم؛ فغادرت الفراش ونسجت بساطا كبيرا جميلا من القش. ثم حملته إلى الطائر النافق وبسطته عليه، مع بعض زغب من زهور كانت قد وجدتها في حجرة فأرة الحقل. كان ناعما مثل الصوف، وقد نثرت بعضا منه على جانبي الطائر، حتى يرقد في دفء في الأرض الباردة.
قالت عقلة الإصبع: «الوداع أيها الطائر الصغير الجميل، الوداع. شكرا على شدوك المبهج في الصيف، حين كانت الأشجار خضراء والشمس الدافئة تشرق علينا.» ثم وضعت رأسها على صدر الطائر، لكنها فزعت، إذ بدا أن شيئا ما داخل الطير يدق: «تك، تك.» كان هذا هو قلب الطائر؛ فلم يكن ميتا حقا، وإنما تخدر جسده من البرد فحسب، وقد رده الدفء إلى الحياة. في الخريف تطير كل طيور السنونو راحلة إلى بلاد دافئة؛ لكن إن حدث وتباطأ أحدها، فالبرد يحكم قبضته عليه، ويتخلله ويسقط كأنه ميت، فيظل حيث سقط، وتغطيه الثلوج الباردة.
ارتعدت عقلة الإصبع بشدة؛ فقد كانت خائفة جدا؛ لأن الطائر كان ضخما، أضخم منها بكثير (هي التي كان طولها لا يتعدى البوصة). إلا أنها تشجعت، ووضعت الصوف بكثافة أكثر على السنونو المسكين، ثم أخذت ورقة الشجر التي كانت تتدثر بها كغطاء وبسطتها فوق رأسه.
وفي الليلة التالية خرجت متسللة مرة أخرى لتراه. كان حيا، لكن ضعيفا جدا؛ فلم يستطع إلا أن يفتح عينيه لحظة ليرى عقلة الإصبع التي كانت واقفة بالقرب منه، حاملة قطعة من الخشب المتحلل في يدها، فلم يكن لديها مصباح آخر. قال السنونو المريض: «شكرا يا أيتها الفتاة الصغيرة الجميلة. لقد تدفأت جيدا حتى إنني قريبا ما سأستعيد عافيتي وأتمكن من التحليق مرة أخرى في أشعة الشمس الدافئة.»
قالت عقلة الإصبع: «مهلا، الجو بارد بالخارج الآن؛ يوجد ثلوج وصقيع. فلتبق في فراشك الدافئ، وأنا سأعتني بك.»
أحضرت عقلة الإصبع للطائر بعض الماء في ورقة زهرة، وبعد أن شرب، أخبرها أن إحدى الشجيرات الشائكة جرحت أحد جناحيه فلم يستطع الطيران سريعا كالآخرين، الذين ما لبثوا أن ابتعدوا في رحلتهم إلى البلاد الدافئة. وفي النهاية سقط على الأرض، ولم يتذكر شيئا آخر، ولا كيف صار في المكان الذي وجدته فيه.
ظل طائر السنونو تحت الأرض طوال الشتاء، حيث اعتنت به عقلة الإصبع باهتمام وحب. ولم تخبر سواء الخلد أو فأرة الحقل بأي شيء عنه، إذ لم يحبا طيور السنونو. وسريعا جدا أقبل الربيع، وبعثت الشمس الدفء في الأرض. عندئذ ودع السنونو عقلة الإصبع، ففتحت الثقب الذي في السقف الذي كان الخلد قد صنعه. سطعت أشعة الشمس عليهما في بهاء شديد، فسألها السنونو إن كانت تود أن تذهب معه. قال لها إن بإمكانها الجلوس على ظهره، وسيطير بها بعيدا إلى الغابات الخضراء. لكنها كانت تعلم أن فأرة الحقل ستحزن إن تركتها بتلك الطريقة، لذلك قالت: «لا، لا أستطيع.»
قال السنونو: «الوداع إذن، الوداع، يا أيتها الفتاة الصغيرة الحسناء الطيبة.» ثم انطلق طائرا في ضوء الشمس. •••
ظلت عقلة الإصبع تلاحقه بعينيها حتى اغرورقتا بالدموع؛ فقد كانت تكن للسنونو المسكين محبة بالغة.
غرد الطائر: «صوصو، صوصو» وهو ينطلق طائرا صوب الغابات الخضراء، بينما شعرت عقلة الإصبع بحزن شديد. فلم يكن مسموحا لها بالخروج إلى حيث أشعة الشمس الدافئة. وكانت الذرة المزروعة في الحقل أعلى منزل فأرة الحقل قد نبتت وارتفعت عاليا في السماء وكونت غابة كثيفة بالنسبة لعقلة الإصبع، التي لم يتعد طولها بوصة واحدة.
قالت فأرة الحقل: «سوف تتزوجين يا أيتها الصغيرة؛ فقد طلب جاري الزواج منك. يا له من حظ سعيد لطفلة مسكينة مثلك! الآن سنجهز ملابس عرسك، التي لا بد أن تكون من الصوف والكتان. لن يعوزك شيء بالتأكيد حين تصيرين زوجة الخلد.»
كان على عقلة الإصبع أن تدور المغزل، وعينت فأرة الحقل أربعة عناكب كان عليها الغزل ليلا ونهارا. كان الخلد يزورها كل مساء وكان يتحدث باستمرار عن الوقت الذي سينتهي فيه الصيف. فحينئذ سيحدد يوم زواجه من عقلة الإصبع؛ أما الآن فحرارة الشمس كانت شديدة لدرجة أنها ألهبت الأرض وجعلتها صلبة، مثل الحجر. وبمجرد أن ينتهي الصيف سيقام العرس. إلا أن عقلة الإصبع لم تكن سعيدة على الإطلاق، فهي لم تحب الخلد المثير للضجر.
في كل صباح مع شروق الشمس، وكل مساء مع غروبها، كانت تخرج متسللة من الباب، وعندما كانت الرياح تهب فتباعد بين أكواز الذرة بحيث تتمكن من رؤية السماء الزرقاء، كانت تتأمل كم يبدو العالم بهيا ومشرقا بالخارج، وتتمنى كثيرا أن ترى صديقها العزيز، السنونو مرة أخرى . إلا أنه لم يرجع قط؛ فقد كان في هذا الوقت قد طار بعيدا في الغابة الخضراء الجميلة.
حين أقبل الخريف كانت ملابس عقلة الإصبع قد صارت جاهزة، فقالت لها فأرة الحقل: «لا بد أن يقام العرس خلال أربعة أسابيع.»
حينذاك أجهشت بالبكاء وقالت إنها لن تتزوج الخلد الكريه.
ردت عليها فأرة الحقل قائلة: «هراء. كفي عن المكابرة في الحال وإلا عضضتك بأسناني البيضاء. إنه خلد وسيم جدا؛ الملكة نفسها لا ترتدي من المخمل والفراء ما يفوقه أناقة. كما أن مطابخه وأقبيته ممتلئة عن آخرها. يجدر بك أن تكوني في غاية الامتنان على هذا الحظ الحسن.»
وهكذا حدد يوم العرس، الذي كان سيأخذها فيه الخلد لتعيش معه، عميقا تحت الأرض، فلا ترى الشمس الدافئة مرة أخرى مطلقا؛ لأنه لم يكن يحبها. أثارت فكرة توديع الشمس الجميلة بالغ الحزن في نفس الفتاة المسكينة، ولما سمحت لها فأرة الحقل بالوقوف عند الباب، ذهبت في الحال لتراها مرة أخيرة.
هتفت عقلة الإصبع وهي تمد ذراعيها ناحيتها: «الوداع أيتها الشمس المشرقة»، ثم مشت مسافة قصيرة من المنزل، إذ كانت الذرة قد حصدت، ولم يتبق في الحقول سوى بقايا الحصاد الجافة. أعادت القول وهي تطوق زهرة حمراء صغيرة نبتت بجانبها: «الوداع، الوداع. فلتبلغي السنونو الصغير سلامي، إذا رأيته ثانية.»
وفجأة ترددت زقزقة فوق رأسها، وحين نظرت إلى أعلى كان السنونو نفسه يحلق قريبا منها. وما أن لمح عقلة الإصبع حتى ابتهج، فأخبرته كم كانت غير راغبة في الزواج من الخلد الدميم، والعيش دائما أسفل الأرض، وعدم رؤية الشمس المشرقة مرة أخرى. وقد راحت تبكي وهي تخبره بهذا.
قال السنونو: «لقد أوشك الشتاء البارد على القدوم، وسوف أطير بعيدا إلى بلاد أكثر دفئا. فهل تأتين معي؟ يمكنك الجلوس على ظهري ولتشدي وثاقك عليه بحزامك. وحينئذ يمكننا الطيران بعيدا عن الخلد الدميم ومنزله الكئيب، بعيدا فوق الجبال، إلى بلاد أكثر دفئا، حيث تشرق الشمس أكثر وهجا من هنا؛ حيث الصيف دائم، وحيث تتألق الزهور في جمال أكبر. فلتطيري معي يا عزيزتي الصغيرة؛ فقد أنقذت حياتي حين كنت راقدا متجمدا في ذلك الممر المظلم الموحش.»
قالت عقلة الإصبع: «حسنا، سأذهب معك.» وجلست على ظهر الطائر واضعة قدميها على جناحيه المفرودين، وربطت حزامها بواحدة من أقوى ريشه.
ارتفع السنونو في الهواء وطار فوق الغابة وأعلى البحر، عاليا فوق أعلى الجبال، المكللة بثلوج لا تنتهي. كانت عقلة الإصبع ستتجمد في الهواء البارد، لكنها زحفت تحت ريش الطائر الدافئ، دون أن تغطي رأسها الصغير، حتى يتسنى لها الاستمتاع بمشاهدة الأماكن الجميلة التي مرا فوقها. بعد وقت طويل وصلا إلى البلاد الدافئة، حيث تشرق الشمس ساطعة وتبدو السماء في مستوى أعلى كثيرا فوق الأرض. هنا كانت تنمو أصناف أرجوانية وخضراء وبيضاء من العنب على الأسيجة الشجرية وعلى جانب الطريق، ويتدلى الليمون والبرتقال من الأشجار في الحقول، ويعبق الهواء بروائح نبات الآس وزهور البرتقال. وكان يجري في الطرق الريفية أطفال حسان، يلعبون مع فراشات زاهية كبيرة؛ وكلما طار السنونو أبعد فأبعد، بدا كل مكان أبهى وأبهى.
وأخيرا أتيا بحيرة زرقاء، قام بجانبها قصر من الرخام الأبيض المبهر، بني في الأزمنة الغابرة، وقد ظللته أشجار ذات لون أخضر غاية في الدكانة. والتفت حول أعمدته السامقة الكروم، وكان في أعلاه العديد من أعشاش السنونو، وبينها بيت السنونو الذي حمل عقلة الإصبع.
قال السنونو: «هذا هو بيتي، لكن لن يكون من المناسب لك أن تعيشي هنا؛ فلن تشعري بالراحة. لا بد أن تختاري واحدة من هذه الزهور الجميلة، وسوف أهبط بك إليها، وبعد ذلك سوف تحصلين على كل ما قد تتمنينه ليحقق لك السعادة.»
قالت: «سيسرني هذا.» وصفقت بيديها الصغيرتين فرحا.
كان على الأرض عمود رخامي ضخم، تكسر حين هوى ثلاث قطع. وقد نبت بين هذه القطع زهور بيضاء كبيرة في غاية الجمال، فطار السنونو هابطا بعقلة الإصبع ووضعها على إحدى الأوراق العريضة. لكن كم اندهشت عقلة الإصبع حين رأت في منتصف الزهرة رجلا صغيرا ضئيلا، شديد البياض والشفافية كأنه من بلور! كان معتمرا تاجا ذهبيا، وبرز من كتفيه جناحان رقيقان، ولم يكن يفوقها كثيرا في الحجم. كان ملاك الزهرة؛ إذ يعيش في كل زهرة رجل صغير وامرأة صغيرة، وكان هذا هو ملكهم جميعا.
همست عقلة الإصبع للسنونو قائلة: «أوه، كم يبدو وسيما!»
في البداية ارتعب الأمير الصغير بشدة من الطائر، الذي كان بمثابة عملاق بالنسبة إلى مخلوق صغير رقيق مثله؛ لكنه سر حين رأى عقلة الإصبع واعتقد أنها أجمل فتاة صغيرة رآها على الإطلاق. خلع التاج عن رأسه ووضعه على رأسها، ثم سألها عن اسمها وإن كانت توافق على أن تكون زوجته والملكة على كل الزهور.
كان هذا قطعا زوجا من نوع مختلف جدا عن ابن الضفدعة، أو الخلد بفرائه ومخمله الأسود، ومن ثم فقد وافقت على الزواج من الأمير الوسيم. هنا تفتحت كل الزهور، وخرج من كل واحدة سيدة صغيرة أو سيد صغير، كلهم في غاية الجمال حتى إنهم ليثيرون في النفس بهجة شديدة لدى رؤيتهم. وأتى كل منهم بهدية لعقلة الإصبع؛ لكن أفضل هدية كانت زوجين من الأجنحة الجميلة، كانت تعود إلى ذبابة بيضاء كبيرة، وقد ثبتوهما على كتفي عقلة الإصبع، حتى تتمكن من الطيران من زهرة لأخرى.
سادت بعد ذلك فرحة عارمة، وطلب من السنونو، الذي كان جالسا في عشه فوقهم، أن يشدو بأغنية للعرس، وهو ما فعله كأفضل ما يستطيع؛ إلا أنه كان يشعر في أعماقه بحزن، فقد كان مولعا بعقلة الإصبع للغاية وود ألا يفترق عنها ثانية أبدا.
قال لها ملاك الزهور: «يجب التوقف عن مناداتك بعقلة الإصبع. فهو اسم قبيح، وأنت في غاية الحسن. سوف نناديك مايا.»
قال السنونو بقلب مثقل: «الوداع، الوداع.» وهو يغادر البلاد الدافئة ليطير عائدا إلى الدنمارك. فلديه هناك عش فوق نافذة منزل يعيش فيه كاتب قصص خيالية. كان السنونو يشدو: «صوصو، صوصو» ومن شدوه عرفنا كل هذه القصة.
قصص الشمس
قال الريح: «سوف أحكي قصة.»
فبادرت الأمطار: «أستميحك عذرا، لكن هذا دوري أنا. ألم تظل تعوي طويلا في الجوار، بأقصى طاقتك؟»
قال الريح: «هل هذا عرفانك لي بالجميل؟ أنا الذي أقلب كل المظلات، بل أكسرها، إكراما لك، حين يحاول الناس تحاشيك بكل ما أوتوا من سبل.»
هنا قالت الشمس: «أنا من سأتحدث. فلتلوذا بالصمت!» وقد تكلمت الشمس بعظمة وجلالة حتى إن الريح البرم خر خاضعا، بينما راحت الأمطار تهزه وهي تضربه، قائلة: «لن نرضى بهذا! إنها دائما ما تقاطعنا، السيدة شمس. دعنا لا نصغي لها؛ فما تقوله لا يستحق الإنصات.» لكن رغم هذا شرعت الشمس في الحديث، وهذا ما قالته: «طارت بجعة جميلة فوق أمواج المحيط المتلاحقة المتلاطمة. كانت كل ريشة من ريشها تلمع كالذهب؛ حين تطايرت واحدة هاوية إلى سفينة تجارية هائلة كانت تبحر مبتعدة، رافعة كل صواريها.
سقطت الريشة على الشعر الأشقر المجعد لشاب، كانت مهمته العناية بالبضائع التي على متن السفينة، فكان يدعى مشرف الشحن. لمست ريشة طائر الحظ السعيد جبهته، وصارت قلما في يده، وجلبت له حظا وافرا حتى إنه سرعان ما صار تاجرا ثريا، وقد بلغ به الثراء أنه اشترى مهاميز ذهبية، وحول صفيحة ذهبية إلى درع رجل نبيل، كانت تعكس ضوئي.» •••
استمرت قائلة: «طارت البجعة مبتعدة، أكثر فأكثر، فوق المرج الأخضر المشمس، حيث كان قد استلقى راعي أغنام صغير، لا يتجاوز عمره سبعة أعوام، في ظل الشجرة العجوز، التي لم يكن هناك غيرها على مرمى البصر.
وبينما هي تحلق قبلت إحدى أوراق الشجرة، فسقطت في يد الصبي لتتحول إلى ثلاث أوراق، ثم عشر، ثم كتاب كامل؛ نعم، وفي الكتاب قرأ عن عجائب الطبيعة كلها، ولغته الأم، وحول الإيمان والمعرفة. وحين خيم الليل وضع الكتاب أسفل الوسادة، حتى لا ينسى ما قرأه.
وقد قاده الكتاب العجيب إلى المدرسة، ثم إلى أماكن شتى، في سعيه لاكتساب المعرفة. وقد قرأت اسمه بين أسماء رجال العلم. •••
طارت البجعة إلى غابة هادئة ومنعزلة، واستراحت قليلا في البحيرة العميقة الظليلة حيث تنمو الزنابق، وحيث تجد التفاح البري على الشاطئ، وحيث أعشاش الوقواق والحمام البري.
كانت في الغابة امرأة فقيرة تجمع الحطب، أي ما تساقط من فروع وعصي يابسة. كانت تحمل ما جمعته في حزمة على ظهرها، بينما كانت تحمل بين ذراعيها طفلها الصغير. وقد رأت هي أيضا البجعة الذهبية، طائر الحظ السعيد، وهي ترتفع من بين البوص على الشاطئ. ما ذلك الشيء الذي كان يلمع بشدة؟ بيضة ذهبية لا تزال دافئة تماما. فما كان منها إلا أن وضعتها في صدر ردائها، فظلت دافئة. كان هناك حياة في البيضة بالتأكيد! فقد سمعت صوت نقر رقيقا داخل القشرة، لكنها ظنت أنه صوت قلبها الذي كان يخفق.
عند العودة إلى كوخها الفقير أخرجت البيضة التي كان يصدر عنها صوت تكتكة، كما لو كانت ساعة ذهبية، لكنها لم تكن كذلك؛ فقد كانت بيضة حقيقية حية.
تشققت البيضة وفتحت، وخرج منها برأسه الصغير فرخ بجع صغير لطيف، مغطى بالكامل بريش كأنه ذهب خالص، وكان حول عنقه أربع حلقات، ولما كان لهذه السيدة أربعة أولاد - ثلاثة بالمنزل، وهذا الصغير الذي كان معها في الغابة المنعزلة - فقد أدركت في الحال أنه كان ثمة واحدة لكل صبي. وبمجرد أن أخذتها، انطلق الطائر الذهبي الصغير طائرا.
قبلت السيدة كل حلقة، ثم جعلت كل طفل يقبل الحلقة الخاصة به، ووضعت حلقة قريبا من قلب الطفل لبعض الوقت، ثم وضعتها في إصبعه. لقد رأيت هذا كله، ورأيت ما حدث بعد ذلك.
أخذ أحد الصبية، الذين كانوا يلعبون بالقرب من قناة، كتلة من الطين في يده، ثم أخذ يشكلها حتى اتخذت هيئة تشبه جيسون، الذي ذهب ليبحث عن الصوف الذهبي ووجده.
أما الصبى الثاني فخرج يركض في المرج، حيث نبتت زهور من كل الألوان التي قد ترد على الذهن. فجمع منها ملء كفه واعتصرها بشدة حتى سالت عصارتها في عينيه، وبل بعض منها الحلقة التي في يده. تسرب السائل وتغلغل في دماغه ويديه، وبعد عدة أيام وسنوات أصبح الناس في المدينة الكبرى يتحدثون عنه وقد صار رساما مشهورا.
أما الطفل الثالث فقد وضع الحلقة بإحكام شديد بين أسنانه حتى إنه كان يصدر عنها صوت؛ صدى أغنية في أعماق قلبه. فكانت الأفكار والمشاعر تتصاعد في أصوات عذبة - مثل صدح البجع - وتغوص، مثل البجع أيضا، في بحر عميق جدا. وقد صار موسيقيا عظيما، علما، يحق لكل بلد أن يقول: «إنه ينتسب إلي، فهو ينتسب إلى العالم أجمع».
أما الطفل الرابع الصغير فقد كان بالفعل «الطفل المنبوذ» في العائلة، إذ قيل إنه مريض ولا بد أن يأكل الفلفل والزبد مثل الدجاج المريض، فكان هذا ما يعطى له؛ إلا أنه حصل مني على قبلة دافئة مشمسة. لقد حصل مني على عشر قبلات في حين حصل كل من أشقائه على واحدة. أصبح شاعرا، وظل يلقى الهجوم طوال حياته.
إلا أنه كان لديه ما لم يستطع أي شخص أن يسلبه إياه؛ حلقة الحظ من بجعة السعد الذهبية. وهكذا حلقت أفكاره وطارت عاليا وبعيدا مثل فراشات صداحة؛ لتصير شعارات لحياة خالدة.»
قال الريح: «كانت تلك قصة طويلة لحد فظيع.»
قالت الأمطار: «وفي غاية الغباء والملل. فلتنفخ في بعض الهواء أرجوك حتى أفيق قليلا.»
وبينما كان الريح ينفخ الهواء، قالت الشمس: «طارت بجعة الحظ السعيد فوق الخليج الجميل حيث كان الصيادون قد نصبوا شباكهم. وكان أفقرهم يتمنى الزواج، وقد تزوج بالفعل.
أما هو فقد أحضرت له البجعة قطعة من العنبر. والعنبر يجذب له الأشياء، وقد جذبت هذه القطعة القلوب للمنزل الذي عاش فيه الصياد مع عروسه. إن العنبر هو أروع أنواع البخور، وينبعث منه عطر رقيق، كأنه آت من مكان مقدس؛ أنفاس عطرة من الطبيعة الخلابة التي خلقها الرب. وهكذا كان الصياد وزوجته هانئين وممتنين في منزلهما الهادئ، وراضيين رغم فقرهما. وبذلك صارت حياتهما قصة حقيقية من قصص الشمس.»
قال الريح: «أعتقد أنه يفضل أن نتوقف الآن، فإنني أشعر بملل فظيع. لقد تكلمت الشمس طويلا جدا.»
قالت الأمطار: «أنا أيضا أعتقد هذا.»
وماذا نقول نحن الآخرين الذين سمعنا القصة؟
نقول: «الآن تمت القصة.»
إبرة الرفو
كانت هناك في يوم من الأيام إبرة رفو تعتقد أنها رفيعة جدا، حتى انتهى بها الأمر أن تعتقد أنها صالحة للتطريز.
قالت للأصابع التي التقطتها: «فلتحرصوا على الإمساك بي جيدا. لا تدعوني أضيع رجاء. إن سقطت على الأرض، فسوف أضيع حتما؛ فإنني رفيعة للغاية.»
قالت الأصابع وهم يمسكون بها بقوة من خاصرتها: «هذا ما يخيل إليك.»
قالت إبرة الرفو: «انتبهوا، فإنني آتية بموكبي.» قالت هذا وهي تجر خلفها خيطها الطويل الذي لم يكن فيه عقدة.
أدخلت الأصابع سن الإبرة في خف قديم، قد تقطع الجزء العلوي المصنوع من الجلد من زوجيه وكان لا بد من خياطته. وكان الخف يخص الطاهية.
قالت إبرة الرفو: «هذا عمل شديد الصعوبة! ولن أخرج منه حية أبدا. ها أنا أتكسر! إنني أتكسر.» وقد تكسرت بالفعل. قالت إبرة الرفو: «ألم أقل هذا؟ إنني أرق من أن أقوم بعمل كذلك.»
قالت الأصابع: «لقد صارت الآن عديمة النفع في الخياطة.» إلا أنهم ظلوا ممسكين بها رغم هذا؛ فقد سكبت الطاهية في الحال بعضا من شمع الختم المذاب على الإبرة وشبكت وشاح رقبتها من الأمام بها.
قالت إبرة الرفو: «انظروا، لقد صرت الآن دبوس زينة. كنت أعلم جيدا أنني سأرقى إلى مرتبة مشرفة؛ فإنك تبلغ العلا دائما ما دمت أهلا له. لا بد للمتميز أن يرتقي.» قالت هذا وضحكت، بداخلها فقط، بالطبع؛ فلا أحد على الإطلاق يستطيع أن يرى إبرة الرفو وهي تضحك. وهكذا استقرت الآن، في دعة تامة، وزهو كأنها جالسة في عربة ملكية، وراحت تجول ببصرها في كل ما حولها.
سألت الدبوس الذي إلى جوارها: «هل تسمح لي أن أسألك إن كنت مصنوعا من الذهب؟ لديك مظهر رائع ورأس مميز جدا، وإن كان صغيرا للغاية. لا بد أن تبذل قصارى جهدك حتى يكبر، لا شك أنهم لن يمكنهم سكب شمع ختم على الجميع.»
ثم نهضت إبرة الرفو في خيلاء شديد حتى سقطت من الوشاح إلى الحوض، الذي كانت الطاهية تغسله في تلك اللحظة.
قالت إبرة الرفو: «الآن سوف أسافر، أرجو فقط ألا أضل الطريق.»
لكن كان ذلك بالضبط ما حدث لها.
قالت إبرة الرفو حين وجدت نفسها في البالوعة: «إنني أرق من أن أعيش في هذا العالم. لكنني أعلم من أكون، وفي ذلك دائما القليل من التسرية!» هكذا حافظت إبرة الرفو على وقارها ولم تفقد أيا من حس دعابتها. ثم أخذ يطفو فوقها أنواع شتى من الأشياء؛ شظايا وقش وقصاصات من جرائد قديمة.
حدثت إبرة الرفو نفسها قائلة: «فلتنظري فقط كيف تطفو هناك. إنها لا تدري شيئا يذكر عما يقبع أسفلها، رغم أن هذا الشيء هو أنا، وأنا قابعة في ثبات هنا. انظري، ها هي شظية ماضية! إنها لا تفكر في أي شيء في الدنيا سوى نفسها؛ لا تفكر في أي شيء في العالم سوى شظية! وها هي قشة طافية؛ انظري كيف تلف وتدور. فلتفكري في شيء آخر غير نفسك وإلا اصطدمت بحجر بسهولة. وها هي قصاصة من جريدة تسبح في الماء. لقد نسي ما كتب فيها منذ زمن طويل، ورغم ذلك كم تتمدد وتختال! أما أنا فجالسة هنا في صبر وهدوء! فأنا أعلم قدري، وسوف أظل على وضعي دوما.»
ذات يوم ارتمى بجانبها شيء ذو بريق مذهل، فاعتقدت أنه لا بد أن يكون ماسة، إلا أنه لم يكن سوى شظية من زجاجة مكسورة. وبينما هي تلمع في وهج شديد، تحدثت إبرة الرفو إليها، إذ قدمت نفسها بصفتها دبوس زينة.
قالت إبرة الخياطة: «إنك ماسة على ما أعتقد.» «قطعا، أجل، شيء من هذا القبيل.»
هكذا اعتقدت كل منهما أن الأخرى حلية نادرة وثمينة من نوع ما؛ وشرعتا تتحدثان معا عن الدنيا وكم هي متعالية جدا عليهما.
قالت إبرة الرفو: «صحيح، لقد كنت أعيش في صندوق خاص بسيدة شابة، تصادف أنها كانت طاهية. وكان لديها في كل يد خمسة أصابع، ولم أر قط أي شيء أكثر غرورا وعجرفة منهم. إلا أنه لم يكن لديهم عمل سوى أن يخرجوني من الصندوق ويعيدوني إليه ثانية.»
سألتها شظية الزجاج: «هل كانوا كرام الأصل؟ هل كانوا براقين؟»
أجابت إبرة الخياطة: «بالطبع لا، لكنهم كانوا رغم ذلك متكبرين. كانوا خمسة إخوة؛ كلهم من عائلة الإصبع. وكانوا يقفون في غرور شديد جنبا إلى جنب، رغم أنهم كانوا ذوي أطوال مختلفة تماما. أبعدهم، وكان يسمى الإبهام، كان قصيرا وعريض البنية؛ وكان دائما يقف خارج الصف، أمام الآخرين قليلا؛ وكان لديه مفصل واحد فقط في ظهره، ولا يستطيع الانثناء إلا مرة واحدة؛ لكنه كان دائما ما يقول إنه في حال قطع لدى رجل من الرجال، فسوف يفصل ذلك الرجل من الخدمة العسكرية. أما السبابة، الإصبع الثاني، فقد كان يتقدم بنفسه في جميع المناسبات، ويغمس في الحلو والحامض، ويشير إلى الشمس والقمر، وحين تكتب الأصابع، كان هو من يضغط على القلم. أما الوسطى، ثالث الإخوة، فقد كان يستطيع أن يطل على رءوس الآخرين، وكان ذلك مصدر فخر له. والرابع، ويدعى الخنصر، كان يلف حول وسطه حزاما ذهبيا؛ أما الإصبع الصغير، الذي كانوا ينادونه بالبنصر، فلم يكن يفعل أي شيء على الإطلاق وكان فخورا بذلك، على ما أعتقد. هكذا لم يكن لديهم شاغل سوى الزهو، ولذلك السبب رحلت بعيدا عنهم.»
قالت شظية الزجاج: «وها نحن الآن جالستان معا نشع لمعانا.»
وفي نفس تلك اللحظة تدفق بعض الماء في البالوعة، حتى فاض وحمل معه الماسة الزجاجية.
قالت إبرة الرفو: «ها قد رحلت، وأنا ما زلت قابعة. لقد بقيت لأنني في غاية النحافة والرقي. لكن هذا كبريائي وهو شيء جدير بالاحترام.» وقد جلست بكبرياء، تتوالى على بالها الأفكار. «أكاد أصدق أنني قد ولدت من شعاع شمس؛ فإنني في غاية الرقة. ويبدو كما لو أن أشعة الشمس كانت دوما تحاول البحث عني تحت الماء. لكن يا للأسف، إنني في غاية الرقة حتى إن أمي نفسها لا تستطيع العثور علي. لو كان ما زال لدي عيني القديمة التي انكسرت، فأعتقد أنني لا بد أن أبكي، لكن لا، لن أفعل؛ فالبكاء ليس سلوكا راقيا.»
ذات يوم كان بعض صبية الشوارع يخوضون في البالوعة، بحثا عن مسامير قديمة وبنسات وما شابه. ورغم أنه كان عملا قذرا فقد بدا عليهم أنهم يجدون فيه متعة كبيرة .
صاح أحدهم حين انشك بإبرة الرفو: «آه! ها قد وجدت لكم واحدا!»
قالت إبرة الرفو: «أنا لست رجلا! وإنما سيدة شابة!» لكن لم يسمعها أحد.
كان شمع الختم قد تآكل، وصارت هي سوداء تماما؛ «لكن اللون الأسود يجعل المرء يبدو نحيفا، كما أنه أنيق دائما.» هكذا شعرت أنها صارت أكثر تميزا حتى عن ذي قبل.
قال الصبية: «ها هي قشرة بيض آتية»؛ وغرزوا إبرة الرفو في القشرة.
قالت إبرة الرفو: «سيدة متشحة بالسواد، وداخل جدران بيضاء! ذلك منظر لافت جدا للنظر. الآن يستطيع الجميع أن يروني. أرجو ألا أصاب بدوار البحر؛ إذ سوف أتكسر حينذاك.»
لكن لم يكن هناك داع للخوف؛ إذ لم يصبها دوار البحر ولم تتكسر. «ليس هناك أفضل من أن يكون لديك معدة من الصلب للتغلب على دوار البحر وأن يظل في اعتبارك أنك أفضل قليلا من الأشخاص العاديين. لقد تغلبت على دوار البحر الآن. كلما كان الشخص نبيلا وعظيما، زادت قدرته على التحمل.»
تهشمت قشرة البيض حين مرت عربة فوق كليهما، لكن كان من العجيب أنها لم تتكسر.
قالت إبرة الرفو: «يا ويحي، يا له من وزن ساحق! أشعر بدوار البحر الآن. سوف أتحطم!»
لكنها لم تكن مريضة، ولم تتكسر، رغم أن عجلات العربة مرت فوقها. ظلت ممددة بالكامل على الطريق، ولندعها ممددة هناك.
بائعة أعواد الثقاب الصغيرة
كان البرد قارسا؛ إذ كانت الثلوج تتساقط سريعا، والظلام وشيكا، مع دخول المساء؛ المساء الأخير في العام. في هذا البرد والظلام، سارت فتاة صغيرة مسكينة في الشارع، حاسرة الرأس وحافية القدمين. صحيح أنها حين غادرت المنزل كانت منتعلة خفين؛ إلا أنهما كانا كبيرين جدا على قدميها؛ إذ ظلت أمها تستخدمهما حتى ذلك الوقت، وضاعا من الفتاة الصغيرة المسكينة أثناء عبورها الشارع جريا أثناء مرور عربتين بسرعة فائقة. وحين بحثت عنهما، كان زوج منهما قد اختفت، وأمسك صبي بالأخرى وجرى بها، قائلا إنه سيستخدمها كمهد ذات يوم حين يصير لديه أطفال.
وهكذا مضت الفتاة الصغيرة بقدميها الحافيتين، وقد أصابهما البرد باحمرار وزرقة. كان يوجد في المئزر القديم الذي ترتديه حزم من عيدان الثقاب، كما كانت تحمل واحدة في يدها أيضا. لكن لم يشتر أحد ولو حزمة واحدة طوال اليوم، ولم يعطها أحد ولو بنسا واحدا.
يا لها من فتاة صغيرة مسكينة! فهي صورة مثالية للبؤس وهي تجرجر قدميها مرتجفة من البرد والجوع.
راحت ندف الثلج تتساقط على شعرها الأشقر الطويل، المسترسل في خصلات ملتفة جميلة حول عنقها؛ لكنها لم تكن تفكر في حسنها ولا البرد. لقد كانت الأضواء تشع خلف كل نافذة، وتسربت إليها الرائحة الشهية لإوزة مشوية، إذ كانت ليلة رأس السنة. وكان هذا كل ما شغل بالها.
في زاوية بين منزلين، تقدم أحدهما عن الآخر، جلست الفتاة منكمشة. لقد ضمت قدميها الصغيرتين تحتها، إلا أنها كانت لا تزال تشعر بالبرد أكثر فأكثر؛ إلا أنها لم تجرؤ على العودة إلى المنزل؛ إذ لم تكن قد باعت أي أعواد ثقاب ولم تستطع الحصول على أي بنسات. وكان أبوها قطعا سيضربها؛ كما أن الجو كان باردا للغاية في المنزل، فلم يكن يسترهم سوى سقف المنزل، ورغم سد أكبر الثقوب بالقش والخرق، فقد بقي العديد من الثقوب التي كان بإمكان الرياح الباردة المرور من خلالها.
وها هي يداها الصغيرتان تكادان تتجمدان من البرد. يا للأسف! يكفيها عود ثقاب واحد إن هي أخذته من الحزمة وحكته بالحائط، ودفأت به يديها. وأخيرا أشعلت واحدا، وكم أخذ يتوهج ويحترق! لقد أعطاها شعلة ضوء دافئة كأنه شمعة صغيرة، حين أحاطته بيديها. كان بصيصا رائعا من الضوء. لقد بدا للفتاة الصغيرة بحق كأنها جالسة أمام موقد كبير من الحديد ذي أقدام نحاسية مصقولة ومجرفة وملقط من النحاس. أخذ العود يحترق في يسر شديد حتى إن الفتاة الصغيرة مدت قدميها لتدفئهما أيضا. كم شعرت بالراحة! لكن ويا للأسف، انطفأت الشعلة، واختفى الموقد، ولم يتبق سوى عود الثقاب الصغير المحترق في يدها.
حكت عودا آخر في الحائط، فأعطاها شعلة متوهجة، وحيث سقط الضوء على الجدار صار شفافا كالشاش ، حتى إنها استطاعت أن ترى الغرفة من خلاله. رأت مفرشا أبيض كالثلج مبسوطا على طاولة، عليها صحون عشاء جميلة من الخزف الصيني، بينما كان البخار يتصاعد في روعة من إوزة مشوية، محشوة بالتفاح والبرقوق، ويرسل في الأجواء رائحة شهية للغاية. لكن ما كان أكثر بهجة، بل روعة، هو أن الإوزة قفزت من الصحن، وما زالت السكين والشوكة مغروستين في صدرها، وتهادت على الأرض حتى عبرتها إلى الفتاة مباشرة.
إلا أن العود انطفأ حينذاك، ولم يتبق لديها سوى الجدار السميك الرطب.
أشعلت عودا آخر. وعندئذ رأت نفسها أسفل شجرة عيد ميلاد غاية في الجمال، أكبر حجما وأجمل تشذيبا بكثير من التي كانت قد رأتها من خلال الباب الزجاجي لمنزل التاجر الثري. إذ كانت مئات الشموع تحترق على فروعها الخضراء، وتنظر إليها أشكال زاهية، كالتي رأتها في نوافذ المتاجر. مدت الطفلة ذراعيها إليها؛ لكن انطفأ العود حينذاك.
ظلت أنوار شجرة عيد الميلاد ترتفع أعلى فأعلى، حتى رأتها الآن كنجوم في السماء، ثم سقطت واحدة منها، فخلفت شريطا طويلا من اللهب.
تمتمت الطفلة بصوت رقيق: «ثمة شخص يحتضر الآن.» فقد أخبرتها جدتها، وهي الشخص الوحيد الذي أحبها، وقد توفيت، أنه متى سقط نجم صعدت روح إلى الرب.
حكت الفتاة عودا آخر بالحائط، فأضاء الدنيا مرة أخرى؛ وفي الضوء لاحت أمامها جدتها العجوز الحبيبة، تشع نورا وبريقا، لكن تقطر عذوبة ورقة، وكانت سعيدة كما لم تبد قط في حياتها.
صاحت الطفلة: «جدتي، فلتأخذيني معك. أعلم أنك ستختفين حين ينطفئ العود. أنت أيضا ستختفين مثل الموقد الدافئ، ووليمة عيد الميلاد الرائعة، وشجرة عيد الميلاد الجميلة.» وحتى لا تختفي جدتها، حكت حزمة أعواد الثقاب بالكامل في الحائط.
اشتعلت أعواد الثقاب في لهيب شديد الوهج حتى صار الضوء أشد من ساعة الظهيرة. الجدة التي لم تبد بهذه الضخامة والجمال قط ضمت الفتاة بين ذراعيها، وطارتا معا، في فرح وعظمة، صاعدتين إلى آفاق أعلى وأعلى، بعيدا عن الأرض؛ حيث لا يوجد جوع أو برد أو هم؛ إذ صارتا مع الرب.
لكن في ساعة الفجر، كانت الفتاة المسكينة جالسة في الزاوية، مستندة إلى الحائط، بوجنتين متوردتين وثغر مبتسم، بعد أن تجمدت حتى الموت في الليلة الأخيرة من العام المنصرم. إذ قبعت في مكانها متيبسة وباردة، معها حزم أعواد الثقاب، التي احترقت منها حزمة واحدة.
قال الناس: «يا لها من صغيرة مسكينة أرادت أن تتدفأ!» لكن لم يتخيل أحد الرؤى الجميلة التي كانت قد شاهدتها، أو كيف رحلت في عظمة مع جدتها لتعيش أفراح العام الجديد.
الحبيبان
كان يوجد في أحد الأدراج بلبل دوار (أو ما يطلق عليه نحلة)، وكرة قريبان بعضهما من بعض ضمن لعب أخرى. ذات يوم قال البلبل الدوار للكرة: «لم لا نكون حبيبين ما دمنا نقضي وقتا طويلا معا؟»
لكن لما كانت الكرة مصنوعة من جلد الماعز المدبوغ، فقد كانت تظن نفسها سيدة من سلالة عريقة جدا، ولذا رفضت هذا العرض. في اليوم التالي، جاء الصبي الصغير صاحب اللعب إلى الدرج؛ وطلى البلبل الدوار بالأحمر والأصفر، وأدخل مسمارا نحاسيا لامعا في رأسه، فبدا أنيقا للغاية في واقع الأمر وهو يدور.
قال البلبل الدوار للكرة: «انظري إلي، ما رأيك في الآن؟ لماذا لا نتزوج ونصير زوجا وزوجة؟ إننا منسجمان للغاية! أنت تستطيعين القفز وأنا أستطيع الرقص. لن يكون هناك ثنائي أسعد منا في العالم بأسره!»
قالت الكرة: «هل تعتقد ذلك؟ ربما لا تعلم إذن أن أبي وأمي كانا زوجي خف من جلد الماعز المدبوغ، وأنني لدي في جسدي فلين إسباني!»
قال لها البلبل الدوار: «ليكن، لكنني مصنوع من خشب الماهوجني، والعمدة بنفسه هو من خرطني؛ فلديه مخرطة خاصة به، وقد استمتع كثيرا بصنعي.»
قالت له الكرة: «أحقا ما تقول؟»
رد عليها البلبل: «ليتني لا أستطيع الدوران ثانية أبدا إن لم يكن ما أقوله لك حقيقة.»
قالت له الكرة: «إنك تدافع عن موقفك جيدا، لكنني ليس لدي حرية الإصغاء إلى عرضك، لكوني على وشك الارتباط بطائر سنونو. إنه، كلما ارتفعت عاليا في الهواء، يخرج رأسه من عشه ويقول : «هل توافقين؟» وقد وافقت بالفعل في أعماق قلبي، وهذا يكاد يكون في حكم الخطوبة؛ لكنني أعدك ألا أنساك أبدا.»
قال البلبل الدوار: «سيكون لي في هذا عزاء كثير.» وتوقفا عن الحديث بعضهما مع بعض.
في اليوم التالي أخرجت الكرة، ورآها البلبل الدوار وهي تحلق في الهواء مثل الطيور، عاليا جدا، حتى إنها غابت تماما عن الأنظار. لكنها عادت ثانية؛ لكنها كانت كلما لمست الأرض، تقفز أعلى عن ذي قبل. لا بد أن يكون هذا لأنها تتوق إلى الصعود إلى آفاق أعلى، مثل السنونو، أو لأن لديها في جسدها فلينا إسبانيا. وفي المرة التاسعة لم تعد الكرة الصغيرة. ظل الصبي يبحث عنها، لكن دون جدوى، فقد اختفت.
تنهد البلبل الدوار وقال: «أعلم جيدا أين هي. إنها في عش السنونو، تحتفل بعرسها.»
وكلما أمعن البلبل الدوار في التفكير في هذا الأمر بدت له الكرة أكثر جمالا؛ إذ بدا كأن عدم قدرته على الزواج منها قد زاد من حبه لها. لقد فضلت شخصا آخر عليه إلا أنه لم يستطع نسيانها. لقد ظل يدور مرارا وتكرارا، ويلف ويئز، لكنه ظل دائما يفكر في الكرة، التي كانت تزداد حسنا كلما فكر فيها. وهكذا مرت عدة سنوات، وصار حبا قديما، ولم يعد البلبل الدوار شابا!
ذات يوم طلي البلبل الدوار بالكامل بالذهب؛ فبدا جميلا كما لم يبد قط في حياته. هكذا صار بلبلا دوارا ذهبيا، وقد دار على نحو رائع، وهو يئز طوال الوقت. لكنه في مرة قفز عاليا جدا، واختفى!
وقد بحثوا عنه في كل مكان - حتى القبو - لكنهم لم يعثروا عليه في أي مكان. فأين كان؟
كان قد قفز في صندوق القمامة، حيث جلس بين سيقان الكرنب والكناسة والغبار وسائر أنواع القمامة التي سقطت من المزراب الذي في السطح.
قال البلبل: «وا أسفاه! سيفسد طلائي اللامع سريعا هنا. أي أشياء بالية تلك التي صرت بينها؟» ثم ألقى نظرة عابرة على ساق كرنب طويل كان قريبا جدا منه، وعلى شيء غريب ومستدير، بدا مثل التفاحة ، لكنه لم يكن كذلك. لقد كانت الكرة القديمة التي لا بد أنها ظلت قابعة لسنوات في المزراب، وقد تشبعت بالمياه مرارا وتكرارا.
قالت الكرة وهي تنظر بتأثر إلى البلبل المطلي بالذهب: «الحمد لله! أخيرا رأيت مكافئا لي؛ واحدا على شاكلتي أستطيع أن أتحدث معه. إنني مصنوعة من جلد ماعز مدبوغ أصلي، خاطته يدا سيدة شابة، ويوجد بداخلي فلين إسباني؛ لكن لا أحد قد يأبه لذلك الآن. لقد كنت قاب قوسين من الزواج من السنونو، حين أسقطتني صدفة مؤسفة في المزراب الذي فوق السطح. ظللت هناك خمس سنوات، أنضح ماء. لك أن تتخيل كم كان هذا وضعا منهكا لسيدة شابة مثلي.»
لم يرد البلبل. وكلما فكر في حبه القديم، وأنصت لما تقوله الكرة، زاد يقينه من أنها هي بالتأكيد.
ثم جاءت الخادمة لإفراغ صندوق القمامة، فصاحت: «أوه! ها هو البلبل الدوار الذهبي.» وهكذا حمل البلبل إلى حجرة اللعب مرة أخرى، ليستخدم ويعامل معاملة حسنة كما في السابق، بينما لم يسمع أي شيء عن الكرة مرة أخرى.
لم يتحدث البلبل الدوار عن حبه القديم مرة أخرى قط؛ لا بد أن المشاعر قد مضت. وليس هذا عجيبا، ما دام المحبوب ظل قابعا في مزراب طيلة خمس سنوات، مبتلا تماما، وقد التقى به مرة أخرى في صندوق قمامة.
مباراة القفز
ذات يوم أراد البرغوث والجندب والضفدع أن يعرفوا أيهم يستطيع القفز أعلى من الآخرين، فأقاموا مسابقة، ودعوا العالم بأجمعه وكل من ود المجيء ومشاهدة الحدث العظيم. وقد كانوا ثلاثة متبارين مشهورين، كما قال عنهم الجميع، حين التقوا في الحجرة.
قال الملك: «سوف أهب ابنتي لمن سيقفز أعلى من الآخرين؛ فليس من اللائق أن يفوز دون أن نعطيه جائزة.»
كان البرغوث أول من تقدم. كان شديد التهذيب، إذ انحنى للمتفرجين في كل ناحية؛ فهو كريم الأصل، كما أنه اعتاد مجتمع البشر، وكان ذلك في مصلحته بالطبع.
ثم جاء دور الجندب؛ ولم يكن في رشاقة البرغوث، لكنه كان يعرف جيدا كيف يتصرف، وكان يرتدي الزي الأخضر الذي وهبته إياه الطبيعة. كما قال إنه ينحدر من أسرة مصرية شديدة العراقة، وإنه يلقى احتفاء كبيرا في المنزل الذي يعيش فيه.
الحقيقة أنه قد أخذ من الحقول ووضع في منزل من أوراق اللعب مكون من ثلاثة طوابق، بني له خصيصى، حيث وضعت الجوانب الملونة بالداخل، وصممت الأبواب والنوافذ من ورقات ملكة القلوب. قال الجندب: «كما أنني أغني جيدا، حتى إن ستة عشر من صراصير الليل، التي ترعرعت في الصالونات والتي تصر منذ طفولتها لكن لم يبن لها أحد منازل من أوراق اللعب رغم هذا حتى تعيش فيها، زادها الحنق نحافة على نحافة، من فرط غيظها عند سماعي.»
هكذا بذل البرغوث والجندب أقصى ما في وسعيهما، وقد اعتقد كل منهما أنه كفء تماما للأميرة.
أما الضفدع فلم ينبس بكلمة؛ لكن الناس قالت إنه ربما يفكر أكثر مما يتكلم؛ وأقر كلب الحراسة الذي تشممه بأنفه أنه من أسرة كريمة. والمستشار العجوز الذي حصل على ثلاث رتب لالتزامه الصمت، أكد أن الضفدع لديه قدرات تنبؤية كبيرة؛ إذ يستطيع المرء أن يعرف من النظر إلى ظهره ما إن كان الشتاء القادم سيكون قارسا أم معتدلا، وهو أكثر مما يمكن معرفته عند التطلع في ظهر الرجل الذي يكتب الروزنامة.
أفصح الملك قائلا: «لن أعلن شيئا الآن، لكنني كونت رأيا، فإنني ألاحظ كل شيء.»
ثم بدأت المباراة؛ فقفز البرغوث عاليا جدا حتى إن أحدا لم يستطع أن يرى ماذا حدث له؛ ومن ثم أصروا أنه لم يقفز من الأساس، وهو ما كان مخزيا بعد كل الضجة التي كان قد أثارها.
أما الجندب فقد قفز فبلغ نصف الارتفاع السابق فحسب؛ إلا أنه نزل على وجه الملك الذي اشمأز من قلة تهذيبه.
ظل الضفدع واقفا طويلا، كمن شرد في أفكاره؛ فبدأ الناس يظنون أنه لن يقفز مطلقا.
قال الكلب: «أخشى أنه مريض!» ثم ذهب ليتشممه مرة أخرى، لكنه قفز قفزة جانبية مفاجئة ليهبط في حجر الأميرة، التي كانت جالسة قريبا على مقعد ذهبي صغير.
هنا قال الملك : «ليس هناك ما يعلو على ابنتي، ومن ثم فالنزول في حجرها هو أعلى قفزة يمكن القيام بها. لم يكن ليفكر في ذلك إلا شخص حسن الإدراك. ومن ثم فقد أثبت الضفدع أن لديه بصيرة. إن لديه عقلا يعمل في رأسه.»
وهكذا فاز بالأميرة.
قال البرغوث: «ولكنني قفزت أعلى قفزة، لكن هذا لا يهم. لتحصل الأميرة على هذا الكائن اللزج ذي الساقين غير المرنتين ما دامت تريد ذلك. فنادرا ما يكافأ المتميز في هذا العالم. والبلادة والقوة هما ما يفوزان. إن هذا العالم الغبي لا يريد رشاقتي وخفتي.»
وهكذا ذهب البرغوث للعمل في السلك الدبلوماسي.
جلس الجندب في الخارج على ضفة خضراء وراح يتأمل العالم وأموره؛ وقال هو الآخر: «صحيح، البلادة والقوة هما ما يفوزان؛ فالمظهر الحسن هو ما يأبه له الناس هذه الأيام.» ثم أخذ يغني بطريقته المميزة، ومن أغنيته أخذنا هذه القصة القصيرة، التي من المحتمل جدا ألا تكون حقيقية، رغم أنها مطبوعة في هذا الكتاب بالأبيض والأسود.
الأسرة السعيدة
إن أكبر ورقة خضراء في هذا البلد هي بالتأكيد ورقة نبات الأرقطيون. ضع واحدة أمام خصرك، وستجد أنها ستصبح مثل المئزر؛ أما إذا وضعت واحدة فوق رأسك، فستبدو تماما مثل المظلة؛ فهي عريضة جدا.
لا ينمو نبات الأرقطيون بمفرده قط؛ فأينما وجدت واحدا منه تأكد من نمو آخرين من نفس النوع قريبا جدا منه. كم يبدو هذا رائعا!
وكل هذه الروعة تعد غذاء للحلزونات؛ الحلزونات البيضاء الضخمة، التي اعتاد الأشخاص رفيعو المستوى في أزمنة غابرة أن يطهوها يخنة، ويقولون بعد تناولها: «أمم، كم هي شهية!» فقد كانوا حقا يرونها طيبة المذاق. كانت هذه الحلزونات تعيش على أوراق الأرقطيون، وكان الأرقطيون يزرع لذلك السبب.
ثم كانت هناك ضيعة قديمة حيث لم تعد الحلزونات تعتبر من الأطعمة الشهية. لذلك فقد انقرضت الحلزونات، في حين ظل الأرقطيون مزدهرا. إذ راح ينمو في كل الممرات وفي كل أحواض الزرع، حتى صار خارجا عن السيطرة؛ فأصبح المكان غابة مثالية من الأرقطيون.
لقد كنت تجد شجرة تفاح أو برقوق هنا وهناك كدليل على أنه كان ذات يوم ثمة حديقة في هذا المكان، الذي صار مغطى تماما بالأرقطيون، وتحت ظل الأرقطيون كان يعيش آخر اثنين من الحلزونات القديمة.
هما نفسهما لم يكونا يعرفان كم يبلغان من العمر، لكنهما كانا يتذكران جيدا الزمن الذي كان فيه الكثير جدا من نوعهما، وأنهما انحدرا من أسرة جاءت من أراض أجنبية، وأن هذه الغابة التي يعيشان فيها قد زرعت لهما ولنوعهما. ورغم أنهما لم يذهبا قط خارج حدود الحديقة، فقد كانا يعرفان أن ثمة شيئا خارج غابتهما، يسمى القلعة، وأن الحلزون كان يسلق هناك، ويصير أسود اللون، ثم يوضع على صحن فضي، إلا أنهما لم يسمعا قط بما كان يحدث بعد ذلك، ولا كان بإمكانهما أن يتخيلا على وجه الدقة كيف يكون إحساس من يطهى ويوضع على طبق فضي. لا شك أنه كان شيئا فاخرا وفي غاية الفخامة.
كذلك لم تكن خنفساء الجعل أو الضفدعة أو دودة الأرض اللواتي كانا يسألانهن عن هذا الأمر، يستطعن إعطاءهما أي معلومة؛ فلم تكن أي منهن من قبل قد طهيت وقدمت على صحون فضية.
لكن كان الكل يدرك جيدا أن الحلزونات البيضاء القديمة كانت هي السلالة الأرقى في العالم. ولقد أقيمت هذه الغابة من أجلها، وكذلك بنيت القلعة أو القصر خصيصى حتى تطهى وتؤكل فيها.
ونظرا إلى أنهما الآن كانا يعيشان حياة هادئة وسعيدة جدا لكن من دون أبناء، فقد تبنيا حلزونا عاديا صغيرا، وربياه كأنه ابنهما. إلا أن الحلزون الصغير لم يكبر؛ إذ لم يكن سوى حلزون عادي، إلا أن أمه بالتبني تظاهرت بأنها ترى فيه تطورا كبيرا. وقد ترجت الأب أن يتحسس صدفة الحلزون الصغير، لما كان غير قادر على ملاحظتها، وقد سرها وسره كثيرا أنه اكتشف أن زوجته كانت على حق.
وفي أحد الأيام هطلت الأمطار بغزارة شديدة، فقال الحلزون الأب: «أنصتي! أصغي إلى صوت القرع على أوراق الأرقطيون؛ تك تك دوم!»
قالت الحلزونة الأم: «ثمة قطرات تسيل على السيقان أيضا . بعد قليل سنجد المكان وقد صار مبتلا جدا. إنني سعيدة أن لدينا هذه المساكن الجيدة، نحن وهذا الصغير. إننا أفضل حالا كثيرا من أي مخلوقات أخرى. لا بد أنه من الواضح للجميع أننا كائنات راقية. فلدينا مساكن خاصة بنا منذ ولادتنا، وغابة الأرقطيون هذه مزروعة من أجلنا. أود فقط أن أعرف إلى أين تمتد، وما الذي يقع بعدها.»
قال الحلزون الأب: «ليس هناك أفضل مما لدينا هنا. وأنا لا أتمنى أكثر من ذلك.»
قالت الأم: «لكنني أود أن أؤخذ إلى القلعة، وأسلق، وأقدم على صحن فضي؛ فقد كان هذا مصير كل أسلافنا، ومن المؤكد أن هذا شيء خارج تماما عن المألوف.»
قال الحلزون الأب: «ربما صارت القلعة أطلالا، أو ربما غطاها نبات الأرقطيون حتى إن ساكنيها لا يستطيعون الخروج. ليس هناك داع إلى تعجل الأمر. إنك دائما على هذه الحال من الاستعجال الشديد، وها هو الصغير بدأ يحذو حذوك. فقد ظل طوال الثلاثة الأيام الماضية يزحف صاعدا تلك الساق التي هناك، حتى إنني أشعر بدوار شديد عند النظر إليه.»
قالت الأم: «لكن لا توبخه، فهو يزحف بحذر. نحن كبار السن ليس لدينا شيء آخر لنعيش من أجله، وسوف يكون هو بهجتنا في شيخوختنا. هل فكرت كيف يمكننا العثور على زوجة له؟ هل تعتقد أنه قد يكون هناك آخرون من نوعنا عند التوغل بعيدا في الغابة؟»
قال الأب العجوز: «أعتقد أنه قد يكون هناك حلزونات سوداء؛ حلزونات سوداء من دون مسكن على الإطلاق؛ إنهم سوقيون إلا أنهم مزهوون بأنفسهم. لكن يمكننا الاستعانة بالنمل الأسود الذين يركضون كثيرا في الأنحاء، يهرعون هنا وهناك كما لو كان بأيديهم زمام العالم. لا شك أنهم سيستطيعون العثور على زوجة لابننا الشاب.»
قالت واحدة من النمل: «أعرف أجمل الجميلات، لكن أخشى أنها لن تكون مناسبة، فهي ملكة.»
قال الحلزونان العجوزان: «لا يهم. هل لديها منزل؟»
أجابهما النمل: «لديها قصر؛ قلعة نمل غاية في الروعة، ذات سبعمائة ممر.»
قالت الحلزونة الأم: «شكرا! لن يذهب ابننا للعيش في بيت للنمل. إن لم يكن لديكم معلومات عن شيء أفضل، فسنستعين بالبعوض الأبيض، الذي يطير سواء كان الجو صحوا أو ممطرا ويعرف مداخل ومخارج غابة الأرقطيون بأسرها.»
قال البعوض: «لقد وجدنا زوجة له؛ فعلى بعد مائة خطوة من هنا يوجد على إحدى شجيرات عنب الثعلب حلزونة صغيرة لديها منزل. إنها وحيدة تماما وفي سن مناسبة للزواج، ولا تبعد سوى مائة خطوة من خطوات البشر من هنا.»
قال الزوجان العجوزان: «فلتأت إليه إذن؛ فهو لديه غابة أرقطيون كاملة، أما هي فلديها شجيرة فحسب.»
وعليه فقد ذهبوا وأحضروا الحلزونة الصغيرة. وقد استغرقت الرحلة ثمانية أيام، لكن لم يكشف ذلك إلا عن نشأتها الراقية، وأنها من أسرة كريمة الأصل.
ثم أقيم العرس، حيث أشعت ست من الديدان المتوهجة أقصى ما استطاعت من ضوء، لكنه كان عرسا هادئا جدا من كل النواحي الأخرى. إذ لم يكن الوالدان المسنان يتحملان مشقة أجواء المرح أو الاحتفال. وقد ألقت الحلزونة الأم خطبة قصيرة مؤثرة جدا، أما الأب فقد كان متأثرا للغاية حتى إنه شك في قدرته على أن يقول أي شيء.
أعطى الأب والأم غابة الأرقطيون بأسرها للزوجين الجديدين، وهما يرددان ما قالاه دائما، ألا وهو إنه أفضل إرث في العالم، وإنهما في حال عاشا حياة مستقيمة وشريفة، وزادا عدد أفراد أسرتهما، فسوف يؤخذان هما وأطفالهما دون شك ذات يوم إلى القلعة حيث يسلقون حتى يصير لونهم أسود ويقدمون يخنة في صحن فضي.
بعد هذا زحف الزوجان العجوزان إلى منزليهما ولم يخرجا ثانية أبدا، حيث خلدا للنوم. أما الزوجان الشابان، فقد حكما الغابة وصار لهما أسرة كبيرة. لكن لما مر الزمن دون أن يطهى أي منهما أو يقدم على صحن فضي، فقد استنتجا أنه لا بد أن القلعة قد صارت أطلالا وأن عالم البشر قد فني؛ وحيث إن أحدا لم ينكر ذلك، فلا بد أنهما كانا على صواب.
وظلت الأمطار تهطل على أوراق الأرقطيون فقط حتى تسليهما بصوت دبيبها، وظلت الشمس تسطع لتضيء الغابة لصالحهما على وجه الخصوص، وهكذا عاشا في سعادة غامرة - هما وأسرة الحلزونات كلها - وقد كانت سعادة لا توصف.
الكائنات الخضراء الصغيرة
انتصبت خارج النافذة شجرة ورد، كانت منذ وقت قصير خضراء ويانعة، أما الآن فتبدو سقيمة، إنها معتلة الصحة بلا شك. فقد سكنها سرب كامل من الحشرات وأخذ يلتهمها، لكن رغم هذه الشراهة الظاهرة، فقد كان السرب في غاية اللياقة والاحترام. وكان أفراده يرتدون زيا موحدا من اللون الأخضر الزاهي. وقد تحدثت إلى واحد من هذه «الكائنات الخضراء الصغيرة». كان عمره ثلاثة أيام فقط، إلا أنه كان جدا بالفعل. ماذا قال في اعتقادكم؟ بالضبط؛ لقد تحدث عن نفسه وعن بقية السرب. فلتنصتوا إذن إلى قصتهم! «إننا أروع مخلوقات في العالم. إننا نخطب في سن صغيرة جدا، ثم نتزوج على الفور. وحين يصير الطقس باردا نضع بيضنا، لكن الصغار ينعمون بالراحة والدفء. يفهمنا النمل جيدا؛ فهم أكثر المخلوقات حكمة، ولذلك نكن لهم بالغ الاحترام. تأكد تماما أنهم يقدروننا. فهم لا يلتهموننا في الحال؛ وإنما يأخذون بيضنا، ويضعونه في بيت النمل الخاص بالعائلة في الطابق الأرضي، فيرصونه، بعد إعطاء أسماء وأرقام له، جنبا إلى جنب، طبقة فوق أخرى، بحيث يتسلل من البيضة في كل يوم طفل جديد. ثم يضعوننا في إسطبل، ويضغطون على سيقاننا الخلفية، ويحلبوننا حتى نموت. وقد سمونا بأجمل الأسماء؛ «البقر الحلوب الصغيرة».
كل المخلوقات التي وهبها الله فطرة سليمة، مثل النمل، ينادوننا بهذا الاسم الجميل. البشر وحدهم لا يفعلون ذلك. فهم يدعوننا باسم آخر، اسم نرى فيه إهانة كبيرة؛ كبيرة لدرجة أنه يكدر صفو حياتنا. هل تستطيع أن تكتب احتجاجا عليه من أجلنا؟ هل بإمكانك أن تثير انتباه هؤلاء البشر إلى الخطأ الذي يرتكبونه في حقنا؟ إنهم ينظرون إلينا بغباء شديد، وأحيانا، بعينين حاقدتين للغاية؛ فقط لأننا نأكل أوراق الورد، في حين أنهم أنفسهم يأكلون كل المخلوقات؛ أي شيء حي وأخضر. ورغم هذا فهم ينعتوننا نحن بأحقر الأسماء! يعف لساني حتى عن ذكره. فهو يثير غثياني بشدة. لا أستطيع حتى أن أنطق به، على الأقل وأنا أرتدي زيي الرسمي، وهذا ما أرتديه دائما.
لقد ولدت على ورقة ورد، وأعيش أنا وسائر السرب على شجرة الورد. بل إنها بالأحرى تمدنا بالغذاء. لكنها بهذا تعيش فينا مرة أخرى، نحن الذين ننتمي إلى رتبة أعلى من الكائنات الحية.
أما البشر فهم لا يحبوننا، ويلاحقوننا ويقتلوننا برغوات الصابون. أوه، إنه سائل بشع! أشعر كأنني أشم رائحته الآن. لا يمكنك أن تتخيل مدى فظاعة أن تستحم في حين أنك لم تخلق من أجل هذا. أيها البشر، يا من تنظرون إلينا بعيون قاسية من خلف رغوات الصابون، فلتتأملوا للحظة موقعنا في الطبيعة: إننا نولد على الورود، ونموت في الورود، حياتنا بأكملها قصيدة وردية. أرجوكم، لا تسمونا باسم أنتم أنفسكم تعلمون أنه حقير جدا؛ الاسم الذي لا أطيق أن أنطق به. إذا أردتم الحديث عنا، فلتسمونا «بقر النمل الحلوب أو سرب حشرات شجرة الورد أو الأشياء الخضراء الصغيرة».»
هنا وقفت أنا، الإنسان، أتطلع إلى الشجرة والكائنات الخضراء الصغيرة (التي لن أذكر اسمها، لأنني لا أود أن أجرح مشاعر سكان شجرة الورد)؛ الأسرة الكبيرة ذات البيض والصغار؛ ونظرت إلى رغوات الصابون التي كنت سأرشهم بها؛ فأنا أيضا كنت قد جئت بماء وصابون وكانت لدي نية للقتل. لكنني الآن سأستخدمهما لصنع فقاقيع الصابون. انظروا، كم هي جميلة! ربما يوجد في كل واحدة منها حكاية، إذ تزداد كل فقاعة حجما ولمعانا وتبدو كأن بداخلها لؤلؤة.
تمايلت إحدى الفقاعات ودارت، ثم طارت إلى الباب وانفقأت، لكن الباب انفتح على مصراعيه، ووقفت عنده سيدة الحكايات بنفسها! والآن ستحكي لكم أفضل مني عن الأشياء الخضراء الصغيرة التي في شجرة الورد (التي لن أقول اسمها).
قالت سيدة الحكايات: «إنها قمل النباتات!» لا بد أن نسمي الأشياء بأسمائها الصحيحة. فإن لم نفلح في أن نفعل هذا دوما، فلا بد أن نحظى بشرف أن نفعل هذا في الحكايات على الأقل.
أول لوك اوي، رب الأحلام
لا يوجد في العالم كله من يعرف عددا كبيرا من الحكايات أو يستطيع أن يحكيها بأسلوب شائق جدا مثل أول لوك اوي.
حين يحل المساء ويكون الأطفال جالسين إلى مائدة الشاي أو على مقاعدهم الصغيرة، تراه يصعد الدرج في هدوء شديد، فهو يسير مرتديا جوربا. ثم يفتح الباب دون أن يحدث أدنى ضجة، ويلقي كمية صغيرة من التراب الشديد الرقة في عيون الصغار (ما يكفي لمنعهم من فتحها)، وهكذا لا يرونه. ثم يتسلل خلفهم وينفخ الهواء برقة في أعناقهم حتى تبدأ رءوسهم تثقل وينامون.
لكن أول لوك اوي لا يريد أن يؤذيهم؛ فهو يحب الأطفال حبا جما ويريد فقط أن يكونوا هادئين حتى يستطيع أن يقص عليهم حكايات مسلية، وهو يعلم أنهم لا يكونون هادئين أبدا إلا وهم في الفراش نائمون. وهكذا يجلس أول لوك اوي على الفراش بمجرد أن يخلدوا للنوم، وهو يرتدي ملابس جميلة؛ فمعطفه مصنوع من حرير، يستحيل أن تحدد لونه، فهو يتغير من الأخضر إلى الأحمر ومن الأحمر إلى الأزرق وهو يلتفت من جانب إلى آخر. وهو يحمل تحت كل ذراع مظلة؛ إحداهما بداخلها صور جميلة، يرفعها فوق الأطفال الطيبين، فيحلمون بقصص مبهجة للغاية. أما المظلة الأخرى فليس بها صور، وهو يحملها فوق الأطفال المشاغبين، فينامون نوما ثقيلا ويستيقظون في الصباح دون أن يكون قد راودهم أي أحلام مطلقا.
والآن سنعرف كيف ظل أول لوك اوي يأتي لصبي صغير يدعى يالمار كل ليلة طيلة أسبوع، وما الذي أخبره به. لقد أخبره بسبع قصص بعدد أيام الأسبوع.
يوم الاثنين
قال أول لوك اوي في المساء، حين كان يالمار في الفراش: «فلتنتبه الآن بينما أزين الحجرة.»
وفي الحال صارت كل الزهور التي في أصص الزرع أشجارا كبيرة ذات فروع طويلة بلغت السقف وتمتد على الجدران، حتى بدت الحجرة بأكملها كأنها مستنبت. وكانت كل الفروع محملة بالزهور، وكل زهرة في جمال وعبير الوردة، وإذا تذوقها أي شخص كان سيجد مذاقها أحلى من المربى. وكانت الثمار تلمع كالذهب، وكان هناك كعك امتلأ عن آخره بالبرقوق حتى كاد يتشقق. كانت الحجرة جميلة جمالا منقطع النظير.
في الوقت نفسه تصاعد أنين حزين من درج المنضدة الذي يضع فيه يالمار كتبه المدرسية.
قال أول لوك اوي وهو يذهب إلى المنضدة ويفتح الدرج: «ما هذا يا ترى؟»
كان لوح الكتابة متكدرا للغاية بسبب رقم خطأ في عملية حسابية حتى إنه أوشك أن يكسر نفسه. في حين أخذ القلم يشد سلسلته ويجذبها كأنه كلب صغير يريد أن يساعد ولا يستطيع.
ثم جاء أنين من كراسة يالمار. وقد كان له وقع فظيع تماما في الأذن! كان في كل صفحة صف من الحروف الكبيرة، وبجانب كل واحد منها حرف صغير. كانت هذه مطبوعة، وجاء أسفلها حروف أخرى كتبها يالمار بنفسه، وقد كانت تعتقد أنها تبدو مثل الحروف المطبوعة، لكنها كانت مخطئة؛ إذ كانت مائلة على جنبها كما لو كانت ستسقط من السطور.
قالت الحروف المطبوعة: «انظروا، هكذا يجب أن تقفوا. انتبهوا، لا بد أن تميلوا هكذا، في انحناءة أنيقة.»
قالت حروف يالمار: «أوه، نحن نرغب بشدة في فعل هذا، لكننا لا نستطيع؛ فقد كتبنا على نحو رديء للغاية.»
قال أول لوك اوي: «إذن لا بد أن تمسحوا.»
صاحت الحروف: «أوه، لا!» ثم وقفت في رشاقة حتى صار منظرها مبهجا جدا للعين.
قال أول لوك اوي: «لا بد أن ننحي الحكايات جانبا ونمرن هذه الحروف. واحد، اثنان ... واحد، اثنان.» وهكذا دربها حتى انتصبت في رشاقة وبدت جميلة مثل الحروف المطبوعة. لكن بعد أن رحل أول لوك اوي، ونظر إليها يالمار في الصباح، كانت رديئة ومرتبكة كما كانت.
يوم الثلاثاء
بمجرد أن خلد يالمار للفراش، لمس أول لوك اوي بعصاه السحرية الصغيرة كل أثاث الحجرة، الذي راح يثرثر في الحال. وأخذت كل قطعة تتكلم عن نفسها فقط.
كان معلقا فوق صوان الأدراج إطار ذهبي بداخله صورة كبيرة، لمنظر طبيعي، تبدو فيه أشجار عجوز جميلة، وزهور على العشب، وجدول عريض يتدفق في الغابة مارا بعدة قلاع حتى ينتهي بعيدا عند المحيط الهادر.
لمس أول لوك اوي الصورة بعصاه السحرية، وفي الحال بدأت الطيور تغني، واهتزت فروع الأشجار، وجالت السحب في السماء، ملقية بظلالها على المنظر الذي تحتها.
ثم رفع أول لوك اوي الصغير يالمار إلى الإطار ووضع قدميه في الصورة، على العشب المرتفع، فوقف هناك وقد سطعت فوقه الشمس مخترقة فروع الأشجار. جرى يالمار إلى الماء وجلس في قارب صغير كان هناك، وقد كان مدهونا بالأحمر والأبيض.
لمعت أشرعة القارب كأنها فضية، وجاءت ست بجعات، حول عنق كل واحدة منها حلقة ذهبية وعلى جبهتها نجمة زرقاء لامعة، وأخذت تسحب القارب عابرة به الغابة الخضراء، حيث راحت الأشجار تتحدث عن اللصوص والساحرات، وأخذت الزهور تتحدث عن العفاريت والجنيات الصغيرة الجميلة، التي حكت لها الفراشات قصصها.
سبحت وراء القارب أسماك لامعة ذات قشور كأنها من ذهب وفضة، وهي تقفز وتنثر الماء حولها بين الحين والآخر؛ في نفس الوقت طارت خلفه طيور، حمراء وزرقاء، صغيرة وكبيرة، في صفين طويلين. ورقص البعوض حولهم، وطنت الخنافس. كلهم أرادوا أن يتبعوا يالمار، والكل كان لديه قصة ما ليخبره بها. كانت رحلة إبحار مبهجة للغاية.
كانت الغابات كثيفة ومعتمة أحيانا، وأحيانا أخرى متألقة بأشعة الشمس والزهور مثل حديقة جميلة؛ وقد مر يالمار بقصور ضخمة من زجاج ورخام، وقفت في شرفاتها أميرات، بوجوه بنات صغيرات كان يالمار يعرفهن جيدا وطالما لعب معهن. مدت واحدة من تلك الفتيات يدا كان فيها قلب من السكر، والذي كان أجمل من أي حلوى باعها متجر حلوى من قبل. وبينما كان القارب يتحرك بيالمار أمسك يالمار بجانب من القلب وتشبث به، وتشبثت به الأميرة كذلك، فانكسر إلى قطعتين. فأخذ يالمار قطعة وأخذت الأميرة الأخرى، لكن كان نصيب يالمار أكبر.
وفي كل قلعة وقف أمراء صغار كأنهم حراس. وحيوه بأسلحتهم شاهرين سيوف ذهبية وجعلوا السماء تمطر برقوقا وعساكر من الصفيح؛ لا بد إذن أنهم كانوا أمراء حقيقيين.
واصل يالمار الإبحار، مارا بغابات أحيانا، وأحيانا بقاعات كبرى، ثم مر بمدن كبيرة. وأخيرا وصل إلى البلدة التي تعيش فيها مربيته، التي حملته بين ذراعيها حين كان صبيا صغيرا جدا وطالما كانت حنونة معه. وقد هزت رأسها له وأشارت له ثم أنشدته الأبيات القليلة التالية التي ألفتها بنفسها وأرسلتها له:
تمضي ساعات وساعات وأنا أفكر فيك
يا عزيزي يالمار، فأنت لا تزال مصدر فخري وسروري!
كم كانت بهجتي حين كنت أنحني
لأقبل وجنتيك المتوردتين، يا ولدي العزيز!
كنت أنا من سمعت أولى كلماتك،
واليوم تطير كلمات وداعي مني إليك.
فليرعك الرب ويحمك دوما
ويبن لك في السماء قصرا!
وقد شدت كل الطيور نفس الأغنية، ورقصت الزهور على عيدانها، وهزت الأشجار العجوز رءوسها كأن أول لوك اوي كان يحكي لها هي الأخرى قصصا.
يوم الأربعاء
كم هطلت الأمطار بغزارة! حتى إن يالمار استطاع سماعها وهو نائم، وحين فتح أول لوك اوي النافذة فاض الماء حتى ارتفع لحافة النافذة. بدا كأن بحيرة كبيرة قد امتدت بالخارج، فيما رست سفينة جميلة قرب المنزل.
قال أول لوك اوي: «هلا أبحرت معي الليلة، أيها الصغير يالمار؟ فسوف نرى حينئذ بلادا أجنبية، وسوف تعود إلى هنا في الصباح.»
وفي لحظة كان يالمار واقفا في أبهى ملابسه على متن السفينة الفخمة، وفي الحال صار الجو صحوا.
أبحرا وسط الشوارع، وحول الكنيسة، بينما امتد في كل ناحية بحر عريض هائل.
لقد أبحرا حتى غابت اليابسة، وبعد ذلك رأوا سربا من اللقالق كانوا قد غادروا بلدهم مسافرين إلى مناطق أكثر دفئا. كانت اللقالق تطير واحدا خلف الآخر وقد مضى عليها بالفعل زمن طويل جدا في الجو.
وقد بدا أحدهم متعبا للغاية حتى إن جناحيه كانا بالكاد يقويان على حمله. وما لبث أن تأخر كثيرا عن السرب. وبعد قليل هبط أكثر فأكثر، مادا جناحيه يرفرف بهما دون جدوى، حتى لمست قدماه حبال السفينة، فانزلق من الأشرعة إلى السطح حتى وقف أمامهما. أمسك به بحار صغير ووضعه في حظيرة الطيور مع الدجاج والبط والديوك، فوقف اللقلق المسكين بينها وهو في غاية الارتباك.
قال الدجاج: «فلتنظروا إلى هذا الرفيق.»
انتفخ الديك الرومي بقدر ما استطاع وتساءل من يكون، وتراجع البط بخطوات بطيئة وهو يصيح: «كاك، كاك!»
حكى لهم اللقلق جميعا عن أفريقيا الدافئة؛ عن الأهرامات وعن النعام، الذي ينطلق مثل الحصان الجامح في أنحاء الصحراء. لكن البط لم يع ما قاله، وصاحوا فيما بينهم، قائلين: «كلنا متفقون على رأي واحد، وهو أنه غبي.»
قال الديك: «نعم، من المؤكد أنه غبي.» ثم أطلق صيحة عالية.
لاذ اللقلق بالصمت وراح يفكر في مسكنه في أفريقيا.
قال الديك: «لديك ساقان رفيعتان جميلتان، بكم الياردة منها؟»
تعالت ضحكات البط: «كاك، كاك!» بينما تظاهر اللقلق بأنه لم يسمع شيئا.
قال له الديك: «يمكنك أن تضحك أنت أيضا، فقد كانت ملحوظة ظريفة جدا، لكن ربما كانت فوق مستوى إدراكك. صحيح، إنه ليس ذكيا، أليس كذلك؟ سيكون في بقائه هنا تسلية كبرى لنا.» قال هذا وصاح، وكذلك صاح البط: «كوكو كوكو»؛ «كاك، كاك.»
كم كانت فظيعة الجلبة التي يثيرونها حين كانوا يسخرون منه!
ذهب يالمار إلى حظيرة الطيور، وفتح الباب، ونادى على اللقلق، فقفز خارجا إلى سطح السفينة. كان اللقلق قد استراح الآن، وبانت عليه السعادة وبدا كأنه يهز رأسه ليالمار ليشكره. ثم بسط جناحيه وطار بعيدا إلى بلاد أكثر دفئا، في حين راح الدجاج يقوق، والبط يصيح، وصار رأس الديك قرمزيا فاقعا.
قال يالمار للطيور الداجنة: «غدا سيعد منكم حساء.» ثم استيقظ فوجد نفسه في فراشه الصغير.
كانت رحلة رائعة تلك التي جعله أول لوك اوي يذهب فيها هذه الليلة.
يوم الخميس
قال رجل الأحلام: «هل تعلم ماذا معي هنا؟ لا تجزع؛ فسوف ترى فأرة صغيرة.» ثم مد يده التي كان يحمل بها كائن صغير جميل. ثم أضاف: «لقد جاءت لتدعوك إلى حفل عرس. سيتزوج فأران صغيران الليلة. إنهما يعيشان تحت أرضية حجرة التخزين الخاصة بأمك، وهو بالطبع مكان جيد للسكن.»
سأله الصبي الصغير: «لكن كيف سأستطيع الدخول من خلال فتحة الفئران الصغيرة التي في الأرضية؟»
قال رجل الأحلام: «فلتترك لي هذا الأمر لأتدبره. في الحال سأجعلك صغير الحجم بدرجة كافية.» ثم لمس الصبي بعصاه السحرية، فظل حجمه يتضاءل ويتضاءل حتى صار لا يزيد عن طول الإصبع الصغير. ثم قال له: «يمكنك الآن اقتراض رداء الجندي الصفيح خاصتك. أعتقد أنه سيكون على مقاسك بالضبط. كما أنه من اللائق ارتداء زي رسمي عند الذهاب إلى حفل.»
قال الفتى: «أجل، بالتأكيد.» وفي لحظة كان قد صار في هندام أكثر الجنود الصفيح هنداما.
قالت الفأرة الصغيرة: «هلا تفضلت وجلست في كشتبان أمك، حتى أحظى بشرف جرك حتى مكان العرس؟»
قال الصبي: «هل ستتكبدين كل هذه المشقة حقا يا سيدتي الشابة؟» وبهذه الطريقة وصل إلى عرس الفأرين.
نزلا تحت الأرض أولا، ثم ذهبا في ممر طويل بالكاد سمح ارتفاعه بمرور الكشتبان، وكان الممر بأكمله مضاء بنور الخشب المتحلل.
سألت الفأرة يالمار وهي تجره على الطريق: «أليست الرائحة جميلة؟ لقد دهنت الجدران والأرض بقشر اللحم المقدد؛ ليس هناك ما هو أروع من ذلك.»
وسريعا جدا وصلا إلى قاعة العرس. على اليمين وقفت الفأرات الشابة الصغيرة، يتهامسن ويضحكن كأنهن كن يسخرن بعضهن من بعض. وعلى اليسار وقف الفئران الشبان، يمسدون شواربهم بحوافرهم الأمامية. وفي وسط القاعة كان يمكن رؤية العروسين، واقفين جنبا إلى جنب في قشر جبن مجوف يقبل كل منهما الآخر بينما كل الأنظار متجهة إليهما.
ظل الأصدقاء يتوافدون، حتى كادت الفئران أن تموت دهسا؛ فقد وقف العروسان عند المدخل، فلم يستطع أحد الدخول أو الخروج.
كانت الحجرة قد مسحت بقشر اللحم المقدد مثل الممر، وكانت هذه هي كل المرطبات التي قدمت للضيوف. أما على سبيل التحلية فقد مر على الجميع حبة بازلاء نقش عليها أحد الفئران بأسنانه الحرف الأول من اسمي العروسين، وهو ما كان غير مألوف على الإطلاق. قالت كل الفئران إن العرس كان جميلا جدا، وإنهم استمتعوا بدرجة كبيرة.
بعد ذلك عاد يالمار للبيت. لقد كان في صحبة رائعة حقا، لكنه اضطر إلى الزحف تحت الأرضية وأن يجعل حجمه صغيرا لدرجة تسمح له بأن يرتدي زي الجندي الصفيح.
يوم الجمعة
قال أول لوك اوي: «إنه لمن المدهش عدد الناس الكبار الذين يودون أن أزورهم ليلا، خاصة أولئك الذين ارتكبوا خطأ.
فهم يقولون لي: «أيها العجوز الطيب أول، إننا لا نستطيع أن نغمض جفوننا، ونظل مستيقظين طوال الليل ونرى أعمالنا الشريرة جالسة على أسرتنا مثل شياطين صغيرة تنثر علينا ماء مغليا. هلا أتيت وصرفتها بعيدا، حتى ننعم بالراحة ونحظى بنوم هانئ؟» ثم يتنهدون تنهدات عميقة ويقولون: «إننا على أتم استعداد لأن ندفع لك المال مقابل ذلك. طابت ليلتك، يا أول لوك، النقود موجودة عند النافذة.» لكنني لا أفعل شيئا من أجل المال.»
هنا سأله يالمار: «ماذا سنفعل الليلة؟»
أجابه أول لوك اوي: «لا أعلم ما إن كنت تود الذهاب إلى عرس آخر أم لا، وإن كان العرس هذه المرة مختلفا تماما عن الذي رأيته ليلة أمس. فالدمية الكبيرة التي لدى شقيقتك، تلك التي ترتدي ملابس الرجال وتدعى هرمان، تنوي الزواج من الدمية بيرثا. كما أنه عيد ميلاد الدميتين، وسوف تتلقيان العديد من الهدايا.»
قال له يالمار: «نعم، لدي علم بهذا الأمر بالفعل، فإن شقيقتي دائما ما تسمح لدمياتها بإقامة حفلات أعياد ميلاد أو أعراس كلما احتاجت لملابس جديدة. إنني متأكد تماما أن هذا قد حدث مائة مرة من قبل.» «نعم، هذا صحيح؛ لكن الليلة سيكون العرس الأول بعد المائة، وما دام كذلك فلا بد أن يكون الأخير؛ وبالتالي لا بد أن يكون في غاية الروعة. فلتلق نظرة.»
نظر يالمار إلى الطاولة فرأى بيت دمى صغيرا من ورق الكرتون، كل نوافذه مضاءة، وقد اصطف أمامه الجنود الصفيح، يؤدون تحية السلاح.
كان العروسان جالسين على الأرض، مستندين إلى قائمة الطاولة، ومستغرقين تماما في التفكير لسبب وجيه. وعندئذ ارتدى أول لوك اوي ثوب الجدة الأسود، وزوجهما.
بمجرد أن انتهت مراسم الزواج اشترك كل أثاث الحجرة في غناء أغنية جميلة ألفها القلم الرصاص، والتي كانت على إيقاع لحن عسكري:
احملي أيتها النسمة الرقيقة وداعنا واسعي به
إلى منزل أهل العروس الصغير.
ما أجملهما من عروسين؛
بشرة ناعمة من الجلد الرقيق وقوام رشيق!
مرحى! مرحى! للعريس والعروس.
فليردد الصدى وداعنا من القلب.
ثم جاءت الهدايا؛ إلا أن العروسين لم يأكلا أي شيء، فقد كان الحب زادهما.
تساءل العريس: «هل سنذهب إلى منزل ريفي، أم نسافر؟»
وقد استشارا السنونو الذي كان قد سافر إلى أقاصي الأرض، والدجاجة العجوز التي في الحظيرة، والتي كانت قد أنجبت وربت خمسة أجيال من الدجاج.
حدثهما السنونو عن البلاد الدافئة حيث يتدلى العنب في عناقيد كبيرة في أشجار الكروم وحيث النسيم منعش ورقيق، وعن الجبال المتألقة بألوان أجمل مما قد يخطر على بال أحد.
قالت الدجاجة: «لكن ليس هناك كرنب أحمر مثل الذي لدينا. ذات مرة قضيت الصيف كله في الريف مع صغاري، وكان هناك حفرة رملية كبيرة حيث كنا نستطيع التجول واللهو كما يحلو لنا. ثم ذهبنا إلى حديقة ينمو فيها الكرنب الأحمر. كم كان جميلا! لا أعتقد أن ثمة شيئا أشهى منه.»
قال لها السنونو: «لكن سيقان الكرنب لا تختلف كثيرا عن بعضها البعض، وهنا لدينا طقس سيئ أغلب الوقت.»
أجابته الدجاجة: «صحيح، لكننا اعتدنا عليه.»
قال السنونو: «لكن البرد هنا شديد وأحيانا يصل إلى درجة التجمد.»
قالت الدجاجة: «الجو البارد مناسب للكرنب، كما أن الجو يصير دافئا هنا أحيانا. فمنذ أربع سنوات استمر الصيف أكثر من خمسة أسابيع، وكان الجو حارا حتى إننا كنا نتنفس بصعوبة. كما أننا ليس لدينا حيوانات سامة في هذا البلد، ولا يوجد لدينا لصوص. فمن لا يرى أن بلدنا أفضل البلاد كلها لا بد أن يكون أحمق، ويجب عدم السماح له بالعيش هنا.» ثم أخذت تبكي بشدة وقالت: «أنا أيضا سافرت، فقد سافرت ذات مرة اثني عشر ميلا داخل قفص، ولم يكن ذلك ممتعا على الإطلاق.»
قالت الدمية بيرثا: «إن الدجاجة حكيمة، فأنا لا يستهويني السفر إلى الجبال، حتى أصعدها ثم أهبط ثانية. كلا، لنذهب إلى الحفرة الرملية التي أمام البوابة ثم نتجول في حديقة الكرنب.»
وهكذا حسما الأمر.
يوم السبت
تساءل يالمار الصغير بمجرد أن جعله أول لوك اوي ينام: «هل سأسمع المزيد من الحكايات؟»
رد وهو يفتح أجمل مظلتيه فوق الطفل: «لن يتسع لنا الوقت هذا المساء. انظر إلى هؤلاء الصينيين.» هنا بدت المظلة كلها مثل وعاء كبير من الخزف الصيني، بأشجار زرقاء وجسور مقوسة وقف عليها رجال صينيون يومئون برءوسهم.
قال أول لوك اوي: «لا بد أن نجعل العالم بأسره يبدو جميلا من أجل صباح الغد، فغدا سيكون عطلة؛ إنه يوم الأحد. لا بد أن أذهب الآن إلى برج الكنيسة لأرى إن كانت العفاريت الصغيرة التي تعيش هناك قد لمعت الأجراس حتى يدوي صوتها في عذوبة؛ بعدها يجب أن أذهب للحقول لأرى إن كانت الرياح قد ذرت الغبار عن الحشائش والأوراق؛ لكن أصعب المهام التي علي القيام بها على الإطلاق هي إنزال كل النجوم وتلميعها. علي أن أرقمها أولا قبل أن أضعها في مئزري، وأن أرقم كذلك الأماكن التي سآخذها منها، حتى تعود إلى ثقوبها الصحيحة، وإلا فلن تثبت في أماكنها وستسقط أعداد كبيرة منها على الأرض؛ إذ سوف تتهاوى الواحدة تلو الأخرى.»
عندئذ قالت صورة قديمة معلقة على جدار حجرة نوم يالمار: «مهلا يا سيد لوك اوي! هل تعرف من أنا؟ إنني جد جد يالمار. أشكرك على ما تحكيه من قصص للفتى، لكن يجب ألا تبلبل أفكاره. لا يمكن إنزال النجوم من السماء وتلميعها؛ إذ إنها كواكب مثل الأرض، كوكبنا، وهي جميلة كما هي.»
رد عليه أول لوك اوي قائلا: «شكرا أيها الجد العجوز، أشكرك. لا شك أنك رب الأسرة وكبير جدا في السن، لكنني أكبر منك سنا رغم ذلك. أنا من شخصيات العصور القديمة. وقد أسماني قدامى الرومان والإغريق رب الأحلام. وقد زرت من البيوت أنبلها، أجل، وما زلت أفعل هذا، وما زالت أعلم كيف أتعامل مع الناس، عظيمهم وحقيرهم، وأما الآن فيمكنك أن تحكي القصص بنفسك.» وهكذا رحل أول لوك اوي، حاملا معه مظلتيه.
قال الرجل الذي في الصورة متبرما: «حسنا، حسنا، أعتقد أنه لم يعد بإمكان المرء أن يعبر عن رأيه.» وهنا استيقظ يالمار.
يوم الأحد
قال أول لوك اوي: «مساء الخير.»
أومأ يالمار برأسه، ثم هب مغادرا الفراش وأدار صورة جده الكبير ناحية الجدار حتى لا يمكنه أن يقاطعهما ثانية كما فعل أمس. ثم قال: «والآن، لا بد أن تقص علي القصص التي تحكي عن حبات البازلاء الخمس التي كانت تعيش في قرن واحد، أو آثار أقدام الديك التي كانت تغازل آثار أقدام الدجاجة، أو إبرة الرفو التي تصرفت بزهو شديد لأنها كانت تعتقد أنها إبرة تطريز.»
قال أول لوك اوي: «قد تشعر بالملل من كثرة القصص التي أحكيها لك، لذا فأنا أفضل أن أريك شيئا، وسأريك شقيقي. هو أيضا يدعى أول لوك اوي، لكنه لا يزور أحدا قط إلا مرة واحدة، وحين يفعل فهو يأخذه معه على صهوة جواده ويحكي له قصة أثناء رحلتهما.
وهو لا يعرف سوى قصتين؛ إحدى هاتين القصتين من الروعة والجمال حتى إنها لا يمكن أن تخطر لأحد على بال مطلقا، أما الأخرى فمن المستحيل وصفها.»
ثم رفع أول لوك اوي يالمار عاليا إلى النافذة. وقال له: «يمكنك الآن أن ترى شقيقي، أول لوك اوي الآخر؛ إنه يدعى أيضا الموت. كما ترى إنه ليس سيئا مثلما يعبرون عنه في الكتب المصورة. فهو يظهر هناك على هيئة هيكل عظمي، لكن هنا ترى أن معطفه مطرز بالفضة، ويرتدي زي الفرسان الرائع، وعباءة من المخمل الأسود ترفرف خلفه على الحصان. انظر كيف يعدو.»
رأى يالمار أن أول لوك اوي هذا أثناء جولته كان يرفع الكبير والصغير ويحملهم معه راحلا على جواده. بعضهم كان يجلسه أمامه والبعض الآخر خلفه، لكنه كان دائما يسأل كلا منهم أولا: «ما تقديرك في دفتر درجاتك؟»
كلهم كانوا يجيبون قائلين: «جيد.»
وكان يرد عليهم ويقول: «حسنا، دعني أر بنفسي.» فكانوا يضطرون إلى إعطائه الدفاتر. بعد ذلك كان يذهب كل الذين حصلوا على «جيد جدا» أو «امتياز» أمامه على الجواد ويسمعون القصة الجميلة، أما الذين حصلوا على «متوسط» أو «دون المتوسط» في دفاتر درجاتهم فقد كانوا يرغمون على الجلوس خلفه. وقد كانوا يبكون ويريدون القفز من فوق الجواد، لكنهم لم يستطيعوا الإفلات، فقد بدا أنهم ربطوا إليه.
قال يالمار: «عجبا، الموت ليس سوى أول لوك اوي في غاية الروعة. إنني لست خائفا منه على الإطلاق.»
فقال له أول لوك اوي: «لست في حاجة لأن تخاف منه، لكن خذ حذرك وليكن دفتر درجاتك جيدا.»
حينئذ تمتمت صورة الجد العجوز الذي كان راضيا تماما: «هكذا يكون الدرس المفيد بحق. أحيانا يكون من المجدي أن يعبر المرء عن رأيه.»
كانت هذه بعضا من أفعال أول لوك اوي وأقواله. أرجو أن يزوركم بنفسه هذا المساء ويحكي لكم المزيد منها.
الحصالة
في إحدى دور الحضانة حيث كانت مجموعة من اللعب مبعثرة، وقفت حصالة فوق خزانة عالية جدا. كانت الحصالة قد ابتيعت من أحد بائعي الفخار؛ فهي مصنوعة من الفخار على شكل خنزير، وكان في ظهره فتحة، وقد وسعت بسكين حتى يمكن أن تنزلق من خلالها الدولارات، أو حتى الكرونات؛ وقد كان بداخلها اثنان منها بالفعل، بجانب عدد من البنسات. كانت الحصالة ممتلئة للغاية حتى إنها لم يعد بمقدورها أن تصلصل، وهذه أعلى مرتبة يمكن لحصالة أن تبلغها.
كانت الحصالة واقفة على الخزانة، في علياء وسمو، ترمق باحتقار كل شيء آخر في الحجرة؛ إذ كانت تعرف جيدا أن بداخلها ما يكفي لشراء كل اللعب الأخرى، وقد أعطاها هذا ثقة كبيرة جدا في نفسها ومكانتها.
كان الباقون يعتقدون ذلك أيضا، لكن لم يعبروا عنه، إذ كان هناك الكثير جدا من الأشياء الأخرى التي يمكن الحديث بشأنها. كان بداخل أحد الأدراج الذي ترك نصف مفتوح دمية كبيرة، ما زالت جميلة (رغم أنها قديمة بعض الشيء، إذ كانت رقبتها مثبتة بدبابيس). نادت الدمية على الآخرين وقالت: «هيا بنا نمثل أدوار البشر؛ فهذه لعبة مسلية.»
هنا ثارت ضجة عارمة؛ حتى الصور المعلقة داخل إطارات على الجدار دارت من حماسها وكشفت عن جانبها الخلفي، لكنها لم تكن تقصد مطلقا أن تفعل ذلك أو أن تبدي اعتراضها على اللعبة.
كان هذا في ساعة متأخرة من الليل، لكن لما دخل ضوء القمر من النوافذ، أعطاهم إضاءة بلا مقابل. ومع بدء اللعبة، دعي الجميع للمشاركة فيها، حتى عربة الأطفال، التي كانت من ضمن اللعب الأدنى درجة. وقد قالت العربة: «لكل فرد قيمته الخاصة؛ فلا يمكن أن نكون جميعا نبلاء؛ لا بد أن يكون هناك بعض الأشخاص للقيام بالعمل الأدنى مرتبة.»
كانت الحصالة هي الوحيدة التي تلقت دعوة مكتوبة. فقد كانت تقف في مكان عال جدا حتى إنهم خشوا أنها قد لا تسمع الرسالة الشفهية. إلا أنها في ردها قالت إنها إن كان ينبغي لها المشاركة فسوف تقتصر على الاستمتاع بالمسرحية من مكانها، فكان عليهم بالتالي الترتيب لذلك، وهذا ما فعلوه بالفعل.
وهكذا، فقد نصب المسرح اللعبة الصغير بحيث تستطيع الحصالة أن تراه مباشرة. أراد البعض البدء بمسرحية كوميدية ثم إقامة حفل شاي وإدارة مناقشة لتنمية الذهن، لكنهم بدءوا بالمناقشة أولا.
تحدث الحصان الهزاز عن التدريب وسباقات الخيل؛ وتحدثت العربة عن السكك الحديدية وطاقة البخار؛ فهذه هي الموضوعات التي تخص مهنة كل منهما، وكان من المناسب أن يتحدثا عنها. أما الساعة فقد تحدثت عن السياسة؛ «تك، تك». وزعمت أنها تعرف كم الساعة، لكن همس بأنها كانت مخطئة. في حين وقفت قريبا عصا الخيزران، متسمرة في كبرياء (فقد كانت مزهوة بطرفها النحاسي ورأسها الفضي)، وعلى الأريكة استلقت وسادتان مشغولتان؛ جميلتان لكن غبيتان.
حين بدأت المسرحية في المسرح الصغير، جلس الجمهور وراحوا يشاهدون العرض؛ وكان قد طلب منهم أن يصفقوا أو يدبدبوا أو يطقطقوا متى سرهم ما رأوه. قال سوط الخيل إنه لم يطقطق لكبار السن قط، وإنما طقطق للشباب فقط؛ أولئك الذين لم يتزوجوا بعد. وقالت كسارة الجوز: «أما أنا فأطقطق للجميع.»
قال المشاهدون في أنفسهم والمسرحية تعرض: «نعم، إنك تحدثين ضجة جميلة.»
لم تكن المسرحية جيدة، لكن الأداء كان متقنا للغاية، وقد واجه الممثلون كلهم الجمهور بجوانبهم الملونة، فقد رتبوا أنفسهم بحيث يرون من جانب واحد فقط. كان التمثيل رائعا، إلا أن الممثلين كانوا أحيانا يخرجون عن الإضاءة لأن الأسلاك التي كانوا مربوطين بها كانت أطول من اللازم قليلا.
شعرت الدمية ذات الرقبة المصلحة بإثارة بالغة حتى إن الدبابيس التي في رقبتها انفكت، وأعلنت الحصالة أنها لا بد أن تفعل شيئا لأحد الممثلين بما أنهم جميعا أدخلوا عليها بهجة شديدة. لذا فقد قررت أن تذكر أحدهم في وصيتها بحيث يدفن معها في مدفن الأسرة متى حان وقت هذا.
لقد استمتعوا كثيرا بالمسرحية الكوميدية حتى إنهم تراجعوا تماما عن فكرة حفل الشاي ونفذوا فقط اقتراح اللعبة الذهنية، التي كانوا يسمونها تمثيل أدوار الرجال والنساء. ولم يكن في هذا خطأ، فقد كان مجرد لهو. طوال ذلك الوقت كان كل منهم يفكر غالبا في نفسه أو فيما قد يدور بذهن الحصالة. أما الحصالة فكانت تجول بأفكارها في زمن بعيد جدا (كما كانت تعتقد)؛ إذ كانت تفكر في وصيتها، وفي دفنها، ومتى قد يحين كل هذا.
وقد حان أسرع كثيرا مما توقعت؛ فقد سقطت فجأة من أعلى الخزانة، لتهوي على الأرض وتتحطم. قفزت كل البنسات وراحت تتراقص بشكل مرح للغاية. دارت العملات الصغيرة مثل البلابل الدوارة، وتدحرجت العملات الكبيرة بعيدا بقدر ما استطاعت، خاصة قطعة الكرونة الفضية الكبيرة، التي طالما أرادت الخروج إلى العالم، فتحققت أمنيتها وأمنية بقية النقود. أما أجزاء الحصالة فقد ألقيت في صندوق القمامة، وفي اليوم التالي وضعت حصالة جديدة على شكل خنزير على الخزانة، غير أنه لم يكن بداخلها أي نقود بعد، ومن ثم فقد كانت، مثل الحصالة القديمة، لا تعطي صليلا.
كانت هذه هي بدايتها وفي نفس الوقت نهاية قصتنا.
شجرة البيلسان الأم
في يوم من الأيام كان هناك صبي صغير أصابته نوبة برد لأنه خرج من منزله وبل قدميه. لم يستطع أحد معرفة كيف حدث هذا له؛ فالجو كان جافا تماما. وما كان من أمه إلا أن خلعت عنه ملابسه ووضعته في الفراش، ثم جاءت بإبريق الشاي لتعد له كوبا طيبا من شاي زهور البيلسان الذي يعطي شعورا قويا بالدفء.
في تلك الأثناء، زارهم الرجل العجوز الودود الذي يعيش بمفرده في الطابق العلوي من المنزل. لم يكن لدى هذا الرجل زوجة أو ابن، لكنه كان مغرما للغاية بالأطفال ويعرف العديد والعديد من الحكايات والقصص، حتى إنه كان من الممتع أن تستمع له وهو يتكلم. قالت الأم لطفلها: «من الممكن جدا إن شربت الشاي الآن أن تسمع قصة في الوقت نفسه.»
قال الرجل العجوز: «نعم، إن خطرت لي قصة جديدة لأحكيها له.» ثم سأل: «لكن كيف أصاب البلل قدمي الفتى الصغير؟»
أجابته الأم: «أوه، هذا ما لا يسعنا معرفته.»
سأله الصبي: «هل ستحكي لي قصة؟» «نعم، إن استطعت أن تخبرني بالضبط كم يبلغ عمق قناة التصريف التي في الشارع الصغير الذي تسلكه عند ذهابك إلى المدرسة.»
أجابه الصبي على الفور: «إنها تصل لمنتصف ساقي عند الوقوف في أعمق أجزائها.»
قال الرجل العجوز: «من السهل الآن أن نعرف كيف ابتلت قدماك. حسنا، أعتقد أن علي الآن أن أحكي قصة، لكنني حقا لم أعد أعرف المزيد من القصص.»
قال الصبي: «أعلم أن بإمكانك ابتداع واحدة. إن أمي تقول إنك تستطيع أن تحول أي شيء تنظر إليه، أو حتى تلمسه، إلى قصة.» «صحيح، لكن تلك الحكايات والقصص لا قيمة لها. القصص الحقيقية تأتي وحدها؛ فهي تطرق جبهتي وتقول: «ها نحن قد جئنا».»
سأله الصبي: «ألن تطرق واحدة جبهتك قريبا؟» عندئذ ضحكت أمه وهي تضع زهور البيلسان في إبريق الشاي وتصب عليها الماء الساخن. ثم أضاف: «أوه، فلتخبرني بقصة أرجوك.» «بالطبع، إن جاءت قصة بمحض إراداتها، لكن الحكايات والقصص ذات شخصيات مهيبة جدا؛ إنها تأتي فقط حين يحلو لها.» ثم صاح فجأة: «مهلا! ها هي لدينا؛ انظر! يوجد الآن قصة في إبريق الشاي.»
نظر الصبي الصغير إلى إبريق الشاي، فرأى الغطاء يرتفع وحده تدريجيا وتمتد منه فروع طويلة، ومن فوهته أيضا، في كل الاتجاهات وظل حجمها يكبر حتى ظهرت شجرة بيلسان كبيرة مغطاة بزهور بيضاء ويانعة. طالت الفروع حتى الفراش وأزاحت الستائر، وكم كان طيبا عبير الزهور!
في منتصف الشجرة كانت تجلس سيدة عجوز حسناء ترتدي ثوبا غريبا جدا. لقد كان الثوب أخضر اللون، مثل أوراق شجر البيلسان، ومزينا بزهور بيلسان بيضاء كبيرة. أما حاشية الثوب فكان من الصعب أن تعرف ما إن كانت مصنوعة من خامة ما أم من زهور حقيقية.
تساءل الصبي: «ما اسم تلك السيدة؟»
أجابه الرجل العجوز: «كان الرومان والإغريق يدعونها «حورية الشجر»، لكننا نحن لا نعرف تلك الأسماء الغريبة؛ ولدينا اسم أفضل في الحي الذي يعيش فيه البحارة في البلدة. إنهم يسمونها «شجرة البيلسان الأم»، ولا بد الآن أن توليها انتباهك، وتنصت بينما تتطلع إلى الشجرة الجميلة.
يوجد شجرة كبيرة مزدهرة مثل هذه بالضبط بالخارج في زاوية فناء صغير فقير، وذات عصر يوم مشمس صحو، جلس تحت هذه الشجرة عجوزان، بحار وزوجته. كان لديهما أبناء أحفاد، وكانا سيحتفلان بعد فترة قليلة باليوبيل الذهبي لزفافهما؛ أي الذكرى الخمسين ليوم زفافهما في دول عديدة، وكانت شجرة البيلسان الأم جالسة على الشجرة وتبدو مسرورة كما تبدو الآن.
قالت: «أعلم متى يكون اليوبيل الذهبي.» لكنهما لم يسمعاها؛ فقد كانا يتحدثان عن الأيام الخوالي. قال البحار العجوز: «هل تذكرين حين كنت صغيرة جدا وكنت تجرين وتلعبين في نفس هذا الفناء الذي نجلس فيه الآن، وكيف غرسنا غصينات صغيرة في إحدى الزوايا وصنعنا حديقة؟»
قالت السيدة العجوز: «نعم، أذكر جيدا جدا؛ وأذكر كيف روينا الغصينات وكان واحدا منها غصين بيلسان قد ضرب بجذوره في الأرض وأنبت نبتات خضراء، حتى صار مع الزمن الشجرة الكبيرة التي نجلس تحتها نحن الاثنان وقد هرمنا.»
أجابها: «هذا صحيح، وفي ذلك الركن هناك كان يوجد برميل المياه الذي كنت أضع فيه القارب الذي صنعته بنفسي حتى يبحر؛ والذي كان يبحر جيدا. لكنني تعلمت بعد ذلك نوعا مختلفا تماما من الإبحار.»
قالت: «أجل، لكننا ذهبنا إلى المدرسة قبل ذلك، ثم أعدونا لطقس التثبيت الذي يعد علامة على النضوج الروحي. كم بكينا أنا وأنت في ذلك اليوم! لكننا في العصر صعدنا البرج المستدير يدي في يدك ورأينا كوبنهاجن من أعلى وشاهدنا ما وراء البحر؛ ثم ذهبنا إلى فريدريكسبيرج، حيث كان الملك والملكة يبحران في القنوات على متن قاربهما الجميل.»
قال لها البحار العجوز: «لكنني اضطررت إلى الإبحار في رحلة مختلفة تماما في مكان آخر وابتعدت عن الديار لسنوات في رحلات طويلة.»
قالت له: «أوه، أجل، وكنت أبكي كثيرا عليك؛ فقد اعتقدت أنه لا بد أن تكون قد غرقت في أعماق البحر، والأمواج تتلاطم فوقك. وكم من مرة صعدت في الليل لأرى ما إذا كانت دوارة الرياح قد غيرت اتجاهها؛ وقد غيرت اتجاهها كثيرا، لكنك لم تأت. أتذكر جيدا ذلك اليوم حين كانت الأمطار تهطل بغزارة، وجاء جامع القمامة للمنزل الذي كنت أعمل فيه ليأخذ القمامة. فنزلت إليه بالصندوق ووقفت للحظة عند الباب - كم كان الطقس مروعا! - وبينما أنا واقفة جاء ساعي البريد وأحضر لي خطابا منك.
إنني لا أعرف كيف سافر ذلك الخطاب. لقد فتحته وقرأته، وضحكت وبكيت في الوقت نفسه؛ فقد كنت في غاية السعادة. قال الخطاب إنك في بلاد دافئة حيث تنمو حبوب البن، وإنها بلاد في غاية الجمال، ووصف عدة أشياء أخرى رائعة. وبينما أنا واقفة أقرأ بجانب صندوق القمامة، والأمطار تهطل، جاء شخص ما فجأة وأحاط بخصري.»
قال الرجل العجوز: «نعم، فسددت له لكمة قوية في أذنه حتى شعر بطنين فيها.»
فأجابته: «لم أكن أعلم أنه أنت، فقد وصلت بمجرد أن وصل خطابك، وكنت تبدو وسيما جدا، وما زلت كذلك بالطبع. كان في جيبك منديل حرير أصفر كبير وعلى رأسك قبعة لامعة. كنت تبدو في أفضل حال. لكن كم كان الجو فظيعا، وكم بدا الشارع كئيبا!»
سألها: «هل تذكرين بعد ذلك حين تزوجنا، وأنجبنا ابننا الأول، ثم ماري ونيلس وبيتر وهانس كريستيان؟»
فردت عليه: «بالطبع أتذكر، ولقد صاروا جميعا رجالا ونساء محترمين، يحبهم الكل.»
قال البحار العجوز: «والآن صار لدى أبنائهم أطفال. لدينا أبناء أحفاد، أقوياء وفي صحة جيدة أيضا. ألم يكن زواجنا في هذا الوقت تقريبا من العام؟»
قالت شجرة البيلسان الأم وهي تدس رأسها بين العجوزين: «نعم، واليوم هو اليوبيل الذهبي ليوم زفافكما.» لكنهما اعتقدا أنها إحدى الجارات تومئ برأسها لهما. ثم نظر كل منهما إلى الآخر وأمسك بيده. وسرعان ما جاء أبناؤهما وأحفادهما، الذين كانوا يعلمون جيدا أن اليوم كان اليوبيل الذهبي ليوم زفافهما. ورغم أنهم كانوا بالفعل قد أبلغوهم بتمنياتهم لهما بالسعادة في صباح ذلك اليوم، فالعجوزان كانا قد نسيا ذلك، رغم أنهما كانا يتذكران جيدا ما قد وقع منذ سنوات عديدة ماضية. وفاحت من شجرة البيلسان رائحة جميلة، وأضاءت شمس الغروب وجهي العجوزين حتى اكتسبا حمرة شديدة. ورقص أصغر أحفادهما حولهما بمرح، وقال إنهم سيقيمون وليمة في المساء سيكون فيها بطاطا ساخنة. ثم هزت شجرة البيلسان الأم رأسها وهي على الشجرة وصاحت: «مرحى!» مع كل الباقين.»
قال الصبي الصغير الذي كان منصتا: «لكن تلك ليست بقصة.»
رد عليه الرجل العجوز وقال: «إنها كذلك لكن عليك أن تفهمها أولا. لنسأل شجرة البيلسان الأم عنها.»
قالت شجرة البيلسان الأم: «لم تكن قصة بالضبط، لكن القصة ستأتي الآن، وهي قصة حقيقية. إن أروع القصص تنبع من الحقيقة، تماما كما انبثقت شجرتي الجميلة من إبريق الشاي.» ثم أخذت الصبي الصغير من الفراش وضمته إلى صدرها، وتجمعت فروع البيلسان الوارفة حولهما حتى صارا جالسين في تعريشة، وطارت بهما التعريشة في بهجة عارمة.
وفجأة تحولت شجرة البيلسان الأم إلى فتاة يافعة جميلة، لكن ثوبها كان من نفس الخامة الخضراء، المزين بحافة من زهور البيلسان البيضاء، تماما مثل الذي كانت ترتديه البيلسان الأم. وقد علقت في صدرها زهرة بيلسان حقيقية، ووضعت فوق خصلات شعرها الذهبية الملتفة إكليلا من نفس الزهور. كانت عيناها الزرقاوان الكبيرتان جميلتين للغاية. كما كانت من نفس سن الصبي، وقد تبادلا القبلات وشملتهما سعادة بالغة.
ثم تركا التعريشة معا، ويده في يدها، ليجدا نفسيهما في حديقة زهور بديعة في منزلهما. وعلى العشب الأخضر، كانت عصا أبيهما مربوطة، لكن دبت فيها الحياة من أجل الصغيرين؛ إذ بمجرد أن امتطياها تحول المقبض الأبيض إلى رأس حصان جميل ذي شعر أسود مسترسل، ثم انبثقت أربع قوائم طويلة رفيعة. وصار الكائن قويا ونشيطا، وركض بهما في أنحاء الأرض العشبية.
قال الصبي: «مرحى! سنبتعد الآن عدة أميال على الجواد، وسنذهب إلى ضيعة السيد النبيل التي ذهبنا إليها العام الماضي.»
ثم دار بهما الجواد حول تلك الأرض العشبية مرة أخرى، والفتاة الصغيرة التي نعلم أنها كانت شجرة البيلسان الأم، ظلت تهتف: «ها نحن في القرية الآن. هل ترى البيت الريفي ذا فرن الخبز الكبير البارز من الجدار على جانب الطريق مثل بيضة عملاقة؟ توجد شجرة بيلسان مادة فروعها فوقه، ويسير قريبا منه ديك يعبث مع دجاجه. انظر كيف ينتفخ ويتبختر!
نحن الآن على مقربة من الكنيسة؛ ها هي قائمة على التل، تظللها أشجار البلوط الهائلة، لكن واحدة منها نصف ذابلة. انظر! إننا الآن لدى ورشة الحداد. كم تشتعل النار هناك! إن الرجال أنصاف العراة يطرقون الحديد الساخن بمطرقة، بينما تتطاير منه الشرارات. والآن لنرحل إلى ضيعة السيد النبيل الجميلة!» وقد رأى الصبي كل ما تحدثت عنه الفتاة الصغيرة بينما هي جالسة خلفه على العصا، فقد مر أمام عينيه رغم أنهما كانا يركضان حول الأرض العشبية فحسب. ثم لعبا معا في ممر جانبي ومهدا الأرض لزراعة حديقة صغيرة. ثم أخذت الفتاة زهور بيلسان من شعرها وزرعتها، فنمت مثل تلك التي كان قد سمع العجوزين يتحدثان عنها، وقد زرعاها حين كانا صغيرين. هما أيضا تجولا متشابكي الأيدي، تماما كما فعل العجوزان حين كانا طفلين، لكنهما لم يصعدا البرج المستدير ولا ذهبا إلى حديقة فريدريكسبيرج. لكن لفت الفتاة الصغيرة ذراعها حول خصر الصبي، وجابا جميع أنحاء البلد (وتوالى الربيع، بعده الصيف؛ ثم الخريف، يتلوه الشتاء)، فيما مرت آلاف الصور أمام عيني الصبي وقلبه، والفتاة الصغيرة لم تزل تغني له: «يجب ألا تنسى كل هذا أبدا.» وكانت شجرة البيلسان ترسل عطرها الجميل طوال رحلتهما.
مرا معا على ورود وأشجار زان يانعة، لكن ظل عبق شجرة البيلسان أقوى منها كلها، فقد كانت زهورها تتدلى حول قلب الفتاة الصغيرة، الذي كان الفتى كثيرا ما يستند إليه برأسه أثناء تحليقهما.
ثم وقفا في أيكة من أشجار الزان مغطاة بالأوراق الخضراء النضرة، بينما ازدهر تحت أقدامهما الزعتر الطيبة رائحته وشقائق النعمان المتوردة اللذين بدوا رقيقين وسط الحشائش الخضراء. فقالت الفتاة: «يبدو المكان جميلا في الربيع. ليت الربيع لا ينتهي أبدا في أيكات الزان ذات العبير الطيب!»
قالت الفتاة: «للصيف بهجة هنا»، وهما يمران على قلاع الفرسان القدامى التي تحكي تاريخ أيام غابرة ويشاهدان الأسوار العالية والأسطح المسنمة المدببة معكوسة على صفحة الأنهار تحتها، حيث كان البجع يسبح متطلعا إلى الدروب الخضراء الباردة. وكانت الذرة تتمايل في الحقول يمينا ويسارا مثل أمواج البحر. وقد نبتت زهور حمراء وصفراء بين الأطلال، وغطت السياجات نباتات حشيشة دينار برية ولبلاب مزدهرة. وفي المساء ارتقى القمر السماء بدرا تاما، وملأت أكوام القش التي في المروج الهواء برائحتها الطيبة. كانت هذه مناظر لا تنسى أبدا.
قالت الفتاة: «الأجواء هنا جميلة في الخريف أيضا.» ثم تغير المشهد مجددا. وبدت السماء أكثر ارتفاعا وزرقتها أشد جمالا، بينما تألقت الغابة بألوان حمراء وخضراء وذهبية. وكانت كلاب الصيد تنطلق وراء الفرائس، وأسراب كبيرة من الطيور البرية تصيح فوق قبور شعب الهون، حيث التفت شجيرات العليق حول الأطلال العتيقة. وتناثرت الأشرعة البيضاء في البحر الداكن الزرقة، وجلست في الشون سيدات عجائز وفتيات وأطفال يضعون نباتات حشيشة الدينار في حوض كبير، بينما راح الشباب ينشدون الأغاني، والرجال العجائز يروون حكايات السحرة والساحرات. لا يمكن أن تكون هناك في العالم متعة تفوق هذه المتعة.
قالت الفتاة: «الأجواء هنا جميلة في الشتاء أيضا.» وفي لحظة غطى الصقيع كل الأشجار، فبدت مثل المرجان الأبيض. وطقطق الجليد أسفل الأقدام كأن الجميع انتعلوا أحذية جديدة، وهوت الشهب واحدا تلو الآخر من السماء. ووقفت أشجار الكريسماس في الحجرات الدافئة، تزينها الهدايا وتضيئها الشموع في جو من الاحتفالات والبهجة. وتصاعد صوت الكمان من البيوت الريفية في القرية ولعبت ألعاب استخدم فيها التفاح؛ فكان بإمكان حتى أفقر الأطفال أن يقولوا: «الأجواء جميلة في الشتاء.»
وبالفعل كانت جميلة كل المشاهد التي أرتها الفتاة للصبي الصغير، وقد ظل يفوح حولهما دائما عطر زهور البيلسان، وظل يرفرف فوقهما العلم الأحمر ذو الصليب الأبيض الذي كان البحار العجوز قد أبحر تحته. أما الفتى - الذي صار شابا، وارتحل بحارا في العالم الواسع وأبحر إلى بلاد دافئة تنمو فيها حبوب البن، الذي أعطته الفتاة الصغيرة زهرة بيلسان من فوق صدرها تذكارا، حين ودعته - فقد وضع الزهرة في كتاب الترانيم خاصته؛ وحين كان يفتحه في البلاد الأجنبية كان دائما ما يفتحه على المكان الذي وضعت فيه هذه الزهرة، وكان كلما أدام النظر إليها بدت أكثر نضارة. بل إنه كان يستطيع إن جاز القول أن يشتم عبير غابات الوطن، وأن يرى الفتاة الصغيرة تنظر إليه من بين بتلات الزهرة بعينيها الزرقاوين الصافيتين، ويسمعها تهمس إليه قائلة: «الحياة هنا جميلة سواء في الربيع أو الصيف أو الخريف أو الشتاء»، بينما يمر على ذاكرته العديد من هذه المشاهد من الوطن.
ومرت سنوات عدة، وصار الآن رجلا عجوزا، يجلس مع زوجته العجوز تحت شجرة بيلسان تفتحت زهورها بالكامل. كان كل منهما يمسك يد الآخر، تماما كما فعل الجد والجدة، ويتحدثان، مثلهما، عن الأيام الخوالي واليوبيل الذهبي للزفاف. جلست على الشجرة الفتاة الصغيرة ذات العينين الزرقاوين وزهور البيلسان في شعرها وهزت رأسها لهما وقالت: «اليوم هو اليوبيل الذهبي ليوم زفافكما.»
ثم أخذت زهرتين من إكليلها وقبلتهما، فلمعتا أولا ببريق كبريق الفضة ثم ببريق مثل بريق الذهب، وما أن وضعتهما على رأسي العجوزين حتى صارت كل زهرة تاجا ذهبيا. وهكذا جلسا مثل ملك وملكة تحت الشجرة ذات الشذى الطيب، التي ظلت تبدو مثل شجرة بيلسان. ثم حكى لزوجته العجوز قصة شجرة البيلسان الأم، كما سمعها حين كان صبيا صغيرا، وشعرا أنها تشبه كثيرا قصتهما، خاصة أكثر الأجزاء التي راقت لهما.
قالت الفتاة الصغيرة الجالسة على الشجرة: «هذا صحيح. البعض يسمونني شجرة البيلسان الأم، وآخرون يدعونني حورية الشجر، أما اسمي الحقيقي فهو الذكرى. فأنا من أجلس على الشجرة بينما تنمو وتزداد حجما، وأستطيع أن أتذكر الماضي وأحكي أشياء عدة. دعني أر ما إن كنت لا تزال محتفظا بالزهرة.»
حينئذ فتح الرجل العجوز كتاب الترانيم خاصته، فكان بداخله زهرة البيلسان، التي كانت نضرة كما لو كانت وضعت للتو فيه، فهزت الذكرى رأسها. وجلس العجوزان على رأسهما التاجان الذهبيان في حمرة شمس ساعة الشفق وأغمضا عينيهما، و... وانتهت القصة.
كان الصبي الصغير مستلقيا في فراشه لا يدري بالضبط ما إن كان في حلم أم يستمع إلى قصة. لقد كان إبريق الشاي على المنضدة، لكن لم تخرج منه شجيرة بيلسان، وكان الرجل العجوز الذي كان قد حكى القصة حقا على عتبة الباب وفي طريقه للخروج.
قال الصبي الصغير: «كم كان هذا جميلا! لقد ذهبت إلى بلاد دافئة يا أمي.»
قالت الأم: «أصدقك تماما؛ فحين يشرب أي أحد كوبين كاملين من شاي زهور البيلسان، من الممكن جدا أن يشعر أنه ذهب إلى بلاد دافئة.» ثم دثرته جيدا حتى لا يشعر بالبرد، وقالت: «لقد غطت في نوم عميق بينما كنت أجادل الرجل العجوز فيما إن كانت القصة حقيقية أم خرافية.»
سألها الصبي: «وأين شجرة البيلسان الأم؟»
أجابته أمه: «إنها في إبريق الشاي، وقد تظل هناك.»
ملكة الثلج
القصة الأولى
المرآة وأجزاؤها المكسورة
لا بد أن تنتبه جيدا لبداية هذه القصة؛ فحين نصل إلى النهاية سنعرف أكثر مما نعرف الآن حول جني شرير جدا، كان الأكثر شقاوة بين كل الجن؛ فقد كان شيطانا بحق.
ذات يوم حين كان في مزاج جيد صنع مرآة قادرة على جعل كل شيء حسن أو جميل ينعكس فيها يتقلص حتى يختفي، وجعل كل شيء عديم القيمة وسيئا مكبرا بحيث يبدو أسوأ عشر مرات مما هو في الواقع.
هكذا كانت أجمل المناظر الطبيعية تبدو عليها مثل السبانخ المسلوق، وكان كل الناس يظهرون بشكل فظيع ويبدون كأنهم يقفون على رءوسهم ومن دون أجسام. كانت وجوههم تظهر مشوهة للغاية حتى إنه كان يستعصي التعرف عليهم، وكان من لديه بقعة نمش في وجهه تراها وقد انتشرت فوق أنفه وفمه. وكان الشيطان يرى ذلك ممتعا جدا. أما حين كان يرد على بال أحد الأشخاص فكرة طيبة أو تقية فكانت تبدو في المرآة في شكل تجعيدة، وكم كان الشيطان يضحك حينئذ فرحا باختراعه الخبيث!
كل من ارتاد مدرسة الشيطان - فقد كان لديه مدرسة - كانوا يتحدثون في كل مكان عن العجائب التي رأوها، ويقولون إن الناس أصبح بإمكانهم الآن لأول مرة أن يروا العالم وسكانه على حقيقتهم. وكانوا يحملون المرآة معهم في كل مكان، حتى لم يعد في النهاية مكان أو شخص لم ير من خلال تلك المرآة المشوهة.
كذلك أرادوا أن يطيروا بها إلى السماء ليروا الملائكة، لكنهم كلما كانوا يحلقون عاليا كانت المرآة تصير زلقة أكثر، فكانوا بالكاد يستطيعون الإمساك بها، حتى انسلت من أياديهم أخيرا وسقطت على الأرض، وتحطمت إلى ملايين القطع.
لكن هذا جعل المرآة سببا أكبر في التعاسة عن ذي قبل، فقد كانت بعض القطع لا يتعدى حجمها حبة الرمل، فحملها الهواء إلى كل البلاد في أنحاء العالم. وحين كانت واحدة من هذه الذرات الدقيقة تدخل عين أحد الأشخاص، كانت لا تبرحها، دون أن يعي هو ذلك، فكان من تلك اللحظة يرى كل شيء على نحو خاطئ، ولا يرى إلا الجانب الأسوأ فيما ينظر إليه؛ فحتى أصغر شذرة كانت تحتفظ بنفس القدرة التي كانت لدى المرآة كاملة.
وقد أصيب قليل من الأشخاص بشظية من المرآة في قلوبهم، وهو الأمر الفظيع، إذ صارت قلوبهم باردة وجامدة مثل كتلة جليد. وكانت بعض القطع كبيرة فأمكن استخدامها ألواحا للنوافذ؛ لكن كان من المؤسف بالطبع أن ترى أصدقاءك من خلالها. وصنع من أجزاء أخرى نظارات، فكانت بغيضة؛ إذ من كان يرتديها كان لا يمكنه أن يرى أي شيء على نحو صحيح أو حقيقي. كان الشيطان الشرير يضحك على كل هذا حتى يستلقي على ظهره؛ إذ كان سعيدا لرؤية الأذى الذي كان يرتكبه. ولا يزال عدد من هذه الشظايا الصغيرة من الزجاج يحملها الهواء، وسوف تقرءون الآن ما حدث لواحدة منها.
القصة الثانية
صبي صغير وفتاة صغيرة
في أي بلدة كبيرة مكتظة بالمنازل والناس، ليس هناك فسحة ليكون لدى كل شخص حتى حديقة صغيرة. لذلك يضطر أغلب الناس إلى الاكتفاء بزراعة بعض الزهور في أصص زرع.
في واحدة من هذه البلدات الكبيرة عاش طفلان فقيران كان لديهما حديقة إلى حد ما أكبر وأفضل من بعض من أصص الزرع. لم يكن الاثنان أخا وأختا، لكن كان كل منهما يحب الآخر حبا كاد يماثل حب الأشقاء. كان أهلهما يعيشان في حجرتين علويتين متقابلتين لمنزلين متجاورين كان سطحهما شبه متصل، وكان هناك مزراب يمر بينهما. وكان في كل سطح نافذة صغيرة، بحيث يستطيع أي أحد أن يخطو فوق المزراب ليصل من نافذة إلى الأخرى.
كان لدى أهل كل من هذين الطفلين صندوق خشبي كبير يزرعان فيه الخضراوات من أجل استهلاكها في الطبخ، وكان في كل صندوق أيضا شجيرة ورد صغيرة وارفة على نحو رائع.
بعد فترة قرر الأهل أن يضعوا هذين الصندوقين فوق المزراب، بحيث يمتدان من نافذة إلى الأخرى ويبدوان مثل حوضين من الزهور. حينها، تدلت البازلاء من الصندوقين، ونبتت لشجيرتي الورد فروع طويلة التفت حول النافذتين وتجمعت معا مثل قوس نصر من الأوراق والزهور.
وكان الصندوقان مرتفعين جدا، وكان الطفلان يعلمان أنهما يجب ألا يتسلقاهما من دون إذن؛ لكنهما كثيرا ما كان يسمح لهما بالخروج من النافذتين والجلوس على مقعديهما الصغيرين تحت شجيرتي الورد أو اللعب معا في هدوء.
لكن حين كان يقبل الشتاء كانت تنتهي كل هذه المسرة؛ إذ كانت النافذتان تتجمدان تماما في بعض الأحيان. إلا أنهما كانا يسخنان بنسات نحاسية على الموقد ويضعانها على الزجاج المتجمد فكانت سريعا ما تصنع ثقبا صغيرا مستديرا يستطيعان النظر من خلاله، فكانت العيون الوديعة المتقدة للفتى والفتاة الصغيرين، اللذين يدعيان كاي وجيردا، تلمع من خلال الثقب الموجود في كل من النافذتين حين ينظر كل منهما إلى الآخر. في الصيف كانا يستطيعان أن يكونا معا بقفزة واحدة من النافذة، لكن في الشتاء كانا يضطران إلى صعود الدرج الطويل وهبوطه والخروج وسط الثلوج حتى يستطيعا اللقاء.
ذات يوم قالت جدة كاي العجوز بينما كانت الثلوج تتساقط: «انظرا! ها هو سرب من النحل الأبيض.»
سألها الصبي الصغير: «هل يوجد لديه ملكة؟» فقد كان يعلم أن النحل دائما ما يكون لديه ملكة.
أجابت الجدة قائلة: «بالطبع لديه. إنها تطير هناك في الجزء الأكثر كثافة من السرب. إنها أضخم نحلة فيه ولا تلبث على الأرض مطلقا، وإنما تنطلق عاليا إلى الغيوم الداكنة. وكثيرا ما تطير في شوارع البلدة في منتصف الليل وتطلق أنفاسها الباردة على النوافذ فيتجمد الثلج على الزجاج في أشكال رائعة تبدو مثل الزهور والقلاع.»
قال الطفلان: «هذا صحيح، لقد رأيناها.» وكانا يعلمان أن هذه حتما حقيقة.
تساءلت الفتاة الصغيرة: «هل من الممكن أن تدخل ملكة الثلج إلى هنا؟»
قال الصبي: «فلندعها تدخل وسوف أضعها على الموقد الساخن حتى تنصهر.»
مسدت الجدة شعره وأخبرته بالمزيد من الحكايات.
وفي ذلك المساء نفسه بينما كان كاي الصغير بالمنزل، متجردا من نصف ملابسه، صعد على كرسي عند النافذة ونظر من الثقب الصغير المستدير. كانت القليل من ندف الثلج تتساقط من السماء، وقد حطت إحداها، والتي كانت أكبر حجما من الأخرى، على حافة أحد صندوقي الزهور. العجيب أن هذه الندفة راحت تزداد حجما حتى اتخذت في النهاية هيئة سيدة في رداء من الشاش الأبيض، الذي بدا كأنه صنع من ملايين ندف الثلج التي تشبه النجوم المتصلة ببعضها البعض. كانت السيدة شقراء وجميلة، لكنها كانت من الثلج؛ الثلج البراق المبهر. لكنها كانت حية، وعيناها تشعان مثل نجمتين لامعتين، لكنهما بلا سلام أو سكينة. وقد أومأت برأسها تجاه النافذة، ولوحت بيدها. ارتعب الصبي الصغير وقفز من أعلى الكرسي، وفي اللحظة نفسها بدا كأن طائرا كبيرا طار قريبا من النافذة.
في اليوم التالي كان هناك صقيع شديد، ثم ما لبث الربيع أن أقبل. أشرقت الشمس، ونبتت الأوراق الخضراء الغضة، وبنت طيور السنونو أعشاشها؛ وفتحت النوافذ، فجلس الطفلان مرة أخرى في الحديقة التي على السطح، عاليا فوق كل الحجرات الأخرى.
كم كانت الورود جميلة حين تفتحت هذا الصيف! وكانت الفتاة الصغيرة قد تعلمت ترنيمة تتحدث عن الورود. فكرت في ورودهما، وأنشدت الترنيمة للصبي الصغير، وغنى هو أيضا معها قائلين:
تتفتح الزهور ثم تذوي؛
لكن المسيح الطفل دائما سيبقى.
ستحل علينا البركة حين نراه،
وهكذا حال الأطفال دوما.
ثم أمسك كل من الطفلين بيدي بعضهما، وقبلا الورود، ونظرا إلى أشعة الشمس الساطعة، وتحدثا إليها كما لو كان المسيح الطفل هناك بالفعل. كانت تلك أيام الصيف البهيجة. كم كانت الأجواء جميلة ومنعشة بين شجيرتي الورد، اللتين بدتا كأنهما لن تذويا أبدا!
ذات يوم جلس كاي وجيردا يطالعان كتابا به صور للحيوانات والطيور. وفي نفس الوقت الذي دقت فيه الساعة التي في برج الكنيسة الثانية عشرة، قال كاي: «أوه، شيء ما أصاب قلبي!» وبعد لحظات قال: «من المؤكد أن شيئا ما دخل عيني.»
لفت الفتاة الصغيرة ذراعها حول عنقه ونظرت إلى عينه، لكنها لم تستطع رؤية أي شيء.
قال الصبي: «أعتقد أنه زال.» لكنه لم يزل؛ فقد كانت إحدى شظايا المرآة المكسورة - تلك المرآة السحرية التي كنا قد تحدثنا عنها - المرآة القبيحة التي تجعل كل شيء ضخم وحسن يبدو صغيرا وقبيحا، بينما يصبح كل ما هو خبيث ورديء أكثر وضوحا، وكل خطأ صغير ظاهرا للعيان. كذلك أصيب كاي الصغير المسكين بشظية صغيرة في قلبه، الذي تحول سريعا جدا إلى كتلة من الجليد. لم يشعر كاي بمزيد من الألم لكن ظلت شظيتا الزجاج في مكانهما. وقال أخيرا: «لماذا تبكين؟ إن هذا يجعلك تبدين قبيحة. إنني على ما يرام الآن.» ثم صاح فجأة قائلا: «أوه، يا للقرف! تلك الوردة أكلتها الديدان، وهذه الوردة معوجة تماما. إنها ورود قبيحة على أي حال، تماما مثل الصندوق التي زرعت فيه.» ثم ركل الصندوقين بقدميه وقطف الوردتين.
صاحت الفتاة الصغيرة قائلة: «عجبا يا كاي، ماذا تفعل؟» وحين رأى كما هي حزينة قطف وردة أخرى وقفز من نافذته للداخل، بعيدا عن جيردا الصغيرة الرقيقة.
حين أخرجت فيما بعد الكتاب المصور قال لها: «إنه لا يناسب إلا أطفالا ما زالوا في المهد.» وحين كانت الجدة تحكي قصصا كان يقاطعها ليعارض ما تقوله، أو يقف أحيانا وراء مقعدها حين كان يمكنه ذلك ويضع على عينيه نظارة، ويقلدها بمهارة شديدة ليجعل الناس يضحكون. وبالتدريج، بدأ يقلد طريقة حديث الناس في الشارع ومشيهم. فكان يقلد كل ما هو غريب أو مكروه في الشخص في الحال، وكان الناس يقولون: «ذلك الصبي سيصير ماهرا جدا؛ إنه عبقري عبقرية جديرة بالاهتمام.» إلا أن ما جعله يتصرف على هذا النحو هو قطعة الزجاج التي في عينه والجمود الذي في قلبه. بل إنه كان حتى يثير غيظ جيردا الصغيرة التي كانت تحبه من كل قلبها.
حتى لهوه صار أيضا مختلفا تماما؛ فلم يعد مثل لهو الأطفال. وذات يوم من أيام الشتاء بينما كانت الثلوج تتساقط، أحضر عدسة حارقة، ثم رفع طرف معطفه الأزرق حتى تسقط عليه ندف الثلج.
ثم قال لجيردا: «انظري من خلال هذه العدسة يا جيردا.» فرأت كيف صارت كل واحدة من ندف الثلج مكبرة لتبدو مثل زهرة جميلة أو نجمة لامعة.
فقال لها كاي: «أليس في هذا جمال ومتعة أكبر كثيرا من النظر إلى زهور حقيقية؟ فلا يوجد فيها عيب واحد. تظل ندف الثلج في أفضل حال حتى تبدأ في الانصهار.»
بعد هذا بقليل ظهر كاي مرتديا قفازا كبيرا سميكا وعلى ظهره زلاجته. ونادى على جيردا وقال: «لقد حصلت على الإذن بالذهاب إلى الميدان الكبير، حيث يلعب الصبية الآخرون ويركبون الزلاجات.» ثم رحل.
في الميدان الكبير كان الأكثر جرأة من بين الصبية عادة ما يربطون زلاجاتهم بعربات سكان القرية وبهذا يحصلون على جولة، وهو ما كان أمرا رائعا. لكن بينما كانوا يلهون، ومعهم كاي، جاءت زلاجة كبيرة مطلية باللون الأبيض، جلس فيها شخص ما متلفعا بفراء أبيض خشن ومعتمرا قبعة بيضاء. دارت الزلاجة حول الميدان مرتين، وربط كاي زلاجته الصغيرة بها، وبهذا رحل معها حين رحلت. انطلقت أسرع فأسرع عبر الشارع التالي، واستدار الشخص الذي يقودها وأومأ رأسه بود لكاي كأنهما على معرفة وثيقة ببعضهما؛ لكن كلما ود كاي أن يفك زلاجته الصغيرة التفت قائد الزلاجة وأومأ برأسه ليشير بأن عليه البقاء، فجلس كاي ساكنا، ثم انطلقا خارجين من بوابة البلدة.
ثم راح الثلج يتساقط بغزارة شديدة حتى إن الصبي الصغير لم يستطع أن يرى أبعد من شبر أمامه، لكنهما ظلا منطلقين بالزلاجتين. وفجأة حاول الصبي فك الحبل حتى تذهب الزلاجة الكبيرة من دونه، لكن دون جدوي؛ فقد كانت زلاجته مربوطة بإحكام، وانطلق الاثنان مثل الريح. أخذ يصيح بصوت عال، لكن لم يسمعه أحد، في حين ظل الثلج يتساقط عليه والزلاجة منطلقة. وكانت من حين إلى آخر تقفز، كما لو كانا يعبران فوق أسيجة وحفر. حل الخوف بالفتى فحاول أن يتلو صلاة، لكنه لم يستطع أن يتذكر أي شيء سوى جدول الضرب.
صار حجم ندف الثلج أضخم فأضخم، حتى بدت مثل طيور بيضاء ضخمة. وإذ فجأة قفزت جانبا، وتوقفت الزلاجة الكبيرة، ونهض الشخص الذي كان يقودها. سقط الفراء والقبعة اللذان كانا مصنوعين بالكامل من الثلج، فرأى سيدة، طويلة وبيضاء، وكانت هي ملكة الثلج.
قالت له: «لقد أحسنا قيادة الزلاجتين، لكن لماذا ترتعد هكذا؟ تعال، اندس في فرائي الدافئ.» ثم أجلسته بجانبها في الزلاجة وبينما هي تلف الفراء حوله، شعر كأنه يغوص في ركام من الثلج.
سألته وهي تطبع قبلة على جبهته: «أما زلت تشعر بالبرد؟» كانت القبلة أبرد من الجليد؛ فقد اخترقته حتى بلغت قلبه الذي كان أشبه بكتلة من الجليد بالفعل. وشعر الصبي كأنه يحتضر، لكنه شعور لم يدم أكثر من لحظة، فسرعان ما بدا على ما يرام تماما ولم يأبه للبرد الذي أحاط به من كل جانب.
وكان أول ما جال بخاطره أن قال: «زلاجتي! لا تنسي زلاجتي.» ثم نظر فوجد أنها مربوطة بإحكام بأحد الطيور البيضاء التي كانت تحلق خلفه. قبلت ملكة الثلج كاي الصغير مرة أخرى، وكان حينذاك قد نسي جيردا الصغيرة وجدته وكل من في البيت.
قالت له ملكة الثلج: «لا بد أن أتوقف عن تقبيلك وإلا قضيت عليك بقبلاتي.»
نظر كاي إليها فوجدها جميلة للغاية لدرجة أنه لم يتخيل أن يكون هناك وجه أكثر بهاء من وجهها؛ ولم يبد الآن أنها من الثلج كما كانت حين رآها من نافذته وأومأت برأسها له.
كانت تبدو في عينيه كاملة الأوصاف، فلم يشعر بالخوف على الإطلاق. أخبرها أنه يستطيع إجراء عمليات حسابية في ذهنه حتى تلك التي تحتوي على كسور، وأنه يعرف مساحة البلد بالأميال المربعة وعدد سكانها. ابتسمت له فخطر له أنها تعتقد أن كل ما يعرفه بدا ضئيلا.
جال الصبي ببصره في أنحاء الفضاء المترامي وهي تطير به أعلى فأعلى على غيمة سوداء، بينما تشتد العاصفة وتعوي كأنها تغني أغنيات من أزمان غابرة. طارا فوق غابات وبحيرات، وفوق البر والبحر؛ وتحتهما عوت الرياح العاتية وعوت الذئاب وطقطق الجليد؛ وفوقهما حلقت الغربان السوداء وهي تنعق، وفوق كل هذا سطع القمر، صافيا مضيئا، وهكذا قضى كاي ليل الشتاء الشديد الطول، وحين جاء النهار نام عند قدمي ملكة الثلج.
القصة الثالثة
حديقة الزهور المسحورة
لكن كيف حال جيردا الصغيرة في غياب كاي؟
لم يعلم أحد ما حل به، ولا استطاع أحد أن يدلي بأدنى قدر من المعلومات، ما عدا الصبية الذين قالوا إنه كان قد ربط زلاجته بزلاجة أخرى كبيرة جدا، والتي راحت تنطلق في الشارع ثم خرجت من بوابة البلدة. ولم يعرف أحد أين ذهبت. وقد انهمر الكثير من الدموع من أجله، وظلت جيردا تبكيه بحرقة لوقت طويل؛ إذ قالت إنها تشعر أنه مات لا محالة، وأنه غرق في النهر الجاري بالقرب من المدرسة. ومضت أيام شتاء الطويلة في كآبة شديدة؛ لكن أخيرا جاء الربيع بشمسه الدافئة.
قالت جيردا الصغيرة: «لقد مات كاي ورحل.»
قالت أشعة الشمس: «أنا لا أصدق هذا.»
وقالت لطيور السنونو: «لقد مات ورحل.»
فردت عليها وقالت: «إننا لا نصدق هذا .» وأخيرا بدأت جيردا الصغيرة تشك في الأمر.
وذات صباح قالت: «سوف أنتعل حذائي الأحمر الجديد، ذلك الذي لم يره كاي قط، ثم أذهب إلى النهر وأسأل عنه.»
وفي ساعة مبكرة جدا من الصباح قبلت جدتها العجوز التي كانت لا تزال نائمة؛ ثم انتعلت حذاءها الأحمر، وخرجت من بوابة البلدة بمفردها تماما متجهة نحو النهر.
قالت جيردا للنهر: «هل صحيح أنك أخذت مني رفيقي الصغير في اللعب؟ سوف أعطيك حذائي الأحمر إذا أعدته لي.»
وبدا كأن الأمواج أشارت لها بأسلوب غريب، فخلعت زوجي حذائها الأحمر، الذي كانت تحبه أكثر من أي شيء آخر، وألقت بهما في النهر، لكنهما سقطتا قريبا من الضفة، فحملتهما الأمواج الصغيرة إلى البر مجددا تماما كأن النهر يرفض أن يأخذ منها أحب ما لديها؛ لأن ليس بمقدوره أن يعيد إليها كاي الصغير.
لكنها اعتقدت أنها لم تلق بالحذاء بعيدا بالقدر الكافي، فتسللت إلى قارب كان موجودا بين عيدان البوص، وألقت بالحذاء مرة أخرى في الماء من أقصى القارب؛ إلا أنه لم يكن مربوطا، فجعلته حركتها يسبح بعيدا عن البر. حين رأت جيردا هذا هرعت لتصل إلى طرف القارب، لكن قبل أن تتمكن من ذلك كان ابتعد أكثر من ياردة عن الضفة وانجرف بسرعة أكبر.
ارتعبت جيردا الصغيرة بشدة وبدأت في البكاء لكن لم يسمعها أحد سوى طيور السنونو التي لم تكن تستطيع حملها إلى البر، لكنها ظلت تطير قرب الضفة وهي تشدو قائلة: «نحن بقربك! نحن بقربك!» لعل غناءها يهدئ من روعها.
ذهب القارب مع التيار، بينما جلست جيردا الصغيرة في سكون تام لا يغطي قدميها سوى الجورب؛ فقد طفا الحذاء الأحمر وراءها، لكنها لم تستطع أن تصل إليه لأن القارب استمر في تقدمه مسرعا.
كانت ضفتا النهر بديعتين للغاية؛ فقد كان فيهما زهور جميلة وأشجار قديمة وحقول منحدرة ترعى فيها الأبقار والأغنام، لكن لم يكن هناك أي إنسان.
حدثت جيردا الصغيرة نفسها قائلة: «ربما سيحملني النهر إلى كاي الصغير.» وحينئذ صارت أكثر ابتهاجا، ورفعت رأسها وطالعت الضفتين الخضراوين الجميلتين. وهكذا ظل القارب مبحرا عدة ساعات، حتى بلغ أخيرا بستانا كبيرا للكرز، قام فيه منزل صغير ذو نوافذ حمراء وزرقاء غريبة. كان سطحه مغطى بالقش، ووقف خارجه جنديان خشبيان رفعا لها سلاحهما تحية حين مرت بهما بالقارب. نادت جيردا عليهما فقد ظنت أنهما حيان؛ لكنهما لم يجيبا بالطبع، وحين اقترب القارب من الشاطئ أكثر أدركت حقيقتهما.
إلا أن جيردا ظلت تنادي بصوت أعلى، فخرجت من المنزل سيدة عجوز جدا، متكئة على عكاز، ترتدي قبعة كبيرة لتحميها من الشمس، وكان مرسوما عليها شتى أنواع الزهور الجميلة.
قالت السيدة العجوز: «كيف استطعت أن تقطعي هذه المسافة البالغة الطول في العالم الواسع في مثل هذا التيار السريع الهائج يا أيتها الطفلة الصغيرة المسكينة؟» ثم خاضت السيدة العجوز في الماء، وأمسكت القارب بعكازها، وسحبته للبر، وأخرجت منه جيردا الصغيرة، التي سرها شعورها بالعودة للأرض الجافة مرة أخرى، رغم أنها كانت خائفة بعض الشيء من السيدة العجوز الغريبة.
قالت السيدة: «تعالي وأخبريني من أنت وكيف أتيت إلى هنا.»
أخبرتها جيردا بكل شيء، بينما راحت السيدة العجوز تهز رأسها وتقول: «همم، همم»؛ وحين انتهت جيردا من الكلام سألت السيدة العجوز ما إن كانت قد رأت كاي الصغير. أخبرتها بأنه لم يعبر ذلك الطريق، لكن ثمة احتمالا كبيرا أن يأتي. وطلبت من جيردا ألا تحزن وإنما تتذوق الكرز وتنظر إلى الزهور؛ فهي أجمل من أي كتاب مصور، فكل واحدة منها تحكي قصة. ثم أمسكت يدها، وأدخلتها إلى المنزل الصغير، وأغلقت الباب. كانت النوافذ عالية جدا، ولما كان زجاجها ملونا بالأحمر والأزرق والأصفر فقد سطع من خلالها ضوء النهار بشتى الألوان الفريدة. وكان على الطاولة بعض ثمار الكرز الجميلة، وقد سمح لجيردا بتناول العدد الذي تريده منها. وبينما كانت تأكلها مشطت السيدة العجوز خصلات شعرها الأشقر الملتفة بمشط ذهبي فانسابت الخصلات اللامعة على جانبي الوجه الحسن المستدير الصغير، الذي بدا في نعومة الوردة ونضارتها.
قالت السيدة العجوز: «طالما تمنيت فتاة صغيرة لطيفة مثلك، لذلك لا بد أن تبقي معي وتري كيف سنعيش في سعادة معا.» وفيما راحت تمشط شعر جيردا الصغيرة انحسر تفكير الطفلة في رفيقها كاي تدريجيا، فالسيدة العجوز كانت ساحرة لكنها كانت ساحرة طيبة؛ فلم تكن تمارس السحر إلا قليلا بغرض الترفيه عن نفسها، وحينذاك لأنها أرادت الاحتفاظ بجيردا. لذلك خرجت إلى الحديقة ومدت عكازها صوب كل أشجار الورد فغاصت في التو في غياهب الأرض، رغم ما كانت عليها من بهاء، دون أن تترك أدنى أثر على أنها كانت هناك. لقد خشيت السيدة العجوز أن ترى جيردا الصغيرة الورود فتفكر في تلك التي في دارها فتتذكر حينئذ كاي الصغير وترحل.
ثم اصطحبت جيردا لحديقة الزهور، وكم كانت عطرة وجميلة! كان فيها كل الزهور التي قد تخطر على البال، من أي موسم من مواسم السنة، متفتحة وذات ألوان لا يمكن لأي كتاب مصور أن يعرض ألوانا أشد منها جمالا. قفزت جيردا من السعادة ولعبت حتى توارت الشمس وراء أشجار الكرز الطويلة؛ ثم نامت في فراش أنيق، ذي وسائد حمراء من الحرير مزينة بزهور البنفسج، وراودتها أحلام سعيدة أنها ملكة في يوم زفافها.
ظلت جيردا تلعب بالزهور في أشعة الشمس الدافئة اليوم التالي وطيلة عدة أيام تالية. وصارت تعرف كل زهرة، ورغم أنها كانت كثيرة جدا فقد بدا أنها تنقصها واحدة، لكنها لم تعرف ما هي. لكن ذات يوم بينما هي جالسة تتطلع إلى قبعة السيدة العجوز ذات الزهور الملونة، رأت أن أجملها جميعا كانت وردة. لقد نسيت السيدة العجوز أن تنزعها من قبعتها حين جعلت كل الورود تندثر تحت الأرض. لكن من الصعب أن تنتبه إلى كل التفاصيل، فقد ترتكب خطأ صغيرا يفسد عليك كل ما رتبته.
وإذ بجيردا تصيح: «عجبا! ألا يوجد ورود هنا؟» ثم خرجت إلى الحديقة وفحصت كل الأحواض، وظلت تبحث وتبحث، لكنها لم تعثر على أي منها. جلست وراحت تبكي، فسقطت دموعها في نفس المكان الذي هبطت فيه إحدى أشجار الورد. بلت دموعها الدافئة الأرض، فنبتت شجرة ورد في الحال ، وارفة كما كانت حين هبطت في الأرض، فضمتها جيردا وقبلت الورود، وعاودتها ذكرى الورود الجميلة في دارها، ومعها ذكرى كاي الصغير.
قالت الفتاة الصغيرة: «ويحي، كم مضى علي وأنا حبيسة هنا!» ثم سألت الورود: «كنت أرغب في البحث عن كاي الصغير. هل تعلمن أين هو؟ هل تعتقدن أنه مات؟»
أجابتها الورود: «لا، لم يمت. لقد كنا تحت الأرض حيث يرقد كل الموتى، لكن كاي ليس هناك.»
قالت جيردا الصغيرة: «أشكركن»، ثم ذهبت إلى الزهور الأخرى ونظرت داخل كئوسهن الصغيرة وسألتهن: «هل تعلمن بمكان كاي الصغير؟» لكن كل واحدة من الزهور الواقفة في أشعة الشمس كانت تحلم فقط بحكايتها أو قصتها الخيالية الصغيرة. لم تكن أي منها تعلم أي شيء عن كاي. وسمعت جيردا حكايات عدة من الزهور، حين سألتهن الواحدة تلو الأخرى عنه.
بعد ذلك جرت إلى الناحية الأخرى من الحديقة. كان الباب موصدا، لكنها دفعت المزلاج الصدئ حتى انهار. انفتح الباب على مصراعيه، فخرجت جيردا الصغيرة جريا حافية القدمين إلى العالم الواسع. نظرت خلفها ثلاث مرات، لكن لم يبد أن هناك من يتبعها. وحين وجدت أنها لم تعد تقوى على الجري جلست لتستريح على حجر كبير، وحين نظرت حولها اكتشفت أن الصيف كان قد انتهى وأن الخريف قد مر جانب كبير منه. لم تكن تدري بشيء من هذا في الحديقة الجميلة حيث كانت تسطع الشمس وتنمو الزهور طوال العام.
قالت جيردا الصغيرة: «أوه، كم أضعت من الوقت! لقد جاء فصل الخريف؛ لا بد ألا أستسلم لمزيد من الراحة.» ونهضت لتواصل السير. إلا أن قدميها الصغيرتين كانتا مجروحتين وتؤلمانها، وبدا كل ما حولها باردا وموحشا. لقد كانت أوراق الصفصاف الطويلة مصفرة تماما، وقطرات الندى تنهمر مثل المياه، والأوراق تتساقط الواحدة تلو الأخرى من الأشجار؛ وحدها شجرة البرقوق الشوكي كانت لا تزال تحمل ثمارا، إلا أن تلك الثمار كانت مرة وتلسع اللسان. أوه، كم بدا العالم بأسره خاويا وكئيبا!
القصة الرابعة
الأمير والأميرة
اضطرت جيردا إلى الخلود للراحة مرة أخرى، فرأت في الجهة المقابلة للمكان الذي جلست فيه مباشرة غرابا كبيرا يقفز قادما إليها عبر الجليد. وقف ينظر إليها لبعض الوقت، ثم هز رأسه وقال: «قاق، قاق، يوم طيب، يوم طيب». نطق الكلمات بوضوح بقدر ما استطاع، لأنه أراد عدم إخافة الفتاة الصغيرة، ثم سألها إلى أين هي ذاهبة وهي وحيدة تماما في العالم الفسيح.
فهمت جيردا كلمة «وحيدة» جيدا وشعرت بعمق معناها؛ لذا، أخبرت الغراب بقصة حياتها ومغامراتها كلها وسألته ما إن كان قد رأى كاي الصغير.
هز الغراب رأسه بجدية شديدة وقال: «ربما رأيته، من المحتمل.»
صاحت جيردا الصغيرة: «حقا؟! هل تعتقد حقا أنك رأيته؟» ثم قبلت الغراب وضمته بشدة حتى كادت تقتله، من شدة الفرح.
قال الغراب: «اهدئي، اهدئي. أعتقد أنني أعرفه. أعتقد أنه ربما يكون كاي الصغير؛ لكن لا بد أن يكون قد نسيك الآن من أجل الأميرة.»
سألته جيردا: «هل يعيش مع أميرة؟»
أجابها الغراب: «أجل، لكن أنصتي لي. من الصعب جدا أن أتحدث لغتك. إذا كنت تفهمين لغة الغربان، فسأستطيع أن أشرح لك الأمر بشكل أفضل. فهل تفهمينها؟»
قالت جيردا: «كلا، فلم أتعلمها قط، لكن جدتي تفهمها، واعتادت أن تتحدث بها إلي. ليتني كنت قد تعلمتها.»
أجابها الغراب: «لا يهم، سأشرح لك بقدر ما أستطيع، إلا أن الشرح سيكون سيئا جدا.» وأخبرها بما كان قد سمعه.
قال لها: «في المملكة التي نقف فيها الآن تعيش أميرة بارعة الذكاء حتى إنها قرأت كل الجرائد التي في العالم، ونسيتها كذلك، رغم أنها شديدة الذكاء.
منذ فترة قصيرة، بينما هي جالسة على عرشها، الذي يقول الناس إنه ليس كرسيا جيدا كما يغلب الظن عليه، بدأت تغني أغنية يقول مطلعها:
لماذا لا أتزوج؟
وقالت: «بالطبع، لم لا؟» وعقدت العزم على الزواج إذا استطاعت أن تجد زوجا يعرف ماذا يقول حين يتحدث أحد إليه، فهي لا تريد شخصا يبدو مهيبا فحسب، فقد كان ذلك أمرا مضجرا للغاية. واستدعت كل سيدات البلاط بقرع على طبلة، وحين عرفن بنواياها سررن سرورا شديدا .
قالت السيدات: «أسعدنا كثيرا هذا الخبر. وقد كنا نناقشه فيما بيننا قبل ذلك.»
لتثقي في صدق كل كلمة أقولها، فلدي إلف أليف تنطلق بحرية في القصر، وهي من أخبرتني بكل هذا.»
بالطبع كان إلفه إحدى إناث الغراب، إذ كما يقول المثل: «الطيور على أشكالها تقع»، ولا يمكن لغراب إلا أن يحب واحدة من بني جنسه.
ثم أضاف: «وفي الحال صدرت الجرائد بإطار من القلوب بها الحروف الأولى من اسم الأميرة، وأعلنت أنه بوسع أي شاب وسيم أن يزور القصر ويتحدث إلى الأميرة، ومن يستطع الرد بصوت مسموع عند مخاطبته ويبدو كما لو كان في بيته، ويكون الأفضل حديثا سيختار زوجا للأميرة.
أجل، أجل، صدقيني. فكل ما قلته حقيقة مثل جلوسي هنا.
لقد جاءت الناس في حشود، وكان هناك قدر كبير من التزاحم والتجمهر، لكن لم ينجح أحد سواء في اليوم الأول أو الثاني. لقد كانوا جميعا يستطيعون الحديث جيدا وهم بالخارج في الشوارع، لكن حين دخلوا من بوابات القصر ورأوا الحراس في زيهم الفضي، والخدم في بزاتهم الرسمية الذهبية على الدرج، والقاعات الكبرى وهي مضاءة، اعتراهم ارتباك شديد. وحين وقفوا أمام العرش الذي كانت تجلس عليه الأميرة، لم يستطيعوا إلا أن يعيدوا الكلمات الأخيرة من الكلام الذي قالته، وهي لم يكن لديها أي رغبة في سماع كلماتها تعاد. كانوا جميعا كأنهم قد تناولوا شيئا ليشعروا بالنعاس أثناء وجودهم في القصر، فهم لم يستعيدوا زمام أنفسهم ولم يتحدثوا إلا حين عادوا إلى الشارع ثانية. وكان هناك صف طويل من المتقدمين، يمتد من بوابة البلدة حتى القصر.
لقد ذهبت بنفسي لأراهم. لقد كانوا جوعى وعطشى، فلم يحصلوا ولو على كوب ماء في القصر. كان بعض الفطناء منهم قد أخذوا معهم بعض شرائح الخبز والزبد، لكنهم لم يقتسموها مع رفاقهم؛ فقد اعتقدوا أنه لو ذهب الآخرون إلى الأميرة ويبدو عليهم الجوع، فسوف يكون حظهم هم أوفر.»
قالت له جيردا: «لكن ماذا عن كاي؟ حدثني عن كاي الصغير! هل كان بين الحشود؟» «اهدئي قليلا ؛ أوشكنا أن نأتي إليه. في اليوم الثالث جاء شخص صغير يسير مبتهجا إلى القصر من دون خيل أو عربة، وكان ذا عينين لامعتين مثل عينيك. كان شعره جميلا وطويلا، لكن ملابسه كانت رثة للغاية.»
قالت جيردا مبتهجة: «ذلك كان كاي. أوه، إذن فقد وجدته!» وراحت تصفق.
أضاف الغراب: «كان يحمل حقيبة صغيرة على ظهره.»
فقالت جيردا: «لا، لا بد أنها كانت زلاجته، فقد رحل بها.»
قال الغراب: «ربما كانت هي، فلم أنظر إليها عن قرب. لكنني عرفت من وليفتي أنه مر من بوابات القصر، ورأى الحراس في زيهم الفضي والخدم في بزاتهم الرسمية الذهبية على الدرج، لكنه لم يشعر بأدنى قدر من الارتباك.
وقد قال: «لا بد أن الوقوف على الدرج متعب للغاية. أفضل الدخول.»
كانت القاعات متألقة بالأنوار، وكان المستشارون والسفراء يتجولون حفاة، حاملين أوعية ذهبية، وكان هذا كفيلا أن يجعل أي أحد يشعر بجدية الأمر. أما هو فكان حذاؤه يطقطق بصوت عال كلما سار، إلا أنه لم يشعر بالإحراج مطلقا.»
قالت جيردا: «لا بد أن هذا هو كاي؛ أعلم أنه كان يرتدي حذاء جديدا؛ فقد سمعته يطقطق في حجرة الجدة.»
قال الغراب: «كان يطقطق حقا، إلا أنه صعد بجسارة إلى الأميرة نفسها، التي كانت جالسة على لؤلؤة كبيرة بحجم عجلة الغزل. وكانت كل سيدات البلاط حاضرات ومعهن وصيفاتهن وكذلك كل الفرسان ومعهم خدمهم، وكان مع كل وصيفة وصيفة أخرى لخدمتها، وكان مع كل من خدم الفرسان خادم وكذلك غلام. وكانوا جميعا واقفين في دوائر حول الأميرة، وكلما اقتربوا من الباب بان عليهم التكبر. وكان غلمان الخدم، الذين دائما ما يرتدون الأخفاف، يصعب النظر إليهم، إذ كانوا يقفون في كبر شديد عند الباب.»
قالت جيردا الصغيرة: «لا بد أنه أمر فظيع للغاية، لكن هل فاز كاي بالأميرة؟»
أجابها: «لو لم أكن غرابا لكنت تزوجتها أنا نفسي، مع أنني مرتبط. لقد تحدث جيدا مثلي حين أتحدث بلغة الغربان. لقد سمعت هذا الرأي من وليفتي. على أي حال كان الصبي منطلقا ولطيفا وقال إنه لم يأت ليخطب ود الأميرة، وإنما لسماع حكمتها. وكان مسرورا برفقتها كما كانت هي مسرورة برفقته.»
قالت جيردا: «أوه، إنه كاي بلا شك، فقد كان ذكيا جدا؛ فكان يستطيع أن يحل المسائل الرياضية التي تحتوي على كسور ذهنيا. هلا أخذتني إلى القصر؟»
أجاب الغراب: «هذا أمر سهل جدا في طلبه لكن كيف السبيل لتدبره؟ لكنني سأتكلم مع وليفتي في الأمر وأطلب منها المشورة، فلا بد أن أصارحك بأنه سيكون من الصعب للغاية الحصول على إذن لدخول فتاة صغيرة مثلك القصر.»
قالت جيردا: «أوه، بالتأكيد، لكنني سأحصل على الإذن بسهولة، فحين يعرف كاي أنني هنا سيخرج ويأخذني إلى الداخل في الحال.»
قال الغراب، وهو يهز رأسه فيما يطير بعيدا: «انتظريني هنا عند السياج.»
لم يعد الغراب قبل ساعة متأخرة من المساء؛ وعندما وصل، قال: «قاق، قاق! إن وليفتي ترسل إليك تحياتها، وها هي قطعة خبز صغيرة أخذتها من المطبخ من أجلك. يوجد هناك الكثير من الخبز، فقد اعتقدت أنك لا بد أن تكوني جائعة. ليس من الممكن أن تدخلي القصر من المدخل الأمامي؛ فالحراس ذوو الزي الفضي والخدم ذوو البزات الرسمية الذهبية لن يسمحوا بذلك. لكن لا تبكي؛ فسوف نتدبر أمر دخولك. تعرف وليفتي سلما خلفيا صغيرا يؤدي إلى حجرات النوم، وتعلم مكان المفتاح.»
ثم ذهبا إلى الحديقة عن طريق الجادة الكبرى، حيث كانت أوراق الأشجار تتساقط الواحدة تلو الأخرى، واستطاعا أن يريا الأنوار في القصر وهي تطفأ على نفس النحو. تقدم الغراب جيردا الصغيرة إلى باب خلفي كان مواربا. أوه، كم كان قلبها يخفق قلقا واشتياقا؛ وبدا الأمر كأنها كانت ستقدم على فعل شيء خطأ، إلا أنها لم ترد سوى أن تعرف مكان كاي الصغير.
حدثت جيردا نفسها قائلة: «لا بد أنه هو، بعينيه الصافيتين وشعره الطويل.»
استطاعت أن تتخيله وهو يبتسم لها كما كان يفعل حين كانا في منزليهما بينما هما جالسان بين الورود. لا بد أنه سيسر برؤيتها، وبمعرفة المسافة الطويلة التي قطعتها من أجله ، ومدى أسف كل من في المنزل لعدم رجوعه. أوه، كم شعرت بفرحة وفي نفس الوقت خوف!
ارتقيا السلم، وكان في خزانة صغيرة أعلاه مصباح مشتعل. وقفت وليفة الغراب في وسط الطابق، وأخذت تتلفت حولها وتحدق إلى جيردا، التي انحنت احتراما لها كما علمتها جدتها.
قالت وليفة الغراب: «لقد أثنى خطيبي عليك أفضل الثناء يا سيدتي الصغيرة. إن قصتك مؤثرة جدا. فلتأخذي المصباح وسأسير أنا أمامك. سنأخذ هذا الطريق مباشرة، فلن يقابلنا أحد فيه.»
قالت جيردا: «أشعر كأن ثمة شخصا وراءنا»؛ إذ مر بها مسرعا شيء ما مثل ظل على الجدار؛ ثم تراءت لها خيول ذات شعور مسترسلة وقوائم رفيعة، وصيادون، وسيدات وسادة على صهوات خيل، تمرق سريعا مثل الأشباح.
قالت وليفة الغراب: «ما هي إلا أحلام؛ فهي تأتي لتحمل أفكار الأشخاص العظام بعيدا. وهذا أفضل، فما دامت أفكارهم قد خرجت هكذا، فسيتسنى لنا أن نراها وهم في الفراش بأمان أكثر. أتمنى أن يكون قلبك ممتنا لنا حين تصعدين إلى مراتب الشرف والحظوة.»
قال لها غراب الغابة: «لك أن تتأكدي من ذلك تماما.»
ثم دخلوا القاعة الأولى، التي كانت جدرانها مزينة بستائر حرير وردية اللون مطرزة بزهور صناعية. وهنا مرقت بجانبهم الأحلام مجددا، لكن سريعا جدا حتى إن جيردا لم تستطع أن تتبين الشخصيات العظيمة. وبدت كل قاعة أروع من التي سبقتها، وهو ما كان جديرا أن يصيب أي شخص بذهول. وبعد برهة بلغوا حجرة نوم. كان سقفها مثل قمة نخلة ضخمة، ذات أوراق زجاجية من أغلى أنواع البلور، وفي منتصف الحجرة علق سريران، يشبه كل منهما الزنبقة، على عمودين من ذهب. كان أحدهما أبيض، وكانت الأميرة تضطجع فيه، والآخر أحمر، وهو الذي كان على جيردا أن تبحث فيه عن كاي الصغير.
أزاحت إحدى الأوراق الحمراء فرأت ظهر رقبة بنية صغيرة. أوه، لا بد أنه كاي! نادت اسمه بصوت عال وحملت المصباح فوقه، فعادت الأحلام مندفعة في الغرفة على صهوة حصان. وحين استيقظ وأدار رأسه، وجدت أنه ليس كاي الصغير! كان الأمير يشبهه فحسب؛ لكنه كان شابا ووسيما. هنا أطلت الأميرة من فراشها الشبيه بالزنبقة البيضاء، وسألت ما الأمر. أجهشت جيردا الصغيرة بالبكاء وأخبرتها بالقصة، وكل ما فعله الغرابان ليساعداها.
قال الأمير والأميرة: «يا لك من طفلة مسكينة!» ثم أثنيا على الغرابين، وقالا إنهما ليسا غاضبين منهما لما فعلاه، وإنهما سيكافئانهما هذه المرة، لكن على ألا يكررا هذا ثانية.
ثم سألت الأميرة الغرابين: «هل تودان الحصول على حريتكما؟ أم تفضلان الترقية لمرتبة غربان البلاط، ليكون لكما حق الحصول على كل فوائض المطبخ؟»
انحنى الغرابان والتمسا أن يكون المنصب ثابتا؛ فقد تفكرا في كبر سنهما، وقالا إنه سيكون من المطمئن أن يشعرا أنهما قد تحسبا له.
ثم نزل الأمير عن فراشه وتركه لجيردا - وكان هذا أقصى ما يمكنه القيام به - فاستلقت فيه. ضمت جيردا يديها الصغيرتين معا وحدثت نفسها قائلة: «كم يحسن الجميع معاملتي، بشرا كانوا أم حيوانات!» ثم أغمضت عينيها وغطت في نوم هانئ. وجاءت إليها كل الأحلام مجددا، لكن في شكل ملائكة هذه المرة، يجر أحدها زلاجة صغيرة، كان يجلس عليها كاي الذي أخذ يومئ برأسه لها. لكن لم يكن كل هذا إلا حلما، إذ تبدد بمجرد أن استيقظت.
وفي اليوم التالي اكتست بالحرير والمخمل من رأسها لأخمص قدميها ودعيت لقضاء عدة أيام في القصر والترويح عن نفسها؛ لكنها لم تطلب سوى حذاء عالي الرقبة وعربة صغيرة وحصانا لجرها، حتى تتمكن من الخروج بحثا عن كاي في العالم الفسيح.
لكنها لم تحصل على حذاء عالي الرقبة فحسب وإنما على غطاء من الفراء لتدفئة اليدين أيضا، وأصبحت في غاية الأناقة؛ وحين صارت مستعدة للذهاب، وجدت عند الباب عربة من الذهب الخالص وقد وضع عليها شعار نبالة الأمير والأميرة براقا كأحد النجوم، وكان السائق والخادم والمرافقون جميعا يرتدون تيجانا ذهبية على رءوسهم. وساعدها الأمير والأميرة نفسهما على ركوب العربة وتمنيا لها التوفيق.
رافقها غراب الغابة، الذي صار متزوجا الآن، طوال الأميال الثلاثة الأولى؛ وقد جلس إلى جانب جيردا؛ إذ إنه لا يطيق الركوب وظهره لمقدمة العربة. أما زوجته، فوقفت عند عتبة الباب ترفرف بجناحيها، فلم تستطع الذهاب معهما لأنها صارت تعاني من صداع منذ توليها المنصب الجديد؛ من الإفراط في الأكل بلا شك. كانت العربة معبأة بكمية كافية من الكعك، وكان يوجد أسفل المقعد فاكهة وبسكويت الزنجبيل.
هتف الأمير والأميرة: «الوداع، الوداع»، وبكت جيردا الصغيرة، وبكى الغراب، وبعد بضعة أميال ودعها الغراب كذلك، فكان هذا الفراق أشد حزنا. لكنه طار إلى شجرة ووقف عليها يخفق بجناحيه الأسودين حتى غابت عن ناظريه العربة التي كانت ساطعة مثل شعاع الشمس.
القصة الخامسة
اللصة الصغيرة
مضت العربة وسط غابة كثيفة، حيث أضاءت الطريق مثل شعلة نار، وأبهرت عيون بعض اللصوص، الذين أبوا أن يتركوها تمر دون أن يتعرضوا لها.
قال اللصوص وهم يتقدمون مسرعين باتجاهها ويمسكون بالخيل: «إنها من الذهب! إنها من الذهب!» ثم وجهوا ضربات قاتلة إلى المرافقين الصغار والسائق والخادم، وجذبوا جيردا الصغيرة إلى خارج العربة.
قالت اللصة العجوز، التي كانت لها لحية طويلة، وحاجبان متدليان فوق عينيها: «إنها سمينة وجميلة، فقد كانت تتغذى على المكسرات. إنها مثل حمل مسمن؛ كم سيكون مذاقها شهيا!» وبينما كانت تقول هذا أخرجت سكينا لامعة، ذات وميض مرعب. ثم صرخت السيدة العجوز من الألم في اللحظة نفسها، إذ كانت ابنتها، التي كانت متعلقة بظهرها، قد عضتها في أذنها، فقالت الأم: «أيتها الفتاة الشقية»، وبهذا انشغلت عن قتل جيردا.
قالت اللصة الصغيرة: «إنها ستلعب معي، وستعطيني غطاء يديها المصنوع من الفراء وثوبها الجميل، وستنام معي في فراشي.» ثم عضت أمها مرة أخرى، فضج اللصوص كلهم بالضحك.
قالت اللصة الصغيرة: «سأذهب في جولة بالعربة»، وكان لها ما أرادت؛ إذ كانت مدللة وعنيدة.
جلست هي وجيردا في العربة وانطلقتا فوق أرومات الأشجار والأحجار، متوغلتين في الغابة. كانت اللصة الصغيرة في حجم نفسه جيردا تقريبا، لكنها كانت أقوى؛ كان منكباها أعرض وبشرتها أدكن؛ وكانت عيناها حالكة السواد، تلوح فيهما نظرة حزينة. وقد أمسكت جيردا الصغيرة من خصرها وقالت لها: «لن يقدموا على قتلك ما دمت لا تضايقينني. أعتقد أنك أميرة.»
قالت جيردا: «لا»؛ ثم قصت عليها حكايتها كلها وكم كانت تحب كاي الصغير.
رمقتها اللصة الصغيرة بنظرة جادة، ثم هزت رأسها قليلا وقالت: «لن يكونوا هم من يقتلونك إن غضبت منك؛ فسأفعل هذا بنفسي.» ثم جففت دموع جيردا ووضعت يديها في الفراء الجميل، الذي كان في غاية النعومة والدفء.
توقفت العربة عند فناء قلعة أحد اللصوص، التي كانت جدرانها مليئة بالشقوق من أسفلها لأعلاها. وكانت الغربان تدخل من الثقوب والشروخ وتخرج منها، فيما كانت تتقافز كلاب ضخمة من فصيلة البولدوج، التي بدا كل واحد منها قادرا على ابتلاع إنسان؛ إلا أنها لم يسمح لها بالنباح.
في القاعة الكبيرة القديمة المعبأة بالدخان أشعلت نار متوقدة على الأرض الحجرية. ولما لم يكن هناك مدخنة فقد تصاعد الدخان إلى السقف ووجد لنفسه مخرجا. وكان الحساء يغلي في مرجل كبير، وأرانب أليفة وبرية تشوى على السيخ.
قالت اللصة الصغيرة بعد أن تناولت هي وجيردا شيئا من الطعام والشراب: «سوف تنامين معي أنا وكل حيواناتي الصغيرة الليلة.» وأخذت جيردا الصغيرة لزاوية في القاعة فرشت ببعض القش والأبسطة. وكان فوقهما على قضبان وعصي أكثر من مائة حمامة بدت كلها نائمة، لكنها تحركت قليلا حين اقتربت منها الفتاتان الصغيرتان. قالت اللصة الصغيرة: «إنها كلها ملكي»، وأمسكت بأقربها إليها، وحملتها من ساقيها، وراحت تهزها حتى خفقت بجناحيها. ثم صاحت وهي تدفعها إلى وجه جيردا: «قبليها.»
ثم استأنفت كلامها وقالت وهي تشير إلى عدد من القضبان المثبتة في الجدران، بالقرب من إحدى الفتحات: «هنا تجلس حمامتا الغابة. ستطير الشقيتان مباشرة إن لم تحبسا جيدا. وها هو حبيبي العجوز «با».» وجرت إليها حيوان رنة مقيد من قرنه كان يوجد حول عنقه حلقة نحاسية لامعة. ثم أضافت: «نضطر إلى ربطه بإحكام شديد وإلا هرب منا هو الآخر. إنني أداعب رقبته كل مساء بسكيني الحادة وهو ما يخيفه خوفا شديدا.» واستلت اللصة سكينا طويلة من صدع في الجدار، ومرت به برفق على رقبة الرنة، فأخذ الحيوان المسكين يرفس، وضحكت اللصة الصغيرة وشدت جيردا لتنزل معها إلى الفراش.
سألتها جيردا وهي تنظر إلى السكين في خوف بالغ: «هل ستحتفظين بتلك السكين أثناء النوم؟»
أجابت اللصة الصغيرة: «دائما ما أنام والسكين بجانبي. لا أحد يعلم ما قد يحدث. لكن احكي لي الآن مرة أخرى كل شيء عن كاي الصغير، ولماذا خرجت تبحثين عنه في العالم الفسيح.»
أعادت جيردا عليها قصتها مرة أخرى، بينما كانت الحمامتان البريتان اللتان في القفص فوقهما تهدلان، والحمام الآخر نائما. بسطت اللصة الصغيرة إحدى ذراعيها على رقبة جيردا، وحملت في الذراع الأخرى السكين، وسرعان ما غطت في سبات عميق مطلقة شخيرا عاليا. لكن لم تستطع جيردا أن تغمض عينيها على الإطلاق؛ فلم تكن تدري ما إذا كانت ستحيا أم ستموت. جلس اللصوص حول النار يغنون ويحتسون الشراب. لقد كان مشهدا فظيعا بالنسبة لفتاة صغيرة مثلها.
ثم قالت حمامتا الغابة: «كوكو، لقد رأينا كاي الصغير. كان طائر أبيض يحمل زلاجته وكان هو جالسا في عربة ملكة الثلج التي مضت في الغابة بينما نحن كنا راقدين في عشنا. وقد نفخت فينا، فمات كل الصغار، ما عدا نحن الاثنين. كوكو.»
صاحت جيردا: «ماذا تقولان؟ إلى أين كانت ملكة الثلج ذاهبة؟ هل تعلمان أي شيء عن الأمر؟» «في الغالب كانت مسافرة إلى منطقة لابلاند، حيث هناك ثلوج وجليد دائما. فلتسألي حيوان الرنة المربوط بحبل هناك.»
قال حيوان الرنة: «أجل، يوجد هناك دائما ثلوج وجليد، وإنه مكان رائع؛ إذ يمكن القفز والركض بحرية في أنحاء السهول الجليدية اللامعة. ولدى ملكة الثلج خيمة صيفية هناك، لكن قلعتها المنيعة موجودة في القطب الشمالي، في جزيرة تسمى سبيتزبيرجين.»
تنهدت جيردا وقالت: «يا عزيزي كاي، كاي الصغير!»
قالت اللصة الصغيرة: «لا تتحركي وإلا جرحتك بسكيني.»
في الصباح أخبرتها جيردا بكل ما قالته لها الحمامتان البريتان، فبدا على اللصة الصغيرة اهتمام كبير، وهزت رأسها وقالت: «هذا كله كلام، هذا كله كلام.» ثم سألت حيوان الرنة: «هل تعلم أين لابلاند؟»
قال حيوان الرنة وقد لمعت عيناه: «ومن عساه يعلم أفضل مني؟ فقد ولدت وترعرعت هناك، واعتادت الركض وسط السهول المغطاة بالثلوج.»
قالت اللصة الصغيرة: «فلتنصتي لي، لقد رحل كل رجالنا؛ أمي وحدها هنا وستظل هنا، لكنها دائما ما تحتسي شرابا من زجاجة كبيرة عند الظهيرة، ثم تنام قليلا بعد ذلك؛ عندئذ سأفعل شيئا من أجلك.» وقفزت من الفراش، وتعلقت برقبة أمها، وشدت لحيتها، وهي تصيح: «صباح الخير يا نعجتي الصغيرة!» فقرصتها أمها في أنفها حتى احمر بشدة؛ إلا أنها فعلت هذا كله حبا لها.
حين خلدت الأم للنوم ذهبت اللصة الصغيرة إلى حيوان الرنة وقالت: «أود كثيرا أن أداعب رقبتك بسكيني عدة مرات أخرى، فهذا يجعلك تبدو مضحكا للغاية، لكن لا بأس؛ سوف أحل حبلك وأطلق سراحك، حتى تستطيع الذهاب إلى لابلاند؛ لكن لا بد أن تسدي لي معروفا وتحمل هذه الفتاة الصغيرة إلى قلعة ملكة الثلج، حيث رفيقها في اللهو. لقد سمعت ما قالته لي، فقد تحدثت بصوت عال بينما كنت أنت منصتا.»
قفز حيوان الرنة من الفرحة، ووضعت اللصة الصغيرة جيردا على ظهره وكانت حكيمة بحيث ربطتها عليه، بل أعطتها وسادتها الصغيرة لتجلس عليها.
قالت اللصة الصغيرة: «إليك حذاءك العالي الرقبة المصنوع من الفراء، فسوف يكون الجو باردا جدا؛ لكنني يجب أن أحتفظ بغطاء اليدين، فهو جميل جدا. إنك لن تتجمدي من دونه؛ فها هو قفاز أمي الدافئ الكبير والذي سوف يصل إلى مرفقيك. دعيني ألبسك إياه. الآن تبدو يداك مثل يدي أمي.»
لكن جيردا بكت من الفرحة.
قالت لها اللصة الصغيرة: «أنا لا أحب أن أراك حزينة. لا بد أن تشعري الآن بالسعادة. وإليك شريحتي خبز وقطعة لحم، حتى لا تتضوري جوعا.»
ربطت هذه الأشياء على ظهر حيوان الرنة، ثم فتحت اللصة الصغيرة الباب، وحايلت الكلاب الضخمة حتى تدخل، وقطعت الحبل الذي كان حيوان الرنة مربوطا به بسكينها الحادة، وقالت: «فلتنطلق الآن، لكن اعتني جيدا بالفتاة الصغيرة.» مدت جيردا إلى اللصة الصغيرة يدها التي وضعتها في القفاز الكبير وقالت : «الوداع»، وانطلق حيوان الرنة فوق أرومات الأشجار والأحجار، عبر الغابة المترامية، وفوق المستنقعات والسهول، بأسرع ما استطاع. عوت الذئاب ونعقت الغربان، فيما ارتعشت عاليا في السماء أضواء حمراء تشبه ألسنة اللهب والتي قال عنها حيوان الرنة: «إنها أنوار الشفق القطبي، انظري كيف تومض!» وظل يركض ليلا ونهارا أسرع فأسرع، لكن حين بلغا لابلاند، كان الخبز واللحم قد نفدا.
القصة السادسة
السيدة اللابلاندية والسيدة الفنلندية
توقف الاثنان عند كوخ صغير بدا مزريا جدا. كان الكوخ ذا سقف مائل يكاد يلامس الأرض، وباب شديد الانخفاض حتى إنه كان على سكانه الزحف على أيديهم وركبهم عند الدخول والخروج. لم يكن أحد هناك سوى سيدة عجوز من أهل لابلاند كانت تنظف سمكا على ضوء مصباح يعمل بزيت الحيتان.
أخبر حيوان الرنة السيدة بقصة جيردا بعد أن قص عليها قصته التي بدت له أهم. أما جيردا فقد أنهكها البرد للغاية حتى إنها لم تقو على الكلام.
قالت السيدة اللابلاندية: «أوه، يا لكما من مسكينين! ما زال أمامكما طريق طويل. ولا بد أن تسافرا أكثر من مائة ميل أخرى حتى تصلا إلى فنلندا؛ فملكة الثلج تعيش هناك الآن، وتشعل ألعابا نارية زرقاء كل مساء. سأكتب بضع كلمات على سمكة مجففة، فليس لدي ورق، ولتأخذها مني إلى السيدة الفنلندية التي تعيش هناك، وهي تستطيع أن تعطيك معلومات أفضل مما أستطيع أنا.»
هكذا بعد أن تدفأت جيردا وحصلت على بعض الطعام والشراب، كتبت السيدة كلمات قليلة على سمكة مجففة وطلبت من جيردا الاهتمام بها بشدة. ثم ربطتها على ظهر حيوان الرنة مجددا، فقفز عاليا في الهواء وانطلق بأقصى سرعة. وظلت أنوار الشفق القطبي الزرقاء الجميلة تلمع طوال الليل.
وبعد فترة قصيرة، وصلا إلى فنلندا وطرقا مدخنة كوخ السيدة الفنلندية، إذ لم يكن له باب. ثم زحفا للداخل الذي كان شديد الحرارة حتى إن السيدة كانت ترتدي ملابس قليلة جدا. وكانت ضئيلة الجسم وقذرة للغاية. وقد فكت ثوب جيردا الصغيرة وخلعت عنها حذاءها المصنوع من الفراء وقفازها، وإلا ما كانت ستقوى على احتمال الحرارة؛ ثم وضعت قطعة ثلج على رأس حيوان الرنة وقرأت ما كان مكتوبا على السمكة المجففة. وبعد أن قرأته ثلاث مرات حفظته عن ظهر قلب، وألقت السمكة في إناء الحساء، فقد كانت تعلم أنها صالحة للأكل وهي لا تهدر أي شيء قط.
أخبرها حيوان الرنة بقصته أولا، ثم بقصة جيردا الصغيرة، فطرفت السيدة الفنلندية بعينيها الذكيتين، لكنها لم تنبس بكلمة.
قال حيوان الرنة: «إنك ماهرة جدا. أعلم أنك تستطيعين طي كل الرياح التي في العالم في قطعة من الحبل. وإذا حل البحار عقدة واحدة، حظي برياح مواتية؛ وإذا حل العقدة الثانية، هبت رياح عاتية؛ لكن حين يحل الثالثة والرابعة، تهب عاصفة تقتلع غابات بأكملها. ألا تستطيعين منح هذه الفتاة الصغيرة شيئا يجعلها في قوة اثني عشر رجلا، حتى تتغلب على ملكة الثلج؟»
قالت السيدة الفنلندية: «قوة اثني عشر رجلا! إنها لن تكفي على الإطلاق.» لكنها ذهبت إلى رف وأنزلت لفافة كبيرة من الجلد نقش عليها حروف غريبة، وتركتها تنسدل وظلت تقرؤها حتى سال العرق من جبينها.
لكن حيوان الرنة توسل إليها بشدة من أجل جيردا الصغيرة، ونظرت إليها جيردا بعينين رقيقتين مليئتين بالدموع حتى إن عينيها بدأت تطرف مرة أخرى. ثم أخذت حيوان الرنة إلى زاوية وهمست له وهي تضع على رأسه قطعة ثلج جديدة: «إن كاي الصغير مع ملكة الثلج بالفعل، لكن كل ما هناك يروق له جدا حتى إنه يعتقد أنه أفضل مكان في العالم؛ وهذا لأن لديه قطعة زجاج مكسور في قلبه وشظية زجاج صغيرة في عينه. لذا، لا بد من إخراجهما، وإلا فلن يعود إنسانا مرة أخرى، وستظل ملكة الثلج متحكمة فيه.» «لكن ألا يمكنك إعطاء جيردا الصغيرة شيئا للتغلب على هذه القوة؟»
قالت السيدة: «لا يمكنني أن أمنحها قوة أكبر من التي لديها بالفعل، ألا ترى كم هي قوية، وكيف يجبر البشر والحيوانات على خدمتها، وكيف مضت في العالم الفسيح دون أن يمسها سوء، كل هذا وهي حافية القدمين؟ لا يمكنني أن أمنحها أي قوة أعظم من التي لديها الآن، والتي تكمن في نقاء قلبها وبراءته. إن لم تستطع بنفسها الوصول إلى ملكة الثلج وإزالة شظيتي الزجاج من كاي الصغير، فليس بإمكاننا أن نساعدها. تبدأ حديقة ملكة الثلج بعد ميلين من هنا. فلتحمل الفتاة الصغيرة إلى هناك، ثم أنزلها عند الشجيرة الكبيرة القائمة في الثلج، والمغطاة بالتوت الأحمر. لا تبق هناك لتثرثر، ولكن عد إلى هنا بأسرع ما تستطيع.» ثم رفعت السيدة الفنلندية جيردا الصغيرة على ظهر حيوان الرنة، وجرى بها بأسرع ما أوتي من قوة.
لكن بمجرد أن شعرت الفتاة الصغيرة بالبرد القارس صاحت: «مهلا، لقد نسيت حذائي وقفازي.» لكن حيوان الرنة لم يجرؤ على التوقف، وظل يجري حتى بلغ شجيرة التوت الأحمر. هناك أنزل جيردا، وقبلها، وانحدرت على خديه دموع لامعة فياضة؛ ثم تركها وجرى عائدا بأسرع ما استطاع.
وقفت جيردا المسكينة هناك، بلا حذاء ولا قفاز، في وسط أرض فنلندا الباردة الكئيبة المليئة بالثلوج. ركضت جيردا بأسرع ما استطاعت حين أحاطت بها مجموعة كاملة من ندف الثلج. لكن لم يبد أنها سقطت من السماء، إذ كانت صافية تماما وتومض فيها أنوار الشفق القطبي. ركضت ندف الثلج بطول الأرض، وكلما اقتربت منها بدت أكبر حجما. تذكرت جيردا كم كانت تبدو كبيرة وجميلة من خلال العدسة الحارقة. لكن هذه كانت أكبر حجما حقا وأفظع بكثير، فقد كانت حرس ملكة الثلج، وكانت حية وبأشكال غريبة للغاية. كان بعضها يبدو مثل قنافذ ضخمة، والبعض الآخر مثل حيات تتلوى برءوس ممدودة، وبدا القليل منها مثل دببة سمينة صغيرة ذات شعر منتصب؛ لكن كلها كانت بيضاء بياضا ناصعا، وكلها كانت ندف ثلج حية.
راحت جيردا تردد «الصلاة الربانية»، وكان البرد شديدا حتى إنها استطاعت أن ترى أنفاسها تخرج من فمها مثل البخار، وهي تنطق الكلمات. وبدا أن البخار تزايد مع استمرارها في الصلاة حتى اتخذ شكل ملائكة صغيرة، والتي زاد حجمها حين لمست الأرض. كانت كلها تعتمر خوذا وتحمل رماحا ودروعا، وقد ظل عددها يزداد أكثر فأكثر، حتى صارت حشدا كاملا أحاط بجيردا حين انتهت من صلاتها. وحين رشقت ندف الثلج المرعبة برماحها تحطمت مائة قطعة، فاستطاعت جيردا الصغيرة أن تمضي بشجاعة وطمأنينة. وراحت الملائكة تمسد على يديها وقدميها، حتى تمنحها شعورا بالدفء وهي تمضي مسرعة إلى قلعة ملكة الثلج.
لكن الآن لا بد أن نرى ماذا كان يفعل كاي. في الحقيقة، لم تكن جيردا الصغيرة تشغل باله، وآخر ما كان قد يخطر له أنها قد تكون واقفة أمام القصر.
القصة السابعة
قصر ملكة الثلج وما وقع فيه في النهاية
كانت جدران القصر مصنوعة من ثلوج منجرفة، ونوافذه وأبوابه من رياح عاتية. وكان بداخله أكثر من مائة حجرة، كأنها تشكلت من ثلوج ذرتها الرياح معا. وامتد أكبرها لعدة أميال. وكانت كلها مضاءة بنور الشفق القطبي المتألق، وكانت واسعة وخالية للغاية، وفي غاية البرودة واللمعان!
لكن لم يكن هناك أي أشكال من التسلية؛ ولا حتى حفل راقص للدببة الصغيرة، حيث يمكن أن يكون صوت الرياح هو الموسيقى، وترقص الدببة على قوائمها الخلفية وتستعرض أسلوبها الراقي في الرقص. ولم يكن هناك ألعاب مسلية ولا حتى جلسة نميمة على طاولة الشاي لإناث الثعالب الشابة. لقد كانت قاعات ملكة الثلج خالية وشاسعة وباردة.
كان يمكن رؤية وهج أنوار الشفق القطبي الخافق بوضوح من أي مكان في القلعة، سواء ارتفعت عاليا أو انخفضت في السماء. وكان في وسط هذه القاعة الخالية اللامتناهية من الثلوج بحيرة متجمدة، انقسم سطحها إلى ألف قطعة؛ كل قطعة تماثل الأخرى حتى إنها كانت تبدو مثل عمل فني رائع، وفي وسط هذه البحيرة كانت تجلس ملكة الثلج حين تكون في المنزل. وكانت تسمي البحيرة «مرآة العقل»، وتقول إنها الأفضل، وفريدة من نوعها بالطبع، في العالم.
كان كاي الصغير مزرقا تماما من البرد - في واقع الأمر، يميل للسواد - لكنه لم يكن يشعر بذلك؛ فقد قبلته ملكة الثلج لتذهب عنه رجفة البرد، وكان قلبه بالفعل كتلة جليد. كان يجر بعض القطع الحادة المستوية من الثلج من مكان لآخر ويضعها معا في أوضاع شتى، كأنه يريد أن يشكل منها شيئا ما، تماما كما نحاول تكوين أشكال متنوعة من قطع الخشب الصغيرة، التي نسميها «الأحجية الصينية». كانت أشكال كاي معقدة للغاية؛ فقد كانت هي لعبة العقل المعتمدة على الثلج، وكانت الأشكال تبدو في عينيه مميزة جدا وذات أهمية كبرى؛ وهو الرأي الذي يرجع لشظية الزجاج التي ما زالت عالقة في عينه. كون كاي أشكالا كاملة عدة، تشكل كلمات مختلفة، لكن كان ثمة كلمة لم يستطع أن يشكلها قط، رغم أنه تمنى ذلك بشدة. كانت الكلمة هي «الأبدية».
كانت ملكة الثلج قد قالت له: «حين تستطيع معرفة السبيل لذلك، فستصبح سيد نفسك، وسأمنحك العالم بأسره وحذاء تزلج جديدا.» لكنه لم يتمكن من إتمام هذا الأمر.
قالت ملكة الثلج: «لا بد أن أسرع الآن بالرحيل إلى بلاد أدفأ جوا. سوف أذهب وألقي نظرة داخل الفوهات السوداء التي على قمم الجبلين المشتعلين، اللذين يسميان إتنا وفيزوف. سوف أكسوهما باللون الأبيض، وهو ما سيكون أفضل لهما ولثمار الليمون وعناقيد العنب.» وطارت ملكة الثلج بعيدا، تاركة كاي الصغير وحيدا تماما في القاعة الكبرى التي بلغ طولها أميالا عديدة. جلس كاي وطالع قطع الثلج التي كان يلعب بها، فاستغرق في تفكير عميق وهو جالس بلا حراك حتى إنه ليخيل للشخص أنه كان متجمدا.
في هذه اللحظة نفسها دخلت جيردا الصغيرة من الباب الكبير للقلعة. كانت الرياح العاتية تعصف حولها، لكنها تلت صلاة تضرعا للرب، فهدأت الرياح وكأنها كانت ذاهبة للنوم. مضت جيردا حتى وصلت إلى القاعة الكبيرة الخاوية ولمحت كاي. وقد عرفته في الحال؛ فانطلقت إليه وأحاطت عنقه بذراعيها وتشبثت به وهي تصيح: «كاي، عزيزي كاي الصغير، لقد وجدتك أخيرا!»
لكنه كان جالسا في سكون تام، متسمرا وباردا.
سكبت جيردا الصغيرة دموعا حارة، سقطت على صدره، وتخللت إلى قلبه فأذابت كتلة الثلج، وأزاحت قطعة الزجاج الصغيرة التي كانت عالقة فيه. عندئذ نظر إليها، فغنت له:
تتفتح الزهور ثم تذوي،
لكن المسيح الطفل دائما سيبقى.
انفجر كاي في البكاء. بكى بشدة حتى انزلقت شظية الزجاج من عينه. هنا تعرف على جيردا وقال في فرح: «جيردا، عزيزتي جيردا الصغيرة، أين كنت طوال هذا الوقت، وأين كنت أنا؟» ثم نظر في كل ما حوله وقال: «كم كان الجو باردا، وكم يبدو المكان واسعا وخاليا!» ثم ضم جيردا، وضحكت هي وبكت من الفرحة.
كان منظرهما يثير في النفس أشد البهجة حتى إن قطع الثلج نفسها راحت ترقص، وحين اعتراها التعب واستلقت على الأرض شكلت من نفسها حروف الكلمة التي قالت ملكة الثلج إن على كاي أن يكتشفها حتى يستطيع أن يصبح سيد نفسه ويحصل على العالم بأسره وحذاء تزلج جديد.
قبلت جيردا وجنتيه فصارتا متوردتين؛ وقبلت عينيه حتى صارتا لامعتين مثل عينيها؛ وقبلت يديه وقدميه، فصار معافى تماما ومبتهجا. ولتعود ملكة الثلج إلى المنزل متى أرادت، فها هي وثيقة الحرية خاصته ماثلة أمامه، ممثلة في الكلمة التي أرادتها، ومكتوبة بحروف براقة من الثلج.
ثم أخذ كل منهما يد الآخر وخرجا من قصر الثلج العملاق. وتحدثا عن الجدة والورود التي على السطح، وأثناء سيرهما كانت الرياح هادئة، والشمس ساطعة. وحين بلغا شجيرة التوت الأحمر، كان حيوان الرنة واقفا في انتظارهما هناك وقد أتى معه بأنثى رنة شابة، ممتلئة الضرع، فشرب الصغيران من حليبها الدافئ وقبلا فمها.
حمل الاثنان كاي وجيردا إلى السيدة الفنلندية أولا، حيث تدفآ تماما في الحجرة الحارة وحصلا على إرشادات حول رحلتهما إلى الوطن. بعد ذلك ذهبا إلى السيدة اللابلاندية، التي كانت قد فصلت لهما ملابس جديدة وجهزت زلاجتهما. ركض حيوانا الرنة إلى جانبهما واتبعاهما حتى حدود البلد، حيث كانت أول الأوراق الخضراء قد بزغت من براعمها. وهنا افترقا عن حيواني الرنة والسيدة اللابلاندية، وودع كل منهما الآخر.
ثم بدأت العصافير تزقزق، وامتلأت الغابة أيضا بأوراق خضراء نضرة، ومنها خرج حصان جميل، تذكرته جيردا، فهو الذي كان يجر العربة الذهبية. كانت تمتطيه فتاة صغيرة، على رأسها قبعة حمراء لامعة وفي حزام ثوبها مسدسات. كانت هي اللصة الصغيرة ، التي سئمت من البقاء في المنزل؛ كانت متجهة شمالا، وتنوي إن لم يناسبها هذا أن تجرب أي منطقة أخرى في العالم. وقد تعرفت على جيردا في الحال، وتذكرتها جيردا، وكان اللقاء سارا.
قالت لكاي الصغير: «إنك شخص رائع بحيث تهيم على وجهك على هذا النحو. أود أن أعلم ما إن كنت تستحق أن يذهب أي أحد إلى نهاية العالم حتى يعثر عليك.»
لكن جيردا ربتت على وجنتيها وسألتها عن الأمير والأميرة.
أجابتها اللصة الصغيرة: «لقد ذهبا إلى بلاد أجنبية.»
سألتها جيردا: «والغراب؟»
أجابتها: «أوه، لقد مات الغراب. وصارت زوجته أرملة الآن وترتدي حول رجلها قطعة من صوف أسود. إنها تنتحب بطريقة مثيرة للشفقة جدا، لكن هذا لا يهم. فلتخبريني الآن كيف استطعت أن تعودي به.»
أخبرتها جيردا وكاي بكل ما جرى.
قالت اللصة الصغيرة: «أخيرا صارت الأمور على ما يرام.»
ثم أمسكت بيديهما ووعدتهما أن تزورهما إن مرت بالبلدة في يوم من الأيام. ثم انطلقت على الحصان بعيدا في العالم الواسع.
أما جيردا وكاي فقد اتجها لدارهما يد كل منهما في يد الآخر، وبينما هما يتقدمان بدا الربيع أكثر بهاء بزرعه الأخضر وزهوره الجميلة. وما لبثا أن تعرفا على البلدة الكبيرة التي عاشا فيها، والأبراج الطويلة للكنائس التي كانت أجراسها الجميلة تردد دويا مبهجا، وهما يدخلانها ويجدان طريقهما إلى باب جدتهما.
صعد الاثنان إلى الحجرة الصغيرة، حيث بدا كل شيء كما كان تماما. كانت الساعة القديمة تدق «تك، تك»، وتشير عقاربها إلى الوقت، لكن حين ولجا من الباب إلى الحجرة أدرك الاثنان أنهما كبرا وصارا رجلا وامرأة. كانت الورود بالخارج على السطح متفتحة بالكامل وتطل من النافذة، وكان هناك المقاعد الصغيرة التي جلسوا عليها صغارا. جلس كل من كاي وجيردا على مقعده وأمسك بيد الآخر، فيما تلاشى من ذاكراتهما قصر ملكة الثلج بفخامته وبرودته وخوائه مثل حلم مزعج.
جلست الجدة تحت أشعة شمس الرب الساطعة، وراحت تتلو بصوت عال من الكتاب المقدس قائلة: «إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال فلن تدخلوا ملكوت السموات.» فنظر كل من كاي وجيردا في عيني بعضهما وأدركا في الحال كلمات الأغنية القديمة:
تتفتح الزهور ثم تذوي،
لكن المسيح الطفل دائما سيبقى.
وهكذا جلس الاثنان هناك وقد صارا شابين، لكن كان قلب كل منهما قلب طفل، وكان الوقت صيفا؛ صيفا دافئا جميلا.
الورود والعصافير
كان يبدو حقا أن شيئا هاما جدا يجري بالقرب من بحيرة البط، لكن لم يكن الأمر كذلك.
قبل هذا بدقائق قليلة، كان كل البط ساكنا في الماء أو واقفا على رأسه - فهو يستطيع أن يفعل ذلك - ثم سبح كله في صخب إلى الشاطئ. كان يمكن رؤية آثار أقدامه على الأرض المبتلة، وسماع صياحه من بعد. أما المياه التي كانت منذ وقت قصير صافية ولامعة كالمرآة فقد صارت في اضطراب شديد.
قبل ذلك بلحظة، كانت كل شجرة وشجيرة بالقرب من الكوخ القديم، بل البيت نفسه بالفجوات التي في سطحه وأعشاش السنونو، والأهم من ذلك كله، الشجيرة الجميلة المغطاة بالورود، كل ذلك كان منعكسا بوضوح في صفحة المياه. غطت شجيرة الورد الجدار وتدلت غصونها فوق المياه، التي كانت مثل اللوحة باستثناء أن كل شيء بدا فيها مقلوبا، لكن حين تحركت المياه اختفى كل شيء، وتلاشت اللوحة.
طفت على سطح الماء ريشتان سقطتا من البط المرفرف، فراحتا تتحركان جيئة وذهابا. وفجأة تحركتا سريعا كأن الرياح أوشكت أن تهب، لكنها لم تهب، فاضطرتا إلى الرقود دون حركة، إذ صارت المياه هادئة وساكنة مرة أخرى، واستطاعت الورود أن ترى صور انعكاسها مرة أخرى. كانت الورود جميلة للغاية، لكنها لم تكن تدرك ذلك، إذ لم يخبرها أحد. سطع ضوء الشمس بين الأوراق الرقيقة، وانتشر الأريج الطيب، حاملا السعادة إلى كل مكان.
قالت إحدى الورود: «كم هي جميلة حياتنا! أشعر برغبة في تقبيل الشمس، فهي ساطعة ودافئة جدا. أود أن أقبل الورود كذلك، وصورنا المعكوسة على المياه، والطيور الجميلة التي هناك في عشها. يوجد طيور أيضا في العش الذي فوقنا؛ إنها تمد رءوسها وتصيح: «صوصو، صوصو» بصوت خافت جدا ، إذ لم ينبت لها ريش بعد مثل الذي لدى أبيها وأمها. يسكن أعلانا وأسفلنا جيران طيبون. كم هي طيبة حياتنا!»
الطيور الصغيرة الموجودة فوق الورود وتلك الموجودة تحتها كانت من النوع نفسه؛ فقد كانت عصافير دورية انعكست صورة عشها في المياه. كان والداهما من العصافير أيضا، وقد استحوذا على عش خال لأحد طيور السنونو من العام الماضي، وسكنا فيه كأنه عشهما.
تساءلت العصافير الصغيرة حين لمحت الريشتين في المياه: «هل هذان اللذان يسبحان هناك من أفراخ البط؟»
قالت الأم: «إذا كان لا بد أن تسألوا سؤالا، فأرجو أن يكون منطقيا. ألا تستطيعون أن تروا أن هذا ريش؛ المادة الخام للملابس التي أرتديها والتي سوف ترتدونها قريبا، مع الفرق أن ريشنا أرفع كثيرا؟ إلا أنني أود أن أحصل عليهما هنا في العش، فسوف تجعلانه دافئا جدا. يخالجني بعض الفضول لمعرفة السبب الذي جعل البط مذعورا منذ قليل. لا يمكن أن يكون خائفا منا بالطبع، وإن كنت قد زقزقت بصوت عال بعض الشيء. حري بالورود البليدة أن تعلم بالتأكيد، لكنها جاهلة للغاية؛ فهي لا تفعل شيئا سوى النظر إلى بعضها البعض والشم. لقد سئمت بشدة من هؤلاء الجيران.»
قالت الورود: «أنصتوا إلى الطيور الصغيرة الجميلة فوقنا وهي تحاول الغناء. إنها لا تستطيع هذا بعد، لكنها ستستطيع في الوقت المناسب. كم سيكون هذا مبهجا، وكم هو لطيف أن يكون لدينا جيران بهذا النشاط!»
جاء فجأة حصانان يتبختران ليشربا من الماء. كان صبي قروي يمتطي صهوة أحدهما؛ وكان يرتدي قبعة سوداء عريضة الحافة، لكنه تجرد من أغلب ملابسه، حتى يتمكن من التوغل بالحصانين في أعمق جزء من البحيرة؛ وكان يصفر مثل طائر، وأثناء مروره بشجيرة الورد قطف وردة ووضعها في قبعته ثم مضى معتقدا أنه يبدو أنيقا للغاية. تطلعت الورود الأخرى إلى أختها وسألت كل منها الأخرى أين يمكن أن تذهب، لكنها لم تعلم.
قالت إحداها: «أود أن أخرج إلى العالم ولو مرة واحدة، رغم أن الحياة هنا جميلة جدا في منزلنا المكون من الأوراق الخضراء. الشمس تسطع دافئة نهارا، وفي الليل نستطيع أن نرى السماء وقد زادت بهاء، وهي تلمع من خلال الثقوب المنتشرة فيها.»
كانت تقصد النجوم فهذا كان قدر معرفتها.
قالت العصفورة الأم: «إننا نجعل هذا المنزل نشيطا جدا، ويقول الناس إن عش السنونو يجلب الحظ الحسن، لذلك فهم يسرون لرؤيتنا؛ لكن جيراننا شجيرة الورد فنموها على الجدار يعطي رطوبة. احتمال كبير أن يزيلوها، وربما يزرعون ذرة بدلا منها. فلا يوجد فائدة من الورود غير أن ينظر إليها وتشم، وربما يصادف أن يضعها أحدهم في قبعته. لقد عرفت من أمي أنها تتساقط كل عام. وتحافظ زوجة المزارع عليها بوضعها في الملح، ثم يطلقون عليها اسما فرنسيا لا يمكنني أن أنطقه ولن أفعل؛ ثم تنثر على النار لتنبعث منها رائحة طيبة. هذه هي حياتها. لقد خلقت لتكون بهجة للعين والأنف فحسب. والآن ها أنتم قد عرفتم كل شيء عنها.»
مع اقتراب المساء، راح البعوض يلعب في الهواء الدافئ تحت السحب الوردية، وجاء العندليب وغنى للورود قائلا إن الجمال مثل أشعة الشمس للعالم، وإن الجمال يعيش إلى الأبد. اعتقدت الورود أن العندليب يقصد نفسه بأغنيته، وهو ما قد يخطر لأي شخص بالطبع؛ فلم تتخيل قط أن أغنيته يمكن أن تشير إليها. لكنها استمتعت بها، وتساءلت في نفسها ما إن كانت كل أفراخ العصافير التي في العش ستصير عنادل.
قالت أفراخ العصافير: «لقد فهمنا أغنية هذا الطائر جيدا، لكن ثمة كلمة لم تكن واضحة. ما الجمال؟»
أجابت الأم قائلة: «أوه، إنه ليس بالشيء المهم. إنه شيء خاص بالمظهر هناك في منزل السيد النبيل. هناك لدى الحمام منزل خاص به، وكل يوم ينثر لهم الذرة والبازلاء. لقد تناولت معهم العشاء عدة مرات، وكذلك ستفعلون عما قريب، فإنني مؤمنة بالمثل القديم القائل: «قل لي من تصاحب، أقل لك من أنت.» حسنا، هناك في منزل السيد النبيل يوجد طائران بعنقين خضراوين وعرفين على رأسيهما. ويستطيعان أن يمدا ذيلهما مثل عجلات كبيرة، وهما يعكسان العديد من الألوان الجميلة التي تبهر العيون عند النظر إليهما. ينتمي هذان الطائران إلى عائلة الطواويس، وهي من الأشياء التي يقال إنها جميلة؛ لكنها لن تبدو أفضل منا لو نزع منها عدة ريشات. كنت لأنزع بعضا منها بنفسي لو لم تكن كبيرة جدا.»
صاح أصغر أفراخ العصافير، الذي لم يكن نما له ريش بعد: «سوف أنزعها.»
كان يقطن في الكوخ شابان متزوجان متحابان للغاية وكانا يعملان بهمة ونشاط حتى بدا كل شيء حولهما منظما وجميلا. كانت الزوجة تخرج في الساعات المبكرة من أيام الآحاد، وتجمع باقة من أجمل الورود، وتضعها في كوب ماء على طاولة جانبية.
قال الزوج وهو يقبل زوجته الصغيرة: «أرى أن اليوم هو يوم الأحد.» ثم جلسا وأخذا يقرآن من كتاب الترانيم، وكل منهما يمسك يد الآخر، فيما سطعت الشمس عليهما وعلى الورود النضرة التي في الكوب.
قالت العصفورة الأم التي كانت تستطيع أن ترى ما بداخل الحجرة من عشها: «إن هذا المشهد ممل جدا بحق.» ثم طارت بعيدا.
حصل نفس الشيء في الأحد التالي؛ ففي واقع الأمر كانت الورود النضرة تجمع وتوضع في كوب كل يوم أحد، لكن ظلت شجيرة الورد وارفة في كامل تألقها. وبعد فترة نما لأفراخ العصافير ريش وأرادت أن تطير، لكن لم تسمح الأم بذلك، فاضطرت إلى البقاء في العش مؤقتا، بينما كانت الأم تطير بمفردها. تصادف أن ثبت بعض الصبية فخا مصنوعا من شعر الخيل بفرع إحدى الأشجار، وقبل أن تنتبه الأم إليه، تشابكت ساقها في شعر الخيل بشدة حتى كاد يقطعها. كم شعرت بألم ورعب شديدين! جرى الصبية سريعا وأمسكوا بها، بطريقة تفتقد الكثير من الرفق.
قال الصبية: «إنها مجرد عصفورة.» إلا أنهم لم يتركوها تطير، وإنما أخذوها معهم للمنزل، وكانت كلما صاحت، ضربوها على منقارها.
قابل الصبية في فناء المزرعة رجلا عجوزا يعرف كيفية صناعة صابون من أجل الحلاقة والغسل، سواء في شكل قوالب أو كرات. حين رأى الرجل العصفورة التي أحضرها الصبية إلى المنزل والتي قالوا إنهم لا يعرفون ماذا يفعلون بها ، قال لهم: «هلا جعلنا شكلها جميلا!»
انتابت العصفورة قشعريرة البرد حين سمعت هذا. ثم أخذ الرجل العجوز صدفة تحتوي على كمية من رقائق الذهب اللامعة من صندوق مليء بالألوان الجميلة، وطلب من الصبية إحضار بياض بيضة، فدهن به العصفورة بالكامل، ثم وضع عليها رقائق الذهب، فصارت العصفورة الأم هكذا مطلية بالذهب من رأسها إلى ذيلها. لكنها لم تكن تفكر في شكلها، فقد كانت مرتعدة بشدة. بعد ذلك قطع صانع الصابون قطعة صغيرة من بطانة سترته الحمراء، وشقها عدة شقوق، حتى بدت مثل عرف الديك، وثبتها على رأس العصفورة.
قال الرجل العجوز: «الآن سترون الطائر ذا الريش الذهبي وهو يطير.» ثم أطلق العصفورة، التي طارت في رعب قاتل بينما سطعت أشعة الشمس عليها. كم كانت متألقة! انتابت الدهشة كل العصافير، بل حتى أحد الغربان، وهو طائر عجوز حكيم، من المنظر، لكنها جميعا اتبعتها لاكتشاف ماذا عساه يكون هذا الطائر الأجنبي. طارت العصفورة يدفعها الألم والرعب صوب منزلها وهي تكاد تسقط على الأرض من الضعف. في الوقت نفسه زاد سرب الطيور الذي كان يتبعها عددا، بل حاول بعضها أن ينقرها.
هتفت كل الطيور: «انظروا إليه! انظروا إليه!» كذلك صاحت الأفراخ حين اقتربت أمهم من العش؛ حيث لم يتعرفوا عليها: «انظروا إليه! انظروا إليه! لا بد أنه طاوس صغير، فهو يلمع بشتى الألوان. النظر إليه يرهق العينين تماما كما أخبرتنا أمنا؛ صوصو، هذا هو الطائر الجميل.» ثم نقروا الطائر بمناقيرهم الصغيرة فلم تستطع دخول العش مطلقا وكانت متعبة للغاية حتى إنها لم تقو حتى على الزقزقة، ناهيك أن تقول: «أنا أمكم». هكذا هوت الطيور الأخرى على العصفورة ونزعت ريشها الواحدة تلو الأخرى حتى سقطت على شجيرة الورد وهي تنزف.
قالت الورود: «يا للكائن المسكين! فلتستريحي. سوف نخبئك؛ استندي برأسك إلينا.»
بسطت العصفورة جناحيها للمرة الأخيرة، ثم ضمتهما إلى جسمها ورقدت ميتة بين الورود، جيرانها النضرين الرائعين. •••
تصاعد صوت من العش يزقزق ويقول: «صوصو، أين أمنا يا ترى؟ إنه شيء غير قابل للتفسير على الإطلاق. هل من الممكن أن تكون خدعة لتثبت لنا أن الوقت قد حان لنعتني بأنفسنا؟ لقد تركت لنا المنزل باعتباره إرثا، لكن حيث إنه لا يمكن أن يئول إلينا جميعا حين يصير لدينا أسر، فمن الذي سيحصل عليه؟»
علق أصغرها قائلا: «لا يمكن أن تبقوا جميعا معي حين يزيد عدد أفراد أسرتي بالزواج وإنجاب الصغار.»
قال آخر: «سيكون لدي زوجات وصغار أكثر منك.»
وصاحت ثالثة: «لكنني أكبركم.»
ثم صاروا جميعا غاضبين، وتشاجروا بأجنحتهم، ونقروا بعضهم البعض بمناقيرهم، حتى قفزوا الواحد تلو الآخر من العش. وفي الخارج، استلقوا ساخطين، وقد مالت رءوسهم على جنب فيما طرفت العيون الشاخصة إلى أعلى. لقد كانت هذه طريقتهم في العبوس.
كانوا جميعا يستطيعون الطيران بقدر ضئيل، وسرعان ما تعلموا بالممارسة الطيران بشكل أفضل كثيرا. بعد فترة اتفقوا على إشارة يستطيع كل منهم التعرف بها على الآخرين في حالة تقابلوا في الحياة بعد افتراقهم. كانت الإشارة عبارة عن زقزقة، وخربشة الأرض ثلاث مرات بالقدم اليسرى.
الطائر الصغير الذي بقي في العش مد نفسه بقدر ما استطاع؛ فقد صار مالك البيت الآن. إلا أن سعادته لم تستمر طويلا، فقد اخترقت ألسنة حريق ملتهبة نوافذ الكوخ في تلك الليلة، وأمسكت بالسطح المصنوع من القش، الذي اشتعل على نحو مروع. احترق المنزل بالكامل، وهلك معه العصفور الصغير، لكن لحسن الحظ فر الزوجان بحياتهما.
حين أشرقت الشمس مجددا، وبدت الطبيعة كلها منتعشة كما يكون الحال بعد سبات عميق، لم يتبق من الكوخ سوى بضع عوارض خشبية سوداء متفحمة مستندة إلى المدخنة، التي صارت الآن ربة المكان الوحيدة. كان الدخان لا يزال متصاعدا من الحطام، لكن بالخارج كانت شجيرة الورد لا تزال على الجدار دون أن يمسها أذى، وارفة ونضرة كما كانت دائما، فيما انعكست كل وردة وكل غصن على الماء الصافي تحتها.
قال أحد المارة: «كم تبدو الورود جميلة على جدران ذلك الكوخ المدمر! لا أستطيع أن أتخيل صورة تفوقها بهاء. لا بد أن أرسمها.»
وأخرج المتحدث من جيبه دفترا صغيرا مليئا بالأوراق البيضاء (فقد كان فنانا)، ورسم بقلم رصاص صورة للأطلال بالدخان المتصاعد منها، والعوارض الخشبية المسودة، والمدخنة المشرفة عليها التي بدت على وشك الانهيار؛ وفي المقدمة تماما قامت شجيرة الورد الضخمة الوارفة، التي أضافت جمالا للصورة؛ بالطبع، لقد رسمت اللوحة من أجل الورود. في وقت لاحق من اليوم جاء إلى الكوخ اثنان من العصافير التي ولدت هناك.
تساءل الاثنان: «أين المنزل؟ أين العش؟ صوصو، صوصو؛ لقد احترق كل شيء، وشقيقنا القوي معه. هذا كل ما جناه من احتفاظه بالعش. إن الورود نجت تماما؛ فهي تبدو على ما يرام كما كانت دائما، بوجناتها الوردية، غير منزعجة من مصائب جيرانها. لن نخاطبها. حقا إن المكان يبدو لنا قبيحا جدا.» ثم طارا بعيدا.
ذات يوم طيب صحو مشمس في الخريف، مشمس للغاية حتى إنه قد يخيل للمرء أنه لا يزال في منتصف الصيف، كان بعض الحمام يقفز في أنحاء الفناء المعتنى به جيدا إلى منزل السيد النبيل، أمام درجات السلم الكبيرة. كان منهم الأسود والأبيض والمتنوع الألوان، وكان ريشهم يلمع في ضوء الشمس. قالت حمامة عجوز لصغارها: «انتظموا في مجموعات! انتظموا في مجموعات؛ فهذا يبدو أفضل كثيرا!»
تساءلت حمامة عجوز يحيط بعينيها اللونان الأحمر والأخضر: «ما تلك الكائنات الرمادية الصغيرة التي تسير خلفنا؟» ثم صاحت قائلة: «الكائنات الرمادية الصغيرة، الكائنات الرمادية الصغيرة.» «إنها عصافير؛ وهي كائنات صغيرة طيبة جدا. ولأننا طالما تميزنا بكوننا كرماء للغاية، فإننا نسمح لها بالتقاط بعض الذرة معنا؛ فإنها لا تقاطع حديثنا، وترجع بأقدامها اليسرى للوراء بشكل بديع للغاية.»
إنها كانت تفعل ذلك فعلا، كل منها ثلاث مرات، وبالقدم اليسرى أيضا، وتقول: «صوصو»، وهي الزقزقة التي نعرف منها أنها العصافير التي نشأت في العش الذي كان على المنزل الذي احترق.
قالت العصافير: «الطعام هنا طيب جدا»؛ في نفس الوقت راحت كل واحدة من الحمام تتبختر حول الأخريات، برقاب منتفخة، وهن يدلين بآرائهن الخاصة حول ما يشاهدن.
سألت واحدة من الحمام حمامة أخرى: «هل ترين ذكر الحمام الهزاز ؟ هل ترين كيف يبتلع البازلاء؟ إنه يأخذ كمية كبيرة جدا ودائما ما يختار الأفضل من كل شيء. انظري كيف يرفع عرفه هذا المخلوق القبيح الماكر.» وتوقدت عيناهما بالحقد. «انتظموا في مجموعات، انتظموا في مجموعات. أيها الصغار ذوات الريش الرمادي، أيها الصغار ذوات الريش الرمادي.»
واستمر الحمام في حديثه، وهكذا سيظل الحال بعد ألف سنة.
تغذت العصافير بجسارة وأنصتت باهتمام؛ بل وقفت في صفوف مثل الحمام، لكن لم يرق لها الأمر. وهكذا بعد أن أشبعت جوعها، تركت الحمام يتبادلون الآراء فيما بينهم حولهم وتسللوا من خلال قضبان الحديقة. كان باب إحدى حجرات المنزل المؤدية إلى الحديقة مفتوحا، فقفز أحدهم إلى العتبة وقد ملأه العشاء الطيب شجاعة، وهتف: «صوصو، أستطيع الدخول بعيدا.»
قال عصفور آخر: «صوصو، وأنا أستطيع ذلك، وأكثر كثيرا من ذلك.» ثم قفز إلى داخل الحجرة.
تبعه الأول، وتشجع الثالث حين رأى أنه لا أحد هناك، وطار عبر الحجرة مباشرة، قائلا: «إما أن تتخطى كل الحدود، أو لا تغامر على الإطلاق. هذا المكان رائع، أعتقد أنه عش إنسان؛ انظروا! ما هذا يا ترى؟»
كان أمام العصافير مباشرة أطلال الكوخ المحترق؛ وقد تألقت فوقها الورود، فيما انعكست صورتها على المياه تحتها، واستندت العوارض السوداء المتفحمة إلى المدخنة المتداعية. كيف يمكن أن يحدث هذا؟ كيف صار الكوخ والورود في إحدى حجرات منزل السيد النبيل؟ ثم حاولت العصافير الطيران فوق الورود والمدخنة لكنها اصطدمت بجدار مصمت. لقد كان لوحة، لوحة كبيرة جميلة، رسمها الفنان من الرسمة الصغيرة التي خطها.
قال أحد العصافير: «صوصو، إنها ليست حقيقية؛ إنها فقط تبدو كذلك. صوصو، أعتقد أن هذا هو الجمال. هل تستطيعون فهمه؟ أنا لا أستطيع.»
ثم دخل بضعة أشخاص الحجرة فطارت العصافير بعيدا. ومرت الأيام والسنون، و«هدل» الحمام كثيرا، لن نقول تشاجروا، رغم أنهم ربما فعلوا ذلك، تلك المخلوقات المشاكسة! أما العصافير، فقد عانوا من البرد في الشتاء وصفا لهم العيش في الصيف. وارتبط كلهم بخطوبة أو زواج، أو فلتسمه ما شئت. ثم رزقوا بصغار ، وكان كل منهم يرى أبناءه الأذكى والأجمل.
طار كل منهم في اتجاه، وحين التقوا عرف كل منهم الآخر بالزقزقة وجر القدم اليسرى ثلاث مرات للخلف. ظلت كبيرتهم بلا زواج؛ فلم يكن لديها عش ولا صغار. كانت أكبر أمنياتها أن ترى مدينة كبيرة، لذلك طارت إلى كوبنهاجن.
على مقربة من القلعة، عند القناة التي كانت تبحر فيها سفن عدة محملة بالتفاح والأواني الفخارية، لاح منزل كبير. كانت نوافذه قاعدتها أعرض من قمتها، وحين اختلست النظر منها العصفورة رأت حجرة بدت لهم مثل زهرة توليب جميلة الألوان من كل الدرجات. كان يوجد بداخل زهرة التوليب تماثيل بيضاء لبشر، مصنوعة من الرخام، وقليل منها من الجص، لكن لا يمثل هذا أي فرق بالنسبة للعصافير. وكان على السطح عربة حربية وخيول من المعدن، وكانت ربة النصر، التي كانت من المعدن أيضا، جالسة في العربة الحربية توجه الخيول.
كان هذا متحف تورفالسن. قالت العصفورة: «كم يبدو زاهيا ومتألقا! لا بد أن هذا هو الجمال، صوصو، باستثناء أنه أضخم من الطاوس.» فقد تذكرت ما أخبرتهم أمها به في طفولتها، من أن الطاوس أحد أروع الأمثلة التي تجسد الجمال. وطارت العصفورة هبوطا إلى الفناء، حيث كان كل شيء أيضا غاية في الروعة. لقد دهنت الجدران لتبدو مثل فروع النخلة، فيما توسط الفناء شجرة ورد كبيرة وارفة امتدت فروعها النضرة الجميلة المغطاة بالورود فوق قبر. طارت العصفورة إلى هناك إذ رأت عدة طيور من نوعها.
زقزقت العصفورة، وهي تسحب قدمها إلى الوراء ثلاث مرات. كانت طوال السنوات الماضية كثيرا ما تؤدي التحية المعتادة للعصافير التي تقابلها، دون أن يرد لها أحد التحية نفسها؛ فالأصدقاء الذين يفترقون لا يلتقون كل يوم. صار هذا الأسلوب في إلقاء التحية من عاداتها، واليوم رد لها التحية نفسها عصفوران عجوزان وعصفور شاب.
ردوا عليها قائلين: «صوصو»، وسحب كل منهم القدم اليسرى إلى الوراء ثلاث مرات. كانا عصفورين عجوزين نشآ في عشها نفسه، وعصفور شاب من الأسرة. ردت: «أوه، طاب يومكم؛ كيف حالكم؟ كم هو عجيب أن نلتقي هنا! إنه مكان رائع جدا، لكن لا يوجد به الكثير من الطعام؛ لكن هذا هو الجمال. صوصو!»
خرج عدد كبير جدا من الناس من الحجرات الجانبية، التي انتصبت فيها التماثيل الرخام، واقتربوا من القبر الذي رقدت فيه بقايا الفنان العظيم الذي نحتها. وحين التفوا حول قبر تورفالسن انطبعت على كل وجه أمارات الانبهار، وجمع بعضهم أوراق الورد المتساقطة ليحتفظوا بها. كانوا جميعا آتين من مناطق بعيدة؛ أحدهم من دولة إنجلترا القوية، وآخرون من ألمانيا وفرنسا. قطفت سيدة أنيقة للغاية وردة وأخفتها في صدر ثوبها. هنا شعرت العصافير أن للورود حظوة في هذا المكان، وأن المكان بأسره قد بني لها، وهو ما بدا أنه تكريم كبير جدا حقا؛ لكن لما أبدى كل الناس حبهم للورود، رأت العصافير أنه من المستحسن ألا تتأخر عن التعبير عن احترامها.
زقزقت العصافير ومسحت الأرض بأذيالها، ورمقت الورود بعين واحدة. لكنها لم تحتج إلى النظر إليها طويلا حتى تشعر أنها كانت تعرفها منذ زمن طويل، وقد كان هذا حقيقيا. كان الفنان الذي رسم شجيرة الورود وأطلال الكوخ قد حصل على إذن بخلع الشجيرة وأعطاها للمهندس المعماري؛ لأن الورود كانت ذات جمال نادر. وقد زرعها المهندس فوق قبر تورفالسن، حيث استمرت في الازدهار، مثالا على الجمال، ناشرة عبقها وأوراقها الوردية ليجمعها ويحملها الناس إلى مناطق بعيدة؛ لتكون تذكارا من المكان الذي سقطت فيه.
سألت العصافير الورود قائلة: «هل حصلتن على وظيفة في هذه البلدة؟»
هزت الورود رءوسها بالإيجاب؛ فقد تعرفت على جيرانها الصغار ذوات اللون الرمادي وسرت برؤيتها مرة أخرى.
قالت الورود: «الحياة هنا مبهجة للغاية حيث ننمو ونقابل أصدقاءنا القدامى، ونرى وجوها مبتهجة كل يوم. ويبدو كأن كل يوم هو يوم عطلة.»
قالت العصافير لبعضها البعض: «صوصو، نعم، إنهن جاراتنا القدامى. نتذكر مكانها الأصلي قرب البحيرة. صوصو! لقد ارتفعت مكانتها بلا شك. يبدو أن من الناس من يتقدم بهم الحال وهم نائمون. مهلا! ثمة ورقة ذابلة. يمكنني أن أراها بوضوح.»
نقرت الطيور الورقة حتى سقطت، لكن ظلت شجيرة الورد يانعة وغضة كما كانت دائما. وتألقت الورود في أشعة الشمس فوق قبر تورفالسن، وبهذا صارت مرتبطة بهذا الاسم الخالد.
المنزل القديم
كان ذات يوم في أحد الشوارع منزل شديد القدم قائم بين عدة منازل أخرى جديدة ونظيفة تماما. كان يمكن قراءة تاريخ بنائه الذي كان منحوتا على إحدى العوارض وقد أحاطت به زخارف حلزونية على شكل زهور توليب وفروع نبات حشيشة الدينار؛ وكان عمر المنزل آنذاك حسب هذا التاريخ يبلغ نحو ثلاثمائة عام. كذلك كتبت أبيات كاملة من الشعر فوق النوافذ بحروف قديمة ونحتت بدقة وجوه متنافرة الملامح تواجه الناس بابتسامة من تحت الأفاريز. كان الدور العلوي أعرض كثيرا من الدور الأرضي، فيما امتد تحت السطح مزراب من الرصاص ينتهي برأس تنين. كان من المفترض أن تتدفق مياه الأمطار من فم التنين، لكنها كانت تخرج من جسمه بسبب ثقب في المزراب.
كانت كل المنازل الأخرى الموجودة في الشارع جديدة ومتينة، وذات نوافذ كبيرة وجدران ملساء. كان من الجلي لأي شخص ملاحظة أنها مختلفة تماما عن المنزل القديم. ربما كانت تلك المنازل نفسها تتساءل: «حتى متى سيظل هنا ذلك الركام من النفايات ليكون وصمة عار في جبين الشارع كله؟ فإن واجهته بارزة جدا حتى إنه من الصعب رؤية ما يجرى في ذلك الاتجاه من نوافذنا. وسلمه في عرض سلالم القلاع ومرتفع كأنه يؤدي إلى برج كنيسة. أما قضبان سوره الحديدية، فكانت تبدو مثل بوابة مقبرة، كما أنه كانت لها مقابض نحاسية. إنه جدير بالسخرية حقا.»
كان يوجد في الجهة المقابلة للمنزل القديم منازل جديدة أكثر أناقة، لها نفس آراء جيرانها.
كان جالسا لدى نافذة أحدها صبي صغير بوجنتين نضرتين متوردتين، وعينين صافيتين لامعتين، وكان مغرما جدا بالمنزل القديم سواء في أشعة الشمس أو ضوء القمر. كان يجلس ويتطلع إلى الجدار الذي تساقط منه الجص في بعض المواضع، ويتخيل أشكال المشاهد شتى التي جرت في الماضي؛ كيف بدا الشارع حين كانت المنازل مزودة بأسطح جملونية ، وسلالم مكشوفة، ومزاريب منتهية بفوهات على شكل تنانين. حتى إنه كان حتى يستطيع أن يرى الجنود وهم يتجولون بمطاردهم. كان النظر إلى المنزل مسليا للغاية بلا شك.
كان يعيش في المنزل رجل عجوز يرتدي سروالا قصيرا يصل حتى الركبتين، ومعطفا بأزرار نحاسية كبيرة، وشعرا مستعارا يعرف من يراه أنه شعر مستعار. كان الرجل العجوز ذو السروال القصير وحيدا تماما في المنزل إلا من رجل عجوز يأتيه كل صباح لتنظيف المنزل وخدمته. كان أحيانا يذهب إلى إحدى النوافذ ويطل منها؛ فكان الصبي حينئذ يومئ برأسه له، وكان الرجل العجوز يجيبه بأن يومئ برأسه له، حتى تعرف كل منهما على الآخر وصارا صديقين، رغم أنهما لم يتحدثا معا قط؛ لكن لم يكن هذا مهما.
ذات يوم سمع الصبي الصغير والديه يقولان: «هذا الرجل ميسور الحال جدا، لكن لا بد أنه يعاني من وحدة شديدة.» لذا، في صباح الأحد التالي، لف الصبي الصغير شيئا في قطعة من الورق، وأخذه إلى باب المنزل القديم وقال للخادم الذي كان يرعى الرجل العجوز: «هلا أعطيت هذه الهدية مني السيد الذي يعيش هنا رجاء؟ فإنني لدي جنديان من الصفيح، وهذا أحدهما، ويمكنه الاحتفاظ به لأنني أعرف أنه يعاني من وحدة شديدة.»
أومأ الخادم العجوز برأسه وبدا عليه سرور بالغ، ثم دخل المنزل بالجندي الصفيح.
بعد فترة أرسل ليسأل الصبي الصغير ما إذا كان يود أن يزوره بنفسه. سمح له والداه بذلك، وبهذا حصل على الإذن لدخول المنزل القديم.
كانت المقابض النحاسية الخاصة بالسور الحديدي تلمع أكثر من ذي قبل، كما لو كانت قد لمعت من أجل زيارته؛ وكان منحوتا على الأبواب نافخو أبواق واقفون داخل زهور توليب، وبدا كأنهم ينفخون بكل ما لديهم من قوة، إذ كانت وجناتهم منتفخة بشدة كأنهم يقولون: «تانتا را را، الصبي الصغير قادم. تانتا را را، الصبي الصغير قادم.»
ثم فتح الباب ليكشف عن قاعة علق في جميع أنحائها صور قديمة لفرسان في دروع وسيدات في أثواب حريرية، وقد بدا أن الدروع كان لها صليل وأن الأثواب كان لها حفيف. ثم كان هناك سلم قطع شوطا طويلا في صعوده، ليهبط به درجات قليلة مفضيا إلى شرفة كانت في حالة مزرية للغاية؛ إذ كانت بها ثقوب كبيرة وشقوق طويلة نبتت منها الحشائش والأوراق؛ كانت النباتات تنمو بوفرة حقا في الشرفة والفناء وعلى الجدران، حتى إنها بدت مثل الحديقة.
كان يوجد في الشرفة أصص زرع رسم عليها رءوس أشخاص بآذان حمير، لكن كانت الزهور التي بداخلها تنمو كما يحلو لها. فقد ازدهرت زهور القرنفل في أحد الأصص حتى فاضت على جوانبه، أو أوراقها الخضراء على الأقل، فأخرجت جذعها وساقها وهي تقول بوضوح بقدر ما تتيح لها قدرتها على الكلام: «لقد أنعشني الهواء، وقبلتني الشمس، ووعدت بزهرة صغيرة في الأحد القادم؛ الأحد القادم حقا!»
ثم دخلا حجرة كسيت جدرانها بجلد طبع عليه زهور ذهبية. وبدا أن الجدران كانت تقول:
الطلاء بالذهب يبليه الزمن وسوء الطقس،
لكن الجلد يبقى؛ فهو قوي البأس.
كان في الحجرة مقاعد نقشت عليها نقوش بديعة، ولديها ذراع على كل جانب وظهور شديدة الارتفاع؛ وبينما هي تصر بدت كأنها تقول: «فلتتفضل بالجلوس. آه، يا عزيزي! كم يعلو صريري؛ لا بد أنني مصابة بالنقرس مثل الخزانة القديمة. إن لدي نقرسا في ظهري، آه!»
بعد ذلك دخل الصبي الصغير الحجرة التي كان الرجل العجوز جالسا فيها.
قال الرجل العجوز: «شكرا على الجندي الصفيح يا صديقي الصغير، وشكرا على مجيئك لرؤيتي.»
قال كل الأثاث بصرير: «شكرا، شكرا.»
كان الأثاث كثيرا جدا حتى إن كل قطعة منه كانت تعترض سبيل الأخرى حتى ترى الصبي الصغير. قرب وسط الغرفة كان معلقا على الجدار صورة لسيدة حسناء، شابة ومتهللة الأسارير، ترتدي زيا من العصور القديمة، بشعر مصفف بالبودرة وتنورة منتفخة. وهي لم تقل «شكرا» ولم تحدث صريرا، وإنما نظرت بعينيها الوديعتين إلى الصبي الصغير، الذي قال للرجل العجوز: «من أين حصلت على هذه الصورة؟»
أجابه قائلا: «من المتجر الذي في الجهة المقابلة. يوجد هناك العديد من الصور الشخصية ، لكن يبدو أن لا أحد يعرف أيا منهم أو يأبه لهم. لقد مات الأشخاص الذين فيها ودفنوا منذ زمن طويل. لكنني كنت أعرف هذه السيدة منذ سنوات عديدة، وقد قضت نحبها منذ نحو نصف قرن.»
كان معلقا أسفل الصورة باقة من الزهور الذابلة داخل إطار زجاجي، مضى عليها هي أيضا دون شك نصف قرن، أو هكذا بدت على الأقل.
وكان بندول الساعة القديمة يتأرجح يمينا وشمالا، وعقاربها تدور، ومع مرور الوقت تقدم العمر بكل شيء في الحجرة، غير أن أحدا لم يلحظ ذلك على ما يبدو.
قال الصبي الصغير: «يقولون إنك تعيش وحيدا جدا في هذا المنزل.»
رد عليه الرجل العجوز: «نعم، لكن تتوارد على ذهني الذكريات السارة عن كل ما مضى، والآن جئتني أنت أيضا لتزورني، وهذا أمر طيب جدا.»
ثم أخذ من خزانة الكتب كتابا مليئا بالصور لمواكب طويلة لعربات رائعة لم يعد لها مثيل في العصر الحاضر، وجنود يشبهون الولد في أوراق اللعب، ومواطنين برايات خفاقة. كان الخياطون يحملون راية عليها مقص يحمله أسدان، أما راية صانعي الأحذية فلم يكن عليها حذاء طويل الرقبة وإنما نسر برأسين؛ فكل شيء لدى صانعي الأحذية لا بد أن يكون مرتبا في أزواج. يا له من كتاب صور رائع! بعد ذلك ذهب الرجل العجوز إلى حجرة أخرى ليأتي بتفاح ومكسرات. لا شك أن الوجود في ذلك المنزل القديم كان ممتعا جدا.
قال الجندي الصفيح الذي كان واقفا على رف: «لا يسعني التحمل؛ هذا المكان موحش وكئيب جدا. لقد اعتدت العيش في عائلة، ولا أستطيع التعود على هذه الحياة. ولا يمكنني تحملها. النهار طويل جدا، والمساء أطول منه. ليست الحياة هنا كما كانت في منزلك في الجانب الآخر، حين كان أبوك وأمك يتحدثان بمرح شديد معا، بينما كنت أنت وكل الأطفال الأعزاء تصخبون صخبا مبهجا. هل تعتقد أنه يحصل على أي قبل؟ هل تعتقد أنه حصل على نظرة حانية أو امتلك شجرة كريسماس قط؟ إنه لن يحصل على أي شيء الآن سوى القبر. آه! لا يسعني التحمل.»
قال الصبي الصغير: «يجب ألا تنظر للجانب الكئيب كثيرا. أنا أعتقد أن كل شيء في هذا المنزل جميل، وأن كل الأفكار القديمة السارة تأتي إلى هنا في زيارات.»
قال الجندي الصفيح: «لكنني لا أرى أيا منها قط، ولا أعرفها، ولا يسعني التحمل.»
قال الصبي الصغير: «لا بد أن تصبر.» هنا عاد الرجل العجوز بوجه مستبشر، حاملا فواكه مجففة جميلة وكذلك تفاح ومكسرات، وتوقف الصبي الصغير عن التفكير في الجندي الصفيح.
كم كان الصبي الصغير سعيدا ومسرورا! وبعد أن عاد إلى منزله، وطيلة أيام وأسابيع، ظل تبادل التحيات مستمرا بين المنزلين، ثم ذهب الصبي الصغير من أجل زيارة أخرى. ونفخ عازفو الأبواق وهم يقولون: «تانتا را را، ها هو الصبي الصغير. تانتا را را.» وصدر صليل عن السيوف والدروع التي في صور الفرسان القدامى، وتصاعد حفيف الفساتين الحرير، وأعاد الجلد شعره المسجوع، وصرت المقاعد القديمة التي تعاني النقرس في ظهورها؛ كان الأمر برمته مثل المرة الأولى تماما، فالأيام والساعات في ذلك المنزل متشابهة تماما.
قال الجندي الصفيح: «لا يمكنني الصبر أكثر من ذلك. لقد ذرفت دموعا من صفيح، فالحياة هنا تملؤها الشجون. دعني أذهب إلى الحرب لأفقد ذراعا أو ساقا؛ سيكون في ذلك تغيير. أدركت الآن ما يعنيه أن يزور المرء ذكرياته القديمة وكل ما تأتي به معها. فقد عاودتني ذكرياتي زائرة، وصدقني أنها ليست سارة على الإطلاق. لقد كدت أقفز من أعلى الرف؛ إذ رأيتكم جميعا في منزلكم في الجهة المقابلة، كما لو كنتم موجودين حقا.
كان ذلك في صباح يوم أحد، كنتم أنتم الأطفال واقفين حول المائدة، ترددون الترنيمة التي تقولونها كل صباح. كنتم واقفين في ثبات متشابكي الأيدي، وكان أبوكم وأمكم بنفس الرصانة، حين انفتح الباب، وأدخلت إلى الحجرة شقيقتك الصغيرة، ماريا، التي لم تتعد العامين. كم تعلم، هي دائما ما ترقص عند سماع موسيقى وغناء من أي نوع، لذا فقد راحت ترقص في الحال، رغم أنه ما كان يصح لها أن تفعل ذلك؛ لكنها لم تستطع أن تضبط حركتها على إيقاع الموسيقى لأنه كان بطيئا جدا، فوقفت على قدم واحدة ثم على الأخرى وأحنت رأسها بشدة، لكن حركاتها لم تلائم الموسيقى. كنتم جميعا واقفين تبدو عليكم الرزانة، مع أن هذا كان صعبا جدا، أما أنا فضحكت بداخلي بشدة حتى إنني وقعت من فوق الطاولة وأصبت بكدمة ما زالت موجودة حتى الآن. أعلم أنه لم يكن من اللائق أن أضحك. وهكذا يظل كل هذا وكل الأشياء الأخرى التي شاهدتها تتوارد على ذهني، ولا بد أن هذه هي الذكريات القديمة التي تأتي مصطحبة معها خواطر كثيرة. أخبرني أنت ما إذا كنتم ما زلتم ترددون الترانيم في أيام الآحاد، واحك لي عن شقيقتك الصغيرة ماريا، وكيف حال زميلي القديم، الجندي الصفيح الآخر. لا شك أنه سعيد جدا حقا. أما أنا فلا أستطيع الصبر على هذه الحياة.»
قال الصبي الصغير: «إنك هدية، ولا بد أن تبقى. ألا تدرك ذلك؟» ثم دخل الرجل العجوز بصندوق احتوى على العديد من الأشياء النادرة ليريه إياها. كان فيه أوعية مساحيق تجميل وصناديق عطور، وأوراق لعب قديمة لا تجد مثيلا لها هذه الأيام، فقد كانت كبيرة الحجم وحوافها مطلية بالذهب. وكان هناك أيضا صناديق أصغر حجما تستحق المشاهدة، وكان البيانو مفتوحا، وداخل غطائه كانت هناك مناظر طبيعية مرسومة. لكن حين عزف الرجل العجوز عليه، بدا البيانو بحاجة إلى ضبط، فنظر إلى الصورة التي كان قد اشتراها من تاجر السلع المستعملة، ولمعت عيناه حين هز رأسه إليها وقال: «أوه، لقد كانت تستطيع غناء تلك الأغنية.»
هنا صاح الجندي الصفيح عاليا بقدر ما استطاع: «سأذهب إلى الحرب! سأذهب إلى الحرب!» وألقى بنفسه إلى الأرض. أين سقط يا ترى؟ بحث الرجل العجوز عنه، وبحث الصبي الصغير، لكنه كان اختفى ولم يمكن العثور عليه. قال الرجل العجوز: «سوف أعثر عليه.» إلا أنه لم يعثر عليه؛ فقد سقط الجندي الصفيح في شق بين ألواح الخشب وظل مستلقيا هناك كأنه في قبر مفتوح.
مر اليوم وعاد الصبي الصغير إلى منزله؛ ومضى أسبوع، وعدة أسابيع أخرى. أتى فصل الشتاء وغطى الصقيع النوافذ تماما، فاضطر الصبي إلى أن ينفث الهواء في الزجاج ومسحه ليتيح لنفسه ثقبا يختلس منه النظر إلى المنزل القديم. وقد وجد ندف الثلج متراكمة على كل الحليات الحلزونية والنقوش، وكان السلم مغطى بالثلج كأنه لا يوجد أحد بالمنزل. وبالفعل لم يكن أحد في المنزل؛ فقد مات الرجل العجوز.
في المساء أخذ الرجل العجوز إلى الريف ليدفن هناك في قبره؛ لذا، فقد حملوه إلى هناك. لكن لم يتبعه أحد، فقد مات كل أصدقائه، أما الصبي الصغير فقد قبل يد صديقه العجوز تحية له حين رآه محمولا.
بعد بضعة أيام أقيم مزاد في المنزل القديم، فرأى الصبي الصغير الناس وهم يحملون صور الفرسان والسيدات القدامى، وأصص الزرع ذات الوجود التي لها آذان طويلة، والمقاعد القديمة، والخزانات. أخذ بعضها في جهة، وذهب البعض الآخر في جهة أخرى. أما صورة السيدة التي ابتيعت من تاجر الصور، فقد عادت إلى متجره مرة أخرى، وظلت هناك، إذ بدا أن ليس هناك من يعرفها أو يأبه للصورة القديمة.
وفي الربيع شرعوا يهدمون المنزل نفسه؛ فقد وصفه الناس بأنه مجرد ركام من النفايات. وصار مكشوفا للمارة في الشارع الحجرة ذات الجدران المغطاة بالجلد، وقد تهرأ وتمزق، والنباتات التي في الشرفة وقد تدلت متناثرة فوق العوارض. لقد هدموا المنزل بسرعة، فقد بدا مستعدا للسقوط، وفي النهاية أزيل تماما. حينئذ، قالت المنازل المجاورة: «لقد رحل غير مأسوف عليه.»
بعد فترة بني منزل جديد فخم، لكن كان متراجعا أكثر عن الطريق. كانت نوافذه مرتفعة وجدرانه ملساء، لكن في المقدمة، في الموضع الذي كان يقف فيه المنزل القديم، زرعت حديقة صغيرة، وامتدت فروع كروم برية على الجدران المجاورة. وأمام الحديقة كان هناك سور حديدي ضخم وبوابة هائلة بدت مهيبة للغاية. وقد اعتاد الناس على التوقف لاختلاس النظر من خلال السور. كذلك كانت العصافير تتجمع بالعشرات على أغصان الكروم البرية، وتثرثر معا بأعلى صوتها، لكن ليس عن المنزل القديم . لم يكن بإمكان أي منها أن يتذكره؛ إذ قد مضت سنوات عديدة قطعا، حتى إن الصبي الصغير صار رجلا، رجلا صالحا حقا، وكان أبواه فخورين جدا به. كان قد تزوج للتو وجاء بزوجته الشابة للإقامة في المنزل الجديد الذي له حديقة أمامية، وقد كان واقفا بجانبها وهي تزرع واحدة من زهور المروج التي رأت أنها شديدة الجمال. كانت تزرعها بنفسها بيديها الصغيرتين وتضغط على التربة بأصابعها. وفجأة صرخت قائلة: «أوه، يا إلهي، ما هذا؟» فقد وخزها شيء ما كان بارزا في التربة الرخوة.
فلتحزروا ماذا كان! لقد كان الجندي الصفيح، الجندي الصفيح نفسه الذي كان قد ضاع في حجرة الرجل العجوز وظل مخفيا بين الخشب القديم والمخلفات زمنا طويلا حتى غاص في الأرض، حيث مكث سنوات عديدة قطعا. مسحت الزوجة الشابة الجندي الصفيح بورقة شجر خضراء أولا ثم بمنديلها الرقيق، الذي كان يفوح منه عطر جميل. وحينها، شعر الجندي الصفيح كأنه أفاق من نوبة إغماء.
قال الشاب: «دعيني أره»، ثم ابتسم وهز رأسه وقال: «من المستبعد أن يكون هو، لكنه يذكرني بشيء حدث لأحد جنودي الصفيح حين كنت صبيا صغيرا.» ثم حكى لزوجته عن المنزل القديم والرجل العجوز والجندي الصفيح الذي أرسله إليه لاعتقاده أنه كان وحيدا. وقد حكى القصة بوضوح شديد حتى فاضت الدموع من عيني الزوجة الشابة على المنزل القديم والرجل العجوز.
قالت الزوجة: «من الوارد جدا أن يكون هذا هو نفس الجندي فعلا، لذا سوف أرعاه وأتذكر دائما ما أخبرتني به؛ لكن عليك أن تريني قبر الرجل العجوز ذات يوم.»
رد عليها قائلا: «أنا لا أعلم بمكانه ولا أحد يعلم. لقد مات جميع أصدقائه؛ فلم يرعه أحد أو يهتم بقبره، وأنا كنت حينئذ مجرد صبي صغير.»
قالت الزوجة: «ويحي، لا بد أنه كان يشعر بوحدة فظيعة.»
صاح الجندي الصفيح: «أجل، وحدة فظيعة، لكن من المبهج ألا تصير منسيا.»
صاح صوت قريب منهم قائلا: «مبهج حقا!» وحده الجندي الصفيح لاحظ أن الصوت جاء من قطعة من الجلد الذي تمزق بعد سقوط المنزل القديم. كانت قد فقدت كل أشكالها الذهبية وبدت مثل التراب المبتل، لكن كان لديها رأي عبرت عنه بالكلمات التالية:
الطلاء بالذهب يبليه الزمن وسوء الطقس،
لكن الجلد يبقى؛ فهو قوي البأس.
لكن الجندي الصفيح لم يعتقد بصحة هذا.
فرع شجرة التفاح المغرور
في شهر مايو كانت الرياح لا تزال تهب باردة، لكن تردد من كل شجيرة وشجرة، وكل حقل وزهرة، صوت يرحب ويقول: «جاءنا الربيع.»
غطت الزهور البرية أسيجة الأشجار بوفرة. وبدا الربيع مشغولا أسفل شجرة التفاح الصغيرة، وكان يحكي قصته من أحد الفروع، الذي تدلى نضرا وغضا مكسيا بزهور وردية رقيقة أوشكت على التفتح.
كان الفرع يعلم جيدا كم هو جميل؛ وهذه المعلومة يمكن أن يدركها النبات كما هو الحال لدى البشر. لذلك لم أندهش حين توقفت من أجله على الطريق عربة أحد النبلاء التي كانت تجلس بداخلها الكونتيسة الشابة. لقد قالت إن فرع شجرة التفاح كان بالغ الجمال، فهو رمز للربيع بأروع سماته. وقد قطع الفرع من أجلها، فحملته بيدها الرقيقة وغطته بمظلتها الحريرية.
مضوا بعد ذلك إلى القلعة حيث القاعات الفخمة والصالونات الفاخرة. كانت الستائر ناصعة البياض ترفرف أمام النوافذ المفتوحة، والزهريات الشفافة تحمل زهورا جميلة. وقد وضع فرع التفاح بين بعض أغصان الزان النضرة الخفيفة في واحدة من الزهريات التي بدت كأنها مصنوعة من ثلوج تساقطت حديثا؛ فكان المنظر ساحرا. وقد صار الفرع مزهوا بنفسه، وهو ما كان شديد الشبه بطبيعة البشر.
كانت الحجرة يدخلها أشخاص بأوصاف شتى، وبحسب مكانتهم في المجتمع كان يختلف إقدامهم على التعبير عن إعجابهم. القليل منهم لم يقل أي شيء، ومنهم من بالغ في البوح، وما لبث فرع شجرة التفاح أن أدرك وجود اختلافات بين شخصيات البشر بقدر الموجودة بين شخصيات النباتات والزهور. إن البعض همهم في الحياة الأبهة والمظاهر، والبعض الآخر عليهم القيام بالكثير حتى يثبتوا أهميتهم، أما الباقون فيمكن الاستغناء عنهم دون أن يخسر المجتمع الكثير. هذا ما خطر لفرع شجرة التفاح وهو واقف أمام النافذة المفتوحة التي كان يستطيع أن يطل منها على الحدائق والمروج، حيث كان يوجد من الزهور والنباتات ما يكفي ليجعله يفكر فيها ويتأمل حالها؛ فبعضها كان ثريا وجميلا، والبعض الآخر كان فقيرا وبائسا حقا.
قال فرع شجرة التفاح: «يا للنباتات المسكينة الممتهنة! يوجد حقا فرق بيني وبينها. كم لا بد أن تكون تعيسة إذا كان بإمكانها أن تشعر كما يشعر من هم مثلي! يوجد فرق بيننا بالتأكيد، ولا بد أن يكون موجودا، وإلا كنا جميعا متساوين.»
ورمقها فرع شجرة التفاح بنوع من الشفقة، وبوجه خاص زهرة صغيرة بعينها توجد في المروج وفي المصارف. لا أحد يجمع هذه الزهور معا في باقة، فهي منتشرة جدا - حتى إنه كان من المعروف عنها أنها تنمو بين أحجار الرصف، وتنبثق في كل مكان مثل الحشائش الضارة - وتحمل اسما قبيحا جدا وهو «زهور الكلاب» أو «الهندباء البرية».
قال فرع شجرة التفاح: «يا للنباتات المحتقرة المسكينة! ليس خطأك أنك قبيحة جدا وأن لك ذلك الاسم القبيح، لكن الحال هو نفسه لدى النباتات ولدى البشر؛ لا بد أن يكون هناك اختلاف.»
صاح شعاع الشمس: «اختلاف!» وهو يقبل فرع شجرة التفاح المزدهر وبعده الهندباء البرية الصفراء في المروج. الجميع إخوة، وشعاع الشمس يقبل الجميع؛ الزهور المتواضعة وكذلك الثمينة.
لم يخطر لفرع شجرة التفاح قط الحب غير المحدود الذي يبسطه الرب على كل المخلوقات، على كل ما هو حي ويتحرك ويوجد به. فهو لم يفكر قط في الخير والجمال اللذين كثيرا ما يكونان مخفيين، لكن لا ينساهما الرب قط، ليس فقط بين المخلوقات الأدنى، ولكن بين البشر أيضا. كان شعاع الشمس، شعاع الضوء، يعلم ذلك.
لذا قال لفرع شجرة التفاح: «إن نظرك ضعيف فلا ترى البعيد ولا ترى الأشياء بوضوح. ما النبات المزدرى الذي تشفق عليه غاية الإشفاق؟»
أجابه: «الهندباء البرية؛ فلا أحد يضعه في باقة مطلقا؛ وتطؤه الأقدام وتجده بكثرة؛ وحين يزهر، تصير له زهور مثل الصوف، تطير في قطع صغيرة في الطرق وتعلق بملابس الناس؛ إنها ليست سوى حشائش، لكن لا شك أن وجود الحشائش ضروري. أوه، إنني ممتن جدا حقا أنني لم أخلق واحدا من هذه الزهور.»
وفي الحال جاء في المرج مجموعة كاملة من الأطفال، كان أصغرهم ضئيلا جدا حتى إنه كان على الآخرين حمله؛ وحين أجلسوه على الحشائش، بين الزهور الصفراء، راح يضحك عاليا فرحا، ويركل بساقيه الصغيرتين، ويتدحرج، ويقطف الزهور الصفراء ويقبلها في براءة طفولية.
أما الأطفال الأكبر سنا فقطفوا الزهور ذات الجذوع الطويلة، وشدوا سيقانها حول بعضها البعض لتكوين حلقات، وصنعوا سلسلة للرقبة أولا، ثم سلسلة توضع على المنكبين وتتدلى للخصر، وأخيرا إكليلا من الزهور ليوضع على الرأس؛ وهكذا بدوا في غاية الروعة وقد ارتدوا أكاليلهم من السيقان الخضراء والزهور الذهبية. أما أكبرهم فقد جمع الزهور الذابلة بعناية، التي تجمعت على سيقانها البذور في شكل إكليل أبيض شبيه بالريش.
هذه الزهور الصوفية السائبة الرقيقة بديعة للغاية وتبدو مثل ريش الطيور الناعم الرقيق الأبيض كالثلج. وقد حملها الأطفال أمام أفواههم وحاولوا أن يطيروا رأسها بالكامل بنفخة واحدة. لقد أخبرتهم جداتهم أن من يفعل ذلك يضمن الحصول على ملابس جديدة قبل نهاية العام. وبهذا تكون الزهرة المحتقرة قد ارتقت إلى مرتبة المتنبئ بالأحداث.
قال شعاع الشمس: «أرأيت؟ أرأيت جمال هذه الزهور؟ هل ترى قدراتها على منح السعادة؟»
قال فرع شجرة التفاح: «نعم، للأطفال.»
وبعد قليل دخلت سيدة عجوز المرج وراحت تحفر حول جذور بعض نباتات الهندباء البرية وتقتلعها من الأرض بسكين غير حادة من دون مقبض. لقد كانت تنوي استخدام بعضها في صنع شاي لنفسها، أما الباقي فكانت ستبيعه للصيدلي لتحصل على بعض المال.
قال فرع شجرة التفاح: «لكن للجمال قيمة أرفع من ذلك كله؛ فعالم الجمال لا يقبل إلا بالصفوة فقط. وكما هناك فرق بين البشر يوجد فرق بين النباتات.»
هنا حدثه شعاع الشمس عن حب الله غير المحدود المتجلي في خلقه وكل الكائنات الحية، وعن توزيع عطاياه، الآن وإلى الأبد.
قال فرع شجرة التفاح: «ذلك رأيك أنت.»
بعد برهة دخل الحجرة بعض الأشخاص بينهم الكونتيسة الشابة؛ السيدة التي كانت قد وضعت فرع شجرة التفاح في الزهرية الشفافة، في مكان مبهج للغاية تحت شعاع الشمس. وكانت تحمل في يدها شيئا شبيها بالزهرة. لقد كان محجوبا باثنتين أو ثلاث من الأوراق الكبيرة التي غطته مثل درع حتى لا يؤذيه تيار هواء أو هبة ريح، وكان محمولا باهتمام يفوق الاهتمام الذي حمل به فرع شجرة التفاح.
أزيلت الأوراق الكبيرة بحرص بالغ، فكشفت عن رأس البذور الشبيهة بالريش للهندباء البرية الصفراء المحتقرة. هذا ما قطفته السيدة بحرص شديد وحملته إلى المنزل تحت غطاء آمن تماما، حتى لا يتطاير أي من أجزائها الهفهافة الرقيقة التي منها يتكون شكلها الشبيه بالغيم في خفة متناهية. وها هي الآن تستعرضها وهي سليمة تماما وتتأمل شكلها البديع، وخفتها الشبيهة بالنسمة وتكوينها الفريد الذي سرعان ما تذروه الرياح.
هتفت الكونتيسة: «انظروا، كم أبدع الرب في خلق هذه الزهرة الصغيرة! سوف أرسمها في لوحة مع فرع شجرة التفاح. الكل يبدي إعجابه بجمال فرع شجرة التفاح، لكن هذه الزهرة المتواضعة حبتها السماء بنوع آخر من الجمال، ورغم أنهما يختلفان في المظهر فكلاهما عضو في عالم الجمال.»
ثم قبل شعاع الشمس كلا من الزهرة المتواضعة وفرع شجرة التفاح المتألق، الذي علت أوراقه حمرة الخجل.
অজানা পৃষ্ঠা