أولى خطوات الرحلة
الكلمات المفاتيح
سحر الكتابة الحرة
في مديح الأسئلة الصغيرة
كن صياد فراشات
أنت بستاني أفكارك
العب بجدية الأطفال
أيهما تتبع ... حياتك أم خيالك؟
أوهام شائعة حول حرفة الكتابة
من قصاصة إلى قصة
احرص على توءم روحك (قارئك)
أين دفتر يومياتك؟ «الثيمة» تلك البوصلة الخفية «الثيمة» ذلك اللحن السري «الحبكة» جديلة الأسباب والنتائج
الوجه الآخر للحبكة
اسرق حبكاتك ... شكسبير فعلها
أشياء كبيرة وعدسات صغيرة
لون أفكارك بألوان السرد
فتنة الشخصية
ارسم نفسك ولكن ...
جرب القص واللصق
أنت رسام بورتريهات
الصور تدب فيها الحياة
مرحبا مدام باكينام
آلات الأوركسترا
سبعة تمارين على الشخصية
كلام يؤدي ويجيب
للحوار أصول
ألسنة تبوح وتوحي
حدثنا فقال ...
تعال نتمرن على الحوار
سر الطبخة بداخلك
افتح عينيك
انظر بقلمك
ما وراء الصور
الوصف صنعة
ثلاث ملاحظات حول الوصف
تكوين المشهد
كن منسق مناظر
الأماكن كلها ملك يديك
فن الإنصات
اتبع صوت الموسيقى
بين قوسين
اهزم ذلك الحاجز
إلى ما لا نهاية
ملحق (أ): عشرة كتب مترجمة عن الكتابة الإبداعية
ملحق (ب): نصائح لكتابة السرد من عشرين كاتبا محترفا
أولى خطوات الرحلة
الكلمات المفاتيح
سحر الكتابة الحرة
في مديح الأسئلة الصغيرة
كن صياد فراشات
أنت بستاني أفكارك
العب بجدية الأطفال
أيهما تتبع ... حياتك أم خيالك؟
أوهام شائعة حول حرفة الكتابة
من قصاصة إلى قصة
احرص على توءم روحك (قارئك)
أين دفتر يومياتك؟ «الثيمة» تلك البوصلة الخفية «الثيمة» ذلك اللحن السري «الحبكة» جديلة الأسباب والنتائج
الوجه الآخر للحبكة
اسرق حبكاتك ... شكسبير فعلها
أشياء كبيرة وعدسات صغيرة
لون أفكارك بألوان السرد
فتنة الشخصية
ارسم نفسك ولكن ...
جرب القص واللصق
أنت رسام بورتريهات
الصور تدب فيها الحياة
مرحبا مدام باكينام
آلات الأوركسترا
سبعة تمارين على الشخصية
كلام يؤدي ويجيب
للحوار أصول
ألسنة تبوح وتوحي
حدثنا فقال ...
تعال نتمرن على الحوار
سر الطبخة بداخلك
افتح عينيك
انظر بقلمك
ما وراء الصور
الوصف صنعة
ثلاث ملاحظات حول الوصف
تكوين المشهد
كن منسق مناظر
الأماكن كلها ملك يديك
فن الإنصات
اتبع صوت الموسيقى
بين قوسين
اهزم ذلك الحاجز
إلى ما لا نهاية
ملحق (أ): عشرة كتب مترجمة عن الكتابة الإبداعية
ملحق (ب): نصائح لكتابة السرد من عشرين كاتبا محترفا
الحكاية وما فيها
الحكاية وما فيها
السرد (مبادئ وأسرار وتمارين)
تأليف
محمد عبد النبي
كل طفل يولد فنانا، المشكلة هي كيف نحتفظ بهذا الفنان بينما نكبر.
بابلو بيكاسو
أولى خطوات الرحلة
انتبه
الكتابة لعبة ممتعة، ولكن يجب ممارستها بمنتهى الجدية. •••
إذا كنت تميل إلى تفويت مقدمات الكتب، كما أفعل أنا أحيانا، فلا بأس من تفويت هذه المقدمة والقفز إلى أول الفصول مباشرة، أما إذا أصررت على قراءتها فأعدك ألا تكون مطولة دون داع، وأن تكون مجدية وذات مغزى. •••
ما دمت قد اقتنيت هذا الكتاب وشرعت في قراءته، فأغلب الظن أنك كاتب، كاتب بالفعل أو بالقوة، كاتب ينتظر اللحظة المناسبة أو يكافح لاكتساب وتمتين أدواته وتقنياته. هذا الكتاب موجه لك تماما، غير أنه لن يمنحك عصا سحرية ستجعل منك كاتبا مرموقا بمجرد الانتهاء منه، غاية ما هنالك أنه سوف يشجعك على ممارسة الكتابة بانتظام وفي إطار منهجي، وبالتدريج خطوة بعد أخرى.
أما وقد صرحنا بهذا فيمكنك أن تعيد هذا الكتاب إلى موضعه دون مزيد من المتاعب، إن لم تكن مستعدا بعد لرحلة الكتابة التي سيأخذك إليها. إذا كان الأمر هو العكس، فإني أدعوك لمواصلة القراءة ولو لصفحات قليلة، وأن تؤجل الحكم حتى ذلك الحين. •••
حتى لحظتنا هذه، لا تزال مسألة تعليم وتعلم الكتابة الإبداعية لا تجد ترحيبا كبيرا في الأوساط الأدبية بعالمنا العربي، لأسباب ودعاوى عديدة؛ منها مثلا أن الإبداع الأدبي لا بد أن يعتمد في الأساس على الموهبة الفطرية والسليقة، وأن ذلك النوع من الإرشاد والتوجيه قد يشوش - أو يشوه حتى - تجربة المبدع العفوية الحرة.
من يستطيع الادعاء أننا لسنا بحاجة إلى موهبة أو درجة من الاستعداد المبدئي لممارسة أي نوع من الفنون، أو حتى بعض المهن التي تحتاج إلى مهارات خاصة؟ غير أنه لا يوجد فن في غنى عن التدريب لممارسته ، من العزف الموسيقي إلى التمثيل، مرورا بالغناء والرقص، وهو ما يقره الجميع تقريبا، ولكن حين يتعلق الأمر بالكتابة، ستلاحظ الامتعاض والنفور إزاء مبدأ التدريب والتعلم، كأن الإنسان إما أنه يولد كاتبا كبيرا وإما أنه لن يستطيع أن يكتب سطرا جيدا أبدا، وهي أسطورة علينا هزيمتها بداخلنا الآن وفورا. •••
من بين الحجج الأخرى التي ترفض هذا التوجه، أنه قد ينتج أنماطا ثابتة ومعلبة من الكتابة الإبداعية، خاصة تلك التي يغلب عليها الطابع الاستهلاكي والتجاري؛ غير أن تعليم الكتابة الحقيقي لا يفرض على المتعلم أي شكل أو أسلوب لكتابته، بقدر ما يمنحه الأدوات اللازمة لاكتشاف صوته الخاص وتطوير أسلوبه وامتلاك التقنيات، بصرف النظر عما سينتجه بنفسه بعد امتلاكه أدواته؛ فقد يتخرج من ورشة النجارة نفسها متدربان، أحدهما يبقى طول مسيرته المهنية يكرر ما يراه ويطمئن لاحتياج الزبائن إليه، والآخر يستخدم نفس الأدوات ويتعلم نفس المبادئ، غير أنه يمضي لاختراع تحف لا نظير لها، بل يكتشف أيضا حيله وأساليبه الخاصة بعد فترة. •••
بفضل جهود أشخاص كثيرين واقتناعهم بما يفعلون، هدأت تلك الاعتراضات قليلا في السنوات الأخيرة، وتوالت دعوات تؤكد على أهمية نقل الخبرات الإبداعية وعقد ورش الكتابة وترجمة الكتب التي تتناول أسرار وتقنيات هذا النوع الأدبي أو ذاك.
كان من بين نتائج هذا التوجه الإقبال على قراءة نوعية خاصة من الكتابات البعيدة عن الأعمال النقدية الرصينة والغامضة على المبتدئين غالبا؛ تلك الكتابات التي تهدف إلى الأخذ بأيدي شباب الكتاب أو الراغبين في التطور من أصحاب التجارب.
لن يجد قارئ اللغة الإنجليزية - وكاتبها بالأصح - أي صعوبة في العثور على مئات العناوين في ذلك الاتجاه، وضعت لأغراض مختلفة في عملية تعليم آليات الكتابة، على مدى سنوات كثيرة، ومنها مؤلفات لأساطين عالم الأدب أو لمحترفي تعليم الكتابة، وإن لم تسطع نجومهم في عالم التأليف الأدبي ذاته.
ولسنوات عديدة بحثت وقرأت ودرست مثل تلك المصادر، في الكتب ومواقع الإنترنت، سواء أكانت مكتوبة بالعربية لكتاب عرب أم مترجمة أم باللغة الإنجليزية، وجزء كبير مما توشك على قراءته في هذا الكتاب هو ثمرة هذا البحث المطول بجانب الممارسة العملية في ورش الكتابة الأدبية، متدربا في البداية في ورش مختلفة، ثم مدربا في ورشة (الحكاية وما فيها) لدفعات متتالية، ولعل خبرة الممارسة - وما استقيته منها - كانت أهم وأعمق أثرا من عشرات الصفحات التي قرأتها. •••
بدأت تجربتي مع ورش الكتابة برغبة عارمة في التعلم والاستزادة حول شغف حياتي؛ الكتابة. أردت أن أتعلم أيضا كيف يمكن عمل ورشة كتابة أدبية نتبادل فيها الخبرات حول الأسرار والأدوات والتقنيات، ونمارس فيها لعبة السرد بكل جدية، ومن هذه الرغبة بدأت أولى الورش عام 2009 في إحدى مكتبات وسط القاهرة، على مدار خمسة شهور تقريبا، ثم تواصلت الدفعات المختلفة وتوالت نجاحات خريجيها، ولا تزال تتواصل حتى الآن؛ تعلمت الكثير خلالها عن مهارات المدرب وكيفية إدارة ورش الكتابة، وبالطبع الكثير عن الكتابة السردية ذاتها.
كمتدرب، لي أكثر من تجربة مع ورش كتابة السرد والمسرح والسيناريو، لكن الأساس فيها جميعا كان هو الخروج بالكتابة من مناطق غيبية وغير ملموسة مثل الوحي والإلهام والموهبة بحكم المولد، إلى مناطق مضيئة ومفهومة بدرجة أكبر مثل العمل والالتزام والتطور والتعليم والتعلم.
استفدت من كل ورشة ومن كل مدرب تعاملت معه في جميع تلك الورش، لكن كان علي أن أطور أسلوبي الخاص فيما بعد وطريقة عملي، وأن أضع ما يشبه المنهج، الذي لم أخترعه بالطبع بقدر ما استقيته من مصادر مختلفة ثم صغته في صورة مبسطة، بطريقة تتيح لي أنا - قبل الآخرين - أن أستمتع وأستفيد وأتطور. •••
لا أستطيع أن أزعم أنني صاحب منهج في تعليم الكتابة السردية بالمرة، أو صاحب تجربة عريضة في الكتابة أستطيع أن أستنبط منها قواعد محددة يمكن فرضها على كل تجربة وكل مبدع؛ كل ما تفعله الورش الأدبية، وكل ما يحاول هذا الكتاب أن يقدمه، هو التشجيع على العمل والإنتاج في إطار منظم، بعيدا عن أهواء المبدع ونزق تجلياته وتقلباته، واستسلامه لأوهام الوحي وانتظار الإلهام.
الكتابة عمل، وككل عمل آخر، يحتاج إلى ممارسة وانتظام وتأمل وتطوير؛ من هنا تأتي أهمية الورش مبدئيا، ثم الرغبة في التطوير والتعلم والممارسة بعد ذلك. دوري المبدئي، في الورش وهنا أيضا، أن أكون همزة وصل بين المتدرب أو القارئ وبين خبرات وتجارب لم أخترعها بل استقيتها من مشارب مختلفة.
ومع ذلك، لا بد أن نعترف بأنه لا توجد ورشة - أو كتاب - يمكن أن تصنع كاتبا من نقطة الصفر، أقصى ما يمكن تحقيقه أن نمد له طرف الخيط، أن نبين له الاتجاهات الأساسية، أن نمنحه وصلة هادية، حتى لو استغنى عنها بعد وقت وآثر الإبحار في المجهول. لا شيء يصنع كاتبا إلا ممارسة فعل الكتابة ذاته؛ أي النزول إلى البحر، ومناوشة الموج، يوما بعد آخر، وسطرا بعد سطر. •••
على مدار عام 2014، وبدعوة كريمة من مؤسسة هنداوي، كنت أكتب أسبوعيا مقالا صغيرا حول هموم ومسائل الكتابة السردية، موجها بالأساس للمبتدئين، ولكن يمكن أن ينتفع بما فيه كل كاتب متحقق يجد في نفسه الميل لتطوير حرفته. فصول الكتاب التالية هي ثمرة هذا العام، الذي سعدت فيه بضرورة العمل تحت ضغوط زمنية منتظمة ومساحة كتابة محدودة، ورحت أجمع كل موادي النظرية وألعابي الكتابية، وأحشد مصادري وخبراتي لأنتج شيئا قد يكون نافعا، ولو لشخص واحد فقط يطمح للكتابة ولا يعرف من أين يبدأ، أو مشتت قليلا مما يسمعه هنا وهناك في المنتديات والصالونات الأدبية.
بدأت سلسلة المقالات - الفصول التالية - بمناوشة فعل الكتابة عموما؛ مصادر الإلهام وتفتيح الآفاق، وكيف نهزم طغيان الصفحة البيضاء ورهبتها، وكيف نجمع أفكارنا كمن يصطاد فراشات ملونة. ثم كان علي أن أركز على محاور أساسية في عملية الكتابة السردية، مثل: «الثيمة»، والحبكة، وتحويل المعاني المجردة إلى سرد درامي وأشياء ملموسة، وطبعا الشخصية والحوار والوصف. انتهى العام بأسرع مما أتخيل، دون أن أتعرض بعد لمسائل كثيرة ذات شأن في لعبة السرد، مثل وجهات النظر وأنواع الرواة أو المراجعة والتحرير. ما زلت أطمح لاستكمال الرحلة التي بدأتها هنا ذات يوم.
على الرغم من أن معظم فصول هذا الكتاب موجهة لكتاب القصص والروايات بشكل أساسي، فإن بعض مواده قد تكون مفيدة لمن يمارسون كتابة أنواع أدبية أخرى - خصوصا الفصول الأولى - أو من يكتبون في فنون الدراما المختلفة للمسرح والسينما والتليفزيون.
الجانب النظري من الكتاب هو الأساس بالطبع، لكن دون جانبه العملي لا يمكن لفائدته أن تتم، بقدر ما أمكن حاولت أن أرفق بكل موضوع تمرينا أو مجموعة من تمرينات الكتابة التي أحث قارئ هذا الكتاب على تنفيذها بشدة، فمن دون هذه الممارسة العملية قد تتبخر أفكار واقتراحات هذه الفصول دون أثر يذكر بعد فترة. •••
لطالما كانت تمرينات الكتابة جزءا من مسيرة أي كاتب، سواء أكان من المبتدئين أم المتمرسين الذين يعرفون قيمة هذه الأداة الثمينة؛ وقد نجد في مذكرات بعض أكبر وأشهر الكتاب، مثل فلوبير وتشيخوف وهيمنجواي، أمثلة عديدة على ما نسميه اليوم تمرينات الكتابة، وإن لم يمنحوها هذا الاسم عندئذ. يتحدث ف. سكوت فيتزجيرالد على سبيل المثال عن «حيلة كتابة» تعلمها هو وهيمنجواي من جوزيف كونراد. وفي كتابه «فن السرد»، يقول جون جاردنر عن تمرينات الكتابة: «عندما يتناول الكاتب المبتدئ مشكلة صغيرة ومحددة، من قبيل وصف مشهد أو وصف شخصية، أو كتابة حوار قصير له غرض محدد، فإن مستوى عمله يقترب من درجة الاحتراف.»
ليس عليك أن تلتزم حرفيا بكل التمرينات الواردة في هذا الكتاب، كن مبتكرا؛ فهذا ليس فصلا دراسيا لتعلم لغة جديدة أو مهارات الحاسب الآلي، بعد بعض الوقت أبدع في تمريناتك الخاصة التي تدرك أنها تخاطبك أنت وتعزف على الأوتار الخفية بداخلك؛ فالهدف من التمرينات عموما ليس تنفيذها بقدر ما هو اكتساب المهارات التي نتمرن عليها، وتشغيل محرك الكتابة والخيال، واستكشاف عوالم جديدة على الورق، وما دمت استطعت تحقيق تلك الأهداف - وغيرها - فكن حرا في اللعب كما يحلو لك. •••
أكثر من مرة، خلال فصول الكتاب، سوف تلاحظ تأكيدي على أن المادة الواردة حول كل جانب من جوانب اللعبة السردية ليست إلا مبادئ أساسية تماما، الجهل بها خطيئة ولكن الاكتفاء بها خطيئة أكبر. موضوعات كثيرة في هذا الكتاب تحتاج إلى آلاف الصفحات لدراستها والإحاطة التامة بها - الشخصية في السرد على سبيل المثال - لذلك أدعوك بشدة إلى اعتبار هذه الصفحات مجرد باب أول نحو ذلك العالم الشاسع، باب له طابع عملي وتدريبي لكنه لن يغنيك بالمرة عن الإبحار الحر بمفردك. •••
إذا كنت كاتبا متمرسا، وله كتب منشورة، فقد ترى في كثير من مواد هذا الكتاب بديهيات ساذجة، لا حاجة لتكرارها، لكني أرجو أن تجد فيه أيضا محفزات على العمل بطرق جديدة ومختلفة عما صرت مطمئنا إليه الآن. مهما نشر أحد الكتاب ومهما ذاع صيته، يظل على الدوام بحاجة إلى تجديد دمائه، وتقليب تربة أفكاره وقناعاته، وكل كاتب حقيقي يدرك أنه تقريبا يبدأ من الصفر مع كل مشروع جديد يعمل عليه، وأنه كثيرا ما يجد نفسه مضطرا للتخلي عن كثير من عقائده القديمة ليبحر في المجهول.
أما إذا كنت وافدا جديدا على عالم الكتابة، ولم تتح لك فرصة الاشتراك في ورشة كتابة أدبية من قبل، لسبب أو لآخر، فلتعتبر هذا الكتاب ورشتك الصغيرة الخاصة، انتظم في قراءته وممارسة تمريناته كأنها مسألة طقس واجب الأداء، وأعدك ألا تقل ثمرة جهدك عما يناله كثيرون من التحاقهم بورش وفصول الكتابة، فقد كان هذا هدفا أساسيا في أثناء إعداد مواد هذا الكتاب. •••
في نهاية فصول الكتاب تجد ملحقين؛ الأول أعرض فيه بإيجاز عشرة كتب مترجمة عن الكتابة الإبداعية بمختلف أشكالها، وكل كتاب منها يعد ثروة أدبية وعملية لا تقدر بثمن، فلا تتردد في البحث عنها والاطلاع عليها. الملحق الثاني ثروة أخرى من نصائح للكتاب قدمها مجموعة من أمهر وأروع كتاب الغرب. سيعطيك هذان الملحقان لمحة سريعة عن المواد التي استعنت بها من أجل إعداد هذا الكتاب. •••
أنا مدين وممتن لعدد كبير من الكتاب والكتب والمواقع والمصادر والندوات وحوارات الأصدقاء، وبالطبع ورشة «الحكاية وما فيها» نفسها، فلولا كل تلك المنابع والمصادر لما كان بوسعي أن أنجز هذا العمل، وكل ما أرجوه أن يجد القارئ هنا نفعا وفائدة ورفيقا مخلصا في رحلته الشاقة مع الكتابة.
حظا موفقا وعملا ممتعا.
الكلمات المفاتيح
أعيش لحظة عقيمة؛ الورقة مطروحة أمامي، منذ آن لا تبرق في آفاقي بارقة، لا أظفر بشيء، ولا بكلمة أفتتح بها خطابي إليك؛ فإن الأمر لدي كامن في كلمات مفاتيح، ما إن أستأنف واحدة وأصففها في مستهل الصفحة، حتى تنزل علي شآبيب الكلام، لكن اللحظة عقيمة، لقد شبعت في السقف تحديقا وفي الخواطر تقليبا، تنهدت كثيرا ولا يفتح الله علي بشيء، قلت إذن فلنكتب عن اللحظات الغبيات العواقر.
الفقرة السابقة من مستهل رسالة كتبها الكاتب الكبير الراحل عبد الحكيم قاسم إلى صديقه الكاتب محمد صالح، وقد نشرت في كتاب «نوبة حراسة» الذي جمع فيه الصحافي محمد شعير رسائل عبد الحكيم قاسم إلى أقاربه وأصدقائه خلال فترة إقامته وعمله في ألمانيا.
ومن الصعب أن نجد أفضل من هذه الفقرة تعبيرا وشرحا لفكرة الكلمات المفاتيح
The keywords ، ومن مجرد المصطلح يمكننا أن نخمن أنها كلمات تفتح أبوابا، تفضي تلك الأبواب بدورها إلى غرف ودهاليز ورحبات ثم طوابق، وربما ممالك وعوالم.
إنها كلمة قد تومض في الذهن فجأة وسط الضجيج والزحام لتفجر الشرارة الأولى لنصك الأدبي، وكل كلمة طرف خيط، ما عليك إلا أن تمسك بهذا الطرف وتسحبه إليك أو تتبعه حتى تصل إلى مبتغاك: النص؟ القصيدة؟ القصة؟ الرواية؟ ولعل تلك الكلمة تكون اسم علم «كليوباترا»، أو اسم شيء «الساقية»، أو فعلا «يتعرى»، أو صفة «بخيل»، أو حالا «مسرعا»، والاحتمالات بلا نهاية تحت كل فئة من هذه الفئات، لكن «الكلمة- المفتاح» تبقى بؤرة في المركز تمد من حولها بأشعة وخيوط في اتجاهات عديدة كأنها بيت العنكبوت.
هناك أكثر من طريقة يمكنك بها اكتشاف المناطق والاتجاهات التي يمكن لهذه الكلمة المفتاحية أن تأخذك إليها؛ مثلا عندك طريقة التداعي الحر، شفويا أو كتابة، بأن تردد أو تكتب كل الكلمات التي يمكن لكلمتك الأساس أن تجرها إليك، مثلا: الساقية، المياه، الغيطان، الفلاحين، الترعة، الزلعة، الفجر، الصلاة، الديك، الاستيقاظ، الاغتسال، الشقاء ... إلى آخره. بهذه الطريقة تسمح لكلمتك المفتاحية بأن تشق سبيلها لتكتشف ذاتها بين أقاربها من الكلمات، وترسم محيطها الخاص بها. وثمة طريقة أقرب إلى الرسم منها إلى التداعي اللفظي الحر، وهي أن ترسم دائرة في منتصف صفحة بيضاء كبيرة، وتكتب في قلبها كلمتك المفتاحية، وكأن هذه الدائرة هي شمس صغيرة تخرج منها مجموعة من الأشعة، وكل شعاع ينتهي بدوره بدائرة أخرى، بداخلها كلمة جديدة تفرعت عن الكلمة الأم، فلو كان مركز الدائرة «كليوباترا» يمكن أن تمتد منه كلمات مثل: تاريخ، وسجائر، وإليزابيث تايلور، وغرام، وأنطونيو، وحتى عبد الوهاب ... فهنا يرتسم أمامك أفق كامل من الدلالات، ودورك هو تبين العلاقات وعقد الصلات بين تلك الأطراف الشعثاء المتباعدة؛ أن تلملمها في روابط وعبارات واحتمالات؛ هل يمكن أن تخرج الملكة كليوباترا من صورة على علبة سجائر؟ هل التقت إليزابيث تايلور بكليوباترا في العالم الآخر فأطلعتها الملكة القديمة على رأيها في أدائها لدورها؟ والاحتمالات تكاد تكون دائما بلا نهاية.
في الطريقة الأولى؛ التداعي الحر، تحصل على تسلسل زمني يقودك إلى استنفاد احتمالات الكلمة المفتاحية، أما في الطريقة الثانية فإنك ترسم خريطة للاحتمالات والعلاقات تراها بعينيك تكبر وتتسع في كل الاتجاهات الممكنة.
انطلاقا من كلمة أساسية ينفتح أمامك أفق النص - الذي ما زال جنينا في رحم الغيب حتى الآن - وكذلك ترتسم أمام عينيك مجموعة من الاحتمالات السردية التي يمكن البناء عليها، أو على الأقل يمكن أن تؤدي إلى احتمالات أخرى أكثر تعقيدا وذكاء. من هنا يمكنك أن تصل إلى فكرتك، أو ربما إلى عبارتك الأولى؛ الجملة المفيدة التي سيدور حولها نصك الوليد.
في حالة عدم ظهور كلمة مفتاحية تلقائيا في لحظة شرود أو تجل، يمكنك أن تتريث حتى تكشف عن نفسها لك، وربما يطول انتظارك، كما يمكنك - وهو الأفضل - أن تذهب أنت إليها بأن تتلاعب بأكبر قدر ممكن من الكلمات، وأن تعامل كلا منها باعتبارها كلمة مفتاحية، العب معها لعبة التداعي الحر للمفردات، وارسمها في قلب بيت العنكبوت، واكشف علاقاتها الخفية بالمفردات الأخرى. كرر الأمر حتى تجد كلمتك المنشودة.
لو راجعت فقرة عبد الحكيم قاسم من جديد، فستجده قد نجح في الفرار من عقم اللحظة التي لا يجد فيها كلمة مفتاحية تنجده بمواجهة هذا العقم نفسه، وبالكتابة عن «اللحظات الغبيات العواقر»، وهذه حيلة في غاية من البراعة؛ يمكنك أن تنفذها أحيانا بأن تمسك بالكلمة التي تضايقك ثم تفككها وتتداعى معها، وأن تكتشف أفق دلالاتها. فلتكتب عن العجز عن الكتابة حين تشعر به يدق بابك، وسرعان ما سيتحول شبح العجز هذا إلى تدفق ووفرة وطاقة.
تمرين
ليس عليك أن تكتب الآن، أنت تلعب فقط، تلعب بالكلمات. اختر كلمة والعب معها لعبة التداعي وانظر إلى أين تقودك؛ ثم ارسم هذه الكلمة في قلب دائرة، وارسم أربعة أو خمسة أسهم تخرج من الدائرة لتنتهي بدوائر أخرى أصغر، واكتب أول أربع أو خمس كلمات توحي لك بها الكلمة الأم، ثم كرر الأمر مع كل دائرة فرعية حتى تتكون أمامك شبكة أو خريطة. تأمل العلاقات الممكنة بين تلك المفردات، كون جملا منها؛ جملا مفيدة ذات معنى يمكنها أن تكون أساسا لنص جميل.
نصيحة
احتفظ معك على الدوام بدفتر صغير، لتلعب فيه مع مفرداتك، أو لتدون به سريعا الخواطر والأفكار العابرة التي سرعان ما تذوب في زحمة المشاوير وصخب الدنيا. سيكون هذا الدفتر هو بنك أفكارك ومغارة الكنوز الخاصة بك عندما تخلو إليه في الليل. لا تعتمد على الذاكرة؛ لأن الأمر كما قال كونفوشيوس: «إن أضعف حبر يكتب به شيء على الورق لهو أقوى من أفضل ذاكرة إنسانية.»
فائدة
شآبيب:
جمع شؤبوب؛ أي دفعة واحدة من المطر، وشآبيب الرحمة هي الدفعات المتتالية من الرحمة، فهي ليست شؤبوبا واحدا؛ لأن رحمات الله تعالى لا تنقطع، فهي متتالية.
سحر الكتابة الحرة
عند سؤال الكاتبة «جويس كارول أوتس» حول تلك الحالة المثالية التي يمكنها فيها أن تكتب من الصباح المبكر وحتى الأصيل، قالت يجب على المرء ألا يتهاون أبدا مع مسألة «المزاج الملائم» هذه؛ لأن الكتابة بمعنى ما هي التي توجد «المزاج الملائم». وهو رأي يخالف كثيرا ما نشأنا عليه بخصوص انتظار اللحظة المواتية للكتابة.
نعرف جيدا الصورة المألوفة للكاتب الذي يجلس محدقا في الورقة البيضاء بنظرة تعيسة في انتظار الوحي، أو يهيم على وجهه في الطرقات (أو ربما في أحضان الطبيعة) ملتمسا الإلهام. الآن، فلتعتبروا هذه المشاهد من مخلفات تاريخ الكتابة، فلم يعد عليك انتظار الوحي والإلهام، بل عليك أن تذهب بنفسك إليه، على قول وليام فوكنر: «إنني لا أكتب إلا بإلهام، ولحسن الحظ، فإن الإلهام يأتيني كل يوم في التاسعة صباحا.» هذا يعني أن على الإلهام - إذا كان له وجود - أن يجدك في انتظاره عندما يقرر زيارتك، وأن يجدك مستعدا ومتأهبا لالتقاط منحه وكراماته.
إليك واحدا من أهم كنوز صندوق أدوات الكتابة، وهو «الكتابة الحرة».
الكتابة الحرة هي أداة، الهدف من استخدامها أن تضع على الورق أمامك أي شيء يخطر في بالك وقت الكتابة (أي شيء بمعنى أي شيء) لمدة محددة من الوقت (عشر دقائق مثلا)، أو لعدد محدد من السطور أو الكلمات (20 سطرا أو 200 كلمة)؛ الهدف أن تكتب فحسب، في دفقة متواصلة، سواء انطلاقا من كلمة أو فكرة أو شخصية، أو حتى قطعة موسيقية أو لوحة فنية، والاحتمالات - كما هي العادة - بلا نهاية، أو دون أن تنطلق من أي شيء بالمرة؛ من البياض المحض. كل ما هنالك أن يتحرك قلمك ببساطة وبسرعة على الصفحة، أو أن تعزف الأصابع بنشاط وخفة على لوحة المفاتيح دون وعي تقريبا، مع إرجاء كل من الحكم والنقد والتنقيح والتحرير والضبط إلى وقت تال.
من الضروري كبح أي صوت نقدي قد يبرز في رأس الكاتب، ولو ألح هذا الصوت واستمر في الظهور؛ فبعض الكتاب ينصحون باستخدامه ووضعه هو الآخر على الورق والتسلل من حوله للعودة من جديد لمسار الأفكار. كما أن الاكتفاء بالحد الأدنى من سيطرة العقل الواعي على تيار الكتابة؛ شيء لا غنى عنه عند ممارسة الكتابة الحرة؛ لأنه عندئذ فقط تبدأ المفاجآت المدهشة في الظهور، وبعد أن كانت اليد ثقيلة في السطور الأولى - أو جلسات الكتابة الأولى - تخف وتتطاير كأنها تكافح لتلحق بتيار الأفكار المتتابعة في الذهن، وبعد أن كانت الصورة غائمة ومشوشة، نراها - بعد فترة من الممارسة - وقد انجلت ووضحت معالمها وتفاصيلها، حتى إننا قد نشعر في لحظة ما أننا لا نكتب، بل نكتشف، لا نبدع من عدم، بل فقط نمر بأصابعنا على سطور مكتوبة سلفا من زمان بحبر سري بداخلنا، وما علينا إلا أن نكشف عنها النقاب.
في كتابها
Becoming a Writer
تقترح «دوروثيا براند» أن الطريقة المثلى لأن تبدأ كتابك ليست هي الانطلاق من فكرة أو شكل، بل أن تطلق كل ما في ذهنك من أفكار على آلتك الكاتبة، وهي تقترح عليك أن تصحو كل يوم وتتوجه مباشرة إلى مكتبك (يكون من الأفضل أن تعد قهوتك من المساء، وتتركها في وعاء يحفظها ساخنة)، ثم تشرع في كتابة كل ما يرد إلى ذهنك، حتى قبل أن تستيقظ تمام اليقظة، قبل أن تقرأ أي شيء أو تتحدث إلى أي شخص؛ أي قبل أن تسلم زمام عقلك لعالم المنطق والواقع والقوانين والقواعد.
تمرين
مارس الكتابة الحرة يوميا على مدار أسبوع، كل يوم لمدة ربع ساعة فقط. اعتبر نفسك في ماراثون، وتريد أن تحقق رقما قياسيا في إنتاج عدد الكلمات خلال هذه الفترة. اهزم خشيتك من السطحية أو السذاجة، اكتب فحسب، فلن يطلع أحد غيرك على هذه الكتابات، مرن عضلات الكتابة لديك لتكون مستعدا عندما تعمل على مادتك الحقيقية. والاحتمالات كبيرة أن تولد تلك «المادة الحقيقية» من رحم تمارين الكتابة الحرة اليومية، التي يحرص كثير من الكتاب على ممارستها يوميا كل صباح، كأنها تمارين الصباح البدنية تماما.
نصائح ...
من الروائي حنيف قريشي (بريطاني من أصل باكستاني): (1)
اكتب على دفقات، كل منها مدة ربع ساعة على الأقل. (2)
خلال دفقة الخمس عشرة دقيقة، لا تفكر على الإطلاق، اكتب فحسب. (3)
اكتب كما لو أنك شخص آخر.
في مديح الأسئلة الصغيرة
إذا كان يمكنك مع الكتابة الحرة أن تنطلق في الكتابة من الفراغ تقريبا، دون تفكير أو حكم بأهون قدر؛ فإنك ستكون بحاجة إلى أداة أخرى توفر لك درجة أكثر تقدما من العمل على مادتك الأولية وتطويرها. يمكنك أن تسمي هذه الأداة الأخرى بالكتابة المتشعبة أو التوسعية أو حتى طريقة «الأسئلة الصغيرة» ... كما تشاء. مع هذه الأداة تنطلق في الكتابة بناء على شيء ما سابق بين يديك: عبارة، فكرة مجردة، فقرة مكتوبة سلفا ... إلى آخره. وعلى خلاف الكتابة الحرة، تكون لديك هنا درجة أعلى من السيطرة على المادة التي تكتبها، تتدخل بوعي وقصد وتحدد مسارها؛ ولكن لا داعي أيضا للتقييم أو الحكم المعوقين للتدفق، ويكمن كل دورك في تحفيز خيالك بانتظام عن طريق مواصلة طرح الأسئلة «الصغيرة».
لنفترض مثلا أنك أمام جملة ما، ولا تعرف كيف يمكنك البناء عليها والمضي بها نحو النص أو العالم الذي تحاول استكشافه، ولنأخذ مثالا بسيطا: «ذهب أحمد إلى المدرسة.» إنها جملة بسيطة ومضحكة قليلا. يتمثل دورك الآن في أن تخرج من هذه الجملة بأكبر عدد ممكن من أدوات الاستفهام، مثل: من أحمد؟ ماذا فعل؟ لماذا فعل كذا؟ ومن المفعول؟ وكيف كان هذا؟ ومتى؟ وأين؟ وبماذا كان يفكر؟ وما الذي ترتب على هذا؟ إلى آخر هذه الأسئلة الصغيرة التي يمكنك اشتقاقها من جملتك البسيطة. قد نجد مثلا أن: (1)
أحمد عامل نسيج متوسط العمر. (2)
قد ذهب إلى المدرسة الليلية لمحو الأمية في دار المناسبات في مركز البلدة. (3)
ذهب بعد أن فرغ من صلاة العشاء مباشرة. (4)
فقط ليرى معلمة محو الأمية؛ الأرملة الشابة الجميلة ...
يمكنك أن تستكمل هذا المثال، أو أن تعيد الإجابة عن الأسئلة نفسها على هواك؛ والاحتمالات - كما صرت تعلم الآن جيدا - بلا نهاية تقريبا.
إشارة
الكتابة الحرة وطريقة الأسئلة الصغيرة أداتان مختلفتان، لكنهما متكاملتان مع هذا، فما قد تخرج به من نوبات الكتابة الحرة من مواد خام أولية، لا رابط أو ضابطا يحكمها، يمكنك العمل عليها بعد ذلك بطريقة طرح التوسع التدريجي هذه. كل ما عليك هو أن تطرح أكبر عدد ممكن من الأسئلة الصغيرة على جملتك أو مادتك المكتوبة، وتجيب عنها بإجابات غير متوقعة، فلا تتبع السكك المطروقة والمعبدة، غامر وجازف واكتشف وفاجئ نفسك لكي تستطيع أن تفاجئ قارئك بكل مدهش وغريب؛ فليس من الضروري بالمرة أن يكون أحمد ذلك هو تلميذا في المدرسة الابتدائية، بل يمكنه حتى أن يكون فراشا في المدرسة ذاتها، أو ولي أمر أحد التلاميذ تم استدعاؤه لمشكلة ما، أو معلما على المعاش ما زال يتردد من وقت إلى آخر على المكان الذي احتل ثلاثة أرباع حياته، والاحتمالات ... حسنا، لا داعي لتكرارها.
خبرة
يستعين بالأسئلة الصغيرة في كتابة رواياته الروائي الكندي السيريلانكي الأصل «مايكل أونداتجي»، صاحب الرواية الجميلة والشهيرة «المريض الإنجليزي»، التي تحولت إلى فيلم أكثر شهرة بالعنوان نفسه، يقول: «لا تكون في ذهني أية موضوعات كبيرة.» وسوف تسمع هذه العبارة تتردد على ألسنة كتاب كبار آخرين، وبدلا من الانطلاق من سؤال ضخم من نوعية: ما الشخصية التي يمكن لها أن تفتن القراء؟ أو ما أهم أحداث القرن العشرين؟ فإنه يجلس ليتأمل بضعة أحداث صغيرة ومحددة، مثل تحطم طائرة، أو مريض مغطى بكامله بالضمادات البيضاء يتحدث إلى ممرضة جميلة بجانبه، ثم يبدأ أونداتجي يسأل نفسه: من هذا الرجل؟ كيف أتى إلى هنا؟ لماذا تحطمت طائرته؟ في أي عام حدث هذا؟ ومن هذه الممرضة؟ ألها حبيب؟ ومن خلال إجاباته على كل تلك الأسئلة الجزئية الصغيرة - بحسب قوله - «تتجمع تلك الشذرات، أو قطع الفسيفساء الصغيرة، بعضها إلى بعض، فيصير بوسعك اكتشاف ماضي تلك الشخصيات، أو أن تبتكر ماضيا لبعضها.»
تمرين
اطرح على نفسك تلك الأسئلة الصغيرة وأجب عنها فورا بينما تكتب، تشعب مع جملتك في كل اتجاه ممكن لتبني حولها كتلة من العلامات والروابط والصلات، وستكون الكتابة المتشعبة هذه هي أداتك النافعة حين تريد كسر قيد جملة مصمتة لا تريد أن تلين أمام رغبتك في الكتابة، ومع ذلك تجدها جميلة ومغوية بالسير خلفها. مارس طريقة الأسئلة الصغيرة لفترة حتى تتقن استخدامها كأداة عمل. اختر جملا سابقة لك، منتزعة من سياقها، أو من نصوص لكتاب آخرين بصورة عشوائية - هذه ليست سرقة ما دمنا في إطار التمرينات - تلمس الفجوات الموجودة فيها، واطرح عددا من الأسئلة «الصغيرة» حول عناصرها ومفرداتها، وأجب عنها إلى أن تتحول تلك الجملة الأولى إلى شيء مختلف. ليس من الضروري أن ينتج عن هذه التمرينات شيء له قيمة أدبية، فما هي إلا تمرين لعضلاتك الكتابية، ولكي تتسلح بتلك الأداة حينما يأتي وقت الجد، الذي صار وشيكا.
نصيحة
في نصائحه المعنونة «كيف تكتب رواية في 100 يوم أو أقل»، كتب جون كوين: «على الرغم من عدم وجود قواعد بشأن أفكار القصص، فإني سأقدم لكم تحذيرا صغيرا: تناولوا الأفكار الصغيرة. من أسوأ الأخطاء التي قد يبدأ بها روائي العمل على روايته، هو الاستعانة بالأفكار الكبيرة في محاولة للتوصل إلى قصة تختزل العالم كله بداخلها، على اعتقاد أنه كلما كانت الفكرة أكبر كانت أفضل؛ وهذا ليس صحيحا، فلتكن فكرة قصتك صغيرة ومركزة. انبش في روحك المبدعة عن قصة صغيرة لها مغزى عميق عندك أنت، فكلنا أبناء في عائلة إنسانية واحدة، وإذا أبدعت قصة ذات مغزى عميق بالنسبة إليك، فغالبا ما ستكون كذلك بالنسبة إلى الآخرين.»
كن صياد فراشات
مقتطف
من الممكن أن يحدث عرضا - ولو للحظات عابرة ليس أكثر - أن نجد الكلمات التي سوف تفتح أبواب كل تلك المنازل الكثيرة بداخل رءوسنا، وتعبر عن شيء ما - ليس الكثير، ولكن شيء ما - من حشد المعلومات الذي يلح علينا من كل جانب، شيء مثل الطريقة التي يطير بها غراب، وكيف يسير رجل ما، ومنظر الشارع، وما فعلناه ذات يوم قبل عشرات السنين.
الشاعر الإنجليزي «تيد هيوز»
شكرا سيد هيوز، والآن ليس المقصود من عنوان هذا المقال أن تمارس هواية صيد الفراشات حقا كما كان يفعل الروائي الروسي الأصل فلاديمير نابوكوف، ولا بالمعنى المجازي الذي قد تجده في عنوان رواية جون فاولز «جامع الفراشات»، والتي تحكي قصة شاب مختل نفسيا، يختطف فتاة بعد أخرى ويحبس كلا منهن في قبوه؛ فقط ليصادقها. إننا نتكلم عن الأفكار، واسمح لنا أن نطلق عليها مجازا «فراشات»، وأنت الآن صيادها المخلص الذي يمارس هوايته تلك ليل نهار، بصرف النظر عن مكانه أو صحبته أو حالته الذهنية؛ فلا يحتاج صيد الخواطر للتفرغ أو لاعتزال الناس والتوغل في البراري والغابات .
هل تتذكر القول المبتذل القديم بأن الأفكار ملقاة في الطرقات، المهم أن نعرف كيف نلتقطها ونصنع منها شيئا؟ أحب أن أبشرك بشيء، هذا القول صحيح مائة في المائة؛ يمكنك العثور على أفكار قصائد وقصص وروايات وكتب غير سردية وأفلام ومسلسلات في كل ركن من حولك، في بيتك وبين أهلك، في الشارع وزحام المواصلات، في مكان عملك، في المقاهي وأماكن الترفيه، على شاشة التليفزيون، بين صفحات الكتب (لا نتحدث عن الاقتباس هنا؛ فهذه قصة أخرى)، وعلى صفحات المواقع الإلكترونية حاليا بطبيعة الحال؛ ما يهم هنا هو أن تنمي لديك - بالممارسة - تلك العين اليقظة التي تستطيع تمييز الفراشة الملونة الصغيرة من بين ركام الحياة اليومية وزحامها بعشوائيتها ونشازها، ثم أن تعمل - فيما بعد - على تغذيتها وتطويرها إلى أن تتحول الفراشة ذات يوم إلى شيء آخر: كرنفال أو كاتدرائية أو حتى غرفة لشخصين.
تمرين
اكتسب عادة تحويل كل شيء حولك إلى قصة صغيرة في خيالك، دون أن تضطر لكتابتها حتى، مستعينا على الدوام بالسؤال السحري: «ماذا لو؟» ماذا لو أن هذا الرجل كان في شبابه يعمل مرشدا للشرطة؛ ولذلك فلا أحد يطيقه الآن على الرغم من كبره وعجزه؟ ماذا لو أن هذا الميدان في الحي الراقي احتلته فرقة سيرك جوالة على الرغم من الفيلات والسفارات المحيطة به؟ ماذا لو أن عمتي المتدينة الطيبة ورثت فجأة ثروة حقيقية؟ وهكذا، إلى ما لا نهاية. بدلا من أن تسب وتلعن إشارة المرور، أو تقلب بصرك في وجوه المزدحمين بالمترو منزعجا، العب بخيالك معهم، ابتكر، اخلق، واسرح مع المفتاح الذهبي: «ماذا لو؟»
حصالة الأفكار
اعثر على طريقة للاحتفاظ بأفكارك: دفتر صغير، صندوق ورقي، ملف على الكمبيوتر، أي شيء يضمن لك عدم تبخرها في الهواء. سوف ترجع إلى حصالتك هذه من حين إلى آخر لتمسح الغبار عن خواطرك القديمة؛ لعلك تجد من بينها ما هو جدير بوقتك ومجهودك والعمل عليه نحو إنتاج نص جديد رائع. بعد تدوين فكرتك - أفكارك الصغيرة - ولو في سطر أو سطرين، اركنها، انسها، اصبر عليها لبعض الوقت؛ فالعجين بحاجة لأن يختمر؛ وذلك الوقت تختلف مدته من شخص إلى آخر، ومن نوع أدبي إلى آخر، فلتحدد إيقاعك بنفسك، فلكل فكرة مساحة زمنية كافية للاختمار، ربما يوم أو أسبوع أو شهر، أدعو الله ألا تصل إلى سنوات كما يحدث في بعض الحالات؛ المهم أن تعود إليها في الوقت المناسب وتشرع في العمل عليها وتطويرها قبل أن يتلاشى من داخلك الحماس لها.
تنبيه واجب
حاول أن تتحلى بالحرص والرأفة مع أفكارك، فمهما بدت لك إحدى الفكر لأول وهلة تافهة وغير جديرة بالتعب عليها، فلتسارع إلى تدوينها ما إن تخطر لك، أين دفترك الصغير وقلمك؟ لا تنسهما في المرة القادمة من فضلك. لا تعرض عن فكرة خطرت لك مفترضا أنها غير أصيلة ولا جديدة بما فيه الكفاية، فأصالة الأفكار مسألة نسبية تماما، بل إن البعض يدعي أنه لا توجد فكرة جديدة أو أصيلة بالمرة، وأننا لا نفعل في الحقيقة غير إعادة إنتاج ما سبق علينا، مضيفين فقط أسلوبنا ورؤيتنا ولحظتنا الخاصة، فهل غادر الشعراء من متردم؟! احتفظ إذن بفكرتك مهما بدت متكررة ومبتذلة، واكتشف منظورك الخاص لها فيما بعد؛ فلا يوجد اثنان على وجه الأرض - فضلا عن كاتبين - لهما وجهة نظر متطابقة في أي تجربة حياتية أو موضوع ما، قلب الفكرة «المعروفة» على جميع جوانبها حتى تعثر على الباب الذي لم يدخل منه أحد قبلك قط. هذا الباب موجود بداخلك؛ لأنك مختلف، لأنك نسخة فريدة من النموذج الإنساني، كل ما عليك هو أن تعثر على ذلك الباب وتفتحه بمفتاحك الخاص، وتدخل منه غير هياب ولا متردد.
تصحيح
علمونا خطأ أن الشرود عادة غير طيبة، في فصول الدراسة وعند عبور الشارع وربما في كل وقت أو مكان؛ هذا غير صحيح، اكتسب عادة الشرود، كلما استطعت إليه سبيلا، إلا عند ممارستك عملا خطيرا، قد يهدد شرودك في أثنائه حياتك أو حياة آخرين. لكن على وجه العموم، يعد الشرود حديقة تسع جميع أنواع الفراشات التي نبتغيها ونسعى وراءها، ويمكنك اصطيادها جالسا في مكانك، منصتا للضجيج من حولك، مبتسما، ومستسلما لخيالك الذي ينشط في مطاردتها واللحاق بها.
أنت بستاني أفكارك
حلم موجه
في جامعة كولومبيا، قبل عقود عديدة، وفي أحد فصول تدريس الكتابة السردية، كان يجلس صامتا وشارد اللب شاب أسود العينين، لا يبدو عليه الإنصات لما يقال ولا يدون ملاحظات، مكتفيا بالنظر خارج النافذة. ما هو إلا أسبوع واحد بعد انتهاء هذا الفصل الدراسي حتى بدا وكأن هذا الشاب ظهر من العدم، فكتب العديد من القصص التي وجد أغلبها طريقه إلى النشر. ولم يكن هذا الشاب سوى «جي دي سالينجر» صاحب الرواية المدوية «الحارس في حقل الشوفان»، ويبدو أنه كان يهيم في نوع من «أحلام اليقظة الموجهة»؛ فالكتابة وفقا للأرجنتيني «بورخيس»: «ليست إلا حلما موجها.» فكيف توجه حلمك وهو ما زال فكرة في المهد؟
مع الوقت والرعاية
البذرة التي غرستها في خيالك وهمت بها شاردا لأيام أو أسابيع أو ربما شهور، سوف تخرج منها ساق رفيعة للغاية في يومها الأول من الحياة، ساق لا تظن أنها من القوة بحيث يمكنها أن تواجه الحياة وتنجو وتكبر وتزدهر، وتكسوها الأوراق والبراعم، وتستدير في أغصانها البتلات بألوانها وروائحها وعجائبها. لكن، صدق أو لا تصدق، فإن هذا ما سيحدث، فقط لو تعهدتها بالرعاية والمحبة كأي بستاني رقيق القلب.
من أين نبدأ؟
لنفترض أنك الآن قد اصطدت الفراشة؛ أي وضعت يدك على الفكرة التي تود كتابتها، وبعد أن وضعتها جانبا لفترة أخرجتها من بنك الأفكار وقررت أنه قد حان الوقت للعمل عليها، من أين تبدأ؟ ولعلنا نجد جوابا مبدئيا في شرود «سالينجر» مع أحلام يقظته الموجهة؛ ومع ذلك يظل السؤال قائما: ماذا بعد الهيام مع الفكرة وتأملها في خيالاتنا؟
من ناحية يقول البعض: إنه ليس من المهم تحديد من أين نبدأ، لكن المهم أن تبدأ، ولو من أي نقطة. ومع ذلك فهناك دائما بعض الاقتراحات والحلول؛ فإذا كنت قد قمت بصياغة فكرتك في عبارات قليلة، على طريقة ملخصات الأفلام كما تتم كتابتها في الدعاية أو في نشرات المهرجانات السينمائية، يمكنك الآن العودة لهذه السطور المعدودة وتغذيتها تدريجيا، بإعادة كتابتها؛ على طريقة التوسع التدريجي التي ألمحنا إليها في فصل سابق، بعنوان «في مديح الأسئلة الصغيرة».
هل الملخص لا بد منه؟
ليس بالضرورة، وليس دائما؛ ربما تكون قصتك قصيرة للغاية، يدور موقفها الأساسي في مساحة محدودة للغاية زمنيا ومكانيا، ثم إنك قد تجد نفسك مندفعا لكتابتها مباشرة كما خطرت لك دون مقدمات وتمهيد وتمتين للفكرة الأساسية بالمرة؛ لكن، في أحيان أخرى، قد يكون مشروعك أطول قليلا؛ قصة طويلة أو رواية أو سيناريو فيلم طويل، في هذه الحالة يكون لا غنى لك عن كتابة الفكرة وإعادة صياغتها في ملخص واضح المعالم، تدرج فيه كل المعلومات الأساسية عن مشروعك، من قبيل: من شخصيتك الرئيسية؟ وما ملامحها الأساسية؟ (سالم: فلاح بسيط بالكاد يقرأ ويكتب)، وما الحدث الرئيسي الذي يقع له؟ (يجد ذات صباح جسما معدنيا مجهولا في غيطه)، وأيضا ما المكان والزمان؟ (دلتا مصر في نهاية الألفية الثانية - أو فلتكن محددا أكثر إذا كنت بحاجة إلى ذلك)، ثم نتيجة الحدث الرئيسي دون إسهاب في التفاصيل (فتنقلب حياته رأسا على عقب، وتنصب وسائل الإعلام سيركا مبتذلا في قلب حياته اليومية البسيطة). «ماذا لو؟» السؤال الذهبي
في كل مراحل عملك المبدئي على صياغة وتمتين فكرتك، ثمة أداة سحرية تتمثل في السؤال الذهبي: ماذا لو؟ لا تتوقف بالمرة - في هذه المرحلة، وربما في لحظات بعينها من مراحل تالية - عن طرح ذلك السؤال؛ ماذا لو أن قصة سالم مع الجسم المجهول الذي سقط من السماء كانت تدور بكاملها في العصور الوسطى؟ كيف سيكون رد فعل الناس؟ ماذا لو أن ابن سالم الصغير اختفى تماما في الليلة ذاتها لظهور الجسم الغريب؟ ماذا لو أن جهات عليا أخذت تضغط على سالم لإخفاء حقيقة ذلك الجسم الغريب وتكذيب الخبر، والاعتراف بأنه اختلق الأمر لغرض ما؟ عشرات الأبواب - وربما مئات - يفتحها لك هذا المفتاح الذهبي الصغير، وكل باب منها يفضي إلى عالم مختلف وتصور آخر لمشروعك. ولكن في لحظة ما عليك أن تختار بابا واحدا من بينها، وتستقر عليه وتدخل منه، فتستريح هاتفا: «وجدتها! هذه هي ...»
البحث ثم البحث ثم البحث
تخيل كاتبا شابا يريد أن يكتب قصة حب بين فتى وفتاة ينتميان إلى عائلتين متحاربتين، دون أن يقرأ مسرحية شكسبير «روميو وجولييت»، أو حتى يرى فيلما عنها. تخيل آخر يريد أن يكتب رواية عن أسرة يموت عائلها الموظف فتتدهور أحوالها بسرعة، وتختلف مصائر أبنائها دون أن يطلع على رائعة نجيب محفوظ «بداية ونهاية».
بينما تعمل على غرس بذرة نصك في أرض خيالك، قلب التربة جيدا، اكشفها للهواء والشمس، وافحص البذرة نفسها جيدا؛ هل هذه الفكرة مستهلكة؟ فإن كانت، فكيف يمكنك تجديدها واكتشاف وجهة نظر أو زاوية جديدة تتناول منها الموضوع القديم نفسه؟ اسأل أصدقاءك ومعارفك حول أعمال أدبية وفنية تدور في الأجواء نفسها، ربما تتذكر أنت بعض تلك الأعمال، فلو استطعت فعد إليها وانظر خطوط التماس بين مشروعك وبينها، ونقاط الاختلاف كذلك.
مرحلة البحث ليست ترفا أو رفاهية يمكن الاستغناء عنها، بل شيء لا بد منه؛ إذ لا بد أن تتعرف على الأرض التي تود أن تسير فيها، أن تعرف المزيد عن عالم قصتك، بالقراءة أولا، والبحث على الإنترنت ثانيا، ثم سؤال بعض المتخصصين في مجالات بعينها تحتاج إليها. يكون من المفيد لك ككاتب أن يكون لك على الدوام أصدقاء من مهن وحرف مختلفة (سوف تحتاج إلى الميكانيكي والطاهي وبائع العرقسوس، بنفس قدر احتياجك إلى المحامي والطبيب والسفير)، فإن لم يكن لك صديق منهم، فاسأل آخرين ليوصلوك بأحدهم؛ المهم ألا تتكاسل عن العثور على المعلومة الدقيقة لتضعها في المكان المناسب؛ لأن قارئك لن يسامحك أبدا إذا استغفلته وتهاونت في درجة مصداقيتك مع التفاصيل الصغيرة، والفن في نهاية الأمر هو تلك العناية بالتفاصيل الصغيرة.
وبعيدا عن الخبرات المهنية الواضحة، هناك أيضا الهوايات والغوايات: الجنون بال «فيديو جيمز»، تربية الحمام، صيد السمك، تفصيل الثياب في المنزل، وإعداد قوالب الحلوى ... تلك أشياء تعرفها عن أشخاص في محيطك بطبيعة الحال، لا تتردد في الرجوع إليهم وسؤالهم عن بعض التفاصيل، سوف يسرهم غالبا أن يكونوا مفيدين لك، وأن يتحدثوا عن الأشياء التي يحبونها، وأن يكونوا جزءا - ولو بقدر محدود - من عملية إبداعك.
تمرين
استخرج فكرة قديمة كنت وضعتها جانبا منذ فترة لسبب أو لآخر، ولتجرب معها - ولو على سبيل اللعب - قدرتك على تطويرها وتمتينها وتغذيتها بالتفاصيل، وتقليبها على جميع الاحتمالات الممكنة، مستعينا بالمفتاح الذهبي «ماذا لو؟» ومن يدري؟ ربما تكون هذه بداية مشروع الكتابة التالي لديك؛ فقط ابدأ دون تفكير طويل.
تذكر
لا تأتيني الأفكار عادة وأنا جالسة أكتب، بل وأنا في قلب الحياة.
أناييس نن
العب بجدية الأطفال
عتبة
لا يوجد أكثر جدية من الطفل في لعبه.
فريدريك نيتشه
نجمة اسمها الأصالة
كتب جون براين - مؤلف رواية «غرفة على السطح»: «إذا كان لصوتك أن يسمع وسط آلاف الأصوات، وإذا كان لاسمك أن يعني شيئا بين آلاف الأسماء، فسيكون السبب الوحيد هو أنك قدمت تجربتك الخاصة صادقا.» هل يتحدث هنا عما نسميه بالأصالة؟ ولكن ماذا تكون تلك النجمة البعيدة وسط بحر السماء؟ أهي منحة تسقط على الفنان من هؤلاء ذات ليلة مباركة؛ فتجعل منه ومن إبداعه تحفة لا سبيل لتكرارها، أم أنها - كما تشهد بذلك التجارب الكثيرة - عمل متواصل لشحذ أدوات الحرفة، واكتساب رؤية خاصة؛ اعتمادا على الحساسية الخاصة بإنسان لا يشبه أحدا سواه، وعلى مواقفه من الوجود بكل أسئلته القديمة التي يحاول الأدب تلمسها وإعادة طرحها بطريقة مغايرة وجديدة على الدوام؟
هل المحاكاة إذن شر ونقيصة؟ ونقصد بها أن تدرس في بداياتك أساليب مختلفة لكتاب كبار، أو حتى من غير الكبار ممن تكن لهم إعجابا خاصا لكنهم ليسوا ضمن التيار العام المهيمن للأدب، ثم بعد ذلك تحاول تقليد تلك الأساليب، على سبيل التمرين. لا نشجعك هنا على السطو الأدبي، أو على أن تمحو شخصيتك الخاصة لصالح أي طراز كتابة أنجزه وتعب عليه شخص غيرك، مهما بلغ إنتاجه من الجمال والدقة والخصوصية. ننصح فقط أن تمرن يدك من خلال المحاكاة، التي قد تكون أسرع السبل لتطوير أسلوبك الخاص واكتشاف صوتك، إذا ما واصلت اللعب بحرية، انطلاقا من شغلك على أسلوب هذا الكاتب أو ذاك، محاذرا طوال الوقت أن تسقط في فخاخه ويبتلعك بداخل عالمه تماما.
تمرين (1)
اختر كاتبا تعجب به، ثم تناول جزءا محددا من أعماله، فليكن فصلا من رواية أو قصة أو قصيدة، واكتب نصا خاصا بك أنت محاكيا أسلوبه فيها، يمكنك أن تكرر هذا التمرين حتى تشعر كأنك هو، أو حتى تمل اللعبة، ثم انس أسلوبه ونصه واعمد إلى النص الذي أنتجته أنت وأعد الشغل عليه. ما هي الأشياء الخاصة بك هنا؟ ما الذي تسرب من نفسك إلى الورق على الرغم من حرصك على تقليد كاتبك المفضل؟ هذا ما يجب الاحتفاء به؛ لأن فيه تكمن بذور أصالتك وصوتك الخاص.
الكتابة على كتابة
تناولنا في فصول سابقة أداتين للتنقيب عن الينابيع المخبوءة بداخلك، من غير أن يكون عليك اعتبار ما تفعله أكثر من لعب منظم، على سبيل التمرن؛ وهما: الكتابة الحرة، والكتابة المتشعبة (أو طريقة الأسئلة الصغيرة). وإذا كانت الأداة الأولى منهما تتيح لك أن تضع أي شيء يخطر لك على الورق دون تفكير ودون اعتداد بأي صوت نقدي يبزغ في داخلك، وكانت الأداة الثانية تتيح لك توسيع أفق جملة محدودة ومصمتة للغاية عن طريق طرح العديد من الأسئلة الصغيرة، وتقديم إجابات محتملة لها، مستعينا في ذلك كله بالمفتاح الذهبي: «ماذا لو؟»؛ فإن ثمة أداة، مثل شقيقة ثالثة لهما، وهي الكتابة على الكتابة، أو انطلاقا من نص سابق، سواء أكان من إنتاجك أنت أم لكاتب آخر.
واضح من تسميتها وجود كتابة سابقة عليها، فهنا لا تنطلق من نقطة الصفر كما في الكتابة الحرة التلقائية، ولا من عبارة صغيرة ومصمتة كما هو الحال في طريقة الأسئلة الصغيرة، بل من نص واضح المعالم. لعل ذلك المكتوب قصيدة أو قصة قديمة لك، كتبتها ولم تشعر نحوها بالرضا الكافي لإطلاع آخرين عليها، كما لم تشعر أيضا باليأس الكافي لأن تمزقها وتنساها تماما، وظلت موضوعة جانبا مثل هاجس يتردد على خاطرك بين الحين والآخر. هذا هو النص المناسب لأن تجرب عليه لعبة «الكتابة على الكتابة»؛ والمقصود منها ببساطة أن تفتح ثغرات في النص المكتوب سابقا، أن تعيد تشكيله، أن تلعب في بنيته وعناصره بمنتهى الحرية والجدية كذلك.
اللعب بحرية يعني هنا أن تقيم علاقة جديدة مع النص، أن تعيد اكتشافه مثل صاحب قديم جمعت بينكما المصادفة بعد أن فرقتكما الحياة؛ تستطيع أن تتعامل معه كأنه نص كتبه شخص آخر سواك. ما الذي لا يريحك فيه؟ كيف يمكن تحويل نبرته وإيقاعه؟ يمكنك أن تهدم وتبني من جديد، أن تقلب كل شيء رأسا على عقب، أن تسخر مما كتبته سابقا بينما تعيد كتابته الآن، أن تبدل النظرة من درامية وسوداوية إلى ذاتية ومرحة وخفيفة، أن تغير الراوي مثلا فتجعل الحكاية كلها تدور على لسان المنضدة التي جلس إليها العاشقان للمرة الأخيرة؛ أو الزمن، بأن تجعلها تدور في عصر المماليك؛ أو المكان، بأن يكون اللقاء في ثلاجة أغذية محفوظة عملاقة بدلا من كازينو على النيل. وهنا نؤكد من جديد على قيمة اللعب الحر مع النص؛ فلا شيء ثابت أو مقدس أو عصي على التحوير وإعادة التشكيل.
تمرين (2)
اختر نصا من نصوصك لم يكتمل أو لم ترض عنه بعد، وتخيل نفسك شخصا آخر تماما يعيد كتابته، أو لعل الأفضل أن تتخيل ناقدا قاسيا أشبه بالشريك المخالف الذي كلما قلت أنت له يمينا قال يسارا ... وهكذا على طول الخط، واسمح له بأن يتدخل (من خلالك طبعا) في كتابتك، وانظر ما الذي سيضيفه أو يحذفه. استسلم لاقتراحاته تماما، تتبعه واستكشف أرضا غريبة عليك، مختلفة عن الأرض التي تعرفها وتطمئن لها في كتابتك. المراد هنا هو أن تنتزع نفسك خارج نطاق الأمان الخاص بك، وتتذوق لذة المغامرة والتجريب بحرية دون أية قيود تضعها على نفسك.
نصيحة
يصل الكاتب منا إلى أسلوبه بتعلم ما ينبغي حذفه؛ في البداية نميل للإسهاب في الكتابة، نميل لزخارف اللغة بدلا من الرؤية والبصيرة، فإما أن تستمر في كتابة لغو فارغ، وإما أن تتغير. وفي سياق عملية تبسيط المرء لنفسه يكتشف ما يسمى ب «صوته الخاص».
بيلي كولينز
أيهما تتبع ... حياتك أم خيالك؟
مفارقة
ذات مرة قال القاص والروائي الأمريكي رون كارلسون: «دائما ما أكتب بناء على تجاربي الشخصية، سواء عشتها أم لم أعشها.» ولعله يقصد هنا أنه يحاول أن يعيش تلك التجارب الغريبة عليه، ويتبناها بوعيه وخياله، يوما بعد آخر، سواء قبل عملية الكتابة أم على الورق؛ بحيث تصير جزءا لصيقا به، لا يكاد يختلف كثيرا عن التجارب التي خاضها بشحمه ولحمه. ومع هذا يظل السؤال قائما: عم نكتب؟
عم نكتب؟
ربما تكون قد سمعت تلك النصيحة المستهلكة الخاصة بأن تكتب فقط عما تعرف، ولعل أغلب الكتاب يبدءون أولى خطواتهم في الكتابة منطلقين من تجاربهم الشخصية، وربما تبقى تلك التجارب - مهما بدت محدودة وبسيطة - موردا دائما يلجئون إليه على الدوام، وعلى الرغم من هذا فإن تلك النصيحة البريئة في ظاهرها قد تكون فخا تواريه النوايا الطيبة، ولا بد في لحظة ما أن تتساءل: هل ستظل طوال مشوارك ككاتب أسير تجاربك اليومية المباشرة، التي قد تتشابه مع تجارب عشرات أو مئات الكتاب الآخرين؟ هل سيكون محرما عليك تماما أن تخوض غمار تجارب خيالية لم تعشها، وكان مستحيلا عليك حتى أن تعيشها؟ معنى هذا ضمنيا أن مئات الأعمال الأدبية ما كانت لتظهر إلى الوجود، ليست فقط الأعمال التاريخية أو الفانتازية أو روايات الخيال العلمي وغيرها الكثير، بل كذلك الأعمال التي تعتمد على تجاربنا المباشرة والحميمة، مع تطعيمها بمذاق الخيال، وتحوير أحداثها بحيث تنفصل عنا وتصير شيئا آخر له شخصيته المستقلة عن حياتنا وذكرياتنا.
كثير من الكتاب يؤمنون بمقولة «اكتب عما تعرف»، دون أن يعني هذا بالضرورة أن عالمهم محدود وضيق، بل ربما تكون تجاربهم من الثراء والاتساع بحيث لن تستوعبها أعمالهم الأدبية مهما اجتهدوا، وربما أيضا تبقى منطقة تميزهم هي رؤيتهم الخاصة لتلك الخبرات الحياتية البسيطة، وحساسيتهم التي لا تتشابه مع أي شخص آخر سواهم.
وعلى الجانب الآخر ستجد كتابا (أكبر عددا في ظني) يعتبرون تلك المقولة مجرد «كليشيه» عفا عليه الزمن، بل مجرد كلام فارغ، معتمدين على أدلة وأمثلة لا حصر لها، فمثلا: لم يكن الروائي الأمريكي - كاتب الروايات الحربية - توم كلانسي، ضابطا على غواصة قبل أن يكتب «البحث عن أكتوبر الأحمر»، كما أنه من المؤكد تماما أن ريتشارد باخ لم يكن طائر نورس حتى يكتب «النورس جوناثان ليفينجستون».
وهؤلاء الكتاب على هذا الجانب ينصحونك بأنه بدلا من أن تكتب عما تعرفه، يمكنك أن تكتب عما تحبه؛ لا يهم ما هو هذا الشيء، المهم أن تحبه. على سبيل المثال: كان آرثر جولدن - مؤلف رواية «مذكرات فتاة جيشا» - قد عاش في اليابان، وعمل لحساب مجلة تصدر باللغة الإنجليزية في طوكيو حين أتته فكرة كتابه سنة 1982، وفي عام 1986 - وبعد أن نال إجازته في الكتابة الإبداعية من جامعة بوسطن - بدأ بعمل أبحاثه حول حياة فتيات الجيشا، واكتشف بداخلها ثقافة أخرى ذات قوانين خاصة. اقتضى منه الأمر عشر سنوات والعديد من المسودات قبل أن يبيع الكتاب إلى إحدى دور النشر في مقابل مبلغ محترم.
حياتك هي المنبع الأول
تنصح الكاتبة روز تريمين قائلة: «التمس لك منطقة خبرة تكون غير معروفة ولكن يمكن معرفتها، منطقة من شأنها أن تعزز فهمك للعالم، واكتب عنها. ومع هذا، فلتتذكر أنه بداخل تجربة حياتك الشديدة الخصوصية فقط تكمن البذور التي سوف تغذي عملك الخيالي؛ لذا فلا تلق بها كلها في كتابة السيرة الذاتية.» أي إنه حتى لو اعتمدت على خيالك تماما في تشكيل عالمك القصصي والروائي، فستظل تستعين بتلك المشاعر العميقة والأساسية بداخلك؛ ما تفضل وما تحب وما تكره، الأشخاص الذين تركوا أثرهم في حياتك، ولكي تستكشف تلك المناطق، لديك كثير من الحيل، ليس فقط الكتابة الحرة أو دفتر يومياتك، بل يمكنك أيضا إعداد بعض القوائم.
لعبة القوائم
تنصح الكاتبة المسرحية كلوديا جونسن طلاب فصلها بإعداد قوائم لتحديد مشاغلهم واهتماماتهم، كتمرين من تمارين الكتابة والتسلية واستكشاف الذات أيضا؛ كل ما عليك هو أن تكتب عشرة بنود تقريبا، تحت رءوس موضوعات من قبيل: «ما الذي يغضبني؟ ما الذي يخيفني؟ ماذا أريد؟ ماذا يؤلمني؟» أو قوائم لأشياء أكثر خفة ومرحا وطرافة، مثلا: «أشياء أتمنى لو أنني لم أتفوه بها - أشياء حمراء أحبها - أشياء حمراء أكرهها - أمور أكثر إحراجا من التعري على الملأ - أشياء لا بد من التخلص منها في أقرب وقت ممكن - أشياء يمكن للمرء أن يموت في سبيلها - أشياء تصدع الدماغ - أشياء تجلب النعاس - أشياء لا تدوم لأكثر من يوم واحد فقط.» وبطبيعة الحال هذه مجرد أمثلة، ويمكنك أن تطور هذه اللعبة كيفما يحلو لك، المهم أن تستكمل بنود القائمة للنهاية، فأغلب الظن أنك لن تصل إلى الأشياء الأساسية إلا بعد كتابة بضع نقاط، وعندئذ قد تكتشف فجأة النقطة التي تحب الانطلاق منها في موضوع نصك التالي، ولن يهم كثيرا عندئذ أن يكون موضوعك مستمدا من حياتك أو معتمدا على خيالك، فكثيرا ما يختلط هذان الجانبان تماما في نهاية الأمر، بحيث لا يعود بوسعك أن تقول مطمئن القلب: هنا ينتهي الواقع ويبدأ الخيال، أو العكس. هل عادت «أليس» حقا من داخل المرآة؟ أي جانب من جانبي المرآة هو ما يسمى الواقع، وأيهما نسميه الخيال والفانتازيا؟ لن تعود مسائل في غاية الخطورة، فالمهم أن تمتزج على أرض النص عناصرك جميعها بحيث يتولد عنها شيء جديد تماما، بصرف النظر عن الموارد والينابيع التي استمد حياته منها.
تذكر
يقول كاتب الأطفال البريطاني مايكل موربورجو: «إن فكرة القصة بالنسبة إلي هي ملتقى روافد مختلفة من أحداث حقيقية، وربما تاريخية، أو من ذاكرتي الخاصة؛ لخلق ذلك المزيج الجدير بالاهتمام.»
أوهام شائعة حول حرفة الكتابة
همسة في أذنك من زادي سميث
تنصحك الكاتبة البريطانية «زادي سميث» بعدم إضفاء طابع رومانسي على «مهنتك» ككاتب، فإما أنك تستطيع كتابة جمل جيدة، وإما أنك لا تستطيع ذلك؛ إذ لا يوجد ما يسمى «أسلوب حياة الكاتب»، فكل ما يهم حقا هو ما تتركه على الصفحة. ولعلها تقصد بذلك الأسلوب الصورة الشائعة عن الكتاب كمخلوقات معذبة وحائرة، تعيش مهددة بأشباح الإدمان والجنون، مهملين في ثيابهم وصحتهم، وهائمين على وجوههم هنا وهناك. كلما تمعن في رحلتك مع القراءة والكتابة سوف تكتشف أن هذه الصورة الشائعة لا أساس لها من الصحة، وأن المئات من كبار الكتاب قد اتسموا بالتنظيم اليومي الصارم، والحرص على تفاصيل حياتهم، وعلى عيش حياة هادئة وممتعة. وإذا عدنا من جديد إلى زادي سميث، نسمعها تضيف نصيحة أخرى لا تقل أهمية؛ وهي أن تتجنب «الشللية»، والعصابات، والجماعات؛ فإن وجودك في جمع لن يجعل كتابتك أفضل مما هي عليه.
أسطورة الطقوس الخاصة بالكاتب
لطالما كانت العادات اليومية لهذا الكاتب أو ذاك ذات فتنة وجاذبية خاصة، أو ما يطلق عليه: «طقوس الكتابة»؛ فنادرا ما يجري أحد الصحافيين مقابلة مع كاتب ما دون أن يطرح عليه سؤالا واحدا على الأقل حول تلك العادات والطقوس الخاصة به عند الكتابة، من قبيل: هل تكتب نهارا أم ليلا؟ هل تجلس للعمل يوميا؟ هل ما زلت تستخدم الورق والأقلام، أم تستخدم الآلة الكاتبة أو الكمبيوتر؟ إلى آخر كل تلك المسائل التي لا تخص صميم العملية الإبداعية ذاتها، بل تحيط بها كنشاط إنساني شأنه شأن تناول الطعام والشراب والمشي والتسلية؛ مما يعكس - ربما - اهتماما مبالغا فيه بالآلية الغامضة التي تعمل بها عبقرية الكاتب من هؤلاء، أو ربما بغرائب وعجائب العادات الخاصة بالفنانين - التي دائما ما تثير الاستغراب والدهشة - تلك المخلوقات ذات الخصوصية بعالمها المختلف والغامض. وكأن معرفتنا بتلك الطقوس والأحوال قادرة على أن تضيء لنا ذلك الدرب المعتم للتفرد والعبقرية، أو أن تكشف السر المختبئ وراء عظمة التجربة الفنية. من ناحية أخرى قد يكمن وراء ذلك النوع من الأسئلة التماس لطلب العون من ناحية المبدعين الشباب والمبتدئين؛ رغبة منهم في الاسترشاد بهدي أحد أعلام الكتابة، فكأنها - بمعنى آخر - صيغة محورة لسؤال آخر لم يتم طرحه، وهو: ما هي حيلك السحرية التي تحول بها الواقع إلى فن، والرماد إلى ذهب خالص؟ المفاجأة - وربما السر الحقيقي - هي أنه لا وجود لمثل تلك العصا السحرية أو التعويذة الغامضة التي يمتلكها كبار الكتاب، مهما زعموا العكس أو أحب معجبوهم أن يصدقوا غير ذلك؛ فالكتابة هي الطقس الوحيد الذي يجمع كل هؤلاء الكبار في رحابه، باختلاف أحوالهم وعاداتهم وطقوسهم.
ما يؤكد عدم وجود هذا السحر الغامض هو مقدار ما قد تجده من تنوع شديد وتباينات عميقة في أجوبة الكتاب المختلفين عن مثل تلك الأسئلة؛ فبعضهم يقول إنه يقضي عددا محددا من الساعات كل يوم جالسا يعمل في مكتبه، حتى إن لم يكن يطور أحد مشاريعه الإبداعية، ولو على سبيل التفكير في الكتابة واستحضارها؛ وبعضهم الآخر لا يقترب من الكتابة إلا بعد مراوغته لفكرة ما وهروبه منها أياما أو أسابيع وشهورا. بعضهم يتواثب بين مشاريع كتابة مختلفة، وبعضهم لا يمكنه البدء في العمل على فكرة جديدة إلا حين ينتهي تماما من النص الذي بين يديه. كان الشاعر والروائي البريطاني «فيليب لاركن» يقول إنه لا يكتب إلا قصيدة واحدة فقط كل ثمانية عشر شهرا أو نحو ذلك، ولا يحاول أبدا أن يكتب قصيدة ما لم تمثل بين يديه مثل منحة سماوية. في المقابل فإن «جايل جودوين» تذهب إلى غرفة عملها كل يوم في نفس الموعد، وتقول في تفسير ذلك مازحة: «ماذا لو أن ملاك الإلهام قد أتى فلم يجدني بانتظاره؟» وكان كل من «هيمنجواي» و«توماس وولف» يكتب واقفا، والبعض كان يكتب في صحبة مشروبات كحولية. البعض يلجأ إلى الموسيقى، وآخرون يقدسون الصمت، وقائمة الخصوصيات والعجائب في هذا الشأن تكاد تكون بلا نهاية؛ لكن ليس عليك أنت أن تقلد هذا الكاتب أو ذاك، مهمتك أبسط من ذلك بكثير، ويمكن تلخيصها في مقولة عاشت من آلاف السنين، وتكاد تكون الآن قولا مبتذلا على الرغم من صحتها؛ وهي: «اعرف نفسك.»
اكتشف مفاتيحك الخاصة بك أنت، فلن يمنحها لك أحد سواك، بالممارسة والتجربة ومع الوقت سوف تعرف ما الذي يشعل جذوة الكتابة في داخلك؛ وما إن تعثر على تلك المفاتيح فلا تتردد في خلق الطقوس والعادات والأساليب الخاصة بك أنت وحدك.
أنت تحفتك الخاصة
عليك أن تتذكر أنه ما من أحد يمكنه أن يكتب كما تكتب أنت بالضبط؛ فأنت منتج فريد لحياة خاصة لا تتكرر، ذات تاريخ محدد ومختلفة عما سواها. حتى إن كان لك شقيق توءم، يطابقك في الصورة والهيئة إلى حد يستحيل معه تمييز أحدكما عن الآخر، فليس بوسعه أن يكرر صورتك الداخلية، وهي الأهم بالنسبة إلى الكتابة. وهكذا فإن لم تكتب أنت هذا النص الذي يتقد في صدرك، وبطريقتك الخاصة تماما، فلن يكتبه أحد غيرك، ولا أحد يستطيع ذلك حتى ولو حاول.
زادي سميث مرة أخرى
تنصح قائلة: «اشتغل على جهاز كمبيوتر غير موصول بالإنترنت، واحرص على حماية الوقت والمكان المخصصين للكتابة. أبعد الجميع عنهما، حتى أهم وأعز الناس لديك.»
من قصاصة إلى قصة
بصراحة
نادرا ما ستجد كاتبا لم يبدأ مشواره مع الكتابة بشيء آخر غير الولع بالقراءة، وكثير من الكتاب يميلون لوصف أنفسهم بالقراء أساسا قبل أن يكونوا أي شيء آخر. إذا وجدت بداخلك هذا الولع فأنت على الطريق الصحيح، أما إذا كنت تجد صعوبة في القراءة، أو تضجر سريعا ما إن تقلب بضع صفحات من أي كتاب، فإنك - بصراحة - لست الشخص المناسب للسير على هذا الطريق، الذي لا يخفف من وعورته ومشقته إلا ذلك التوقد والشغف والفضول اللانهائي نحو قراءة كل كلمة مطبوعة تقريبا، إلا إذا كنت معجزة فريدة من نوعها، وهو ما يجب ألا نستبعده تماما.
قصاصات الصحف
تقول الكاتبة الأمريكية «جويس كارول أوتس» إنها حريصة على قراءة الصحف والمجلات، وخصوصا أبواب الاعترافات والنميمة والشائعات والحوادث وبريد القراء؛ بحثا عن مصادر لقصصها. تروق لها تلك الطبيعة المجردة والعارية (على العظم) لأخبار وروايات الصحف، فهي تمكنها من تغطيتها باللحم والدم والأعصاب اعتمادا على خيالها الحر. ولا يفوتنا التذكير باهتمام المعلم الكبير «نجيب محفوظ» بقراءة ما ينشر أسبوعيا في بريد الأهرام، كأنها نافذة أخرى صغيرة نحو الناس وحكاياتهم وأزماتهم، وأوضح مثل على اهتمامه هذا هو متابعته في شغف وتأمل جميع ما تنشره الصحف من أخبار حول «محمود أمين سليمان» - اللص والقاتل الهارب الذي عرف ب «السفاح» - ليصنع من تلك «القصاصات» تحفته الرائعة «اللص والكلاب»، ليتحول «محمود أمين سليمان» إلى «سعيد مهران»، الذي يواجه وحده مجتمعا شوهته الأكاذيب والخيانات.
تمرين دائم
جمع بانتظام ما يلفت انتباهك من تلك الأخبار والمقالات الصغيرة، لا تفوت قراءة صفحة الحوادث، فذات يوم قد تجد ضالتك هناك، وبين الحين والآخر حاول أن تعتمد على إحدى تلك القصاصات في كتابة قصة، ولو على سبيل التمرين. يمكنك أن تتخيل ما الذي أدى بالأحداث إلى تلك الخاتمة، أو ماذا سيحدث لبطل الخبر بعد هذا، أو ما تشاء؛ فخبر الصحيفة ليس إلا شرارة مبدئية قد تستلهم منها أنت غابة تحترق على سطورك. من شأن هذا التمرين أن يقوي عضلاتك الدرامية في تحويل خبر بسيط إلى حكاية ذات قوام متماسك، بملء فجواته ومساحاته البيضاء معتمدا على تجاربك وخيالك؛ وأن يشحذ وعيك بكل تلك الحكايات المتناثرة حولك في كل موضع، وأن يدربك أيضا: كيف تقرر؟ من أين تبدأ؟ ومتى وأين تنتهي؟ وفوائده عديدة غير ذلك.
نوع غذاءك
لا بد أنك قرأت أو سمعت في مكان ما ذات مرة أهمية وضرورة تنويع ما نتناوله من طعام بقدر الإمكان؛ حتى نضمن حصول أجسادنا على أكبر قدر ممكن من العناصر الغذائية الضرورية للصحة والسلامة. المسألة لا تختلف كثيرا في القراءة؛ فقراءة الأدب - على أهميتها - لن تكون وحدها كافية لتشكيل وعي كاتب، ولو كان مختصا بنوع أدبي واحد وحيد ومخلصا له كل الإخلاص؛ وعليه، فلتنوع قراءاتك قدر ما استطعت، داخل وخارج نوعك الأدبي الخاص، وفي العلوم الطبيعية والإنسانية، وحتى في الكتب الخفيفة التي تتناول العجائب والغرائب على طريقة «صدق أو لا تصدق».
مع الوقت يمكنك أن تحدد نوعية الكتابات (أدبية أو غير أدبية) التي تزودك بالإلهام والحافز للكتابة. اقرأ أيضا رسائل الكتاب وسيرهم الذاتية، اقرأ المسرح والشعر والتاريخ والأديان؛ يمكنك أن تجد في هذا كله مصادر غير متوقعة للأفكار والاستلهام. بينما تقرأ، ضع علامات على العبارات والفقرات التي تعجبك، فربما تجمعها في دفتر وحدها.
تمرين: جملة جميلة أساس لنصك
راجع بعض تلك العبارات والجمل الجميلة التي جمعتها خلال فترة، اختر إحداها لتكون مقتطفا في مستهل قصة أو رواية لك، اسأل نفسك: كيف يمكن أن تفجر هذه العبارة عالم قصتك وتتخلله تماما؟ أو العب مع تلك العبارة لعبة الأسئلة الصغيرة التي أشرنا إليها في فصل سابق، اكتشف ما فيها من فجوات ومناطق مسكوت عنها وإمكانات درامية خفية.
من كافكا إلى ماركيز
قال الكاتب الكولومبي الشهير «جابرييل جارثيا ماركيز» إن ما جعله يرغب في كتابة القصص والروايات طوال حياته، كان العبارة الأولى من قصة التحول (أو المسخ) لفرانز كافكا، وهي كالتالي بترجمة محمد أبو رحمة عن الألمانية مباشرة:
ذات صباح، أفاق جريجور سامسا من أحلام مزعجة، ليجد نفسه وقد تحول في فراشه إلى حشرة رهيبة ...
أمام هذا التحول المعروض بكل بساطة في السطر الأول من القصة اقشعر بدن ماركيز، وأدرك بداخله الشغف، الذي سيلتهم كيانه على مدى عشرات السنين بعد ذلك؛ أن يحكي الحكايات.
اعثر على أيقونتك
اختر كاتبا من الكبار تعجب به وتتابع أعماله وكتاباته كلها، اقرأها بلا ترتيب أو بترتيب النشر، اجمع حواراته وسيره وكل ما كتب عنه، اجمع صوره ومقالاته وأقواله، اتخذه مرشدا أو مثلا أعلى، اجعل منه أيقونتك الخاصة التي ترمز لهوس الكتابة وتغذي وقودها في نفسك، الجأ إليه عند الحاجة، وتحاور معه (ولو كان بعيدا عنك أو متوفى من زمن طويل) كلما واجهتك مشكلات في الكتابة. وإن لم يكن كاتب واحد كافيا ليكون نموذجك، فاختر اثنين أو ثلاثة، المهم أن تعثر على مرجعية كتابية تساندك عند الحاجة. لا بأس من أن تحاكي أسلوبه لفترة، ثم تسخر من أسلوبه في وقت آخر؛ في النهاية قد يتحول إلى صديق قديم شاحب الصورة، لك معه ذكريات لا يمكن نسيانها.
حلل
ينصحنا القاص والروائي الكندي «ويليام باتريك كينسلا» قائلا:
اقرأ! اقرأ! اقرأ! ثم بعد ذلك فلتقرأ بعض المزيد؛ وحينما تعثر على شيء يهز كيانك، فلتعكف على تجزئته وتحليله فقرة بعد فقرة، وسطرا بعد سطر، وكلمة بعد كلمة؛ لكي تعرف ما الذي يجعله بهذه الروعة؛ ومن ثم استخدم بعضا من تلك الحيل في المرة التالية التي تجلس فيها للكتابة.
احرص على توءم روحك (قارئك)
ظاهرها الوحدة وباطنها الزحام
ما الذي نحتاجه لنكتب؟ في الظاهر قلم وأوراق، ربما أحيانا آلة كاتبة أو جهاز كمبيوتر، لكننا في حقيقة الأمر نحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك، تقريبا نحتاج إلى كل شيء؛ الأرض بتاريخها وطبقاتها وألوانها، والسماء بأفقها اللانهائي الذي يحتشد بالكواكب والمجموعات الشمسية والمجرات، جنبا إلى جنب مع الديانات العتيقة والآلهة المتنوعة، وكل تلك الطرق الغامضة للأفلاك والمدارات والقدر والحظوظ؛ وبكل تأكيد نحتاج إلى لغة ما، وإلى الناس الذين خلقوا تلك اللغة ذات مرة فيما مضى، وما زالوا يعيدون خلقها وتشكيلها يوما بعد يوم. إذن فليس من الحقيقي أو المؤكد يا صديقي أن حياة الكتابة حياة عزلة تامة، ولو كنت تجلس بمفردك تماما في غرفة مغلقة عليك، تحاول أن تنظم الحروف السوداء فوق بياض صفحة الورق أو الشاشة، فتلك الغرفة مزدحمة بالكائنات الأخرى، أغلبهم موتى وبعضهم أحياء وكثيرون بين بين، لا يهم، ولكن المهم أن تبدي لتلك الكيانات ما يليق بها من احترام وامتنان وشغف؛ فبفضل وجودها الطيفي لن تكون وحدتك سجنا انفراديا، بل أقرب إلى رحلة جماعية ممتعة، قد تدوم يوما أو عمرا كاملا.
رفيق رحلتك - شريك حياتك
ما أكثر النصائح - والكتب ربما - التي قد يجدها أحدنا حول اختيار شريك الحياة المناسب (الزوج أو الزوجة)، غير أنه في رحلة الكتابة، لن نجد مثل تلك الوفرة، ولا نقصد بشريك رحلتك هنا الناشر أو المحرر الأدبي أو حتى صديقك الأقرب الذي يطلع على كتاباتك قبل أي شخص آخر، على الرغم من أهمية وضرورة هؤلاء جميعا، بل نقصد الطرف الأهم في لعبة الكتابة (القارئ)؛ ذلك المتخيل الغامض، والهدف النهائي لرقصة الحروف على الورق، الذي إذا غاب تنكسر المرآة وتنتفي المتعة. لعلك تسهر الليالي - كما في الروايات العاطفية - حالما به، تتخيله محاولا التعرف على ملامحه: أهو شيخ أم شاب؟ أهو مثقف مطلع أم بالكاد «يفك الخط »؟ ليس في محاولات التخيل تلك أي إهدار للوقت والطاقة، على العكس، فمحاولتك لاكتشاف قارئك لا تبتعد بك كثيرا عن اكتشاف نوعية الكتابة التي تنوي الانخراط فيها. ربما لا يسبق أي من الاكتشافين الآخر بقدر ما يسيران معا خطوة بخطوة، فلا جدوى من الحرص على إرضاء قارئ له طبيعة وملامح محددة على حساب شغفك وطموحك الأدبي، كما يعد من الخطر عدم الاستقرار على ملامح عامة لتوءم روحك (قارئك) ولو بالظن، ولو بالحلم الغامض به.
هل حقا نكتب لأنفسنا؟
سوف يجيب كثير من الكتاب عند توجيه السؤال الشهير إليهم: «لمن تكتبون؟» بالقول إنهم يكتبون لأنفسهم. وقد لا يكونون كاذبين أو مبالغين بالمرة بهذه الإجابة، لكنهم حينما يجلسون للكتابة بهدف إمتاع أنفسهم وإرضائها، ينقسم الواحد منهم - بقدرة قادر - إلى اثنين: هذا الذي يكتب، وذلك الذي يقرأ ما يكتبه - من وراء كتفيه - لحظة بلحظة، ولا بد من أن تكون الرقصة متكافئة، لا سبيل للتسامح أو المجاملة، فبمجرد أن يتهاون الكاتب منهما ويميل للاستسهال، يشعر بذلك صاحبه (القارئ بداخله)، وتكفي نظرة واحدة من عينيه وهزة رأس صغيرة حتى ينكشف أمام ذاته.
حتى ونحن نكتب لأنفسنا بغير نية في النشر والانتشار، ولا قاصدين جمهورا من آلاف أو ملايين القراء؛ فإن هناك دائما قارئا واحدا ضمنيا نعمل على إرضائه مستمتعين. قد يكون من الأسلم لك أن تتخيل قارئك شبيها بك، شخصا حميما، تجمع بينكما أشياء كثيرة، ولكنه سيكون صادقا معك تماما ولن يخفي عنك الحقيقة إذا ما قصرت في أداء واجبك نحوه (إمتاعه في الرقصة المشتركة).
إنه انعكاسك على صفحة المرآة، وعلى صفحة الورق، يشبهك، ويختلف عنك مع ذلك؛ إنه صاحب وند لك، ليس عليك أن تلعب دور المهرج طوال الوقت لتسليته، فأنت لست مهرج القصر، لكنه سوف يلتقط إشاراتك الذكية بين السطور إذا ما كان على الموجة ذاتها معك. كما أنه ليس عليك أيضا أن تكون له المرشد الهادي، توجهه في عالم نصك وتستقطر له خلاصة الحكمة بابتسامة القديسين والوعاظ؛ فإن هذا كفيل بأن ينفره منك إلى الأبد، فإن حياته لا تنقصها تلك الإرشادات الخشبية المباشرة. إن كل ما يريده منك - في ظني، ولعلي مخطئ - هو ما تريده منه أنت أيضا: رفيق رحلة، تستمتعان معا بالمشاهدة والعبور المطمئن على أعجوبة الحياة، المعكوسة في مرآة اللغة والخيال.
ما رأي «فيرجينيا وولف» يا ترى؟
أنا واثق أنك سمعت من قبل بالكاتبة الإنجليزية المهمة فيرجينيا وولف، وأرجو أن تكون قرأت كتابها الصغير الثري عن الكتابة وتحدياتها أمام المرأة الكاتبة خصوصا، بعنوان: «غرفة تخص المرء وحده»، وله ترجمة جيدة صادرة عن المركز القومي للترجمة في مصر قبل سنوات. ولعل أعمالها الأدبية كانت تمثل تحديا جماليا جديدا، وخاصة أمام القارئ العادي، وقد اعتادت هي الإشارة إلى القارئ العام: شخص تفترض هي أنه يتمتع بقدر من النباهة والذكاء، ويريد أن يجابه تحديا بما يقرؤه لها من أعمال. كانت تفترض أن هذا المجهول سوف يتبعها أينما شاءت أن تأخذ النص، وسوف يجتهد ليواكب خطواتها ويبقى على الموجة معها. وأظن أن عليك أن تفترض هذا أيضا، فكثيرا ما يكون التبسط والتسطيح شكلا خفيا من التعالي على القارئ؛ شأنه شأن الغموض والإلغاز سواء بسواء. القارئ صديقك، ورفيق دربك، وما من أحد منا يود أن يفسد متعة رحلته بسوء الفهم والتناحر، فلتمد إليه جسور التواصل بندية ومودة واحترام، واستمتع بالرفقة.
أين دفتر يومياتك؟
الأيام القديمة
اسمحوا لي أن أدعوكم لقراءة هذه القصيدة الصغيرة، للشاعر والروائي والمترجم المصري «أحمد شافعي»، من ديوانه النثري «وقصائد أخرى»، وهي دون عنوان مثل بقية قصائد الديوان الجميل:
سأعتبر أني نجحت يوم يصبح دفتر شعري دفتر مذكراتي، ولكنني لا أعرف في أي شيء حينئذ أكون نجحت.
ثم، وماذا حين يصبح دفتر مذكراتي دفتر شعري، فهذا ما يحدث، ودون مجهود، وربما دون قصد، أصبحت الأيام القديمة قصائد أو تكاد، وكلما أقرؤها أصدق أنني عشت بالفعل ألف عام وأكثر، وربما ليس علي سوى أن أتمادى في العيش.
هنا مستودع روحك
كثيرون منا يميلون عند الكتابة إلى تجنب أقوى عواطفهم، والالتفاف في حذر بالغ حول المناطق الملغومة بداخلهم؛ إما لأنهم يخافونها (على المستوى النفسي أو الاجتماعي)، وإما لأنهم يخشون أن يوصموا بالسنتمنتالية (باختصار: العاطفية السائلة، الزائدة عن الحد). ومع ذلك، فإن تلك المناطق والنقاط ذاتها هي التي تشكل تفردنا وخصوصية تجربتنا، والتي قد تضفي على سطورنا لون الحق والحقيقة، فإن لم تكن قصائدك وقصصك تعني شيئا لك - شيئا خاصا وحميما ولا يشبه إلا ذاته - فكيف ستعني أي شيء بالنسبة إلى قارئك (توءم روحك) كما صرت تعرف الآن؟ وقد قال الكاتب الأمريكي وليام كتريدج:
إن لم تغامر عاطفيا (حرفيا: سنتمنتاليا) فما زلت بعيدا عن ذاتك الداخلية.
إذا كنت مثل كثيرين غيرك تخشى الانكشاف أمام الآخرين، أو تخشى صب عواطفك الخام على الورق كيفما اتفق، فليس عليك إذن أن تذهب بها مباشرة إلى نصوصك، يمكنك أن تستودعها رفيقك الطيب الصغير (دفتر يومياتك). مهما بدا لك هذا مائعا أو مخجلا كأغنيات المراهقة، فلتجرب - على الأقل ولو لمرة واحدة - أن تضع قلبك على الورق. استعد حسية فعل الكتابة القديم: القلم، وملمس الأوراق، والصوت الضعيف لخط يدك على السطور. استعد عزلة وسرية المراهقين، فكل كاتب بداخله هذا المراهق الخجول، مهما تباهى وتبجح وادعى العكس. اكتب عن يومك عموما، أو عن شيء صغير للغاية جرى لك فيه؛ مشهد، أو شخص التقيت به. لا تظن أن يومك لم يحدث فيه أي شيء جدير بالتسجيل، فلا يوجد هذا اليوم على الإطلاق، ومع الوقت سوف تطور قدرة خاصة على ملاحظة تلك الأشياء الصغيرة التي تدعوك لتسجيلها على الفور.
كل لحظة حياة
إذا ما تريثت وتأملت في وقائع يوم واحد فقط من أيام حياتك العادية، فسوف تندهش أمام كم الأشياء والأفكار التي يحتشد بها؛ قد يقتضي الأمر منك بضعة أيام لكتابة ما جرى في ساعة واحدة فقط، وليس علينا إلا الرجوع لبعض الروايات الخالدة في تيار الوعي، مثل: «عوليس» لجيمس جويس، أو «السيدة دالاواي» لفيرجينيا وولف، وبالطبع «البحث عن الزمن المفقود» لبروست، حتى ننتبه لألعوبة الزمن، وكيف تكتنز كل لحظة بداخلها حياة غنية ذات طبقات وألوان وأنغام.
العب بنفسك
لا تنتهي الحكاية بالطبع مع اكتسابك عادة تدوين سطور قليلة كل يوم في دفتر يومياتك، بل هنا تبدأ؛ فإذا لم تكن تعمل على مشروع كتابة محدد، يمكن أن يتحول دفترك إلى معمل تجارب تحمله معك أينما ذهبت؛ مثلا: يمكنك أن تنحي جانبا مشاعرك الخاصة لبضعة أيام، وتركز فقط على وصف المشاهدات والأحداث بعين محايدة قدر الإمكان. على سبيل المثال: لو التقيت مصادفة بزميل قديم، لا تكتفي بكتابة: «وكم أسعدتني المصادفة!» بل حاول أن تتذكر كيف عبرت عن سعادتك هذه، بم أحسست على المستوى الجسدي الصرف، ما الحديث الذي تبادلتماه، كيف بدا الآن وكيف كان يبدو في المرة الأخيرة التي رأيته فيها؟ في مرة أخرى، اكتب عن نفسك بصيغة الغائب، أو من وجهة نظر أحد زملاء العمل أو جارك الذي لا يرتاح إليك، والاحتمالات - كما هو الحال دائما - غير محدودة.
الأهداف هنا عديدة، ولا ينفي بعضها بعضا؛ من ناحية، تتيح لك الكتابة في دفتر يومياتك شجاعة لن تجدها إذا جلست أمام ورقة بيضاء بنية كتابة نص أدبي، ثم إنك قادر هنا على النبش في أعماق روحك متلمسا المناطق الساخنة التي ستعود إليها فيما بعد عند الكتابة ب «ألف لام التعريف». إلى جانب هذا كله، كلما حرصت على تدوين سطور ولو قليلة يوميا؛ تعززت تلقائيا قدرتك على الملاحظة والتقاط التفاصيل الصغيرة المهمة، من وسط غمار حياتك اليومية، وبالتالي قدرتك على وصفها، ولو من دون دقة أو لغة منمقة، كل ذلك دون أن تضطر إلى التركيز في ألف شيء آخر كتطوير الحبكة وبناء الشخصية ... إلى آخر مطالب الكتابة السردية الأخرى. أنت هنا في غرفتك الخاصة، تكتب لتتعرف على نفسك، وتمرن عضلاتك التي لا تستعملها، وربما تعود إلى تلك الصفحات ذات يوم لتكتشف الجسور التي ربطت على الدوام بين أيام حياتك وبين نصوصك، ربما عندئذ تكون نجحت في تحقيق ذلك الشيء الغامض الذي أشار إليه أحمد شافعي في قصيدته؛ «أن يصبح دفتر شعرك هو دفتر مذكراتك».
«الثيمة» تلك البوصلة الخفية
إشارة أولى
إن الثيمة هي نظام توجيه يعمل بالقصور الذاتي لخدمتك. إنها توجه قراراتك حول أي طريق تتخذه؛ أي الاختيارات ملائمة لقصتك وأيها ليست كذلك.
رولاند ب. توبياس
بين الثيمة والموضوع والفكرة
مبدئيا، يسهل عند البعض ترجمة كلمة
theme
ب «الموضوع»، لكني لا أعرف كيف يتصرفون إذا وجدوا في الجملة ذاتها كلمة
subject ، التي تعني «الموضوع» تحديدا. أميل لاستخدام كلمة «الثيمة»؛ لاجتناب هذا اللبس من ناحية، ولأنها صارت معروفة إلى حد ما، ولو في أوساط الكتابة الإبداعية والدرامية، وفوق ذلك كله لضرورة هذا التمييز ما بين الثيمة والموضوع.
لو تكلمنا بالمجاز لقلنا إنه إذا كانت الثيمة محيطا فالموضوع أقرب إلى بحر، أما فكرتك فهي قاربك الصغير! الثيمة مفهوم أكثر عمومية من الموضوع، إنها أقرب إلى إطار عام، مظلة تندرج تحتها مئات الموضوعات؛ وبالتالي ملايين الأفكار المختلفة. وفي هذا ما فيه من تبسيط مخل؛ لذلك علينا أن نتحلى ببعض الحذر والريبة، فكثيرا ما لا تكون الأمور بمثل هذا الحسم والوضوح. من الأفضل لنا أن نركز الآن على مفهوم الثيمة جاهدين؛ لتجاوز مراوغته وغموضه.
رسالة في زجاجة
قد يظن البعض أن الثيمة هي الدرس المستفاد؛ الحكمة الأخلاقية التي يمكننا استنتاجها بعد الاطلاع على العمل الأدبي. ربما يكون هذا صحيحا إذا كان ذلك العمل الأدبي مجرد حكاية خرافية، أو أمثولة بسيطة، لا تتطلب منك جهدا أكثر من استنباط ذلك الدرس منها؛ لكن تبقى الأمور أكثر تعقيدا من هذا في العمل الأدبي بمعناه الحديث، وبأنواعه المتعارف عليها، وإن ظلت مهمة الاستنباط تقع على عاتق القارئ أو المتلقي؛ إذ ليس على مبدع العمل أن ينص صراحة على «ثيمته»، سواء أكان في مقدمة منفصلة أم بداخل النص ذاته. إنها ما يقع بين السطور؛ تلك المادة الشفافة التي على المتلقي أن يستشعر وجودها دون أن يلمسها، وأن يدرك حضورها في كل صفحة تقريبا، تتكشف تدريجيا من خلال الشخصيات والأحداث والحبكة. إنها رسالة في زجاجة بلغة غامضة، كما بدت في فيلم «رسائل البحر» لداود عبد السيد؛ رسالة قد يكون المبدع نفسه أحيانا غير مدرك لها تمام الإدراك، أو واثق منها كل الثقة.
إذا كان لا بد من تعريف
قد تجد الكثير من التعريفات الخاصة بالثيمة في الكتابة السردية؛ منها ما يقتصر على حدود فكرة النص الأدبي، على ما في ذلك من اختزال شديد، ومنها ما يوسع النطاق قليلا، قائلا إنها فكرة، أو مجموعات أفكار مركزية يتكشف عنها السرد. وإذا كان لا بد من تعريف ما لذلك المفهوم المراوغ؛ فهو ذلك الهم العام المهيمن على النص، وليس رسالة مباشرة صريحة يمكن تلخيصها، ولتتذكر أن كلمة «رسالة» لن تجد صدى لدى أي كاتب جيد. إنها تلك الهواجس المتكررة النابضة ما بين سطور عمل ما؛ المعنى الأوسع والأشمل الذي لا يوجد بمعزل عن فعل التأويل ذاته؛ أي لا يمكن الإمساك به إلا في فعل القراءة والتفاعل مع النص.
كأنها دعوة لحفلك
فلنحاول الآن اللجوء قليلا إلى الحس العملي، قبل أن نضيع في متاهات من التعريفات والمصطلحات التي غالبا لا تؤدي ولا تجيب. تخيل أنك تقيم حفلا ما، هذا الحفل له طبيعة خاصة به، قمت أنت بتحديدها مسبقا؛ لذلك لن توجه الدعوة إلا لمن تنطبق عليه شروط خاصة. ما عليك إذن إلا أن تطبع الدعوات وتنتظر الضيوف، تقف على الباب في استقبالهم بنفسك، كل من يمسك بين يديه بالدعوة التي حددتها أنت يمكنه الدخول، ومن لا يملكها غير مسموح له بذلك. هذا الحفل هو نصك الأدبي، والدعوة هي تلك الثيمة العامة التي تتحرك في إطارها، أما ضيوفك فهم جميع العناصر السردية التي تشكل عملك الأدبي من شخصيات ومواقف وأحداث وأفكار ... إلى آخره.
هل من شأن هذا أن يكون قيدا عليك؟ ربما، بدرجة ما، ولكن عليك أن تسأل نفسك الآن: هل أنت مستعد للإبحار بلا بوصلة، من دون أن تعرف الاتجاه الذي تصبو إلى السعي نحوه؟ صحيح أنه يمكنك أحيانا الاستغناء عن تلك البوصلة الخفية، أن تلقي بها في مياه المحيط الشاسع، لكنها - حتى في أشد حالات الكتابة تجريبية وطليعية - ستظهر من جديد بين يديك ، بفعل السحر، بفعل النية الواهية بداخلك؛ ذلك المقصد الذي قد يتشكل تدريجيا مع الإبحار في نصك. تظهر لتقودك - ولو لم تشعر أنت بذلك حتى - نحو مرفأ ما، نحو «معنى» ما، وإن كان ذلك المعنى من المراوغة والغموض بحيث لا يمكن الإمساك به في جملة بسيطة، ولو ظل ذلك المعنى مثل رسالة في زجاجة بلغة غير موجودة بعد على وجه الأرض.
تمرين للتكرار
استرخ، انس الموضوع، فقط تذكر فيلما تحبه أو رواية قرأتها بمتعة مؤخرا، واسأل نفسك: ما الذي يريد هذا الفيلم أن يقوله؟ ما المكتوب في السطور الخفية لتلك الرواية؟ كيف تسرب إليك هذا المعنى؟ من خلال أي المشاهد والمفردات والأفعال؟ هل أنت شريك حقيقي في إنتاج هذا المعنى أم كنت مجرد متلق للدرس المستفاد؟ بكل تلك الأسئلة يمكنك أن تتلمس ذلك المفهوم المراوغ - ولو مبدئيا - حتى حين.
إشارة أخيرة
ثيمة الفن هي ثيمة الحياة ذاتها.
لورانس داريل
«الثيمة» ذلك اللحن السري
نحو الكتابة
تقول «دايان داوتفاير» الروائية ومؤلفة الكثير من الكتب حول صنعة الكتابة:
تدفعنا نحو الكتابة مخاوفنا وأشواقنا، ومع ذلك، وبينما نستكشفها على نحو أعمق، فإننا نغيرها لنخلق سردا خياليا له أثره وقوته؛ فتصير تلك المخاوف والأشواق بطريقة غامضة مقبولة بدرجة أكبر في حياتنا. يمكن لهذا أن يكون تجربة معززة وشافية، ليس فقط بالنسبة إلى الكاتب، ولكن أيضا للقراء من أصحاب الهموم ذاتها.
هل نبدأ ب «الثيمة» أم بالكتابة؟
لا أظن أن لهذا السؤال إجابة سهلة وجاهزة؛ فسوف تجد الكثيرين يشددون على أهمية أن تكون لديك نية مبدئية؛ إحساس غامض بالجهة التي تقصدها في قصتك أو روايتك؛ أي أهمية المقصد، وتحديد «ثيمتك». أيضا ستجد آخرين يرون العكس، وينصحون بأن تبدأ بالكتابة (هل ما زلت تذكر آلية الكتابة الحرة؟) دون أية أفكار مسبقة حول «ثيمتك» أو همك الأساسي أو أي شيء كهذا. من السهل أن نقول إن لكل شيخ طريقة، وعليك أن تجد الطريقة الأنسب لك، والأنسب لهذا النص المحدد الذي تتمنى كتابته؛ لعالمه وأجوائه؛ لكن الصعب والممتع في ظني أن تقرن بين الطريقتين، في محاولة للانتفاع بحرية الكتابة دون محددات مسبقة حينا، ثم إمكانية الاسترشاد ببوصلة في إبحارك؛ سيبقى عليك مع هذا أن تحدد بنفسك متى تلجأ للطريقة الأولى، ومتى يجب عليك أن تفتش عن بوصلتك حتى لا تضيع. غير أن الانتقال بين الطريقتين كيفما اتفق وفجأة لن يكون مجديا؛ لذا أظن أنه من الأجدى اللجوء إلى الطريقة الأولى (الاكتشاف الحر لعالمك) في بدايات عملك على النص الأدبي، وإلى الطريقة الثانية (العثور على «ثيمة» محددة والاهتداء بها) في مراحل أكثر تقدما من تطويرك لحكايتك.
مثال عملي
لنفترض أنك ظللت لأيام تفتش في ذاكرتك عن مناطق ساخنة في طفولتك، تكتب وتكتب بلا أية قيود ودون أن تدرك الوجهة التي تقصدها، في هذه المرحلة ليس عليك أن تمتلك بوصلة، أنت تستكشف. وبعد أيام أو أسابيع أدركت اللحظة، الموقف، الحالة التي تود أن تجعل منها المادة الخام لنصك؛ هنا عليك أن تتوقف لاستكشاف بوصلتك وتأمل وجهتك؛ ما الأفكار الخفية التي تسري في أوصال هذه الحكاية وتدفعك لكتابتها؟ ما الشعور الذي تود نقله للقارئ؟ مجرد طرحك لأسئلة كهذه هو الخيط الذي سيقودك عبر متاهة السطور والكلمات.
كيف تختار «ثيمتك»؟
قد يبدو هذا السؤال لا معنى له بالنسبة إلى البعض، ممن تختارهم «ثيماتهم» كما يقال، فكأنهم لا يتحركون من مواضعهم إلا وهم يعرفون أين يذهبون، ليسوا من هواة التجوال والاستكشاف العفوي مثل آخرين قد يشعرون بشيء من الحيرة قبل البدء. ليست «الثيمة» شيئا جاهزا يمكن العثور عليه معلبا ومعروضا على أرفف بعض متاجر الكتابة السردية، بحيث يختار الكاتب منها ما يحلو في عينيه، بقدر ما هي شيء دفين بداخله، ينبض بحركة قلقة، مطالبا بالإعراب عن نفسه، ولكن من وراء حجاب الحكاية والشخصيات والحبكة؛ لذا فليس عليك أن تذهب بعيدا في بحثك، بقدر ما عليك أن تنبش في محيط اهتماماتك وهواجسك وخبراتك المباشرة كذلك. غالبا ما ستجد هدفك المراوغ مختبئا بداخلك، غير بعيد عن أسئلتك القديمة والجديدة، قد يكون هو همك بشأن لغز الزمن ، أو نقمتك على الأنظمة والتقاليد الاجتماعية، أو حيرتك إزاء تقلب القلوب وتهشم أساطير المحبة وقد ولدت عفية مكتملة النمو.
اللحن السري في الرواية «الثيمة» في الرواية مثل لحن طويل سري، ينتقل بنا من هنا إلى هناك، عبر نغمات تتكرر وتتنوع وتتشكل مع كل ترديد جديد لها أو استعادة. على السطح، سوف يندفع القارئ مستمتعا راضيا وراء تحولات الأحداث وتطورات الشخصية، وفي الحين نفسه، تتسلل إليه من أعماق المياه تلك النغمات التي لا تكل من النبش وراء مجموعة مركزية من الأسئلة والهموم، دون أن تكشف عن وجهها صراحة وتخاطر بالصعود فوق الموجة، فنجد أنفسنا أمام مباشرة سخيفة وخطابية فجة.
عند تحديد «ثيمة» روايتك، عليك أن تكون واثقا تماما من رغبتك في العمل عليها، مطمئنا لها ومفعما بالفضول نحوها؛ فهي ليست حالة وجدانية عابرة، أو قصة حب سريعة، مثل بعض القصص والقصائد، بل التزام طويل الأجل، ستسهر برفقته الليالي، وتتوالى الفصول عليكما معا، ولا يرغب أحدنا في عقد رباط مقدس على شريك (هو الثيمة) لا يثق برغبته فيه، فاحذر قبل نزولك إلى بحر الرواية؛ حتى لا تبدد شقاء شهور - وربما سنوات - هدرا.
تمرين
تذكر بعض نصوصك السابقة، اسأل نفسك: ألها «ثيمة» واضحة؟ هل قصدت ذلك أم حدث عفوا؟ هل استطاع ذلك اللحن السري الخفيض أن يعرب عن نفسه من بين سطور عملك؟ والآن، ماذا عن المستقبل؟ فكر في رواية لطالما تمنيت كتابتها؟ أعد التفكير في «ثيمتها» أو «ثيماتها» العامة بناء على المفاهيم البسيطة التي تعرفت عليها هنا. أعد كتابة تلك «الثيمة»، الأسئلة، الهواجس، الهموم العامة، في سطر واحد؛ اقرأه جيدا، قبل أن تمحوه أو تمزق الورقة، لتبحر في المجهول.
تذكير واجب
لا يخفى عليك أن أغلب ما نسوقه هنا الآن، أو فيما بعد، حول «الثيمة» وأخواتها من عناصر لعبة السرد؛ هو نتاج للماضي، جماع ما تم الاتفاق عليه إلى حد كبير؛ القواعد والتقاليد التي وضعت لنتعرف عليها ونمتحنها في تجربتنا العملية، أو لنتجاهلها تماما - إن استطعنا - ونضع قواعدنا الخاصة للعبة الكتابة المتجددة أبدا.
«الحبكة» جديلة الأسباب والنتائج
حزنا عليه
يعد كتاب إي إم فورستر «أركان القصة» من المراجع التي لا غنى عنها لأي قاص أو روائي، وهو متاح باللغة العربية بترجمة «كمال عياد جاد»، وكان من بين إصدارات مكتبة الأسرة (أمهات الكتب) لعام 2001، وهذه هي النسخة التي أعتمد عليها هنا؛ وإذا أتيحت لك قراءته، فسوف تجد بين فصوله إضاءات كاشفة لبعض أهم عناصر اللعبة السردية، ومن بينها مفهوم «الحبكة».
يعرف فورستر هذا المفهوم كالتالي:
دعنا نعرف الحبكة الروائية. لقد عرفنا الحكاية بأنها مجموعة من الحوادث مرتبة ترتيبا زمنيا؛ والحبكة أيضا سلسلة من الحوادث يقع التأكيد فيها على الأسباب؛ فإذا قلنا: «مات الملك، ثم ماتت الملكة بعد ذلك.» فهذه حكاية، أما: «مات الملك، وبعدئذ ماتت الملكة حزنا عليه.» فهذه حبكة. وقد احتفظنا هنا بالترتيب الزمني، ولكن الأسباب والنتائج تفوقه ...
ثم يمضي فورستر نحو مزيد من الإيضاح للفرق بين الحكاية كترتيب زمني للأحداث، وبين الحبكة كعلاقات سببية بين تلك الأحداث ذاتها. وقد نجد تعريفات أخرى لمفهوم الحبكة، قد تبتعد قليلا أو كثيرا عن تعريف فورستر ومثاله الشهير عن الملك والملكة، غير أن القاسم المشترك بين تلك التعريفات والمقاربات سيكون بلا شك هو التأكيد على عنصر السببية، في علاقة الأحداث بعضها ببعض؛ بمعنى أن الحدث (أ) هو ما أدى إلى (ب)، و(ب) أدى إلى (ج)، وهكذا. ليس من الضروري بالمرة أن تمضي تلك الأحداث من نقطة إلى أخرى كمحطات القطار، فهي جديلة ولكنها من عناصر مشتبكة ومتواشجة، يظهر أحدها هنا ويختفي هناك، وهكذا يعود فورستر للتأكيد على عنصر الغموض، ليس كطريقة مباشرة لصنع التشويق والإثارة، بقدر ما يكون استهدافا لذكاء وذاكرة القارئ في طريقة اللعب بأوراق السرد. ولكن لا داعي لاستباق الأمور، ولنبدأ بنظرة سريعة نحو الصيغة التقليدية والمبسطة للحبكة في الرواية.
سلسلة متصلة الحلقات
في صيغتها الأشد تقليدية، يمكن لنا أن نعتبر الحبكة «سلسلة من الأحداث المترابطة، والمتعلقة بشخصية تتوق بشدة إلى تحقيق شيء؛ شيء ليس من السهل بلوغه. وهكذا يجب أن تصل الأحداث إلى محصلة مرضية ...»
إننا هنا أمام عدد من العناصر المتداخلة التي يجب تحليلها بهدوء؛ فهناك ترابط الأحداث بعضها ببعض، بمعنى أن كلا منها يؤدي إلى الآخر في إحكام واضح، ولا تنس أن الحبكة بمعنى «العقدة». إنها سلسلة متصلة الحلقات، وإذا افتقدت إحدى الحكايات الجانبية في روايتك إلى علاقة السبب والنتيجة ببقية الأحداث السابقة واللاحقة؛ فهي ليست حلقة من تلك السلسلة، وصار من الممكن الاستغناء عنها تماما، دون تأثير على «الحبكة». لا داعي للتذكير هنا - أو فيما بعد - بأننا نعرض الصيغة التقليدية لهذا المفهوم.
بتعبير آخر، لا بد لكل حدث من أحداث روايتك - سواء أكان له ثقله الدرامي أم كان عارضا وبسيطا - أن تكون له تداعيات وعواقب بدرجة ما، لا بد أن يكون له أثره على ما سيحدث فيما بعد.
لماذا الحبكة؟
تلعب الحبكة في روايتك دور المغوي، الذي يأخذ بيد القارئ ويغوص به في أعماق وطبقات حكايتك وعالمك من نقطة إلى التي تليها. عنصر الغموض والإخفاء والإظهار في حبكتك سيجعله يتساءل من وقت إلى آخر: «وماذا حدث بعد ذلك؟» لكن إشباع الفضول - بحسب فورستر - ليس بالطموح الكافي للرواية الجيدة، بل عليك أن تجعله أيضا يتساءل: «لماذا؟ وكيف؟» وأن يستعمل ذاكرته وذكاءه في محاولته الوقوف على التركيب الكلي لحبكتك، لكي يستشعر تلك الدهشة الكلية مع سطور النهاية؛ دهشة الوقوف أمام نموذج للجمال لم يتخذ شكله النهائي إلا مع السطور الأخيرة.
الشخصية والحبكة على قدم وساق
قال الروائي إف سكوت فيتزجيرالد، كاتب الرواية الرائعة «جاتسبي العظيم»: «إن الشخصية هي الحبكة، والحبكة هي الشخصية.» وسيتفق معه كثير من الكتاب في هذا الرأي؛ لأن كل حلقة من حلقات سلسلة الحبكة هي تطور آخر يطرأ على تكوين شخصيتك؛ عقبة جديدة تتجاوزها، كشف مغاير تواجهه. وهكذا، فقبل أن تستغرق في تضفير جديلة حبكتك، يجب أن تكون ملما - ولو بقدر ما - بطبيعة شخصيتك الأساسية، ومن الأفضل أن تعمل عليهما معا بالتوازي؛ أي تطوير الحبكة ورسم ملامح الشخصية، وأن تكون أيضا قد حددت نوعية الصراع الذي ستخوضه شخصيتك: هل هو صراع داخلي مع قيمها وأفكارها الخاصة؟ أم مع قوى خارجية؛ أشخاص آخرين أو مؤسسات مجتمعية أو حتى قوى تنتمي للطبيعة أو الغيب؟ إن شكل ذلك الصراع، وتطوره، ونتيجته، تحدد معا صورة حبكتك، التي قد يلخصها البعض في محاولات البطل للتغلب على المصاعب لتحقيق هدفه، والتغيرات التي تطرأ عليه في إطار هذا المسعى. لكن الأمور لا تكون عادة بهذه الدرجة من البساطة واليسر إلا في أفلام هوليوود التجارية.
اترك الزمام
قبل الوقفة التالية مع الحبكة من منظور آخر، أنصت الآن لما يهمس لك به الإنجليزي راي برادبري، صاحب رواية «451 فهرنهايت» عن الحبكة:
تذكر: الحبكة ليست أكثر من آثار أقدام تركت على الجليد بعد أن ركضت شخصياتك في طريقها نحو غاياتها غير المعقولة. تلاحظ الحبكة بعد ملاحظة الحقيقة وليس قبلها؛ لا يمكن لها أن تستبق الفعل؛ إنها الخط البياني الذي يتبقى بعد إتمام أحد الأفعال أو الأحداث. هذا ما ينبغي أن تكون عليه الحبكة تماما؛ إنها الرغبة الإنسانية في الانطلاق والركض ومحاولة بلوغ هدف ما. لا يمكن لها أن تكون ميكانيكية، بل حيوية وفعالة فقط؛ لهذا، تنح أنت جانبا، وانس ما تستهدفه، واترك الزمام لشخصياتك، لأصابعك، لجسدك، لدمك، لقلبك.
الوجه الآخر للحبكة
ولو شربة ماء
في تعريف الحبكة - بصيغتها التقليدية - أشرنا أن سلسلة الأحداث المترابطة لا بد وأن تتعلق بشخصية ... ولنتوقف عند هذا العنصر الهام من التعريف لوهلة، قبل أن نتناول مسألة رسم الشخصية تفصيلا فيما بعد. من زاوية الحبكة، لا بد أن تكون شخصيتك ترغب في شيء ما، تسعى إلى تحقيقه، عظيما كان هذا الشيء أم تافها؛ فهذا هو المحرك الأساسي لسلسلة الأحداث، وبحسب تعبير مرح للقاص والروائي الأمريكي كورت فونيجت، فإنه «حتى الشخصيات المتعثرة في عبثية الحياة المعاصرة ما زالت بحاجة إلى شرب كوب ماء من وقت لآخر.» قد يكون صراع شخصيتك - أو بالأحرى أزمتها - له طبيعة نفسية وداخلية أكثر منها اجتماعية وخارجية، ولكن يرى البعض أنه لا بد من انعكاس هذا الصراع خارجيا؛ أن يكون مرئيا وملموسا في حركة وحدث وحوارات؛ أي في سلسلة الحبكة المتصلة الحلقات.
بينما يدافع آخرون - على الناحية الأخرى - بأن هذا قد يأخذ العمل الروائي بعيدا عن خصوصيته الأدبية، ويجره إلى عالم الدراما المثقل بالأسباب والنتائج؛ عالم المسرح والسينما والتليفزيون، ويحرم الرواية من إحدى أقوى خصوصياتها؛ أي الإبحار في الحياة الداخلية للشخصيات. وليس من المستبعد بالمرة أن تدور قصة أو رواية بالكامل في ذلك العالم الداخلي للشخصية، لكن يبقى السؤال: هل سيكون هذا كافيا لتوريط القارئ؟ أين هو الكاتب الذي يملك من القدرة الخاصة بحيث يستغني تماما عن الأحداث الخارجية، وخطوط الحبكة ولو هشة ومتوارية، مستغرقا في عقل بطله، وأمواج أفكاره، دون أن يدفع هذا القارئ إلى فقدان الاهتمام والإعراض تماما عن القراءة؟
وإذا عدنا مرة أخرى إلى كورت فونيجت، نجده يقول حول هذه النقطة تحديدا:
إنني أضمن لك أنه ما من مخطط لقصة حديثة، ولو خلا من الحبكة تماما، سوف يمنح القارئ الإشباع الحقيقي، إلا إذا كان فيه إحدى تلك الحبكات العتيقة الطراز، وقد تم تهريبها خلسة في موضع ما. إنني لا أمتدح الحبكة بوصفها التمثيل الأمين للحياة، بل بوصفها طريقة لتشجيع القارئ على مواصلة القراءة.
هنا أكثر من نقطة: حياتنا بلا حبكة، بلا شكل، لكن الفن يحاول منذ وجوده أن يضفي شكلا على تلك الفوضى، حتى في تلمسه للفوضى سينتج شكلا ما. الحبكة ليست عنصرا أساسيا وثمينا في حد ذاته، بقدر ما هي وسيلة، شأنها شأن سائر عناصر اللعبة السردية. هي عنصر له دوره المحدد، ويمكن الاستغناء عنه إذا ما لم ير الكاتب أهمية خاصة لهذا الدور، أو إذا ما وجد بديلا يمكن اللجوء إليه مع الاحتفاظ بنفس التأثير.
الوجه الآخر
لنعد الآن إلى إي إم فورستر، وكتابه أركان القصة، في فصله المخصص للحبكة؛ حيث يكاد يتخذ الاتجاه المقابل لرأي كورت فونيجت، رافضا السلطة المطلقة للروائي على مادته السردية، وضرورة إحكام الحبكة التي قد ينتج عنها في النهاية شيء ميت سلفا. وفقا له، إذا كانت الحبكة جميلة، فإن الشعور النهائي الذي يتسلل إلى القارئ ليس مجرد شعور بمفاتيح تؤدي إلى حل ألغاز، بقدر ما سيكون شعورا بشيء جميل مترابط ... شيء كان يمكن للروائي أن يرينا إياه مباشرة، ولكنه لو فعل لما بدا هذا الشيء جميلا على الإطلاق. فورستر هنا يقرن الحبكة بالجمال، وهي فكرة قد لا نصادفها كثيرا في الكلام حول الحبكة، أي مجرد حيلة لأسر القارئ في سلسلة الأحداث. الجمال المنشود هنا له علاقة بتوزيع النور والظلال؛ ما المكشوف وما المخفي، ثم - بالطبع - الترابط الكلي الذي قد لا يكون مجرد نتيجة آلية لسلسلة الأسباب والنتائج، بمعناها المنطقي المحسوم، بقدر ما يرتبط بطريقة الكاتب الخاصة في تنظيم عناصر عمله.
بين أرسطو وجودار
وفقا لأرسطو، فإن كل حبكة لها بداية ووسط ونهاية، وإن أفضل الحبكات هي ما تتكون من سلسلة من الإدراكات والتكشفات؛ إننا هنا في عالم الدراما المحض، عالم السبب والنتيجة. بينما يقول المخرج الفرنسي جان لوك جودار: «لا بد أن يكون لكل فيلم بداية ووسط ونهاية، ولكن ليس من الضرروي أن تكون بذلك الترتيب.» هنا نبتعد خطوات عن الدراما، نقترب أكثر من الأدب والسينما؛ حيث التركيب النهائي للعمل الفني أهم وأشمل من مجموع أجزائه. الترتيب الزمني والمنطقي مجرد حكاية - وفقا لفورستر - أما انتظام الأحداث وفقا لرؤية المبدع، فهو الحبكة؛ سواء بمعناها التقليدي أم الحديث.
فيما يلي فقرة من كلام فورستر؛ علها تضيء هذه الفكرة أكثر:
ألا يمكن للروائي بدلا من أن يقف خارج عمله ليسيطر عليه، أن يلقي بنفسه فيه فيحمله إلى هدف لم يكن يتنبأ به؟ وقد تكون الحبكة مثيرة وقد تكون جميلة، ولكن أليست صنما استعرناه من الدراما ومن القيود المكانية التي تسيطر على المسرح؟ ألا يستطيع الروائي أن يبتدع إطارا لا يتبع قوانين المنطق إلى هذا الحد، ويكون أكثر ملاءمة لعظمة القصص؟
الأصل الواحد
هناك اثنتان وثلاثون طريقة لكتابة قصة، وقد استخدمتها جميعا، ولكن هناك حبكة واحدة فقط؛ وهي: ظاهر الأمور خادع.
جيم ثومبسن
لا توجد إلا قصتان أو ثلاث قصص إنسانية، تواصل تكرار ذاتها بقوة كما لو أنها لم تحدث قبل ذلك قط.
ويلا كاثر
اسرق حبكاتك ... شكسبير فعلها
تعال نتمرن
فيما يلي بعض تمارين الكتابة التي يمكنك ممارستها بهدف استيعاب مفهوم الحبكة والتمرن على تصميمها مبدئيا، حتى بالانطلاق من حبكات الآخرين. (1)
عناصرها الأولية:
الحبكة التقليدية - وبحسب الفهم الأرسطي المسرحي القديم لها - تتكون من ثلاثة أركان متوالية: بداية، ووسط، ونهاية. لنقل إنها ثلاث عبارات؛ في الأولى: تقدم الوضعية العامة للشخصية والموقف. وفي الثانية: تقدم العقدة أو الأزمة. وفي الثالثة والأخيرة: تعرض حل الصراع، على هذا النحو أو ذاك. إنه تحويل الحكاية إلى ثلاثة عناصر أولية بسيطة، الهيكل العظمي المجرد للرواية في ثلاث خطوات.
الآن، فكر في رواية تحبها أو فيلم شاهدته كثيرا، وفكك قصته إلى عناصرها الأولية في ثلاث جمل مفيدة، تمثل كل منها مرحلة من تلك المراحل الثلاث: التمهيد، والذروة، والحل أو نهاية الصراع. كمثال، تعال نتذكر معا قصة نجيب محفوظ «الحب فوق هضبة الهرم»، وأيضا فيلم عاطف الطيب الجميل المقتبس عنها. يمكننا أن نقول: (أ) «علي» و«رجاء» موظفان حكوميان شابان، تجمعهما مشاعر الحب، يواجهان ظروفا مادية واجتماعية معاكسة. (ب)
يقرران عقد خطبتهما، لكن دون أي أمل في حل مشكلتهما الأساسية، وتتكاثر عليهما الضغوط؛ نفسية وخارجية. (ج)
في لحظة عبث وجنون يقرران الزواج سرا والنوم معا، رغم أنف الأهل والمجتمع والتقاليد. يقبض عليهما معا عند هضبة الهرم.
حاول تكرار هذه الآلية مع أكبر عدد ممكن من القصص والروايات والأفلام؛ الغرض هو أن تألف تلك التركيبة الثلاثية، وأن تعتاد صياغتها. ثم جرب تطبيقها على بعض نصوصك، سواء المكتوبة بالفعل أم تلك التي ما زالت مشاريع تدور في ذهنك. (2)
ماذا لو؟ مرة أخرى:
أتمنى ألا تنسى هذا السؤال الصغير: «ماذا لو؟» فهو أداة سحرية، من المستحسن أن تكون في متناول يدك، على طول رحلتك مع نصك الإبداعي، وسوف تجدها نافعة للغاية، في كل مرحلة من مراحل تطوير عملك، وبالخصوص في بدايات تطوير قصتك، أو العمل على حبكتك.
من أجل اكتشاف الإمكانيات العديدة المتضمنة في حدث واحد بسيط، اطرح ذلك السؤال السحري، محولا ومبدلا في الاحتمالات كل مرة؛ فلتكتب أقاصيص (ملخصات دون أية تفاصيل) حول موقف واحد، ولكن بسيناريوهات مختلفة. تعال نتخيل رجلا وامرأة يقفان في الشارع، كل منهما على حدة، في وقت متأخر من الليل، يحاولان إيقاف سيارة تاكسي. اطرح السؤال السحري، واكتب حبكات صغيرة (من 50 إلى 200 كلمة مثلا) بناء على احتمالات مختلفة: هل يكتشفان أن طريقهما واحد؟ هل تأتي سيارة لاصطحاب أحدهما فيعرض توصيلة على الآخر؟ هل سيقرران السير معا؟ هل يمضي أحدهما ويترك الآخر وحده. الغرض هنا أن تتبين عددا معقولا من الحبكات المختلفة التي يمكن أن تنطلق من موقف واحد بسيط، وأن تبني عليها الهيكل العظمي المبدئي لقصتك. (3)
اسرق حبكتك:
كتب شكسبير أغلب مسرحياته بالاعتماد على نصوص حكايات أو حتى مسرحيات سابقة قديمة. لم يكن ينسخ، لم يكن يسرق العبارات، كان فقط يستعير الحبكة؛ ليصنع بها شيئا مختلفا، خاصا به وحده، واشترى بتلك الحبكات القديمة تذكرته للخلود. يمكنك أن تفعل مثله - وكما يفعل كثيرون من صناع السينما - باستلهام مسرحيات شكسبير نفسها، في عدد كبير من النسخ التي تتناول الخط الأساسي للأحداث، وتلعب به كيفما تشاء. ستجد خطوطا كثيرة تربط ما بين روميو وجولييت وقصة الحي الغربي. «جيمس جويس» في روايته الشهيرة «عوليس» تناول ملحمة الأوديسة ليصنع منها ملحمة الحداثة التي تدور في يوم واحد فقط لترصد الحياة الداخلية لبطله. اسرق حبكة واصنع منها شيئا آخر؛ شيئا خاصا بك أنت وحدك، فلتعتمد على مسرحية قديمة أو فيلم شهير أو عمل كلاسيكي أو حكاية شعبية، واكتب الخط الأساسي لتلك الحبكة وفككه إلى عناصره الأولية، ثم تأمل كيف يمكن تغذيته بالتفاصيل والواقع والحياة الخاصة بك أنت. كيف يمكن إعادة كتابة رواية «الكونت دي مونت كريستو» اليوم؟ ما الذي ستفعله إذا وضعت حكاية «حسن ونعيمة» في مدينة صاخبة في مطلع القرن الحادي والعشرين، أو إذا كانت حكاية «شفيقة ومتولي» تدور في أوروبا ستينيات القرن العشرين بين أخ وأخت عربيين؟
على الرغم من أن هذا مجرد تمرين للاستلهام، فإن هناك الكثير من الأعمال الأدبية والفنية التي اعتمدت على حبكات سابقة؛ لتقدم إبداعا فارقا، دون أن يعد هذا سرقة، ولا تنس مثال شكسبير. (4)
ومصادر أخرى:
العب. هذه هي كلمة السر، يمكنك استلهام حبكتك من خبر في صفحة الحوادث، من عبارة في أغنية، من فيلم قديم؛ سوف تجد على الدوام مظلات عريضة، تندرج تحتها عشرات الحبكات ولكن بتفاصيل مختلفة. إن وصول شخص غريب إلى بلدة صغيرة ذات يوم قد يكون المحرك الأول لعشرات الحكايات، فمن هو غريبك؟ وما الذي أتى به إلى هذه البلدة؟ وماذا سيترتب على وصوله؟ محاولة بلوغ مقصد أو هدف - عظيما كان أم تافها - هي أيضا نواة جوهرية لآلاف الحبكات في الأدب والسينما، فما الذي تسعى إليه شخصيتك أو شخصياتك؟ وكيف ستحاول تحقيقه؟ وهل ستنجح أم لا؟ بمجرد إجابتك عن تلك الأسئلة البسيطة تجد بين يديك الخيوط الأولية للحبكة الخاصة بك، وما عليك إلا تطويرها بأن تكسو عظامها لحما، وتمد فيها الأعصاب، وأن تنفخ فيها من روحك بحيث تنتزعها بعيدا - مع الوقت والعمل عليها - عن ملايين الحبكات المشابهة. •••
هل يمكننا الانطلاق في الكتابة من أفكار عامة ومجردة، على الرغم من كل النصائح التي تشجعنا على عدم فعل ذلك؟ تعالوا نستكشف هذا السؤال في الفصل التالي.
أشياء كبيرة وعدسات صغيرة
اعتذار
أعتذر للأسئلة الكبيرة عن الأجوبة الصغيرة.
الشاعرة البولندية «فيسوافا شيمبروسكا»
عن «هذه المسائل الكبيرة»
إن لم تكن قد قرأت حتى الآن كتاب «شيء من هذا القبيل» للأديب المصري الكبير الراحل «إبراهيم أصلان»، فقد فاتك الكثير من المتعة والفائدة. في إحدى القطع الأدبية الصغيرة من هذا الكتاب، وتحت عنوان «هذه المسائل الكبيرة»، يتعرض أصلان لطريقة الفن في التعبير عن القضايا الكبيرة التي نعيشها بالتلميح والمشهد والصورة، دون مباشرة ووعظ. يقول: ... أرجوك، إذا ما صادفك رجل في قصة أو رواية قد جلس صامتا، أو طفق يضحك دونما سبب، أو رأيت أحدا يمشي في الشارع وهو يتبادل الكلام مع نفسه، أو لمحت امرأة تزينت ووقفت أمام المرآة لا تعرف ماذا تفعل بنفسها؛ إذا صادفتك مثل هذه التفاصيل العابرة، فلا تظنها غير ذات صلة بهذه المسائل الكبيرة؛ لأن في تطلع طفل إلى الطعام في يد الغير تعبيرا عن محنة عظيمة، وارتجافة خوف تعتري إنسانا من لحم ودم لمجرد مروره أمام قسم شرطة لهي اختزال لتاريخ كامل من المهانة والقهر.
ما الحب؟
نشر على مواقع التواصل الاجتماعي تعريف للحب، من طفلة ذات ستة أعوام، تقول فيه إنه «عدم الخجل من الابتسام أمام أصدقائك، حتى إن كنت فقدت إحدى أسنانك.» هذا مثال نموذجي على ما نحاول توضيحه فيما يلي، تحويل المعنى المجرد إلى شيء محسوس وواضح. من السهل - والمكرور كذلك - أن تضع أعقد وأغرب التعريفات للحب، لكن الصعب - والمبتكر كذلك - أن تعثر على تعريفه الخاص بك، من خلال التقاط لحظة صغيرة كهذه. لقد حولت هذه الطفلة، ببساطة وذكاء، المعنى المجرد إلى دراما، إلى موقف بسيط وكاشف، دون اضطرار إلى أي كلام كبير قد يكون أجوف تماما.
تلك المعاني الكبرى
في بدايات تجارب الكتابة، ومع المحاولات الأولى في سن صغيرة، تساورنا جميعا الرغبة في الكتابة عن معان كبرى، أفكار مجردة، قيم عامة، أشياء نعرفها بالظن، لا نعرف لها ملمسا أو لونا أو شكلا؛ نريد أن نكتب عن الخير، عن العدل، وبالطبع عن الحب (دون أن نفكر في احتمال الابتسام على الرغم من السن المفقودة للأسف). ما يشجع رغبتنا هذه كل ما تلقيناه في مراحل التعليم خلال دروس التعبير والإنشاء أو مهارات الخطابة وما شابه ذلك؛ أي الكتابة عن «موضوع» مهم وكبير، لكن هل يمكن أن يكون هذا مفيدا أو سائغا في الكتابة الإبداعية عموما، وفي القصة والرواية خصوصا؟ غالبية الكتاب لا ينصحون بالانطلاق من معان مجردة للكتابة عنها، ويشجعون على العكس؛ أي الانطلاق من شيء صغير، محسوس ومرئي؛ صورة مثلا، وجه شخص، موقف صغير ... إلى آخره.
ما ضرورة هذا؟
من ناحية، الانطلاق من معنى مجرد قد يؤدي بسهولة إلى الخطابة والزعيق والمباشرة (أريد أن أتكلم عن الفضيلة، لا بد أن أقنع القارئ بقيمة الفضيلة، لا بد أن أستعين بكل الشواهد الأدبية والتاريخية الممكنة لأثبت قضيتي)، وهكذا قد يقع الكاتب في فخ الوعظ أو المباشرة على الأقل. ومن ناحية أخرى، الكتابة الإبداعية تعتمد بدرجات مختلفة، وبحسب أنواعها وطرقها، على التصوير والعرض، على الحيل الفنية وألعاب الإخفاء والإظهار، وهو ما لن يتحقق إذا اعتمدنا على التحدث المباشر حول هذا المعنى أو ذاك. وعلى الرغم من صحة ذلك كله، ثمة طرائق وحيل يمكنك الاستعانة بها إذا أصررت على الانطلاق من بعض المعاني المجردة في كتابتك، وكيف يمكن لك أن تحولها إلى أشياء ملموسة وحسية، يمكن للقارئ أن يتفاعل معها بخياله وأحاسيسه، لا أن يتلقاها بوعيه وفكره فحسب؛ أي أن تحولها إلى فن. عندما يتخلى القارئ عن منطقه الرياضي وحساباته العقلية الصارمة، عندما يترك نفسه للاندياح مع محطات حكايتك، وللتماهي شبه التام مع شخصيتك، عندئذ فقط يمكن أن تتسلل إلى نفسه كل تلك المعاني الحلوة والكبرى التي تحاول أن تنقلها إليه، دون أن يكون عليك أن تسميها حتى.
عمليا
استخدم استيعابك الحسي للعالم من حولك لتكتشف كيف يمكن أن تصنع من المجردات شيئا ملموسا. لا شك أنك سمعت كثيرا فكرة أن «الإظهار - في السرد - خير من الإخبار»، وهي فكرة لها مقدار الصدق والوجاهة نفسه هنا أيضا؛ لا يكفي أن تقول إن شخصيتك - وقد ارتمت على الفراش - «راحت تمضغ الشفقة على ذاتها، وتشق طريقها بصعوبة وسط حنين غامر، قبل أن يبتلعها تماما ذلك الذي لم يعد له وجود.» على الرغم مما قد تبذله من جهد في رسم صورتك البلاغية، لكن قد يبقى الشعور غامضا للقارئ. استعن بالمجاز، إن شئت، بقدر ما يكون كاشفا: «تكورت على نفسها مثل يرقة.» واهتم بالوصف الحسي أكثر من النقل المباشر لطبيعة مشاعر شخصيتك: «تكورت على نفسها حتى كادت ركبتاها أن تمسا ذقنها.» قدم لقارئك صورة، تفاصيل بصرية، والأهم من ذلك أن تتجنب «الكليشيهات»؛ أي العبارات المبتذلة المكرورة التي يتم استهلاكها مرارا وتكرارا حتى تفقد معناها ورونقها.
تمرين
ضع قائمة بكلمات مجردة؛ مشاعر وانفعالات وأحاسيس، ثم حاول أن تصفها من خلال الحواس. على سبيل اللعب والتجريب: ما لون الحب؟ ما رائحة الغيرة؟ ما مذاق التعب؟ ما ملمس الغضب؟ ما صوت النفاق؟
فاجئ نفسك وغامر والعب، متجنبا الكليشيهات الجاهزة، فليس بالضرورة أن تكون صورة الحب على الدوام هي زهور وقلوب وشموس غاربة، بل قد تكون أيضا «سنة مكسورة». •••
في الفصل التالي المزيد عن كتابة المعاني والمجردات.
لون أفكارك بألوان السرد
سحر الكتابة
الكتابة هي طريقتنا في طرح الأسئلة عن العالم والوجود. في وقت متأخر من حياة الكاتبة البريطانية «آنجيلا كارتر» قالت إنها بهذه الطريقة (أي الكتابة) ما زالت قادرة على أن تطرح «تلك الأسئلة الكبرى الخاصة بمرحلة المراهقة، عن طبيعة الواقع: ما سبب وجودنا هنا؟ ما الذي نفعله هنا؟ ومن نكون؟»
يمكن لتلك الأسئلة ذاتها أن يطرحها ويجيب عنها فيلسوف أو رجل دين أو عالم أو سياسي. الفن أيضا لا يتوقف عن طرح الأسئلة القديمة (والكبيرة) ذاتها، وإن بطريقته الخاصة، وبالطبع دون أجوبة نهائية. يستعين الكاتب باللغة في رحلته الاستكشافية وصياغة تجاربه، وعلى اللغة هنا - بجانب دورها الجمالي في الأدب - أن تكون عنصر توصيل فعالا، في كشفها للأشياء وكل ما هو مادي وملموس في عالم الحياة اليومية، في محاولة دائمة لغرس تلك الأسئلة القديمة والمعاني الكبرى عميقا في أرض الواقع، بمادته الصلبة، بحيث تتحول في وعي القارئ إلى صور لا تقل وضوحا وحيوية عما يحيط به من موجودات. هنا يبتعد الأدب عن الفلسفة مثلا، يصير أقرب إلى الناس وأسهل في التلقي، وتتحول المعاني الغامضة إلى صور وأيقونات وألوان، هنا ينجح الساحر في تحويل طبقات السماء إلى لعبة تضمها يدان، ويخفي ألغاز الفكر الغامضة بين طيات جملة حوار، أو إيماءة لإحدى الشخصيات.
المقامر لا المقامرة
لا أذكر أين أو متى سمعت مقولة أنه «لا يوجد مرض، يوجد فقط مرضى.» أي إننا لا نستطيع أن نفصل أي مرض، في البدن أو في النفس، عن الشخص الذي يحمله ويقاومه أو يتكيف معه. في الكتابة الإبداعية أيضا لا يمكننا أن نفصل أي قضية عامة - مهما كانت جاذبيتها أمام الكتابة - عن الشخصية التي تحتويها وتعرضها، دراميا، عبر تطور الحكاية. إنك لا تكتب عن المقامرة، بل عن مقامر محدد، له صفات خاصة ومحددة. مهما اجتهد علماء النفس في وضع تحديدات وسمات عامة مشتركة لشخصية المقامر، فلا بد أن يبقى مقامرك الخاص بقصتك مختلفا عن جميع الآخرين، وإلا فما جدوى كتابة هذه الحكاية ومن ثم قراءتها، إذا كانت مجرد عرض لوضعية نفسية، تتطابق فيها آلاف النماذج الإنسانية؟ لذلك فإن أول نصيحة قد تسمعها كثيرا إذا ما قررت الكتابة عن مثل تلك النماذج العامة، هو أن تكون محددا قدر المستطاع، وأن تنطلق من خصوصية واضحة لشخصيتك وحكايتك، أن تعرض للقارئ سبب اختلاف هذه الحالة تحديدا عن سائر الآخرين، وأن تستعين بالتخصيص والتحديد والتجسيد الدرامي لاستكشاف أي هموم إنسانية مشتركة، أو معان وأفكار مجردة ترجو تناولها.
لا بد من الانتباه إلى أن الكتابة السردية الجيدة تتجنب - قدر المستطاع - جميع آليات التوجيه والتعليم والنصح والإرشاد. هذا ليس دورها، ملعبها هو الفتنة والجمال واللعب مع ذلك اللغز الذي لم يتبدد غموضه قط؛ الإنسان. الحقائق الوحيدة التي يدين بها سردك لقرائه هي تلك المتعلقة بشخصياتك وبهمومها وأحوالها، لا بأفكارك أنت ووجهات نظرك وآرائك حول هذه القضية أو تلك المسألة. لا تحاول التذاكي على القارئ ودس تلك الآراء والأفكار الخاصة بك هنا وهناك، عبر السرد، أو على ألسنة شخصياتك، بصرف النظر عن تكوينها ومنطقها الخاص، فسوف يكتشف خداعك ويدرك أنك لا تزال تتحدث من منبر الواعظ، ولو تظاهرت بعكس ذلك.
الجميل والمدهش في مسألة تلوين أفكارنا الخاصة بألوان السرد وتحريكها على طول الحكاية هو مناقشتها ومساءلتها، بحيث إنها قد تتغير، وقد تتحول من النقيض إلى النقيض، فإن لم تكتشف أنت شيئا جديدا خاصا بك في رحلة كتاباتك لنصك، فمن المستبعد أن يكتشفه القارئ كذلك؛ أما لو دخلت القصة أو الرواية بحزمة مسبقة من الأفكار، فقد جعلت من الفن مجرد خادم لأفكارك، مهما كانت سامية ونبيلة، وهي مكانة لا يرضى بها أي فن جدير بهذه الكلمة؛ ولا نتحدث هنا عن علب التسلية المغلفة بالدراما والمواعظ. سوف يشعر قارئك - على نحو أو آخر - أنك اتخذت من الأدب خادما لمذهبك أو عقيدتك، بدلا من أن يكون الأدب - كالإنسان والإنسانية عموما في حركتها ونموها - أكبر من كل مذهب أو عقيدة.
تعال نتمرن
تنبهك الكتابة إلى ما يثير اهتمامك حقا، فأيا كان الموضوع الذي انطلقت في الكتابة منه، فسوف تظهر من بين كلماتك الأمور التي تشغلك مسبقا وتستحوذ على ذهنك. اكتب بعض الأسماء المجردة التي اكتشفت أنها تفرض ذاتها عليك كلما جلست للكتابة؛ مثلا: خمس حالات ذهنية مختلفة تثير شغفك، اكتبها على رأس صفحات متفرقة واتركها جانبا الآن لبعض الوقت. الآن فلتتصفح بعض كتبك المحببة، اعثر على أجزاء من قصص أو روايات أو مسرحيات تعجبك بصورة خاصة، حاول أن تكتشف المعنى المجرد الذي يتسلل عبر سطور هذا المشهد أو تلك الفقرة. اعمل على أن تعتصر هذا الجزء في كلمة مفتاحية أساسية، قد تكون الغضب أو الشهوة أو الحسد أو نشوة النصر، إلى آخره.
أعد قراءة الجزء المقتطف مرة أخرى بهدوء وتركيز، اكتشف كيف تم تقديم هذا المعنى - أو تلك الحالة الذهنية - وكيف تم عرضه ومناقشته دراميا عبر حركة الشخصيات وأفعالها وأقوالها وأفكارها. هل عبر الكاتب عن هذا المعنى صراحة؟ وإن لم يفعل فكيف وضعت يدك عليه؟ كيف أوحى لك به؟ ما العبارة التي أعطتك المفتاح إليه؟ ما الطريقة التي استخدمها هذا الكاتب أو ذاك حتى ينفخ روح الحياة في معانيه المجردة، ويجلبها إلى خشبة السرد ببساطة ودون كلام مباشر أجوف؟
يمكنك الآن الرجوع إلى المعاني المجردة والحالات الذهنية والشعورية الخاصة بك، والمكتوبة على رأس صفحاتك البيضاء؛ لتحاكي ما قام به هؤلاء الكتاب في تجسيد تلك المعاني من خلال مشاهد وشخصيات وقطع نثرية وصفية. ليكن هدفك الأساسي هو أن تتجنب الحديث المباشر عن تلك الكلمات المكتوبة على رأس الصفحة أو ذكرها صراحة، دعها تتسلل إلى وعي القارئ خلسة من بين سطورك.
كرر المحاولة حتى تشعر أنك أصبت الهدف من التمرين. يبقى الأهم أن تتذكر تلك الحيلة كلما وقعت فريسة إغواء الكتابة الصريحة عن معان كبرى مباشرة، دون إيحاء أو تلميح؛ أي دون حيل الفن. •••
خلال الفصول التالية سنتناول عنصرا من أهم وأمتع عناصر الكتابة السردية؛ وهو الشخصية: اكتشافها ورسمها واللعب معها.
فتنة الشخصية
مليك الحكاية
في كتيب بعنوان «كيف تكتب رواية في مائة يوم أو أقل؟» يقول جون كوين:
تذكر أن الروايات قد تكون حبكتها خفيفة وقد يكون أسلوبها هشا، لكن الشيء الوحيد الذي يمكنه إنقاذ أي كتاب واكتساب تعاطف القراء هو شخصيات من لحم ودم، ذات صفات ودوافع قابلة للتصديق.
لا تعني هذه الفقرة بالمرة عدم أهمية الاعتناء بالحبكة أو الأسلوب، لكنها تؤكد في المقابل على عنصر الثقل الأهم للكتابة السردية؛ وهو الشخصية ومقدار مصداقيتها وجاذبيتها للقارئ. قد لا نبالغ كثيرا إذا قلنا إن الشخصية ليست مجرد عنصر من عناصر السرد، شأنها شأن الحبكة أو الوصف أو الحوار، بقدر ما هي الجسد الحي للسرد ذاته. دون شخصية ليس لديك جسر يصلك بقارئك، فأنت وهو - كاثنين من البشر - بحاجة إلى ذلك الكيان الشبح المؤقت لتتقابلا في داخله، لتسكنا جسده وتتابعا حياته وأفكاره، حتى تصدقا اللعبة فتتحول إلى شيء آخر، ويصير هذا الطيف المصنوع من كلمات أكثر قوة وحضورا منكما أنتما الاثنين، يزيح كاتبه وقارئه معا، متربعا على عرش خيالهما كمليك مطلق السيادة في لعبة الحكاية.
طبعا؛ لا تصل كل شخصية مكتوبة إلى هذا الحد من المصداقية وقوة الحضور والإيهام بالواقع، ولكي تبلغ هذا المقصد فأمام كاتبها رحلة طويلة وغير هينة؛ لذلك كله، فإن مسائل مثل ابتكار الشخصيات ورسم ملامحها وتحريكها أو استكشاف حركتها الخاصة دائما ما تشغل مساحة هائلة من التفكير في الكتابة الإبداعية، عند التفكير في السرد ومناقشته والتدريب عليه، وحتى خارج مجال السرد، في فنون أخرى، مثل الدراما وكتابة السيناريو للسينما والتليفزيون، تظل الشخصية مركز الدائرة الحرج، إذا ما تم ضبطه وصقله فإن كل شيء فيما بعد يصبح يسيرا؛ لذلك كله قد تجد الكثير من المواد التي تتناول مسائل الشخصية في فنون الكتابة، يناقض بعضها بعضا أحيانا، والخوض في غمارها للخروج بمبادئ واضحة وعلامات مرشدة ليس بالمهمة الهينة على الدوام.
دون شخصية لا وجود لقصة، إنها غالبا ما تكون السبب الذي يجعلنا نقرأ ونواصل القراءة. من المهم أن نعرف بالطبع «عما» تدور الحكاية، وبالقدر نفسه من الأهمية نريد أن نعرف «عمن» تحكي الحكاية. نحتاج كقراء إلى إنسان يشبهنا، «بطل» من نوع ما وإن افتقر لكل سمات «البطولة» بمعناها التقليدي القديم، إنسان يمكننا أن نتعاطف معه ونتوحد به على مدار الحكاية. وأفضل الشخصيات في الأدب تصبح مع الوقت جزءا من تراثنا الإنساني وثقافتنا المشتركة وذكرياتنا؛ فكم من المرات وجدت نفسك تناقش آخرين حول شخصيات في رواية أو فيلم، كما لو كانت تلك الشخصيات بشرا حقيقيين، أقارب أو أصدقاء أو جيرانا، لهم وجودهم وحياتهم المستقلة! لكن لا تحسب أن تلك الشخصيات ولدت هكذا مكتملة النمو والملامح والخصال، فأنت لم ترها إلا في صورتها النهائية، على الشاشة أو الورق. قبل ذلك مرت هذه الشخصية بمراحل عديدة، وذات يوم قديم لم تكن شيئا أكثر من اسم علم أو وجه في الزحام أو صورة فوتوغرافية أو حلم غامض.
تتبع آثارهم
كتمرين مبدئي للغاية، فيما يخص الشخصية وبناءها، استعد عملا فنيا كبيرا، قد يكون فيلما أو رواية، استطاعت شخصياته - أو شخصيته الرئيسية على الأقل - أن تفتنك تماما، وحاول أن تتبين السر وراء فتنتك هذه. ما الشيء المميز بخصوص هذه الشخصية؟ أهي كما يقال حقا أكبر من الحياة؟ كيف؟ أكانت مقنعة وقابلة للتصديق؟ بأي الوسائل استطاع العمل الفني أن يقنعك بهذه الشخصية ويجعلك تتفاعل معها كما لو كانت أكثر صدقا وحضورا من كل ما يحيط بك من أشخاص وأشياء؟ إذا قمت بهذا مع عمل واحد وطابت لك اللعبة، فلتعد قائمة صغيرة وتكرر الأمر مع أعمال أخرى، تبين المشتركات وضع يدك على تلك الحيل والأساليب الظاهرة والخفية التي أوقعتك في الفخ، فسوف تحتاج إليها عما قريب.
أنسن مخلوقاتك
تراث القصص الإنساني محتشد بشخصيات غير بشرية، من جميع الأنواع، سواء أكانت كائنات لها وجود حقيقي من جماد أو حيوان أو نبات، أم كائنات لا نعلم عنها شيئا علم اليقين كالجن والعفاريت والأرواح الخيرة والشريرة، إلى آخر كتيبة المخلوقات العجيبة. وبعيدا عن حكايات الجن وكليلة ودمنة وألف ليلة وليلة، سنجد في الأدب والسينما - حتى يومنا هذا - شخصيات من تلك الفئة، وفي كل مرة نجد أن تلك المخلوقات تفكر أو تتكلم وتتصرف كما يفعل البشر تقريبا، لم نصل بالعلم بعد إلى ما يتيح لنا أن نتحدث على لسان كلب مثلا واثقين كل الثقة من أن هذه هي الطريقة الدقيقة والأكيدة لأفكار الكلب، كل ما نستطيع القيام به فنيا، عند تناول شخصيات غير إنسانية، هو أن «نؤنسنها»؛ أي أن نضفي عليها صفات الإنسان؛ لا يعني هذا أن نحولها إلى بشر عاديين، بقدراتهم المحدودة وصفاتهم المتوقعة؛ لا، سيظل العفريت عفريتا يطير ويلعب ويختفي ويظهر، لكنه في نهاية الحكاية سيكون مختلفا عن البشر بمقاييس البشر أنفسهم، أي بقدر ابتعاده عن صفاتهم وشروطهم.
سيكون الإنسان هو نقطة انطلاقك دائما، حتى حين تكون شخصيتك الرئيسية ربا من أرباب الإغريق، أو ريحا موسمية، أو قطة مقطوعة الذيل. ستدخل إلى تلك الكائنات بوعي الإنسان وفي حدود تجربته؛ أي حدود المعروف والمتفق عليه، ثم لتلعب مع تلك الحدود كيفما شئت. والسبب الأهم من ذلك أن قارئك المستهدف إنسان، يريد أن يرى نفسه وأحلامه وأزماته في الشخصيات، حتى إن كانت فأرا طباخا أو زهرة سحرية أو ملاك الموت. •••
نواصل في الفصول التالية رحلتنا مع الشخصية في السرد.
ارسم نفسك ولكن ...
الموعد الأول مع شخصياتك
من أين يستمد القاص أو الروائي شخصياته؟ الإجابة البسيطة والبديهية لسؤال كهذا هي: من حياته وواقعه. وقد يكون هذا صحيحا إلى حد ما، لكن تبقى المسافة طويلة، مع هذا، بين ما يعيشه كل منا في حياته اليومية وما يضعه على صفحته البيضاء لتشكيل شخصياته.
من الصحيح أنه لا يوجد ذلك المتجر الكبير الذي يستطيع الكاتب التوجه إليه كلما شرع في العمل على رواية جديدة، بحيث يجد على رفوفه أنواعا وأشكالا مختلفة لشخصيات يمكنه أن يختار من بينها ما يشاء، غير أن الروائي يتعامل مع الحياة بكاملها كمادة خام يمكنه العمل عليها، كأنه يعيش حياتين؛ الأولى: حياة عادية مألوفة مثل كل شخص سواه، والثانية: حياة مخبر سري، يتحرك متخفيا ومراقبا - بعينين مفتوحتين على آخرهما - كل شيء حوله، متيقظا لكل إشارة يمكنها أن تشعل شرارة بحثه وتكون منطلقا لحكاية أو لشخصية.
الشخصيات في كل مكان حولك، تراها وتقابلها وتتعرف عليها كل يوم تقريبا، لكن تبقى هناك بضعة أسئلة عليك إجابتها لكي تستضيف تلك الشخصيات بين سطورك؛ ما هي الشخصيات الجديرة بتلقي الدعوة الخاصة لحضور حفل النص؟ ما الشخصية الأنسب لحكايتك، إذا كنت قد انتهيت بالفعل من تحديد حبكتك الأساسية؟ هل أنت بحاجة إلى شخصية مفارقة، خارقة للمألوف، تملك قدرات خاصة تفوق الآخرين، أم شخصية عادية تشبه معظم الناس حولنا، أم شخصية عادية تضعها الظروف والمصادفات في موقف غير مألوف، بحيث تضطر لاكتشاف الإمكانيات الخاصة التي تملكها ولم تستكشفها بعد؟ تلك الأسئلة عينة صغيرة لعدد كبير من تساؤلات عليك طرحها والإجابة عنها حتى تحدد نوع الشخصية التي ستكون نجما لنصك، وقبل أن تحدد موعدك الأول معها.
أنت بطلا لحكايتك
لعل أول مصدر قد يبدو للكاتب قريبا ومتاحا وسهل التناول؛ هو نفسه ذاتها. يشعر أنه يعرف كل شيء تقريبا عن ذاته، وهي الشخصية الوحيدة التي يعرفها أكثر من أي إنسان آخر؛ لذلك فلم لا؟! من ناحية، كل شخصية سوف تبتكرها ستكون مستمدة - بدرجة أو بأخرى - منك أنت نفسك. إن مجرد اختيارك لشخصيتك، وتفاصيلها وما تنطوي عليه بداخلها، سوف يعكس على الورق جزءا من نفسك شئت أم أبيت؛ ومهما بدت تلك الشخصية بعيدة في الظاهر عنك وعن طبيعة حياتك، فستأخذ مشاعرها ووقود انفعالاتها من تجاربك ومخزونك. لكن هذا شيء والاعتماد التام على تجربتك وحياتك وتفاصيلك المباشرة شيء آخر؛ إذا قررت سرد تجربة خاصة بك، فإنك تضع يدك على شيء حقيقي وصادق، لن تبدو معه كمن يدخل أرضا غريبة عليه. لقد كنت هناك بجسدك ووعيك وأحاسيسك؛ لذلك أنت تعرف ما الذي تتحدث عنه، وأرفف الأدب الجيد محتشدة بنماذج باهرة على هذا الاختيار، لكن لسوء الحظ تزاحمها في الوقت ذاته نماذج أخرى، لا نهاية لها، على إخفاق هذا الاختيار ذاته.
كثيرا ما يلتقي الكتاب والروائيون أشخاصا من غير ممارسي المهنة، يعتقدون أن في حياتهم قصة عظيمة وجديرة بأن تكتب، سواء طلبوا من هذا الكاتب أو ذاك كتابتها أم سألوه النصيحة لكتابتها بأنفسهم. ربما تكون في حياة كل منا حكاية أو أكثر جديرة بكتابتها، ومقدار المصداقية في الخبرة المباشرة يضيف إغراء لهذا الاختيار. لكن عليك ألا تنسى أن الرواية ليست غرفتك الخاصة، وأن ثمة شريكا لك هناك اسمه القارئ، ومهما بدت حكايتك في عينيك رائعة وتستحق أن تروى، فقد لا تبدو كذلك في عين قارئك. تحتاج إلى مسافة لترى بعين أخرى درجة ولو هينة من الموضوعية والحياد. حتى لو اتخذت من نفسك بطلا لحكايتك، فلترتكز على بعض الجزئيات دون الأخرى، تدخل بخيالك لتضفي شيئا من النظام والجمال على فوضى تجاربك الخاصة.
لا تستعن بتفاصيل حياتك كما هي مباشرة، قم بتمويهها حتى تبتعد الشخصية المختلقة عنك، فتستطيع رؤيتها من مسافة آمنة واللعب معها والاستماع إلى صوتها. حتى أشد كتب السيرة الذاتية أمانة ونزاهة لا يمكنها أن تنقل التجارب الواقعية بحذافيرها كما جرت تماما، كل اختيار لكل مفردة أو تعبير أو سرد لحادثة دون سواها يحول السيرة إلى سرد، والحياة إلى فن. ما دمت منتبها لهذا، فلا بأس من أن تكون أنت شخصيتك الرئيسية، ولكن بوجه مستعار، بقناع مؤقت، على الأقل حتى تفلت من فخ الاستغراق في العواطف الجياشة التي قد تشوش الرؤية وتضجر القارئ.
بورتريه غير شخصي
من أجل أن تكتسب تلك المسافة الآمنة للكتابة عن نفسك، يمكنك أن تمارس هذا التمرين، قبل المغامرة باتخاذ نفسك بطلا لحكايتك. ارسم بورتريه لنفسك، لنقل من 300 كلمة مثلا، من وجهة نظرك أنت، كما ترى نفسك أمام المرآة، صف مظهرك الخارجي ، وجهك وجسدك؛ صف إيماءاتك المعتادة وطريقتك في الحديث والتعامل؛ كن محايدا قدر استطاعتك. الآن أعد هذا التمرين نفسه، ولكن اتخذ وجهة نظر مغايرة، لشخص مقرب منك، أحد أفراد الأسرة أو صديق حميم؛ كيف يراك من الخارج ومن الداخل؟ ما الذي سيقوله عنك أمامك أو من وراء ظهرك؟ ما الذي يحبه فيك وما الذي لا يطيقه؟ ابذل جهدك لتتمثل وجهة نظر هذا الشخص. قارن نتاج التمرينين السابقين، ولاحظ المسافة والاختلافات.
الآن ارسم البورتريه نفسه ولكن من عيني شخص لا يعرفك جيدا، علاقته بك سطحية وعابرة بدرجة ما، ربما يراك بوتيرة منتظمة ولكن دون أن يتعرف بك معرفة حميمة؛ جار يسكن في الشارع نفسه ولا تتبادل معه حديثا بالمرة، أو الحلاق الخاص بك، أو البقال، أو سائق أتوبيس العمل، أو عامل المقهى الذي تتردد عليه بانتظام. من وجهة نظر هذا الشخص البعيد نسبيا ستظهر لك علامات وأشياء جديدة لم تكن لتخطر لك على بال، فسوف يميل البقال مثلا لتكوين رأيه فيك من خلال مشترياتك، وهكذا.
إن إعادة اكتشاف ملامحنا الخاصة من خلال عيون الآخرين مسألة حاسمة في لعبة السرد كما في لعبة الحياة. •••
نواصل في الفصول التالية رحلتنا مع الشخصية في السرد.
جرب القص واللصق
ناس وشخصيات
إذا رجعنا مرة أخرى إلى كتاب إي إم فورستر «أركان القصة»، فسنجده يتناول مسألة الشخصيات الروائية من زاوية شديدة الأهمية، وهي - تحديدا - عدم مطابقتها للناس كما يظهرون حولنا في كل موضع ويعيشون حياتهم؛ ويستعين بمثال المؤرخ والروائي، والتمييز بين عمل كل منهما، قائلا: «إن المؤرخ يسجل، بينما الروائي يخلق ...» ويعود يؤكد على تلك الاختلافات بين الناس في الحياة اليومية والناس في الكتب:
فنحن في الحياة اليومية لا يفهم أحدنا الآخر؛ إذ لا يوجد التنبؤ ولا الاعتراف الكامل؛ فنحن يعرف بعضنا بعضا على وجه التقريب، بإشارات خارجية، وهذه تكفي جدا كأساس لاجتماع الناس بعضهم ببعض، بل للألفة أيضا. ولكن القارئ يمكنه فهم الناس في الرواية فهما تاما، «إذا أراد الروائي»؛ إذ يمكن إظهار حياتهم الداخلية والخارجية ، وهذا هو السبب في أنها تبدو أكثر وضوحا من شخصيات التاريخ، أو حتى من أصدقائنا؛ فقد قيل لنا عنهم كل ما يمكن قوله، حتى لو كانوا غير كاملين أو غير حقيقيين؛ فهم لا يحتفظون بأسرار، بينما أصدقاؤنا يحتفظون بأسرارهم فعلا؛ لأن إخفاء الأسرار المتبادل شرط من شروط الحياة على هذه الأرض.
تأكيد فورستر على التمييز بين الإنسان كما يوجد في الحياة وبين الشخصية المكتوبة في رواية، لا يمنعنا من بعض الاحترازات هنا، ولعلك لاحظت التنصيص الموضوع حول عبارته: «إذا أراد الروائي»؛ فالفهم التام والوضوح الكامل للشخصية منوط برغبة وإرادة الروائي، وبطبيعة روايته بلا شك. كم من روايات ممتعة ومؤثرة خالفت الطريقة التقليدية في رسم شخصياتها، ولم تقدمها في صورة واضحة ومفهومة تماما، وأبقت على غموضها كأنها أطياف لا يمكن تحديد ملامحها! والاختيار في نهاية الأمر يعتمد على الكاتب وحده، وطريقته التي اختارها في الكتابة.
بعد هذا الاستثناء نعود لفكرة فورستر الأساسية، وهي عدم المطابقة بين الناس بالمعنى الواسع واليومي وبين الشخصيات في كتاب سردي، وربما تبدو هذه الفكرة أبسط وأوضح من اللازم لكثيرين، غير أنك ستجد طول الوقت من يقول لك إن هذه الشخصية مستمدة بالكامل من الحياة، وأن هذا ما حدث لها حقا وصدقا؛ هؤلاء لا يدركون المسافة بين غرف الحياة اليومية وسطور دفاترهم، بين تشوش الواقع وصفاء الفن، بين ما يحكم خبراتنا من عبث وفوضى وما ننشده في الحكايات الجميلة من معنى وانتظام.
وجوه وأقنعة
بحسب كينتين بيل - كاتب سيرة الروائية الإنجليزية البارزة فرجينيا وولف - قد ابتكرت وولف شخصية كلاريسا دالاوي (في روايتها الأشهر «السيدة دالاوي»)، باستلهام صديقة العائلة كيتي ماكس، كمصدر أساسي للشخصية؛ غير أن وولف كتبت أيضا في مذكراتها أنها استمدت جزءا من تلك الشخصية ذاتها من الليدي أتولين موريل. وربما إذا واصلنا البحث لوجدنا أن السيدة دالاوي مستمدة من العديد من الأشخاص الحقيقيين، وبالطبع من ملامح خاصة من فرجينيا وولف ذاتها، مهما بدت أبعد ما تكون عن شخصيتها. نحن البشر ليس لنا وجه واحد؛ لذلك لا تستسهل اصطياد شخصية أعجبتك بإلقاء شبكة الحكاية فوقها كأنها حيوان أسير، وحبسها في نص. ليس لنا جانب واحد، لا أنا ولا أنت ولا السيدة دالاوي ولا فرجينيا وولف.
لا بأس بالمرة في الاعتماد على شخصيات واقعية، ممن تقابلهم في حياتك كل يوم، ولكن محاكاة ملامحهم وصفاتهم بالكامل لن تكون في صالح حيوية سردك بالمرة. استعمال ملامح وحياة هؤلاء الأشخاص كما هم، من شأنه أن يحد من درجة الخيال ويؤثر سلبا على درجة موضوعيتك معهم؛ وهكذا، بدلا من استخدام زميلك في العمل كما هو، فكر كيف يمكنك مثلا أن تمزج بعض صفاته البارزة بمعارف آخرين، أو حتى بملامح في شخصيتك أنت، أو بسمات متخيلة مائة في المائة. لكن الشرط الأساسي للعبة القص واللصق هذه، أن تكون السبيكة النهائية للشخصية المكتوبة متماسكة ومنطقية ومقنعة، وليست مجرد اجتماع عشوائي لعناصر متنافرة من هنا وهناك. ومن أجل الوصول إلى هذا الانسجام والتماسك، عليك أن تلمس العمود الفقري لتلك الشخصية؛ محورها، كلمة السر الخاصة بها، أي قناع تعتلي به خشبة السرد، ولن تعرف ذلك كله إلا وأنت تضيف لمسة بعد أخرى على البورتريه الخاص بها حتى يكتمل تقريبا.
قص ولصق
اختر شخصية عامة تكن لها إعجابا كبيرا؛ كاتبا أو ممثلا أو سياسيا، وامزج بعض ملامحه المعروفة من سيرته بملامحك الشخصية الحميمة. ليس بالضرورة أن يكون الناتج منكما شخصية عظيمة ورائعة، لكن المهم أن تكون شخصية إنسانية، فيها تناقضات البشر جميعا، لها مزاياها ومساوئها، وبالطبع أن تكون قابلة للتصديق كشخصية في قصة أو رواية.
الآن، فلتكرر هذا التمرين نفسه، ولكن بعيدا عنك وعن شخصيتك المحبوبة، اختر شخصين أو أكثر من حياتك اليومية أو تاريخك الشخصي، وحاول أن تدمج بينهما لتكوين شخصية واحدة متسقة الملامح والطباع. خذ من كل شخصية شيئا ما؛ على سبيل المثال: الحركات العصبية باليدين والذراعين لمدير العمل، تتفق مع النهم في التدخين لأحد الأصدقاء، وهما متناسبان تماما مع ذلك الشاب الطموح القلق الذي قابلته مؤخرا. وأنت تمارس لعبة القص واللصق هذه لا تغفل عن شيئين؛ أولا: إضافة لمسات من خيالك الخاص، وثانيا: أن تسأل نفسك ما مركز هذه الشخصية الذي يدور حوله سائر السمات والأحوال؟
بصمات الأصابع
الأمر أقرب إلى اتخاذ أصدقاء خياليين طوال القامة كأنهم بنايات المدينة. الصفحات التي تكتبها هي بصمات أصابعهم، مكتوبة فقط لكي تثبت للغرباء أن هؤلاء موجودون حقا؛ وعليه فإن قراءة رواية بنجاح هي معجزة عرض بصمات الأصابع، والقدرة من خلالها على تخمين وجه أحدهم، وكيف يسير، والأوقات التي أحب فيها حبا خاطئا، أو أتى بعواقب سيئة ... إلى آخره.
ألكسندر شي، «100 شيء عن الرواية»
أنت رسام بورتريهات
نصيحة من فوكنر
في نصيحته لأحد الكتاب الشباب من المسيسيبي، قال الروائي الأمريكي الشهير وليام فوكنر: «إذا كنت ستكتب فلتكتب عن الطبيعة البشرية؛ فذلك هو الشيء الوحيد الذي لا يسقط بالتقادم.»
في وقت لاحق على ذلك، وفي كلمته التي ألقاها بمناسبة تسلمه جائزة نوبل للأدب، قال فوكنر إن هدفه كان «أن يتناول مواد الروح البشرية ويخلق منها شيئا لم يكن موجودا من قبل.»
ما بين العبارتين، قد نتلمس النطاق الذي يتحرك بداخله السرد الجيد؛ الطبيعة والروح البشريتين، كما تتجسدان في شخصيات على الورق، يجمع الكاتب عناصرها من شتات نفسه وحياته وواقعه.
فماذا على الكاتب أن يفعل لكي يستطيع لمس تلك الروح البشرية من خلال شخصياته؟ ربما عليه أن يعاملها كما يعامل أي إنسان جديد يلتقي به ويحاول أن يوثق علاقته به لسبب أو لآخر؛ أن يعرف المزيد عنها. سواء أكنت استلهمت شخصيتك من صورتك الذاتية أم من أشخاص التقيت بهم في حياتك، ثم عملت على تمويه تلك الملامح الأصلية وأضفت إليها من خيالك، أو كانت شخصيتك معتمدة على الخيال بنسبة مائة في المائة؛ في كل الأحوال ستحتاج أن تبتعد قليلا عن مصادرك الأصلية وترسم صورة شخصية (بورتريه) مبسطة لشخصيتك، تجمع فيها عناصر ملامحها الأساسية.
أبعاد ثلاثة للشخصية
لكي نرسم بورتريه شخصية متخيلة بحيث تبلغ أقصى درجة ممكنة من الإيهام بالمصداقية والواقع، يمكن لنا الانتفاع بقواعد بعض كتاب الدراما والسيناريو عن ضرورة الاعتناء بثلاثة أبعاد للشخصية عند تصوير ملامحها الأساسية وقبل وضعها في سياق القصة والأحداث: (1)
البعد البدني:
إنه قاعدة الهرم الذي تتشكل منه أي شخصية، وأول ما ندركه عند تعارفنا بشخص جديد. أولا: كيف يبدو؟ بما يندرج تحت إجابة هذا السؤال من تفاصيل وسمات عديدة للجسد والبشرة والملامح والشعر والهيئة والثياب، إلى آخر قائمة طويلة من علامات ظاهرية وخارجية. لا يقتصر هذا البعد فقط على ما هو مرئي فقط، فثمة علامات غير ظاهرة من الأفضل أن تكون على علم بها، مثل التاريخ الصحي للشخصية، أو أثر جرح قديم، أو وشم في موضع ما من جسدها، أو حتى امتلاكها قدرة خارقة خفية. من الضروري أن تكون قادرا على تخيل شخصيتك، من حيث مظهرها الخارجي، حتى إن لم تستعن بأغلب تلك السمات في عملك السردي؛ يكفي مبدئيا أن تشجع القارئ على تكوين تصور بصري (وحسي عموما) للشخصية، ثم اختر بعد ذلك من عناصر هذا البعد ما تحتاج إليه قصتك. (2)
البعد الاجتماعي والثقافي:
ها نحن قد رأينا الشخصية في انطباع مبدئي، ولمزيد من التعارف عليها نود لو نعرف عنها أشياء أخرى بعيدا عن الصورة التي تبدو عليها. إنها المكونات الاجتماعية والثقافية التي ساهمت في تشكيلها؛ التعليم، والعمل، ومستوى المعيشة، وطريقة التنشئة، والهوايات، والتجارب السابقة المهمة، والقراءات، والمهارات، ومن جديد ستجد أن القائمة أطول من اللازم، ومن جديد ستجد أن عليك أن تختار من بين كل تلك العناصر ما يكون مفيدا ومثريا لحكايتك ولإظهار شخصيتك بصورة حية وصادقة ومتميزة. (3)
البعد النفسي:
قد يعتبره البعض محصلة ميكانيكية للبعدين الجسدي والاجتماعي، غير أنه أهم وأعمق من ذلك كثيرا، فنحن لسنا إنتاجا آليا لظروفنا الجسدية والاجتماعية، وإلا تطابقت شخصيات الأشقاء التوائم ممن يعيشون نفس التجارب والظروف. لكل منا بصمته الخاصة، ما يكره وما يحب، لأسباب ليست واضحة على الدوام. في هذا البعد تكمن خصوصية كل شخصية إنسانية، وهو الوتر الذي يحب أن يلعب عليه أغلب كتاب السرد، دون تجاهل ما سواه بالطبع. إنه الأهواء والعقد والمخاوف والهواجس والرغبات المكبوتة والخيالات والأسرار، إنه الغرف المظلمة بداخل شخصيتك التي ربما لا تجرؤ هي نفسها على اقتحامها ذات يوم إلا مضطرة.
شرط التماسك
بينما تعمل على تلك الأبعاد الثلاثة، لا تغفل عن ضرورة الانسجام والتماسك بينها، تذكر لعبة القص واللصق من شخصيات مختلفة، وضرورة صهر العناصر المختلفة في سبيكة قابلة للتصديق. هنا أيضا يجب ألا يتعارض البعد الجسدي مثلا مع البعدين الآخرين، دون أن يعني هذا كذلك الانعكاس الآلي أو الميكانيكي لقوالب جاهزة من الشخصيات، ففي حالات وأمثلة كثيرة للغاية تتجاوز الشخصية - في الحياة وفي الفن - قيودها، وتهزم شروطها الخاصة، وتدهش الجميع.
البعد الرابع
حتى بعد إضافة ذلك البعد النفسي لشخصيتك، ليس من السهل الاعتقاد أن كل شيء بخصوصها قد صار واضحا مثل ماكينة تم تفكيك أجزائها؛ وذلك ببساطة لأن الكل أكبر من مجموع أجزائه، ويظل الإنسان - والشخصية الفنية على الأخص - أكبر من كل المكونات والجوانب. لا بد أن يبقى هناك لغز ما، لغز غامض حتى بالنسبة إليك ككاتب، شيء مراوغ ولا تفسير له كالروح، يظل يتحرك بين السطور، وكلما ظن الكاتب أو القارئ أنه قد وضع يده عليه، أفلت منه واكتشف أنه يقبض على هواء. فكر في هذا اللغز كبعد رابع لا اسم له، يحيط بتلك الأبعاد الواضحة والملموسة ويهيمن عليها؛ لكي تحتفظ شخصيتك بذلك الغموض الذي يسم كل الشخصيات الخالدة في الأدب.
على سبيل التمرن
مارس رسم ذلك البورتريه بأبعاده الثلاثة كلما استطعت، اكتب البيانات الأساسية عن شخصيتك في سطور محددة، يمكنك مثلا أن تكتب فقرة من عشرة سطور لكل بعد من الأبعاد الثلاثة الواضحة: الجسدي، والاجتماعي، والنفسي.
ارسم تلك البورتريهات معتمدا أولا على شخصيات أدبية أو فنية تحبها وتعرفها جيدا، ثم على شخصيات من حياتك اليومية أو تاريخك الشخصي، مرة واثنتين وثلاث، إلى أن تكتسب قدرا لا بأس به من الثقة في قدرتك على رسم البورتريهات بالكلمات، أو ما يسمى أحيانا بطاقات الشخصية، ثم يمكنك عندئذ الانتقال إلى شخصيات مختلقة وخيالية مائة في المائة. بسطور قليلة اكتب كيف تبدو، ثم المحيط الاجتماعي والطبقي والثقافي الذي تتحرك فيه، ثم ما يعتمل بداخلها من عوامل نفسية، سواء البينة لك أم الخفية.
أما عن ذلك اللغز الكامن في البعد الرابع، فاترك له مساحة بيضاء ولا تحاول أن تملأها، وإلا ما عاد لغزا أو سرا، لكن ضعه في اعتبارك ولا تتوقف عن التفكير فيه وطرح الأسئلة حوله.
نماذج
لا يوجد أدب عظيم دون تصوير محكم وحي لشخصياته، وما دمت قرأت فسوف تكتشف بنفسك نماذج متنوعة ومتباينة الطرائق في هذا. أما إذا كنت تبحث الآن عن نموذج ميسر لمهارة رسم الشخصية وعرضها في سطور أو صفحات قليلة، فيمكنك أن تسارع بقراءة عملين من أهم وأبدع أعمال الأستاذ نجيب محفوظ؛ هما روايتاه «المرايا» و«حديث الصباح والمساء»؛ حيث كتبهما بطريقة الشخصيات المتتابعة بترتيب أبجدي من الألف للياء، بحيث يقدم لكل شخصية حياة كاملة من المهد إلى اللحد - تقريبا - في سطور معدودة. وبصرف النظر عن البناء الثري والمعجز فيهما، فهما درس نموذجي في تصوير الشخصية وبث الحياة فيها بأقصر عبارة وأبسط وسيلة.
الصور تدب فيها الحياة
اترك لها الزمام
كتب الروائي الإنجليزي «جراهام جرين»:
في اللحظة التي تفعل فيها الشخصية المتخيلة أو تقول شيئا ما لم تفكر أنت فيه، في هذه اللحظة ذاتها تكون حية، فاترك لها الزمام.
ربما يكون قد سبق لك بالفعل أن جربت مثل تلك اللحظة السحرية، حينما تجد فجأة الشخصية التي رسمت بنفسك ملامحها وأبعادها تكتسب استقلالها وتتصرف بمعزل عنك. إنها لحظة سحرية لأنها بداية الحياة الحقيقية لشخصياتك؛ بلوغهم سن الرشد، وانفصالهم - ولو نسبيا - عن سلطة خيالك وتوجيهك، ولأنها أيضا تتيح لك متعة الرصد والاكتشاف، وكأنك لم تكن تعرف شيئا تقريبا عن هذه الشخصية. ينفتح باب الدهشة أمامك وأنت تتأمل أبعادا جديدة لهذا الشخص الحي على الورق؛ لذلك فلتعمل بنصيحة جراهام جرين، واترك للشخصية الزمام، فلا تحاول أن تفرض عليها الذهاب نحو وجهة بعينها، أو أن تضع على لسانها حديثا محددا تريد منها أن تنطق به لسبب أو لآخر.
في هذه المرحلة يا صديقي اكتف بدور المشاهد المندهش ولو لبعض الوقت، واتبع خطوات شخصيتك أينما ذهبت، وسوف يحين فيما بعد الوقت المناسب للغربلة والاختيار من بين أفعال وأقوال شخصيتك، بعد أن تكون قد قطعت معها الرحلة، وتبادلتما موقع القيادة لأكثر من مرة فيما بينكما.
الفرار من اللوحة
من الصحيح أن فن رسم البورتريهات الشخصية ليس سهلا، وأنه يحتاج إلى وقت وممارسة لإتقانه، لكنه يبقى بعيدا عن حركة الحياة وسخونتها، تلك الحركة التي ينشدها كل سرد جيد. لنفترض أنك الآن قد انتهيت من وضع بطاقة التعريف الخاصة بشخصياتك الأساسية، أو شخصية واحدة على الأقل في قصة متوسطة الطول، واعتنيت بالأبعاد الثلاثة المعروفة لها، من مظهر خارجي وخلفية اجتماعية وطبيعة نفسية خاصة، ثم ماذا بعد؟ ليس من المجدي أو الممتع أن تضع هذا البورتريه الصامت كتقرير حالة جاف في سياق سردك.
إننا نعيش حياتنا ونتعرف على الناس في سياق الزمن، في سياق الحركة، في سياق الحكاية الكبرى، وهكذا أيضا نحب أن نتعرف على الشخصيات في السرد، دون أن تتوقف عجلة السرد لبعض الوقت لتقديم الشخصية لنا في بضع فقرات أو صفحات، ولو أن هذا كان متبعا ومعمولا به على مدى سنوات طويلة في الروايات الكلاسيكية، ومن الممكن الاستفادة منه بطرق مختلفة في الوقت المناسب، ما دامت المتعة متحققة من نواح أخرى، لكن يظل من الأسلم أن تستلهم بورتريه الشخصية - بطاقة البيانات الخاصة بها - دون أن تنقلها نصا، استعن بها في رسم المشهد وفي تقديم الشخصية بصورة غير مباشرة. فلتعتبر أن البطاقة الخاصة بالشخصية ضرورة من ضرورات إعداد الوليمة، لكنها لا بد أن تبقى بين جدران المطبخ، ولا تخرج منه، فلا يرى المدعوون إلى وليمتك قشر البصل أو نثار الطحين وغير هذا من الأواني المتراكمة، سيرون فقط الطبق النهائي في أفضل صورة ممكنة له؛ وكأن الشخصية حطمت إطار لوحتها، وفرت منها إلى الواقع واكتسبت حياتها الخاصة بتعبير جراهام جرين؛ لم تعد مسطحة ذات بعدين، مجرد ألوان على قماش، بل ثلاثية الأبعاد، شأن جميع الموجودات، مثل كل الأحياء، لها نسيج ومذاق وملمس وروائح.
عند حديث الكاتب الأمريكي «سيد فيلد» عن تكوين وبناء الشخصية في كتابه «السيناريو»، يفرق بين مستويين من حياة كل شخصية: الحياة الداخلية والخارجية، ولا يعني بهذا التعارض بين باطن كل شخصية وظاهرها، بل يقصد بالحياة الداخلية تاريخ حياة الشخصية منذ مولدها وحتى لحظة بدء الأحداث أمام أعين المشاهدين؛ الخلفية والتكوين النفسي والاضطرابات والذكريات، إنها البورتريه نفسه أو بطاقة البيانات التي قمت بكتابتها مسبقا. أما الحياة الخارجية، فهي كل ما يراه المشاهد من تصرفات وأفعال وأقوال تقوم بها الشخصية من بدء الأحداث لمنتهاها، وهذه هي حكايتنا، التي لا بد أن تعكس أهم ما يتعلق بالحياة الداخلية؛ أي إننا نتعرف تدريجيا على ذلك الماضي والخلفية في سياق الحركة والحكاية، دون استغراق في التوقف أو استرجاع الماضي إلا للضرورة.
لمحة عن الإظهار والإخبار
لديك أكثر من وسيلة وأداة من أدوات السرد، لكي تحول البورتريه الصامت للشخصية إلى كائن حي، وجميعها تنطلق من الإظهار، وتعود إليه. وكثيرا ما سوف نسمع في دروس الكتابة وكتب السرد التعليمية ضرورة اللجوء إلى العرض أو الإظهار
Showing ، وليس النقل أو الإخبار
Telling ، وهي حكاية أخرى يطول شرحها. وباختصار قد يكون مخلا، فبدلا من أن تقول: «كان العم علي يحب الأطفال ويحبه كل الأطفال.» وهي طريقة الإخبار؛ أي إن ما يرد في العبارة مجرد خبر قابل للتصديق والتكذيب، يستحسن في السرد الاعتماد على الإظهار، بأن ترسم صورة حية تنقل هذا المعنى، فتقول مثلا: «ما إن يظهر العم علي عند ناصية الشارع، حتى يهرع إليه أطفال عائلته ومعهم بعض أبناء الجيران، في انتظار أن يمطرهم كالعادة بالحلوى والمفاجآت والحيل اللذيذة.» هذه صورة يراها القارئ مباشرة دون وساطة من كاتب يعرف وينقل له الخبر، صورة إذا ما كتبت جيدا، بكل عناصر المشهد الحيوية، فلن تقبل التكذيب، وسوف يتفاعل معها القارئ بخياله ووعيه وحواسه مباشرة.
لكن يجب التأكيد هنا أيضا - ومن جديد - أنه لا قواعد مطلقة ونهائية في أي فن، وخصوصا الكتابة السردية، ويمكن كتابة أعمال أدبية مهمة بالاعتماد على الإخبار بصورة أساسية، أو بالمزج بينه وبين الإظهار، لكن هذه - كما قلنا - حكاية أخرى يطول شرحها.
مرحبا مدام باكينام
جبل الجليد
في كتاب إرنست هيمنجواي «موت في الظهيرة» شدد على ضرورة معرفة الكاتب لكل شيء ممكن عن شخصياته، لكنه يعود للتأكيد على المسافة الواجبة بين ما يعرفه الكاتب عن شخصياته وما يقدمه للقارئ قائلا:
إذا كان كاتب النثر يعرف ما فيه الكفاية عما يكتب عنه، فقد يحذف أمورا يعرفها هو، وسوف ينتقل إلى القارئ إحساس قوي بتلك الأمور كما لو أن الكاتب قد أوردها في نصه. ترجع مهابة حركة الجبل الجليدي العائم إلى أنه لا يظهر منه فوق سطح الماء إلا ثمنه، أما الكاتب الذي يحذف أمورا لأنه غير ملم بها، فكل ما يفعله هو أنه يترك مواضع جوفاء في كتابته.
الفكرة هنا هي أن عليك أن تعرف أكبر قدر ممكن من المعلومات والتفاصيل الخاصة بشخصياتك، دون أن يكون عليك أن تنقلها كاملة للقارئ، بقدر ما توحي بها أحيانا، أو تغلف بها عالم نصك كأنها الهواء المحيط بشخصياتك. ولنؤكد من جديد على أن الموضع السليم لبطاقة بيانات الشخصية هو مطبخك الخاص، وليس سطور نصك، الذي عليه أن يستقبل شخصيتك نابضة بحياتها وليس صورة «بورتريه» ثابتة.
لكي تستطيع أن تختار من بين ركام جبل الجليد، ذلك الثمن الذي سيظهر منه؛ أي تلك التفاصيل التي لا بد أن تدخل إلى سياق حركة النص، عليك أن تعرف ما الأساسي لقصتك، ما الذي لا يمكن الاستغناء عنه. لو استطعت اكتب في جملة واحدة - من سطر أو اثنين - أي نوع من الشخصيات هذه الشخصية، في هذا العمل تحديدا. باختصار ابحث عن بؤرتها؛ مركزها المتوهج الذي تطوف به جميع السمات الثانوية الأخرى، سواء أقمت بذكرها أم باستبعادها.
تحديد البؤرة
لنفترض الآن أنك اخترت شخصيتك، واشتغلت على البورتريه الخاص بها حتى غذيته تمام التغذية، من حيث الأبعاد الثلاثة الأساسية، وتلك المساحة الغامضة المتروكة على بياضها؛ تعرفت عليها وتحدثت معها، وحكيت لها عن نفسها الكثير من الأمور التافهة أو المثيرة؛ كل هذا الضجيج والركام لا بد أن يجتمع حول بؤرة مركزية، مركز مشع، تنطلق منه جميع تلك السمات الثانوية. اسأل نفسك: ما الذي يجعل هذه الشخصية مثيرة للاهتمام؟ ما الأمور الجوهرية التي تنتزعها من بين آلاف الشخصيات الشبيهة؟ وليس من الضروري أن يكون هذا المركز قدرة خارقة أو سمات شاذة تضع شخصيتك في مصاف العجائب والفلتات، إنه فقط ما يخصها ويميزها وتتفرد به من تفاصيل. يمكنك أن تتصور شخصية امرأة متشردة، عمليا تبيت في أي مكان في منطقة محددة، وسط القاهرة مثلا، يعرفونها باسم «مدام باكينام»، لا بد أنها كانت «بنت عز» في يوم بعيد؛ أي قبل سبعين عاما مثلا. نعم، ما زالت تنعم بصحة رائعة، وترطن بالفرنسية وهي تشحذ السجائر من العابرين، وما زالت تحرص على تناسق ألوان ثيابها مع باروكاتها القديمة وماكياجها، وتتحدث طوال الوقت مع عائلة كبيرة من القطط.
من ناحية، يمكننا الاستغراق إلى ما لا نهاية في وصف الأبعاد الثلاثة المختلفة لشخصية مدام باكينام، ومن ناحية أخرى يمكننا الانتقاء بذكاء من بين كل تلك القوائم والتفاصيل ما يظهرها كشخصية حية، تاركين بعض المساحات البيضاء لخيال وتصور القارئ، حتى لو كنا نعرف على وجه التحديد تاريخها بأدق التفاصيل. هذا الانتقاء يكون أداة حاسمة وضرورية بدرجة أكبر في فن القصة القصيرة، الذي غالبا لا يحتمل التطويل في عرض خلفيات الشخصية.
إذن، كيف يمكننا الإيحاء بتاريخ وخلفية إحدى الشخصيات؛ أي إظهارها، دون أن نقع في فخ نقل البورتريه الجامد لها كما هو؛ أي فخ الإخبار المباشر؟
ثلاث أدوات
هناك حزمة أدوات يمكنك الاستعانة بها لإظهار شخصيتك، وغالبا ما تأتي مجتمعة في سياق المشهد الواحد، لكن لا بأس من استيعابها متفرقة مبدئيا، حتى تضعها في اعتبارك عند تقديم شخصيتك في النص السردي، لتنتقي الأنسب من بينها أو تدمجها معا بحسب احتياجك. (1)
الوصف:
لتعين القارئ على رؤية وتخيل شخصيتك، صف الملامح المميزة لها، وتذكر هنا شيئين مؤقتا قبل أن نتوقف وقفة أخرى مع الوصف كآلية سردية مستقلة ذات سيادة؛ وهما: أن الوصف لا يعني استخدام الصفات والنعوت «عمال على بطال»، فغالبا ما يعد هذا عيبا، الشيء الثاني هو أن الوصف غير المباشر أفضل كثيرا من الوصف المباشر، فمع مدام باكينام مثلا يمكنك أن تقول ببساطة إنها قد تجاوزت السبعين، أو يمكنك أن تعكس هذه السن من خلال علامات كاشفة، كارتعاش أصابعها أو خارطة التجاعيد المرسومة على وجهها. والخيارات بلا نهاية، ويبقى دورك هو الانتقاء من بينها الأدق والأنسب والأجمل بالنسبة إليك. (2)
الفعل:
لا شيء يكشف ويعرض الشخصية بقدر ما تؤديه وتقوم به. دع القارئ يرى شخصيتك تتحرك وتتفاعل مع العالم والحياة من حولها، فعلى هذا النحو يمكن له أن يرصد دون وساطتك حياة الشخصية وخصوصيتها. دعه ير مدام باكينام وهي تدق على شباك إحدى السيارات؛ لتستعير قلم طلاء شفاه من إحدى السيدات حتى تلون شفتيها، ثم تسألها بعد ذلك إن كان معها سيجارة، وحين ترفض السيدة استعادة قلم طلاء الشفاه، نسمع مدام باكينام وهي تسب بفرنسيتها الناعمة وترمي بالقلم بعيدا. تذكر أن الحركة بركة على العموم، لكن كل فعل لا يكشف المزيد عن شخصيتك أو يطور حكايتها، جدير بأن تعيد النظر فيه، أو أن تستبعده تماما. (3)
الحوار:
وهو حكاية أخرى طويلة سنتوقف عندها فيما بعد، لكنه هنا ثالث أداة يمكن لها أن تكشف شخصيتك وتقدمها للقارئ؛ ليتعرف القارئ على كلامها وقاموسها اللغوي وطريقتها في الكلام، وكذلك أفكارها وحالتها العقلية والنفسية.
الآن، قدم لنا مدام باكينام
كتمرين عملي، لكيفية إظهار الشخصية، اتخذ من شخصية مدام باكينام نموذجا، اكتب قائمة خاصة بك عن سمات هذه الشخصية وخلفيتها وتاريخها، لا بد أن تشتمل قائمتك على أهم مفردات الأبعاد الثلاثة: الجسدي أو المادي، ثم الاجتماعي والثقافي، ثم العقلي والنفسي. بعد ذلك ضع مدام باكينام في موقف صغير؛ مثلا: ماذا لو استيقظت ذات ظهيرة على أصوات مظاهرة صغيرة تمر بموضع نومها الهادئ؟ ماذا سيكون رد فعلها؟ ماذا ستفعل مع المتظاهرين؟ كيف سيكشف هذا الموقف الصغير عما هو جوهري وأساسي ولا يمكن الاستغناء عنه في شخصيتك؟ تجنب الإخبار المباشر عن تفاصيل وخلفية مدام باكينام، استعن في تقديمها للقارئ بالأدوات الثلاث السابقة: صفها، اجعلها تتحرك وتتكلم، وانقل عبر الوصف والفعل والكلام أهم ما احتوته قائمتك من سمات وتفاصيل.
بقدر توفيقك في هذا التمرين سيكون من اليسير عليك فيما بعد أن «تظهر» شخصياتك لقارئك دون اللجوء لوسائل الإخبار السهل المباشر، على أهميتها وجمالها أحيانا، وفي كل مرة تضع فيها شخصيتك على خشبة السرد وتسقط بقعة الضوء عليها، تذكر تمرين مدام باكينام.
آلات الأوركسترا
الخطأ ضرورة
إننا نريد أن نعرف المزيد عن أشخاص مخفقين، إننا نهتم بالأشخاص الخائفين، والحمقى في تصرفاتهم، والمخدوعين بغرورهم وأسرى رغباتهم ... إن الشخصيات الروائية ذات الأخطاء والعيوب لا سبيل لنسيانها.
سوزان شونسي
البطل وحاشيته
أصابعك ليست شكلا واحدا؛ مثل سائر وقديم، وله صيغ عديدة في دول عربية مختلفة، ودلالته البسيطة والوحيدة أن الناس مختلفون، لا يمكن أبدا أن تحيط بهم سبيكة واحدة أو نمط جاهز، إلا باعتماد ضيق الأفق دليلا. كما يختلف البشر في الحياة، شكلا وجوهرا، يختلف أيضا سكان السرد من الشخصيات، غير أن اختلافهم من طبيعة أخرى، ويمكنك تأمل هذا الاختلاف من زوايا عديدة.
سبق أن التفتنا مثلا إلى الشخصية العادية والشخصية الفائقة القدرات، هذا تمييز له صلة مباشرة بطبيعة قصتك، فهل تريد أن تحكي عن إنسان الحياة اليومية الذي يشبه أغلب الناس في الخطوط العامة لملامحه، ومع ذلك تنتزعه بحكايتك خارج العادي والمألوف وترسم هالة من السحر حول رأسه؟ أم تفضل اختيار شخصية تعلو على الحياة اليومية، تملك قدرات خارقة، تستطيع أن تصنع ما لا يقدر عليه الآخرون؟ كل هذا الحديث يخص البطل الأساسي لقصتك، ولكن لن يكون كل شخصيات سردك أبطالا، وإلا فلن تنتهي حكايتك إذا بدأت.
من زاوية أخرى، تختلف شخصياتك بعضها عن بعض؛ من حيث مقدار تركيز السرد عليها، ودورها في الحكاية، من النجم الذي تدور في فلكه سائر الكواكب؟ قد يكون أكثر من نجم واحد بطبيعة الحال. نسميها الشخصيات الرئيسية، التي لها نصيب الأسد من الحكاية، وتحمل على عاتقها فكرتك وتكشف باطنها للقارئ، وتنتقل بالسرد من محطة إلى المحطة التالية عبر رحلتها. اختيار الشخصية الرئيسية ليس مهمة يسيرة، بل عامل أساسي في تكوين هيكل عملك الأدبي، وهناك المئات من الأسئلة التي يتوجب عليك أن تطرحها وتحاول الإجابة عنها في سبيل تحديد تلك الشخصية؛ لكي تصل إلى الاختيار الأنسب لفكرتك وللعالم الذي تطمح لاستكشافه، والحكاية التي تريد أن ترويها.
الشخصيات الثانوية في المقابل أكثر عددا، يختلف نصيبها من السرد بحسب الحاجة إليها؛ فقد تظهر في كل الفصول، وقد تظهر مرة واحدة ثم تختفي تماما، قد تكون مجرد أداة تستخدم لتحقيق غرض واضح ومحدد؛ غرض درامي أو جمالي أو غير ذلك.
على مستوى آخر، سنجد من يقسم الشخصيات إلى متغيرة وثابتة، ويمكن العثور على هذا التمييز تحت مسميات عديدة؛ منها الشخصيات المتغيرة، وهي الحيوية أو النامية أو المستديرة (بمعنى أنها ليست نقطة ثابتة)، والأخرى يقال لها الخشبية (بمعنى أنها أقرب إلى عرائس جامدة لا تكاد تتحرك)، وقد تسمى أيضا الشخصيات المسطحة، وكانت تسمى في القرن السابع عشر «أمزجة»، فهي تظهر تعبيرا عن مزاج ثابت لا يتبدل، ولن يكون من الصعب عليك أن تنتبه إلى ذلك النوع من الشخصيات/الأمزجة إذا ما تذكرت مثلا صديق البطل الأكول في بعض أفلامنا القديمة، أو الخادمة الخفيفة الدم، إنها أقرب إلى الأنماط الجاهزة التي يتعرف المتلقي عليها بمجرد ظهورها.
ومع ذلك، فليس عليك أن تعامل شخصياتك الثانوية معاملة العرائس الخشبية، أو الأنماط الجاهزة المعروفة سلفا؛ فالبعض يقيس عظمة الكاتب بتميز تقديمه لشخصياته الثانوية.
من ناحية أخرى، قد يلح كثيرون ممن يكتبون حول اللعبة السردية على أن الشخصية الرئيسية لا بد أن تتغير خلال رحلتها؛ أن تبدل قناعاتها، أن تحل مشكلاتها، وهي أفكار شائعة خصوصا في الأشكال التجارية من الأدب والسينما. تغير الشخصية الرئيسية ليس قانونا مقدسا، إنه مسألة اختيار، شأنه شأن جميع عناصر السرد، فقد تظل شخصيتك ثابتة على مدى رحلة السرد بملامحها ومواقفها وطبيعتها العامة، ومع ذلك تظل تشع بالحياة والتوتر والتناقضات، كما أن ذلك التغير - إن كان لا بد منه - ليس من الضروري أن يكون شيئا هائل الحجم ساطع الضوء، فقد يتسرب عبر التفاتات صغيرة ونغمات خافتة. كل تلك احتمالات ومذاهب لا يحسمها إلا اختيارك وطبيعة الحكاية التي تطمح لأن ترويها.
التناغم؛ كلمة السر
أخيرا، لا بد من الانتباه إلى السبيكة التي تحيط بكل تلك الشخصيات المتنوعة وتضفي عليهم روحها الخاصة. شخصياتك لا تدور في فراغ، بل تتحرك في إطار حكاية محددة، بعالمها وأفكارها، كما أنها تتحرك بتفاعل بعضها مع بعض. قد تكون بعض الشخصيات منفردة، مثيرة للاهتمام، ولكن عند اجتماعها في محيط السرد لا يتولد عنها التوتر المطلوب.
الرسم الجيد للشخصيات يأخذ في اعتباره ضمنا تلك الشرارة التي ستتولد عند احتكاكها على أرض الحكاية؛ لذلك من المهم تأمل ومساءلة شخصياتك مرة بعد الأخرى، قبل التسرع بدفعها إلى دوامة الأحداث. يمكنك بالطبع أن تتراجع في أي نقطة إذا ما اكتشفت قصورا ما، ولكن الأفضل هو أن تكون مطمئنا بنسبة عالية إلى صحة اختيارك من البداية. الانسجام العام بين مجموع شخصياتك يعني أنها ستعطي الأثر المطلوب عند تفاعلها، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن تكون متشابهة أو متفقة الأمزجة والميول، بل ربما العكس أصدق؛ فقد يكون اختلافها مطلوبا بشدة أحيانا.
تخيل شخصياتك أقرب ما تكون إلى آلات موسيقية في أوركسترا هائلة، كل آلة منها لها صوتها الخاص وأنغامها وجملها اللحنية، ولا بد من تحقيق أقصى درجة ممكنة من الانسجام والتناغم فيما بينها، حتى ينبعث اللحن المنشود.
سبعة تمارين على الشخصية
حرك يدك
في الفصول السابقة، استكشفنا معا مبادئ وإرشادات أساسية تخص العنصر الأبرز من بين عناصر اللعبة السردية؛ الشخصية. تلمسنا سر فتنتها والثقل الذي تمثله في الحكاية، والمصادر التي يستمد منها الكاتب شخصياته، بداية من ذاته ثم واقعه وحياته وبالطبع خياله، وكيف يمزج بين تلك المصادر المختلفة في إنتاج الصورة (البورتريه) النهائي لشخصيته، ثم كيف يبث الحياة في تلك الصورة في ثنايا السرد، وأي الطرق التي يمكنه اتباعها لتقديم شخصيته بصورة حيوية، بعيدا عن بطاقة التعريف الجامدة. وفي السياق قدمنا أكثر من تمرين مبدئي كلما استطعنا؛ مثل: التمرن على تتبع آثار الشخصيات البارزة في الأدب والفن، وتحليل تلك النماذج الشهيرة والوقوف على سر سحرها، ثم رسم البورتريهات الشخصية، لنفسك أو لآخرين، أو لنفسك بعيون آخرين، ثم قص ولصق صفات وخصال من مصادر مختلفة وصهرها في نموذج واحد، ثم كيفية استكمال الأبعاد الثلاثة الرئيسية لرسم الشخصية (جسدية، واجتماعية، ونفسية)، إضافة لذلك البعد الرابع الغامض، وأخيرا عرض الشخصية في سياق المشهد والموقف من خلال الوصف والحركة والحوار، وهو ما حاولنا الاشتغال عليه في تمرين مدام باكينام.
ختاما لتلك الرحلة السريعة والمكثفة مع رسم الشخصية وتقديمها في السرد، ندرج هنا المزيد من تمارين الكتابة المتعلقة بجوانب أخرى من مهارة رسم الشخصية. ولا بد من التذكير بأن التمرن ليس شيئا مقصورا على المبتدئين في الحرفة، بقدر ما هو ضرورة لكل ممارس للكتابة الأدبية، سواء أكان التمرين خارج أي مشروع كتابة، أم جزءا من تطوير هذه القصة أو تلك الرواية. وهكذا فلا توجد تلك النقطة التي يتوقف فيها الكاتب عن التمرن، وسر الصنعة أحيانا يكمن في دمج التمارين ذات الأهداف المحددة والواضحة بحرية اللعب والاستكشاف في العمل على أحد المشاريع. الآن، هيا إلى التمارين: (1)
غير نوعك:
اكتب صفحة بضمير المتكلم «أنا»، متبنيا صوت شخص من النوع المغاير لنوعك؛ أي أنثى إذا كنت ذكرا والعكس. يمكن لهذه الصفحة أن تكون عرضا ليوم في حياة المتحدث، أو قطعة وصفية لموقف ما، المهم أن تخرج عن أسر ذاتك (نوعك على الأقل) وتصير شخصا آخر. من شأن هذا أن يساعدك على بلوغ درجة أعلى من الإقناع عند بناء شخصية من النوع الآخر، ورسمها في صورة حية وذات مصداقية. (2)
قوائم علامات:
في سياق الحرص على الإظهار كبديل سردي مفضل عن الإخبار السهل المباشر، يحسن بك أن تعرف أكبر عدد ممكن من العلامات البصرية والحسية عموما، التي قد توحي بمعلومات عن شخصياتك دون التصريح بتلك المعلومات. ضع قائمة ببعض العلامات والطرق التي قد توحي بسن الشخصية التقريبية، طبعا الشعر الرمادي والتجاعيد من أسهل وأوضح تلك العلامات، ولكن حاول أن تمضي إلى ما هو أكثر دقة ولطفا. إلى جانب سن الشخصية، ضع قوائم أخرى لأشياء توحي بالمستوى الاجتماعي، أو التعليم والثقافة، أو الطباع الأصيلة؛ إنها كل تلك الأشياء التي نراها ونستشف منها ما وراءها، والهدف هنا هو الاستغلال الأمثل لقوة ملاحظتك، وكلما كانت التفاصيل دقيقة وغير معتادة، كانت أشد إقناعا وأكثر جاذبية وتفردا. (3)
في موقف:
اختر شخصية من حياتك تعرفها جيدا، ودون المعلومات الأساسية حولها من حيث الأبعاد الثلاثة الأساسية (الجسدي، الاجتماعي، النفسي)، ثم ابتكر موقفا قصصيا بسيطا لتضع فيه شخصيتك بحيث يتكشف من خلاله أكبر قدر ممكن من تلك الأبعاد الثلاثة، استعن بالأدوات التي أشرنا إليها سابقا (الوصف، الفعل، الحوار). (4)
جدال:
اكتب حوارا بين شخصين يتجادلان حول أمر ما، ومن خلال الجمل الحوارية فقط حاول أن تكشف عن طبيعة كل منهما، وقدر التناقض بينهما، وسبب الخلاف. (5)
بين السطور:
اكتب فقرة سردية عن شخصية متخيلة؛ بحيث توحي في تصرفاتها وحوارها بشيء آخر مضمر بين السطور؛ شيء قد يكون مناقضا حتى لما تحاول إظهاره. من المهم هنا أن تتعلم سبل إظهار بعض العناصر لتوحي بتلك الحكاية الأخرى الخفية التي تنكرها شخصيتك، براعتك تكمن في قوة الإيحاء دون أن يكون مباشرا ومكشوفا. (6)
رسالتان وموقفان:
اكتب رسالتين قصيرتين من جنديين في إحدى الحروب؛ أحدهما موقفه إيجابي ويشعر بأنه يؤدي واجبا ساميا، والآخر متشكك، ويشعر بالمرارة والندم. حاول أن تكتشف كيف يحدد موقف كل منهما تفاصيل ومفردات رسالته وطريقة تعبيره عن أفكاره ومشاعره. (7)
كيف يبدو:
بأسلوب بصري ومحايد، أقرب إلى كتابة المشاهد في المسرح والسينما، اكتب مشهد جدال بين أب وابنه حول قرار مصيري، حاول أن تعكس بعض المشاعر والقيم المتناقضة داخل هذا الأب، من خلال وصف حركته وجسده وصوته وبعض عباراته فقط، متجنبا تماما التسلل إلى داخل عقله، أو التصريح المباشر بها بصوت السارد. تعلم كيف تعكس الصورة والحركة ونبرات الصوت وسائر العناصر الحسية مقدار التناقضات والصراع داخل الشخصية.
البحر واسع
مهما كررنا فلن نستطيع التأكيد بما يكفي على محورية وثقل الشخصية في الكتابة السردية، وتبقى محاولتنا المتواضعة والمبدئية هنا مجرد قطرات في بحر، يظل عليك أن تخوض غماره كلما استطعت، وكلما عثرت على مواد مفيدة في هذا السياق. غير أن القراءة حول هذا العنصر الحيوي وحدها لن تكون كافية، فإلى جانب قراءة الأدب الجيد من جميع المدارس والعصور والبلاد، لا غنى لك عن الممارسة؛ أي استكشاف شخصيات والكتابة عنها ورسمها على الورق، سواء أكان ذلك من خلال تمارين كتابة بغرض تنمية عضلات الكتابة السردية فحسب، أم في إطار مشروع سردي واضح المعالم. ومن خلال هذه الممارسة فقط يمكنك أن تتأكد من مدى نفع وصحة كل ما تقرؤه هنا أو في أي مواد أخرى، وأن تعرف أيها قد يتوافق مع ميولك واختياراتك وعالمك، وأيضا أن تخترع إرشاداتك ومفاتيحك الخاصة نحو رسم شخصيات خيالية لا تنسى، ويمكن تصديقها، وأشد مصداقية وحضورا من ملايين الناس ممن نسميهم «حقيقيين». •••
في الفصول التالية سنستكشف المبادئ الأساسية لكتابة الحوار في السرد.
كلام يؤدي ويجيب
شيء ثمين، ولكن ...
يشبه الروائي الكولومبي الشهير «جابرييل جارثيا ماركيز» الحوار بمزهرية عتيقة ورثناها عن الجدة، ويضيف أنها تكون ثمينة القيمة فقط إذا عرفنا أين نضعها.
ليس مجرد كلام
لسنا بحاجة إلى التأكيد على أهمية الكلمة ودورها المحوري في تشكيل المعرفة الإنسانية، لكن لا بأس من أن تتأمل قليلا إلى أي حد يعتمد الناس في حياتهم اليومية على الكلام، من أجل التواصل والتفاعل والتعلم، ونقل التجارب والخبرات، والتعبير عن الأفكار والمشاعر والانفعالات، حتى نبدو وكأننا أحيانا مخلوقات مصنوعة من كلمات.
السرد مرآة الحياة، يعكسها على طريقته بواسطة اللغة، يحرف صورتها ويعيد تشكيلها، ويقترب أو يبتعد عن نسختها الأصلية كما يشاء، لكنه يظل يستمد منها نوره؛ ولهذا يبقى للكلام بين شخصيات كل حكاية الأهمية ذاتها تقريبا التي له بين الناس في الحياة.
هل معنى هذا أننا في فنون السرد والدراما يتوجب علينا أن ننقل بأمانة حرفية ما قد يقوله الناس في حياتهم اليومية؟ ربما يكون هذا هو رأي البعض الذين لا يرون في الفن إلا انعكاسا أمينا للحياة، وحتى هؤلاء لن يستطيعوا أن ينقلوا حوارا استمر لساعة واحدة بين شخصين فقط بالحرف الواحد؛ لأن ذلك قد يعني فصلا طويلا من رواية، أو نصف الزمن المحدد لأحد الأفلام.
المصداقية لا تعني بالمرة وضع عشوائية الحياة اليومية وترهلها بين قوسي عمل فني.
لنعترف أننا في الحياة اليومية نتكلم أكثر مما يلزم في أحيان كثيرة، ربما لمجرد أن نتكلم، نثرثر، ننتقل كيفما اتفق من موضوع إلى آخر، وربما يتعمد أحد صناع السينما أو الروائيين أن ينقل تلك الحالة من الثرثرة وانعدام الهدف الواضح من التواصل، لغرض جمالي أو فني ما، أو لمتعة خاصة يريد تحقيقها في مشهد أو عمل كامل، لكن ذلك يبقى خيارا هامشيا له أسبابه ومقاصده؛ والأغلب الأعم أن الحوار في العمل الفني لا بد أن يعني شيئا، أن يلعب دورا حيويا شأنه شأن سائر عناصر وأدوات الفن.
إشارة
متى تشرع في كتابة حوار بين شخصياتك؟ بالتأكيد بعد أن صار لديك شخصيات بالفعل. لا يمكنك أن تكتب حوارا بين أطياف مموهة لا تعرف عنها شيئا؛ لذلك فإن كتابة حوار في مشهد خطوة تالية على تحديد الملامح الأساسية لشخصياتك، وكذلك طبيعة الحكاية التي تود أن ترويها؛ بعد ذلك يمكنك أن تسترق السمع، في عقلك، إلى تلك الشخصيات وهي تهمس بالأسرار أو الاعترافات أو الأكاذيب.
دعه يتكلم
يمكن للحوار أن يكون وسيلة لكي تبوح الشخصية بمكنونها، أن تقدم نفسها للآخرين وللقارئ في اللحظة ذاتها. شخصية تقول إنها نباتية وضد قتل الحيوانات، وأخرى تعلن عن حلمها بالهجرة، وأخرى تحكي عن ولعها بالروايات البوليسية. إننا نقدم أنفسنا طوال الوقت بهذه الطريقة للآخرين؛ نحب أن نفعل ذلك، وكذلك يحب القارئ أن ينصت مباشرة إلى أصوات شخصياتك، دون أن يقف الكاتب (الراوي العليم أحيانا) وسيطا بينه وبين الشخصيات، لينقل عنها ميلها لهذا ونفورها من ذاك، إلى آخره.
من شأن الحوار الجيد أيضا أن يطور حبكتك، ويدفع الأحداث إلى الأمام. إنها تلك الحوارات الحرجة، التي تحدد اتجاه السرد؛ شخص يعترف أخيرا بالحب، شخص يبتز آخر، زوجان يحاولان التوصل إلى حل مشكلة تهدد حياتهما معا.
ثمة وظائف أخرى جمالية للحوار؛ فهو يخفف من رتابة السرد؛ السرد بمعنى حكاية حركات وأفعال الشخصيات على طريقة: دخل وجلس وفكر ... فحتى على المستوى البصري قد يتوق القارئ لاستراحة من الفقرات السردية المصمتة المتتالية، عن طريق هدنة الجمل الحوارية ومساحة البياض المحيطة بها.
كما يضفي الحوار المزيد من المصداقية إلى الشخصيات، فحينما تمر عينا القارئ على العبارات التي تنطق بها شخصياتك، بعد أن شكل لها صورة في خياله بالفعل، يسمع تلك الجمل وهي تتردد في ذهنه، ويضفي عليها صوته الخاص وطريقته في التعبير، فيقترب بذلك أكثر من الشخصيات، متوحدا بها في أحسن الأحوال. لا شيء يوحي بأن شخصيتك حية وحقيقية أكثر من جملة حوار جيدة الصياغة.
الحوار الرائع هو ما يؤدي كل تلك الوظائف معا؛ يكشف الشخصيات في الوقت نفسه الذي يطور فيه الحبكة والصراع، ثم إن توقيته الجيد يجعل منه فرصة لالتقاط الأنفاس بعد كتل السرد والوصف والأحداث، ثم إنه يضخ حياة في الشخصيات بإنطاقها.
كما أن الحوار العظيم هو ذلك الذي لا يمكن الاستغناء عنه، وإن كان هذا المعيار يصدق على كل فقرة وكل جملة تقريبا في سردك؛ فإنه يصير مع الحوار أكثر إلحاحا وأهمية. أي جملة زائدة في الحوار مجازفة بالانتقال إلى الثرثرة والابتذال وأجواء المسلسلات التليفزيونية المملة، التي تكثر فيها الشخصيات من التحيات والسلامات وترديد بعضها أسماء بعض بلا أي داع. احذف كل ما يمكن حذفه من جملك الحوارية؛ ليبقى الحوار على العظم تقريبا، بحيث يكون لكل كلمة فيه ثقلها وأهميتها، وإلا عبرت عينا القارئ على سطور الحوار وهو نصف نعسان، بلا اكتراث، قبل أن يتثاءب ويستسلم للنوم.
احذف وكثف
قال المخرج الإنجليزي الشهير «ألفريد هيتشكوك»: «القصة الجيدة هي الحياة نفسها، وقد نزعنا منها الأجزاء المملة.» يصدق قوله هذا على الحوار الجيد بالقدر نفسه . الآن، تذكر حوارا مهما سمعته، أو كنت شاهدا عليه، أو تبادلته مع شخص آخر منذ فترة قريبة؛ المهم أنك ما زلت تذكره جيدا. حاول أن تكتب الحوار كما دار تماما، أو على وجه التقريب. أعد قراءته، واحذف منه ما عبر عنه هيتشكوك بقوله «الأجزاء المملة»؛ احذف كل تكرار، كل معلومة لا قيمة لها، كل خروج عن موضوع الحديث الأساسي، وتأمل النتيجة. هذه هي (تقريبا) الصورة التي يحسن أن يكون عليها حوارك في الحكاية. •••
في الفصل التالي المزيد حول تقنيات كتابة الحوار ووسائل صقله.
للحوار أصول
سؤال
فكرت أليس: «وما نفع أي كتاب دون صور أو حوارات؟»
لويس كارول، «أليس في بلاد العجائب»
مسائل تقنية وشكلية
تعرف - من خبرتك كقارئ - أن الحوار في القصة والرواية لا يكتب كما تكتب سطور النثر الأخرى من وصف وسرد للأحداث، وأنه لا بد من تمييزه بطريقة ما؛ لتنبيه القارئ إلى أن هذا هو نص كلام الشخصية. هذا التمييز هو الهدف الأساسي البسيط، مهما تنوعت آلياته بين الكتاب؛ لأن منهم من يضع جمل الحوار بين قوسي تنصيص صغيرين، مثل:
قالت: «صباح الخير يا معلم.»
ومنهم كذلك من يستغني عن هذين القوسين ويكتفي بوضع جملة القول على سطر بمفردها بعد شرطة صغيرة، مثل:
قال لها: - كيف وصلت بهذه السرعة؟
ومهما كانت الطريقة التي تختارها فالمهم هو التمييز. ومع ذلك، فثمة اعتبارات شكلية يجب عدم تجاهلها، فإذا وردت جملة حوار جديدة لشخصية أخرى، فيجب أن تبدأ بها فقرة جديدة، ولا تكملها على نفس السطر، مثل:
سأل ابنه: «أين كنت طوال هذا الوقت؟»
فأجاب: «هذه حكاية طويلة.»
وحتى هذه القاعدة المسلم بها، ستجد أن بعض الكتاب يتجاهلونها تماما، والمثال الأشهر والأشد تطرفا على ذلك هو الروائي البرتغالي صاحب نوبل «جوزيه ساراماجو»، الذي لا يميز جمل الحوار بأي طريقة، ولا يبدأ جملة الحوار الجديدة بفقرة جديدة، وغالبا يتجنب حتى الإشارة إلى المتحدث بين الشخصيات، ولعله يتعمد ذلك لشحذ انتباه القارئ، أو لعدم اقتناعه بانفصال الحوار عن مجرى السرد انفصالا حقيقيا . وأيا كان مقصده، فإن هذا مثال شديد التطرف على تجاهل آليات تمييز الحوار كما أشرنا، لن تصادفه إلا لدى ساراماجو، ومقلديه بالطبع.
هناك كتاب يحرصون على إيراد فعل القول «قال، قلت» مع كل جملة حوار تقريبا، مع تنويعات بسيطة عليه، من قبيل: سألت، أجاب ... إلى آخره، غير أنك لست ملزما بتكرار فعل القول في كل مرة؛ فالقارئ يدرك هذا تلقائيا. وثمة ولع آخر في التنويع الشديد على أفعال القول؛ فيميل البعض إلى وضع فعل جديد مع كل جملة قول تقريبا، من عينة: هتف، همس، صاح، أعلن، صرح ... وإذا كان استخدام مثل تلك الأفعال لا غنى عنه أحيانا، لتمييز طريقة القول والانفعال، فإن الإفراط فيها يفقدها قوتها وقيمتها، ويجعل القارئ يمر عليها دون اكتراث، وكثيرا ما تكون عقبة تشتت الانتباه بعيدا عن جملة القول ذاتها؛ لذا ينصح أغلب الكتاب بتجنبها، والحد من تكرار فعل القول نفسه إلى أضيق الحدود.
من الضروري في بعض الأحيان وصف طريقة النطق بجملة ما؛ أي اللجوء إلى استخدام الحال، على طريقة: «قال مغتاظا أو مهتاجا»، أو اللجوء إلى شبه جملة: «همست في حنان أو في دلال ... إلى آخره»، غير أن الإفراط في اللجوء لتلك الوسائل - شأن أي إفراط - يجلب نتيجة عكسية. وينصح كتاب كثيرون بتجنب الأحوال الملحقة بفعل القول تماما؛ ربما ليتفاعل القارئ بحرية كاملة مع الحوار، ويضفي عليه بنفسه النبرة التي يتخيل أنها الأنسب له، دون وقوف السارد حائلا دون ذلك. وعند كتاب المسرح مثلا - ولعل قراءة أهم المسرحيات في المدارس المختلفة خير درس لكتابة حوار نشط وفعال في القصة والرواية - هناك مدرستان أساسيتان في هذا؛ فالبعض يميل لأن يحدد طريقة ونبرة كل جملة تنطق بها شخصياته تقريبا، وآخرون يميلون للعكس، تاركين مهمة إضفاء النبرة لاجتهاد الممثلين والمخرجين عند تنفيذ المسرحية. والقرار لك في نهاية الأمر، غير أن النصيحة التي لا بد منها هي أن تترك الباب مواربا لخيال القارئ وتفاعله، وألا تفرط في التدخل عند كتابة الحوار.
على الرغم من التأكيد على أن الحوار في السرد ليس نسخة مطابقة للكلام العادي في الحياة اليومية، غير أنه لا بأس من محاكاة بعض خصائص الكلام اليومي، من قبيل إيراد أصوات غير ذات معنى من همهمة وتأوه أو غير ذلك: «إممم، آآآه ...» أو استخدام تفتيت الجملة إلى عبارات مجتزأة غير مكتملة؛ لكي تنقل حالة المتحدث، أو تعزز أسلوبا خاصا بالشخصية: «ولكن ... اسمعني ... أريد أن أقول ...» ومرة أخرى، احذر الإفراط في اللجوء إلى هذه الوسائل.
لكل منا قاموسه
إننا لا نتحدث جميعا بنفس الطريقة أو بنفس مجموعة المفردات؛ لذلك من الضروري أن تنصت في ذهنك إلى شخصياتك المختلفة، وأن تعطي لكلام كل منها طعمه وقاموسه وطريقة تعبيره، بما يتناسب بطبيعة الحال مع تكوينك لملامح هذه الشخصية، وعلى الأخص من الناحيتين الاجتماعية والنفسية. اكتشف ما إذا كانت طريقة الشخصية في التعبير تميل إلى استخدام العبارات القصيرة الحادة التي تصيب عين القصد، أم تجنح لجمل طويلة وملتوية مكتنزة بالوقفات والجمل الاعتراضية.
تبين أيضا طريقة الشخصية في النطق؛ هل تتحدث ببطء أم بسرعة، بوضوح أم بتلعثم وتآكل للحروف، وغير ذلك مما يميز البشر العاديين ولا بد أيضا أن يظهر بدرجة ما على ألسنة شخصياتك، وخصوصا لو عكس ذلك طبائعهم وخصوصياتهم النفسية، فكلما كانت التفاصيل الخاصة بشخصيتك ذات مقصد ودور محدد، صارت ألزم ولا غنى عنها، وليست مجرد إكسسوارات زائدة عن الحاجة لمجرد إضفاء المصداقية والإيهام بالواقع.
ليست أصواتا إذاعية
حين نستمع إلى ممثل في تمثيلية إذاعية، يشتغل خيالنا بحيث نبني على الصوت ما يمكن أن يحيط به من مشهد وصورة، وكذلك شكل وهيئة المتحدث. في الدراما المرئية لا نحتاج إلى هذا؛ أما في السرد، فضع في اعتبارك على الدوام، عند كتابتك جملا حوارية، أن شخصياتك لم تتحول إلى مجرد أصوات إذاعية، وعلى ذلك لا بد أن تكون منتبها إلى الحيز المحيط بها وهيئتها في أثناء الحديث. طبعا سوف نتوقف في فصول تالية مع المشهد والوصف على العموم، لكن فيما يخص كتابة الحوار هنا على الأقل، احرص على أن تقدم للقارئ ما يحتاج إليه من إشارات مختصرة للصورة العامة، وما يمكنه من تخيل شخصياتك في حوارها، فلعل الوضع الجسدي لشخصيتك يغير تماما من مغزى ودلالة ما تقوله، من النقيض إلى النقيض.
ولسنا بحاجة إلى التذكير بأهمية اللغة الجسدية التي تكمل اللفظ المنطوق وتضيف إليه، أو تعيد صياغته تماما، فلا تغفل عن طريقة جلوس شخصياتك وهي تتحدث؛ ماذا تفعل بذراعيها ويديها، أين تنظر وكيف، حركتها وسكونها وتعبيرات وجهها؛ كل ذلك يجب أن يحسب بميزان حساس حتى لا يأخذ الانتباه بعيدا عن مضمون الحوار نفسه، والإفراط فيه خطر شأن الوسائل السابقة، والأولى أن يكون له دلالة واضحة، وليس مجرد زينة أو حيلة بصرية سهلة.
ألسنة تبوح وتوحي
أنا أفهم مقصدك
ينبغي ألا يقتصر الحوار على كشف أشياء عن المتكلم مما يعرفه عن نفسه وفقط، ولكن أن يكشف أيضا عن أشياء قد لا يكون يعرفها عن نفسه، ولكن يدركها الطرف الآخر في الحوار.
إدورا ولتي
الإفصاح عن الباطن
إذا أردت أن تكشف عما يجري في باطن شخصياتك، فسيمكنك بالطبع أن تتسلل بنفسك - كروح خفية - إلى داخله، وتنقل وساوسه وحديثه الداخلي لنفسه، عن طريق حيل من نوع: «فكر ... قال لنفسه ... تساءل في عقل باله ...» إلى آخره. لكن الإفراط في اللجوء لتلك السبل يضعف قيمتها، وكثير من أفكار وعواطف الشخصيات يمكن أن يكتسب مزيدا من القوة والأثر إذا خرج كحوار منطوق، وليس كمجرد حديث نفسي داخلي؛ كل ما عليك لتحولها إلى حوار هو أن تضع الشخصية في موقف محدد يضطرها للإفصاح عما بداخلها، حتى ولو عبرت دون وضوح كاف بسبب اضطرابها. ضع شخصية أخرى بجانبها، شخصية رئيسية أو ثانوية، أدر حوارا بينهما يجر شخصيتك لأن تفضي وتبوح بمكنونها؛ عندئذ تكتسب جملة منطوقة بلسانها وأسلوبها تأثيرا يفوق كل ما قد تفكر فيه بداخلها، في صمت عزلتها.
يصير بوسعك عندئذ أيضا أن تدخر تسللك إلى باطن الشخصية للحظات أنسب، حين تغزوها أفكار وتساؤلات أكثر ارتباكا واختلاطا بالمشاعر والهواجس، وأيضا حين تفتقد أي أذن تستمع إليها. وهكذا، كلما سارعت إلى نقل ما تفكر فيه شخصيتك، وما تشعر به، في لحظة ما من الحكاية، اسأل نفسك: أليس من الأفضل تحويل هذا إلى حوار منطوق؟ أم أن قوة أثره تكمن في أنه مونولوج داخلي، لا يطلع عليه أحد؟ وبناء على إجابتك التمس الوسيلة الأنسب، فكل تلك أدوات بين يديك للوصول لأنسب الصيغ وأجملها.
لا تصب الكلام صبا
باستثناء بعض المواقف الخاصة التي قد تندفع فيها إحدى الشخصيات إلى التصريح باعتراف كامل من البداية للنهاية، ليس من المستحسن أن تلقي شخصيتك بكل ما في جعبتها دفعة واحدة. توسل بالتلميح والإشارة والمراوغة، دون أن يعني هذا الثرثرة بالضرورة. لا تشعر القارئ بأن شخصيتك تتكلم مثل ببغاء أو رجل آلي مبرمج، أو كأن على عاتقها حملا تريد أن تتخلص منه بأسرع وسيلة ممكنة. ليكن حوارك استدراجا من نقطة إلى أخرى، حتى تجد الشخصية نفسها تنطق بما لم تكن تنوي ذكره، أو تراوغ بإظهار ورقة وإخفاء أخرى، وهنا يمكن للقارئ أن يشارك بأن يقرأ ما بين السطور ويستشف المخفي من المكشوف.
كن ميزانا حساسا
لا شك أن بعض شخصياتك ستكون أقرب إليك من أخرى، إما لأنها أقرب إلى طبيعتك وتكوينك، وإما لأنها هي نجم قصتك الذي تدور من حوله سائر الكواكب، وإما لغير ذلك من أسباب؛ لكن هذا لا يعني أن تنحاز إليها في أي حوار يدور بينها وبين بقية الكواكب من سكان فضاء حكايتك، فتجعل نصرها عليهم أمرا مؤكدا على الدوام، بالمنطق السديد أو ذكاء النكتة أو قوة الشخصية.
وزع منطقك بالعدل على شخصياتك. دافع عن مبررات وحجة وموقف كل منها، حتى ولو كانت إحدى الشخصيات نموذجا لأسوأ وأحط ما في الطبيعة البشرية، فلتلعب معها أنت دور محامي الشيطان، وأوجد لها فلسفتها وأسبابها ودفاعها القوي. إذا وجدت نفسك ميالا لشخصية على حساب أخرى، في حوار ما، فلا بد أن تعيد النظر فيه. اسأل: هل يقدم هذا الحوار شيئا مهما بحيث لا يمكن الاستغناء عنه، أم أنه مجرد استعراض لذكاء وظرف شخصيتك الأثيرة؟ كيف يمكنك أن تقوي موقف الشخصية الأخرى ولو قليلا، وتمنحها من داخلك لسانا أفصح وحجة أقوى؟ إن لم يشعر القارئ أنه أمام مبارزة حقيقية، خصوصا في المواقف المتوترة والحاسمة، سيفتر اهتمامه بالحوار ككل، حتى ولو نطقت شخصيتك المفضلة بالدرر والبدائع.
فصحى أم عامية؟
إذا كنت قد حاولت كتابة القصة أو الرواية ولو مرة واحدة، فلا بد أنك وجدت نفسك حائرا أمام هذا السؤال القديم الجديد، والخاص بأي بلد ينقسم لسانها إلى اثنين: مكتوب فصيح، ومنطوق عامي أو دارج على الألسنة. للأسف أو ربما لحسن الحظ، لا توجد إجابة نهائية شافية على هذا السؤال، وكلما واصلت القراءة واستكشاف مدارس واتجاهات الأدب العربي، وجدت أن كل كاتب توصل إلى إجابته الخاصة؛ فمنهم من يميل لكتابة حواره بالفصحى لأسباب عديدة، منها رغبته في التوجه لجمهور القراء في العالم العربي بكامله، أو لكي لا يسقط الحوار في ركاكة وابتذال الكلام الدارج؛ ومنهم من يفضل العامية إيمانا بالمصداقية وبجماليات اللغة العفوية والطزاجة الكامنة في ألسنة الناس وحواراتهم اليومية المتجددة.
وعلى وجه العموم، حاول أن تجيب عن هذا السؤال بما يتناسب مع العالم الخاص بعملك السردي، وما يتفق مع طبيعته، وجرب الطريقتين أحيانا حتى تعرف مزايا وعيوب كل منهما، وحتى إذا اخترت الارتكان إلى الحوار الفصيح، فلا تحرمه من لمسات العامية ومذاقها من حيث التركيب والبساطة، فكثير من الكتاب المصريين وضعوا على ألسنة شخصياتهم جملا حوارية سليمة وفصيحة، لكنها تجري مجرى الكلام العامي أو تكاد، فتسمع شخصياتهم تقول مثلا: «ملعون أبو الدنيا.» أو «ماذا جرى؟ كفى الله الشر.» أو «اعملي الشاي يا بنت.» فلا تتلكأ العبارة أمام أذن القارئ طويلا، وتتسرب إليها مثل موسيقى خفية مجهولة المصدر. •••
في الفصل التالي المزيد حول تحويل الحوار إلى خطاب غير مباشر، وتفقد الحوار بعد كتابته.
حدثنا فقال ...
بأصواتهم
استمع إلى ما كتبته. إن مقطعا غير موفق من الحوار قد يظهر أنك لم تفهم بعد الشخصيات بما فيه الكفاية لأن تكتب بأصواتهم.
هيلين دانمور
أعد صياغة أقوالهم
لعل أحد أهم القرارات التي ينبغي عليك اتخاذها في أثناء كتابتك للحوار، هو معرفة ما إذا كنت ستنقل الحوار كما جرى على ألسنة الشخصيات نصا، على طريقة الخطاب المباشر؛ أم ستروي عنهم ما قالوه إجمالا، بمعنى أن تلخص ما قيل وتعيد صياغته بطريقتك، بحيث يكون جزءا من السرد نفسه، فكثيرا ما يستخدم الحوار لمجرد نقل معلومات يمكن تسريبها في ثنايا السرد عبر الكلام غير المباشر.
على سبيل المثال: يمكنك أن تورد بالنص كلام شخص ثرثار أخذ يحكي لمن حوله في مناسبة ما عن مغامرة خاضها، يراها مثيرة للغاية؛ فأنت بذلك تجازف بإزعاج قارئك بقدر إزعاج هذه الشخصية للمحيطين بها تماما. لكنك تملك في متناول يديك خيارا آخر على الدوام، وهو الخطاب غير المباشر، كأن تقول:
وأخذ يحكي لنا باستفاضة مملة كيف طارده الدائنون من شارع إلى آخر، وكيف استطاع الإفلات منهم، وراح يعيد ويزيد في التفاصيل ويكررها كلما لاحظ انضمام شخص جديد إلى حلقتنا ...
عن طريق اختيارك هذا تصيب أكثر من هدف برمية واحدة؛ فأنت تعكس إملال وثرثرة المتحدث في حوارك الأدبي، وتنقل كذلك مشاعر وأفكار الراوي، من خلال تعليقاته على ما يسمعه، وبالطبع تكثف معلومات قد لا تضيف أي شيء جديد أو جميل إلى نصك، وتدخر مساحتها لما هو أجدى.
تتيح لك هذه الطريقة أيضا أن تضبط إيقاع المشهد، فلا يترهل بسبب إطالة الحوار وتبادل المعلومات اللازمة بألسنة الشخصيات، ويظل في مقدورك في الحين نفسه أن تورد بعض أقوال الشخصيات نصا، حين ترى ذلك أنسب.
تعال نتأمل الفقرة التالية، من قصة الكاتدرائية، للقاص الأمريكي الجميل «ريموند كارفر»؛ التي يرسم فيها الراوي شخصية رجل كفيف البصر، هو صديق قديم لزوجته، أتى فجأة لزيارتهما بعد سنوات:
وأعددنا لأنفسنا شرابين أو ثلاثة أخرى وشربناها، بينما كانا يتحدثان عن الأشياء الهامة التي حدثت لهما في العشر سنوات المنصرمة. وفي معظم الوقت، كنت أكتفي بالإصغاء، ومن حين لآخر كنت أشارك في الحديث؛ لم أرد أن يعتقد أنني قد غادرت الحجرة، ولم أرد أن أجعلها تظن أني كنت أشعر بأنها أهملتني . تحدثا عن أشياء حدثت لهما - لهما! - في هذه السنوات العشر الماضية، وانتظرت عبثا أن أسمع اسمي على شفتي زوجتي الجميلتين: «ثم دخل حياتي زوجي العزيز»؛ شيئا مثل هذا، ولكني لم أسمع شيئا من هذا القبيل. مزيدا من الكلام عن روبرت، وبدا أن روبرت مارس شيئا قليلا من كل شيء؛ فهو نموذج للأعمى الذي مارس كل الحرف.
لاحظ مبدئيا أن هذا ليس حوارا، كما هو واضح، بل هو نسخة الراوي من الحوار الذي دار بين زوجته وروبرت الأعمى، ولا تظن أن كارفر ممن لا يميلون لكتابة الحوار في قصصهم؛ فكثيرا ما تعتمد قصصه على تقنية الحوار اعتمادا بارزا، وحتى هذه القصة تحديدا، التي ترجمها أمير كامل في مختارات له قبل سنوات، تجد فيها حوارا متناثرا هنا وهناك، غير أنه ارتأى في هذا الموضع، ومواضع أخرى محددة، أن يكثف ما دار من حوار بطريقة الخطاب غير المباشر، ليس فقط لاتساع مساحته والمجازفة بالترهل والثرثرة، ولكن أيضا لينقل إحساس الراوي وأفكاره، حيال زوجته وصديقها الأعمى والصداقة القديمة بينهما.
إن تذكرك لهذه الوسيلة سوف يجنبك الإفراط في الاعتماد على الحوار المباشر بين الشخصيات دون داع، وسوف يتيح لك مزج ما تنقله من معلومات عن الحوار بأفكار ومشاعر الراوي. وبالطبع تستطيع على الدوام أن تمزج بطريقة ذكية بين الحوار المباشر والخطاب غير المباشر؛ بحيث تقفز على مساحات غير ذات قيمة، ثم تتريث أمام جملة قوية من الأفضل الاستماع إليها منطوقة بصوت وأسلوب الشخصية الخاصين بها.
راجع مرة أخيرة
إذا كانت مراجعتك لنصك السردي، المرة بعد الأخرى، هي أمر لا غنى عنه على العموم؛ فإن هذه المراجعة تظل أهم وألزم مع سطور حوارك، ليس فقط لتتأكد من خلوه من الثرثرة والترهل كما سبقت الإشارة، بل أيضا لتتفقد مدى سلاسته على اللسان، ومن الأفضل أن تقوم بقراءته بصوت مسموع، وحدك أو بالتعاون مع شخص آخر، بأن يقرأ كل منكما سطور شخصية مختلفة. أنصت جيدا لكل جملة حوار، واسأل نفسك (متوخيا النزاهة قدر المستطاع): هل تبدو العبارات طبيعية ؟ هل تجري على اللسان بسهولة ودون انقطاع أنفاس المتكلم؟ هل توجد في أقوال شخصياتك أي كليشيهات (العبارات الشائعة المبتذلة، التي فقدت رونقها من فرط الاستعمال)؟ كيف يمكنك تغييرها إلى شيء أكثر أصالة وأليق بشخصيتك؟ هل أتت جمل الحوار ملائمة لكل شخصية، بخلفيتها وثقافتها ودواخلها؟
هل أقحمت في سطور الحوار معلومات ضرورية لم تعرف كيف تسربها إلى سردك، على طريقة: «أنت تعلم بالطبع أنني طلقت زوجتي قبل عامين بسبب ...» فما دام المستمع «يعلم بالطبع»، فليس هناك ما يبرر أن يذكر المتحدث ذلك، إلا إذا كان المقصود بالمعلومة أذني القارئ، وليس الطرف الآخر في الحوار. عليك حل مشكلات من هذا النوع بعيدا عن الحوار؛ لأن القارئ سيشعر مباشرة بهذه الحيلة السهلة.
هل يدور الحوار بخفة، وينتقل بنشاط بين طرفيه أو أطرافه، أم أن إحدى الشخصيات تستأثر بنصيب الأسد لسبب أو لآخر، بينما يلعب الآخرون دور مستمعي البرامج الإذاعية؟
مثل تلك الأسئلة - على قسوتها - ستجنبك مزالق كثيرة في كتابة الحوار. ونرجع فنقول إن الممارسة خير معلم؛ فهي الأساس الذي قد تتلوه مباشرة ضرورة الاطلاع على الروائع الأدبية والفنية من مسرحيات وأفلام وقصص وروايات؛ حيث يجري الحوار مجرى الدماء في العروق، حاملا إلى أوصال الحكاية الهواء والغذاء. •••
في الفصل التالي بضعة تمارين على كتابة الحوار.
تعال نتمرن على الحوار
من النظري إلى العملي
خلال الفصول القليلة السابقة استعرضنا جوانب أساسية لتقنية الحوار في السرد، تناولنا أهميته والمسافة التي تفصل الحوار في أي عمل فني عن أحاديث الناس في حياتهم اليومية، وكيف أن العمل الفني يجب ألا ينقل حرفيا تلك الأحاديث مهما كان حريصا على المصداقية. أشرنا بعد ذلك إلى أهم الأدوار التي يلعبها الحوار من كشف لطبيعة ودواخل الشخصيات، وتطوير للحبكة، ودفع للأحداث، وكيف يمثل استراحة من السرد ويكسر رتابته، ويضفي مزيدا من المصداقية على الشخصيات. كما عرضنا بعض المسائل التقنية والشكلية لكتابة الحوار، وسبل تمييزه عن سائر فقرات السرد، ونوهنا إلى تقنية الكلام غير المباشر ودورها في تجنب الثرثرة، وطريقتها الخاصة في عكس مشاعر الراوي على ما يسمعه، ثم ختمنا بالتأكيد على المراجعة النهائية للحوار وتفقد كل جوانبه مع قراءته بصوت مسموع.
الآن، أدعوك إلى الانتقال من الجانب النظري إلى العملي، حتى تثبت تلك المهارات والوسائل وتقترب من إتقانها التام، من خلال ممارسة بعض التمارين، مع ملاحظة أن التمارين التالية ليست نهاية القول، ويمكنك على الدوام ابتكار تمارينك الخاصة بحسب احتياجك وذوقك. (1)
احذف وأضف:
من المفيد أن تميل لنقد أي حوار فني تلتقي به في الدراما أو الأدب؛ في أثناء مشاهدة فيلم أو قراءة عمل أدبي استقبل الحوار بعين متشككة، اسأل نفسك: ألا يمكن أن يكون أكثر رشاقة وأدق تصويبا نحو الهدف إذا حذفت عبارة أو جملة، أو أضيفت أخرى، أو تم تعديلها؟ لن ينتقص هذا من متعتك بقدر ما سيدربك على تنظيف الحوار من شوائبه وصقله؛ مما يؤهلك لكتابة حوار رائع في نصك. (2)
خارج السياق:
اكتب من خمس إلى عشر جمل حوارية مقتطفة من سياقها، لكنها تساعد في الإفصاح عن ملامح شخصية قائلها بطريقة أو بأخرى. (3)
خلاف:
اكتب حوارا بين طرفين يخوضان خلافا حول أمر محدد، قد يكونان زوجين مختلفين حول طريقة إنفاق مبلغ من المال؛ هل يسافران لقضاء إجازة أم يضيفانه إلى مدخراتهما؟ حاول ألا تنحاز إلى وجهة نظر أحدهما دون الآخر، دافع عن منطق كل طرف بقدر استطاعتك، لا بد أن يخرج الحوار أقرب إلى رقصة لفظية رشيقة، يتبارى فيها كل منهما بأسلحته الظاهرة والخفية، ويدافع عن رأيه ويهاجم منطق الآخر. (4)
داخل السياق:
اكتب حوارا مفعما بالمشاعر والعواطف بين شخصين، دون أي ذكر للمشهد المحيط بهما أو ما يفعلانه في أثناء حديثهما، ثم أعد كتابة الحوار نفسه، مع تطعيمه بعناصر المشهد البصري الضرورية؛ المكان والزمن، وماذا يفعلان. ارسم صورة بصرية واضحة لكل شخصية بينما تتحدث. جرب أكثر من سياق لاكتشاف كيف يمكن أن يؤثر هذا على الكلام المنطوق ونبرته. إذا تخيلت - على سبيل المثال - شابا وفتاة اقترب موعد زفافهما؛ فمن المؤكد أن حديثهما سيختلف إذا ما كان في جلسة هادئة على النهر، أو كانا يقومان بتفقد الأجهزة المنزلية في أحد المتاجر، أو منهمكين في طلاء جدران شقة الزوجية معا. (5)
انقل وأوجز:
اختر كاتبا تعجب به، وأعد قراءة إحدى قصصه منتبها إلى الحوارات التي أدرجها بنصها، في مقابل تلك التي أخبر عنها بطريقة الخطاب غير المباشر، وتبين الفرق بين كل منهما، ثم ابتكر حوارا طويلا خاصا بك، تمضي فيه إحدى الشخصيات في الكلام طويلا، تشتكي أو تجادل شريكا، أو تعيد سرد ذكرى قديمة. الآن قم بتحويل أكبر قدر ممكن من حديث تلك الشخصية إلى الخطاب غير المباشر، على طريقة: «وأخذ يروي، ثم واصل حديثه عن ...» حتى تتقن استخدام تلك الوسيلة الحيوية، وتدرك متى تستطيع الاستعانة بها. (6)
كل يغني:
في بعض الأحيان - إن لم يكن في كثير من الأحيان - لا تتجاوب الشخصيات مع ما سمعته من الطرف الآخر، بقدر ما تهيم غارقة في أفكارها الخاصة وأهدافها الخفية. اكتب حوارا يدور بين شخصين على الفراش أو مكان حميم آخر. دعهما يتحدثان لبضعة سطور على راحتهما دون أن يكون هناك تواصل حقيقي بينهما؛ إذ يبقى كل منهما يغني على ليلاه، متتبعا خيط همومه وأفكاره، دون إنصات حقيقي لما يقوله الآخر إلا بوصفه وسيلة للرجوع من جديد إلى ما يود التعبير عنه. (7)
نسخ مختلفة:
تذكر حديثا جرى بينك وبين زميل أو صديق مؤخرا - يستحسن أن يكون صديقك كاتبا مثلك - واكتبه كما تتذكره على وجه التقريب، ثم اطلب منه أن يفعل الأمر نفسه. قارنا النسختين معا، ضعا أيديكما على الفروق والاختلافات وما تذكره كل منكما. فكر فيما ينبئك به هذا التمرين عن الحوار كما دار، ثم كما قد تتذكره شخصية أو أخرى. (8)
أسرار وأكاذيب:
ابتكر موقفا تتجنب فيه إحدى الشخصيات الاعتراف بحقيقة ما، لسبب أو لآخر، تراوغ وتتملص؛ كيف يمكنك أن تعكس الحقائق المضمرة بين السطور؟ فكر في الاحتمالات التالية: منسقة زهور طلقها زوجها مؤخرا، تساعد عروسا شابة في اختيار زهور حفل الزفاف؛ زوج يشكو لصديقه المقرب إحساسا غامضا بأن مشاعر زوجته تغيرت نحوه، ثمة علاقة عاطفية بين الزوجة وهذا الصديق؛ أب يساعد ابنه في تجهيز حقيبة السفر للعمل في الخارج، الأب يشجع ابنه ويداعبه، لكنه يضمر مشاعر أخرى تغلبه أحيانا. •••
في الفصل التالي وقفة عن علاقة الكتابة بفن الطبخ.
سر الطبخة بداخلك
أحلى من أحلامك
الكتابة تشبه الطبخ شبها كبيرا. أحيانا لن تنفش الكعكة، مهما فعلت، ولكن من وقت إلى آخر ستجد أن طعم كعكتك أحلى من كل أحلامك بها.
نيل جايمان
هذا التشبيه
إذا كنت مهتما بالكتابة، فمن المتوقع أن تكون مهتما بالطبخ أيضا، ولو على سبيل الفضول، دون ممارسة فعلية لهذا الفن الخاص. ولعلك سمعت أو قرأت أكثر من كاتب - كما في مقولة نيل جايمان السابقة - يشبهون الكتابة بالطبخ، ولا بد أن في هذا التشبيه بعض الحقيقة، حتى يتكرر ويتردد.
إن إنتاج طعام طيب وشهي ومفيد لا يبتعد كثيرا عن إنتاج عمل فني طيب وشهي ومفيد، بالاعتماد على بعض مقادير طبيعية أو صناعية، على أدوات بدائية أو متطورة، وبالثقة في الوصفات المجربة أو في ضربات الحظ والمصادفات والتجريب من نقطة غير مسبوقة بالمرة.
لم يتوقف الأمر عند مجرد التشبيه؛ فبعض كبار الكتاب اشتهر بولعه بالطبخ وممارسته؛ منهم على سبيل المثال ألكسندر دوماس الأب، صاحب المسرحيات العديدة والروايات التي اشتهرت عالميا لسنوات مثل «الكونت دي مونت كريستو» و«الفرسان الثلاثة»؛ فقد كان ذواقة خبيرا بالأطعمة، وإن كان رضي بأن الناس قد تجد أخطاء في قصصه، فقد كان يفخر دائما بأنه أستاذ لا يبارى في فن الطهي. لا شك أننا لو بحثنا أعمق لوجدنا أمثلة أكثر على هذا الولع عند كتاب آخرين، وأذكر كتبا أدبية اعتمدت في بنائها وحبكتها على فعل الطهي؛ منها مثلا رواية «مثل الماء للشوكولاتة» للكاتبة المكسيكية لورا إسكيبل، التي تحولت إلى فيلم جميل، وترجمت إلى العربية بعنوان «الغليان»، وهناك - بالطبع - كتاب «أفروديت» للروائية التشيلية إيزابيل آلندي، التي ربطت بخيط حريري ما بين الطعام والحب.
لعبة الحظ والمقادير
في كتابه «العالم بحسب جارب»، كتب جون إيرفنج:
إذا كنت حريصا، وإذا استخدمت المقادير المناسبة، ولم تحاول اتخاذ أي طرق مختصرة نحو هدفك، فغالبا ما تستطيع أن تطبخ شيئا طيبا للغاية. أحيانا يكون الشيء القيم الوحيد الذي يتم إنقاذه من يومك هو ما تصنعه لتأكله، أما مع الكتابة فأرى أن بوسعك اختيار جميع المقادير المناسبة، وتمنح الأمر كل ما تستطيع من وقت وعناية، ومع ذلك لا تصل إلى شيء؛ هكذا هو الأمر مع الحب. ومع ذلك، يبقى الطهي قادرا على أن يحفظ العقل لكل من يحاول جاهدا.
ربما تتسم هذه الرؤية لإيرفنج ببعض الإحباط، غير أنها ما زالت تؤكد على ذلك الخيط الواصل ما بين فن الطهي والكتابة، ففي الحالتين يجد المبدع نفسه أمام خيارات لا نهاية لها، لكن ما يوجهه في لعبته هو هدفه الأساسي، ماذا يريد أن يبدع؟
ربما تشعر بالارتباك والضياع إذا ما أسعدك الحظ بدخول مطبخ واحد من كبار الطهاة، لكن المؤكد أنه لا يستخدم كل ذخيرته تلك كلما أراد أن يعد فطورا خفيفا أو يقلي بيضة على السريع. إنك لست مضطرا على الدوام إلى الاستعانة بجميع ترسانة الأدوات والتقنيات التي تقرأ عنها في لعبة السرد، عليك أن تختار بعناية وفقا لهدفك من الطبخة، فالكثير من الوصف - على سبيل المثال - قد يساوي الإفراط في التوابل التي قد تهدد المذاق الأصلي لنوع اللحم الذي تعده.
ثم هل تريد أن تعد وجبة خفيفة لشخص أو اثنين، أم وليمة عيد لعشرات الضيوف؟ هل تريد أن تقدم موقفا مكتنزا ومشحونا أم عالما فسيحا يرتحل بين الأزمنة والأمكنة والشخصيات؟ أجب عن أسئلتك تلك أولا لتعرف أي أدوات مطبخك أنت بحاجة إليها، وأي مقادير سيكون عليك الاستعانة بها، وبأي كميات، وموعد إضافة كل منها، ولاحظ أن المنتج النهائي لوجبتك لن يكون مجرد تجميع لتلك العناصر والتقنيات، بل هو شيء أكبر وألذ؛ حيث تختلط تلك النكهات والمذاقات في فم القارئ بحيث يكون من العسير عليه أن يفصل أيا منها عن الآخر.
كل مرة جديدة
كل من وقف في المطبخ لإعداد طعام ما يدرك أنه لا يستطيع - مهما حاول - أن يصل إلى الطعم نفسه مرتين، ففي كل مرة تهرب النكهة وتتجدد، مهما حرص على تكرار الوصفة ذاتها بحذافيرها. هكذا أيضا يعرف كل من جلس أمام الصفحات البيضاء للكتابة أنه - في حقيقة الأمر - لا توجد وصفة نهائية بالمرة؛ قد توجد نصائح، إرشادات على الطريق، شرح لكيفية استخدام أدوات المطبخ وأسرار الخضراوات والأعشاب، لكن معرفتك بذلك كله لا تضمن بالمرة تجنب المفاجآت، قد تكون مفاجأة سارة، حين تكتشف بالمصادفة عنصرا جديدا يمكن إضافته إلى الوصفة القديمة، أو حين تكتشف - إذا كنت سعيد الحظ وموهوبا حقا - وصفة جديدة من الألف إلى الياء. لذلك كله فإن سر الطبخة لا يوجد في كتاب أو في برامج الطهي، سيوجد فقط حين تبدأ العمل، سيوجد فقط حين تتدفق منك الكلمات على الورق، السر الحقيقي بداخلك أنت، وما عليك إلا اكتشافه بالممارسة والتجربة.
اطبخ بحب
قد يتردد المرء على أشهر المطاعم ويأكل من أيدي أفضل الطهاة، لكنه لن يستطيع أن ينسى مذاق وجبة أعدت من أجله هو، أعدها شخص يحبه ويهتم به. لا تضع نفسك في موضع أشهر الطهاة، فمع كل حرفيتهم وخبرتهم لن يستطيعوا تسريب ذلك الحنان والمحبة إلى أطباقهم كلما طبخوا إلا نادرا، لا تتخذ من الطبخ مهنة، أو تطمح إلى إنتاج تلك الوجبات السريعة المتشابهة والمقدمة لملايين الأشخاص بكميات هائلة، بل اكتب كأنك تعد وجبة منزلية صغيرة لشخص واحد فقط، شخص تحبه وتهتم به، وستكون أسعد لحظات حياتك حين يغمض عينيه قليلا مستمتعا، وهاتفا: «الله!» •••
في الفصل التالي نبدأ رحلتنا مع عناصر المشهد ومهارة الوصف.
افتح عينيك
أن ترى
مهمتي هي أن أستعين بقوة الكلمة لكي أجعلك تسمع، وأن أجعلك تشعر، وقبل ذلك كله، أن أجعلك ترى.
الكاتب الإنجليزي «جوزيف كونراد»
النظر: عتبة أولى
ولكن قبل أن يستطيع أي كاتب أن يجعل قارئه يرى، ألا ينبغي عليه هو أولا أن يكون قادرا على الرؤية؟ الرؤية بالمعنى الواسع والعميق، وليس مجرد امتلاكه حاسة البصر؛ لذلك نتوقف قليلا أمام مسألة النظر، والتطلع إلى مفردات العالم ، وتدريب العين كمحطة أساسية لا غنى عنها، قبل أن يتناول الكاتب قلمه ليحاول أن ينقل مفردات هذا العالم إلى ألفاظ لغته؛ ويمكننا بعد ذلك أن ننتقل إلى رسم المشهد ومهارة الوصف، في اطمئنان إلى اجتيازنا العتبة الأولى لتذوق ما حولنا؛ فتح العينين على اتساعهما والتطلع بانتباه.
وبمناسبة هذا التقابل بين مفردات العالم وألفاظ اللغة الإنسانية، لن تجد صعوبة في أن «تلحظ» هذه العلاقة بين النظر والرؤية وبين العقل والتدبر؛ وكلمة «تأمل» أوضح مثال على ذلك - إذ تحمل الدلالتين - ويتبنى الناس وجهات «نظر»، أو يغيرون «منظورهم» للأمور، والتصرف الحكيم هو «عين» العقل، والتصور من الصورة، والرؤية ابنة البصر ونتاج التمعن كذلك. ويحفل تراثنا العربي ولغتنا المصرية العامية كذلك بالتعبيرات التي تربط النظر بالفهم والإدراك، وإذا استدعينا أمثلة فلن نستطيع أن نتوقف، بداية من الاستخدام القرآني لفعل النظر بمعنى التدبر، ومرورا بمسألة فيها نظر، وليس انتهاء بالتعبير العامي «تفتيح عين صغار السن»، في معرض الحديث أمامهم عن حقائق الحب والزواج.
يمكن لهذا الاستطراد اللغوي أن يقودنا إلى تقابل أوضح للكاتب، بين ما يراه بالعين وما يعبر عنه بالكلمة؛ فإن معرفتك بأسماء الأشياء يمكنها أن تساعدك على أن تراها جيدا، وبالتالي أن يراها قارئك، حتى يصدقك ويفهمك؛ فلا يكفي أن تقول له عن تلك الأداة المعدنية الرفيعة اللامعة التي يستخدمها بعض الأطباء والصيادلة؛ لأن هذا الوصف يصدق على عشرات الأشياء. من المهم أن تقول له «السباتيولا» أو الملوق، كما قد يترجمها البعض، ثم صفها على راحتك لو أردت.
المقصود هنا هو أنك لا تستطيع أن ترى لونا ما إن لم يكن لديك مفردة تدل عليه؛ ستختلط جميع درجات الأحمر وتتحول بأطيافها اللانهائية إلى مجرد لافتة واسعة تدعى كلها باسم واحد هو «أحمر». قال الفيلسوف النمساوي لودفيك فينجشتاين ذات مرة: «إن حدود لغتي هي ذاتها حدود عقلي.» وقال أيضا: «لا تفكر، بل انظر!»
لم يكن لدى الإغريق القدامى كلمة تعبر عن اللون الأزرق، وكانوا يسمون لون البحر «النبيذ الداكن»، وإحدى قبائل غينيا الجديدة ليس لها كلمة تعبر عن اللون الأخضر، فأوراق الشجر هناك إما فاتحة وإما داكنة فحسب. والمقصد هنا أن تبحث عن أسماء الأشياء بينما تراها، أو حتى أن تمنحها أسماء جديدة خاصة بك على سبيل اللعب. صف العالم بينما تتجول في أرجائه، لنفسك أولا، ثم للآخرين، واعتد ذلك الطريق الواصل ما بين الشيء الملموس وبين المفردة الدالة عليه، ومن شأن بحثك في معاني المفردات وظلالها وجذورها أن يضيف إلى عينيك نورا جديدا، وإلى نظرتك حدة وتألقا؛ وبحسب فريدريك نيتشه: «إذا ما حدقت في الهاوية لوقت طويل؛ فإن الهاوية أيضا تحدق فيك.» فالمسار بينك وبين مكونات الوجود من حولك ليس طريقا ذا اتجاه واحد، بل باتجاهين، ومن يدري، لعله متعدد الاتجاهات!
كأنك مسافر
إننا نريد أن يرى القارئ ما رأيناه بالضبط، ولكننا غالبا ما نمضي في حياتنا غير منتبهين لما نراه نحن أنفسنا؛ فنرى حين ينبغي علينا أن ننظر، ونلمح حين ينبغي علينا أن نحدق. وهناك مصور فوتوغرافي وثائقي - يدعى ووكر إيفانز - قال ذات مرة: «حدق! إنها الطريقة الوحيدة لتعليم (تثقيف) عينيك.» أما الشاعر وليام بليك فقال: «يمكنني أن أظل ناظرا إلى عقدة في لوح خشب إلى أن تثير في الذعر.»
إننا نرى فقط ما يهمنا، ننحي جانبا وبسرعة كل ما عدا ذلك مما يبدو غير ذي أهمية، غير مفيد، عاديا أو مملا أو تافها، إلا أن الحقيقة هي: ليس هناك صورة لا تستحق الرؤية، لا يوجد تفصيل قد لا يكون مهما للكاتب؛ فكأننا بحاجة لأن نتعلم من جديد كيف نبصر الأشياء، كيف نرى بحدة ودقة وعمق، وكيف نستخدم حاسة البصر كما يليق بها في حياتنا، ثم في كتاباتنا.
توقف للحظات بينما تسير في الطريق والتقط شيئا صغيرا وأمعن النظر فيه؛ اكتب في دفترك سطرا أو اثنين عن جزئية رأيتها لتوك؛ استخدم كاميرا والتقط بها صورة كل يوم. لم تكن الشاعرة الأمريكية إليزابيث بيشوب تسافر إلا ومعها نظارة معظمة، وقد رآها أحد الطلاب ذات مرة تراقب بها قطيع أبقار ترعى أمام فندقها. اعتبر نفسك مسافرا يا أخي، ولو بضع دقائق كل يوم، فعندما نسافر تغسل حواسنا وعيوننا بالأخص؛ ننتبه، نصحو، نلاحظ أشياء قد لا نلتفت إليها بالمرة في أحوالنا المعتادة، نمتص بحواسنا الروائح والألوان والمذاقات، نتأمل المعمار والشوارع وأزياء الناس، يتفجر بداخلنا نبع الفضول الذي أوشك على الجفاف، نصير أقرب إلى شخصيات في رواية أو قصة. لتكن هذه الحالة من الحضور المحض اليقظ هي هدفك في حياتك اليومية؛ انتبه، وانظر، وادخر.
أخيرا
أن تحدق أي أن تفكر.
سلفادور دالي •••
في الفصل التالي المزيد حول تدريب العينين على الالتقاط.
انظر بقلمك
أخبرنا بما ترى
قال الشاعر الفرنسي بول فاليري: «هناك فرق بين أن نرى شيئا ما ونحن نمسك بقلم رصاص في يدنا، وبين أن نراه دون ذلك.» فكأننا لا نرى بأعيننا فقط، وكأن مجرد إمساكنا بقلم رصاص يمكنه أن يمنح فعل الرؤية امتدادا آخر؛ بحيث ينفتح على المفردات التي بداخلنا، وعلى الآخرين من حولنا كذلك.
ككاتب، يجب ألا تكتفي باستخدام عينيك فقط في النظر، تذكر خيالك، وكن واثقا أن لكل شيء حكاية يمكنك أن تحكيها إذا ما طرحت الأسئلة المناسبة؛ اسأل نفسك عن أصل هذا الندب القديم على وجه عابر في الطريق، أشعل فضولك حول تلك السيارة القديمة التي يتراكم عليها الغبار منذ سنوات، اخلق حكاية لشرفة تراها دائما محتشدة بالنباتات والزهور دون أن ترى فيها أي إنسان بالمرة.
مجرد النظر إلى الأشياء يغير منها
ربما لا يمكنك أن ترى شيئا ما حقا إلا حين تشرع في كتابته؛ على سبيل المثال: توقف عن القراءة الآن وتأمل المكان الذي تجلس فيه للحظات، ثم أنعم النظر فيه من جديد بينما تكتب وصفا بسيطا له. انظر، ماذا ترى؟ ابحث وراء ما هو ظاهر وواضح كل الوضوح، ثم اسمح للبصر أن يقودك ربما إلى حواس أخرى شقيقة كالسمع والشم واللمس؛ ليتجلى المكان بكل أبعاده الحسية على سطورك. أغلب الظن أن المكان ذاته لن يظل بعد هذا التمرين كما كان يبدو قبل كتابته، وهو ما يصدق على كل شيء آخر تنظر إليه بقلمك، وتعيد رؤيته بكلماتك. سوف نتناول مهارة الوصف بمزيد من التفصيل فيما بعد، لكن يكفي الآن مبدئيا أن نربط فعل الرؤية بفعل الكتابة.
احترس من هواية تجميع كل شيء
قد يفهم البعض أن على الكاتب أن يلملم كل ما يظهر حوله ويحشره في إطار نصه، وهذا فهم قاصر بالطبع لفكرة الرؤية وكتابة ما نراه؛ أولا: لأن مشهدا واحدا فقط - مهما كان محدود المساحة زمنيا ومكانيا - قد نحتاج إلى صفحات عديدة لكتابة كل عناصره، وكل ما يظهر فيه من تفاصيل مرئية، فلن نستطيع بالمرة نقل كل شيء من الصورة التي نراها إلى الورق، وثانيا وهو الأهم: على كل كاتب أن ينتقي ويختار أي تفاصيل يريد تقديمها للقارئ؛ أي التفاصيل البصرية تنقل حالة بعينها، وأيها تميز هذا المشهد تحديدا عن كل مشهد آخر مشابه؟
إنها أقرب لعملية غربلة؛ لأن استبعاد كل ما هو غير أساسي أو ضروري للصورة هو ما يصنع إطارا لما تبقى فيها، يبرزه ويضيئه ويشير إليه. إنها تلك التفاصيل المهمة والمتبقية التي تصنع الصورة الكلية، وتحدد خصوصية كل كاتب؛ أي خصوصية «نظرته». في المرة التالية التي تجلس فيها لقراءة قصة أو رواية أحد كبار الكتاب، أبطئ من إيقاعك قليلا، وضع علامات على العبارات والجمل التي تخلق صورا بصرية قوية للقصة في خيالك. انتبه لاختياراته، وتأمل ما الذي قد يكون دعاه إلى تلك الاختيارات بعينها، وماذا قد استبعده من المشهد لانعدام قيمته بالنسبة إلى حكايته وغرضه المقصود هنا. إن مجرد تراكم التفاصيل في أحد المشاهد لا يعني شيئا في حد ذاته؛ المهم هو أن تشكل تلك التفاصيل حضورا ما، معنى مراوغا، مجازا دالا أو حالة غامضة تعكس ما لا يمكن أن يقال صراحة عن شخصياتك.
قمصان ملونة
في رواية «جاتسبي العظيم» للأمريكي ف. سكوت فيتزجيرالد، يلعب الوصف البصري دورا مهما على طول السرد، ويمكننا أن نتوقف عند واحد من أهم وأعذب مشاهد الرواية لتأمل التفاصيل التي قدمها فيتزجيرالد من خلال عين راويه.
يرد هذا المشهد في الفصل الخامس من الرواية، بعد نحو مائة صفحة، حين يتمكن جاي جاتسبي من إقناع نيك كاراوي بدعوة بنت عمه ديزي على الشاي، في مسكنه الصغير الذي هو أقرب إلى كوخ مقام بجوار حدائق قصر جاتسبي. تلبي ديزي الدعوة بأريحية دون أن تعرف أنها سوف تلتقي هناك حبيبها القديم، المرتبك الذي كاد صبره ينفد حتى أتت، وقد أعد كل شيء؛ الأزهار البيضاء التي تحبها، جز العشب، تلميع الفضة، ثم ارتدى خير بدله وراح ينتظر إلى أن فقد أعصابه، ثم وصلت ديزي أخيرا.
وبعد أن توقف المطر يأخذها هي ونيك - الذي نطلع على الحكاية كلها من وجهة نظره - ليريهما قصره بكل ما يحتوي من تحف وكنوز وعجائب، إلى أن يصل بهما المطاف حتى غرفة نومه؛ حيث «فتح لنا صوانين مصقولين يضمان مجموعة هائلة من الحلل والأردية وأربطة العنق، وقمصانه مرصوصة كأنها قوالب الطوب في أكوام عالية.» ثم يبدأ في إخراج تلك القمصان واحدا بعد الآخر، ويلقي بها نحوهما. ولا يفوت الراوي الانتباه إلى أوصاف تلك القطع؛ قمصان من الكتان الشفيف، ومن الحرير السميك، ومن قماش الفانلة الناعم الحر، وراحت تلك القمصان تفقد طيات كيها وتتناثر ويسقط بعضها فوق بعض على الطاولة في فوضى من الألوان العديدة؛ حيث أخذت تعلو في كومة. ثم سرعان ما يلتفت الراوي أيضا إلى الألوان؛ فقد كان من بينها قمصان مقلمة وموشاة بالنقوش، وكاروهات، وذات اللون الأحمر المرجاني، والأخضر التفاحي، والبنفسجي الفاتح بلون اللافندر، والبرتقالي الخفيف، وكلها كتبت عليها الحروف الأولى من اسم الوجيه الجديد بلون أزرق بحري داكن.
إن الوصف في هذا المشهد يتجاوز مجرد نقل أبعاد حسية وبصرية؛ إنه رحلة سريعة للجمال المدوخ، للثراء الفاحش، لأناقة الألوان والأشكال وملمس الأقمشة. بالطبع كل هذا يكون أقوى تأثيرا في سياق أحداث الراوية ذاتها؛ لذا لا تتردد في البحث عنها وقراءتها كاملة، وستجد فيها وفي غيرها من أعمال روائية عظيمة منابع متجددة على براعة انتقاء تفاصيل المشهد البصري وقوة دلالتها. •••
في الفصل التالي نستكشف ذلك الخيط الواصل بين القصص والصور الفوتوغرافية.
ما وراء الصور
لقطات «أحب أن أتطلع إلى حياة الناس على مدار عدد من السنوات، من دون استمرارية، وكأني ألتقطهم في لقطات فوتوغرافية؛ وتروقني الطريقة التي ينتسبون بها - أو لا ينتسبون - إلى الأشخاص الذين كانوا إياهم في وقت سابق.» هكذا عبرت القاصة الكندية الحاصلة على نوبل في الآداب «أليس مونرو»، في حوار أجري معها عن جانب الزمن فيما بين الفوتوغرافيا والسرد من علاقة؛ أي ما الذي يتبقى منا بعد سنوات؟ وأي خيوط ما زالت تربطنا بصورنا القديمة، أو انقطعت بيننا وبينها؟
والعلاقة بين الصورة والقصة أعقد وأعمق من هذا الجانب الزمني وحده، فكثيرا ما نشعر إزاء إحدى القصص أنها لقطة مأخوذة بعناية لتضع جزءا من الحياة بداخل إطار واضح فتبرزه حين تفصله عن سياقه الأوسع، أو العكس؛ أن نتخيل وراء صورة ما حكاية طويلة عريضة تحتشد بالإمكانيات داخل هذه المساحة المحدودة. والآن، بعد أن أكدنا بما فيه الكفاية سابقا على أهمية النظر إلى العالم بأعين مفتوحة على اتساعها، كيف يمكننا أن ننتفع بهذه العلاقة بين الصورة والقصة في تحريك حوافز الكتابة بداخلنا؟
صورة وألف كلمة
أغلب الظن أنك سمعت أو قرأت ذات يوم مقولة: «إن الصورة تساوي ألف كلمة.» الشائعة في عالم الصحافة بالأخص، وهنا يمكنك أن تترجم هذه المقولة فعليا بكتابة حوالي ألف كلمة عن صورة فوتوغرافية ما. يمكنك أن تبدأ بتحديد مصور تحب أعماله، أو أن تتصفح بعض مجموعات الصور القديمة في مجلدات خاصة بها، أو على مواقع على الإنترنت. واصل تأملها إلى أن تستحوذ على عينيك إحداها، وإذا شئت يمكنك بالطبع أن تمارس هذه اللعبة مع صورة قديمة من ألبومات عائلتك، وسوف تندهش من مقدار الحكايات التي قد تناوش خيالك بمجرد تصفحها. لكن لكي يكون التمرين محايدا قدر الإمكان، من الأحسن ألا تبدأ بصورة من تاريخك الشخصي، وأن تختار صورة تراها لأول مرة؛ حتى تترك المجال مفتوحا أمام خيالك. تأمل الصورة التي اخترتها جيدا؛ تكوينها وخطوطها وما فيها من أضواء وظلال، وقفات الأشخاص (إن كانت تضم بشرا)، تعبيرات وجوههم، إشارات أيديهم، ما يرتدون من ثياب، ما يمسكون من أشياء، إلى آخر كل تلك التفاصيل، حتى تشعر أنك أجريت مسحا بصريا دقيقا لكل ما تحتوي عليه الصورة، ثم أعطها عنوانا ما.
الآن، وتحت هذا العنوان، ابدأ الكتابة الحرة (هل ما زلت تتذكر تلك الأداة الشديدة النفع؟)؛ أي أن تكتب بسرعة، ودون توقف، ودون تفكير، كل ما يخطر لك ببال، لوقت محدد، أو لعدد محدود من السطور، عن انطباعك العام وإحساسك حيال هذه الصورة. لا داعي لتشغيل ماكينة الخيال في هذه الخطوة، فقط أطلق مشاعرك الأساسية في تفاعلك معها، فهذا ما يهم الآن؛ المزاج العام الذي وضعتك فيه، الحالة الوجدانية التي أثارتها.
اترك تلك السطور القليلة لبعض الوقت، وأعد تأمل الصورة من جديد. اطرح على نفسك أكبر عدد ممكن من الأسئلة الصغيرة: هل يذكرك هذا بشيء؟ أين هذا المكان؟ في أي زمن؟ في أي وقت من اليوم؟ من هم هؤلاء الأشخاص؟ ما طبيعة العلاقات التي تجمعهم؟ ما ظروف التقاط هذه الصورة؟ ما الأفق الذي يمتد خارج إطارها من حياة وتاريخ وطموحات وأسرار؟ لا توجد إجابات صحيحة أو دقيقة على هذه الأسئلة، فليس عليك أن تعرف الحقيقة وراء تلك الصورة، بل أن تخترعها، أن تغذي الانطباع الوجداني الذي أثارته بداخلك بمعلومات يمكنك أن تغزلها فيما بعد داخل نسيج حكاية لها ملامح واضحة، بعد أن تختار مثلا شخصية رئيسية من بين الشخصيات التي تظهر فيها، وتعطيها اسما وملخص حياة وأزمة مركزية. ماذا عن هذه الشخصية قبل عشر سنوات من تاريخ هذه الصورة، أو بعد عشرين سنة منها؟ إذا كنت تخشى ألا تتوصل إلى حكاية محكمة، فلا تشغل بالك بهذا بالمرة؛ كل المطلوب أن تستفز خيالك عن طريق العلاقة البصرية والوجدانية التي أقمتها مع الصورة القديمة بكل ما فيها ومن فيها.
ثبت اللحظة
إذا كنا انطلقنا في المحاولة السابقة من صورة بصرية نحو السرد، فيمكنك أيضا أن تمضي في الاتجاه المعاكس لذلك؛ أي من السرد إلى الصورة. إنها صورة غير موجودة إلا في خيالك؛ صورة حدث مهم وأساسي في حياة أحدهم؛ من حفل زفاف، أو من مراسم تأبين أو تكريم أو تخرج، أو من رحلة لا تنسى في مكان ساحر، أو لبعض مجرمين بعد القبض عليهم متلبسين.
في ألف كلمة هذه المرة أيضا، ثبت اللحظة ثم صف ما تراه بعين خيالك. حاول أن ترى بوضوح قدر ما يمكنك. اكتشف كيف يمكن لبعض التفاصيل المرئية في الصورة أن تنقل تاريخ وزمن وملابسات وتناقضات: قطعة ثياب، إشارة يد، نظرة شاردة، نقطة دم. أنت الآن المصور الفوتوغرافي المحترف، ولكنك تلتقط تحفتك السريعة بالكلمات، لست بحاجة إلى أحداث أو حبكات أو تاريخ للشخصيات؛ فقط ملامح وأضواء وظلال، فقط أشياء وكائنات وجزئيات صغيرة وكاشفة. يقاس نجاحك في هذا التمرين بمقدار ما يمكن لصورتك القلمية هذه أن توحي به وتكشفه للقارئ عن المخفي والمكبوت، وكل ما لا يظهر بالمرة في الصورة؛ لذلك فلتكن حريصا على أن تلتقط صورتك الفوتوغرافية الأدبية في لحظة تشي بجوهر هذا الطقس الخاص أو الحدث المحدد، وتكشف الصراع أو الأزمة؛ فحتى إن خلت قطعتك النثرية من الحركة والدراما؛ لا يجب أن تخلو من هذا التوتر الداخلي المكبوح.
ألبوم عائلي
ماذا لو عدنا من جديد إلى اقتراح «أليس مونرو» لتحويله إلى تمرين كتابة بطريقة ما؟ استدرج شخصية ما - يمكنك الاستعانة بشخصية تعرفها في الواقع - إلى لحظة تحاول فيها التسرية عن ضيف بالفرجة على ألبوم الصور العائلية، اجعلها تتتبع تغير ملامحها عبر سنوات، أو تكتشف تفاصيل للمرة الأولى في حياتها، أو تستدعي لحظات وشخصيات كان النسيان قد طواها. المقصد هنا هو أن تتعلم كيف تمد خيطا عابرا للحظات وللأماكن بمعاونة هذا الفن الشقيق لفنون السرد؛ الفوتوغرافيا. •••
في الفصل التالي نتناول مباشرة تقنية الوصف.
الوصف صنعة
الحواس جسور «الوصف: إشفاق على العابر؛ إنقاذ للزائل.» كأن الروائي التشيكي الكبير ميلان كونديرا في مقولته هذه يؤكد على ما يربط السرد بفنون بصرية أخرى؛ كالفن التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي، وكل طموح لتثبيت اللحظة العابرة ومد أجلها إلى ما لا نهاية .
وإذا كنا انطلقنا من فعل النظر وتحويله إلى فعل كتابة، يمكننا الآن توسيع مفهوم اختلاس الصور من العالم إلى سطور النص، بحيث نضم للبصر أشقاءه من حواس أخرى، هي الجسور الممتدة بيننا وبين كل ما يحيط بنا، وهي أيضا الجسور التي يمدها الكاتب ما بين قارئه والعالم الذي يسعى لتقديمه له، بكل ما يحتويه من صور وأصوات وروائح وطعوم وملامس وغير ذلك.
عبر تلك الجسور وحدها تستطيع أن تصحب قارئك إلى داخل عالم نصك، إلى درجة أن ينفصل تقريبا عن العالم المحيط به ليستغرق تماما في ذلك العالم المصنوع من كلمات. بهذا المعنى العام، يمكن أن يعتبر الوصف مفهوما متسعا شاملا، قد يحتوي اللعبة السردية بكاملها؛ أي كل ما ينقل مجريات الحكاية، أي كيف جرى ما جرى، لكنه كتقنية مفهوم أكثر تحديدا من ذلك، وهو كل ما ينقل خبرة حسية محددة من الواقع إلى اللغة، من قبيل: ما الذي يراه الراوي؟ ما الأصوات المحيطة بشخصياتك في مشهد ما؟ ما روائح مطبخ البيت الذي تدور فيه قصتك؟ كيف كان وهج الظهيرة في شارع عام عند وقوع حادثة، والإحساس بالقيظ؟
نقل تلك الخبرات الحسية له أهميته الخاصة في حد ذاته؛ للتأكيد على الإيهام بالواقع كما أشرنا، ولكنه يكتسب مزيدا من الأبعاد مع كل كاتب، وحسب كل نص وكل تجربة؛ فقد يعتمد أحد الكتاب على الوصف للإيحاء بخبايا وجدانية لدى شخصياته، أو لخلق جو عام محيط بها لتمتين الرسالة المقصودة، أو حتى لتحقيق تأثيرات جانبية في نفس القارئ، مثل أحاسيس الترقب والفزع والاضطراب وغيرها؛ أي إننا لا نصف لمجرد الوصف، ولا لأننا يجب أن نقدم للقارئ صورة واضحة للمحيط الذي تجري فيه قصتنا، على أهمية هذا الهدف، بقدر ما يمكن للوصف أن يلعب دورا جماليا مؤثرا بمقدار تأثير الموسيقى أو الفن التشكيلي، فقط إذا ما ربطناه بالمشاعر والأفكار والحالة الوجدانية لشخصياتنا.
كن وصافا
لهذا كله، فمن الضروري لكاتب القصة والرواية أن يحسن الوصف ويتدرب عليه بصورة مستمرة، حتى لو لم يكن ذلك في سياق كتابة نص محدد المعالم. لاحظ أننا لا نقصد بالوصف هنا استخدام الصفات (النعوت) عند كل مناسبة، فمن الكتاب من ينصح بالتقليل قدر الإمكان من الاستعانة بتلك الصفات الضحلة المباشرة من قبيل: امرأة جميلة، وفتاة ممشوقة القوام، ورجل عريض المنكبين، وتلك الكليشيهات الجاهزة. ومنهم أيضا من ينصح طلابه بمحاولة وصف شيء ما أو شخص ما دون استخدام صفة واحدة، ولا بأس في أن تحاول هذا التمرين على سبيل التجربة، لكن الأهم من ذلك أن تتدرب على الوصف عموما بصورة مستمرة، أو حتى لفترة من الوقت، بأن تخصص دفترا صغيرا لتدوين مشاهدات وانطباعات من حياتك، وتسجل فيه - كلما استطعت - رصدك لبعض الأماكن والشخصيات والكائنات والجمادات. ابدأ بما يثير فضولك وشغفك، وتوسع تدريجيا في اختياراتك؛ مهما بدا هذا التدريب غير ذي معنى لك الآن، فلن تعرف قيمته إلا حينما يتوجب عليك أن تلجأ إلى تقنية الوصف في سياق نصك الأدبي، وربما يكون ما عليك وصفه أبعد ما يكون عن خيالك.
صف وجوه وأجساد الناس في شارع مزدحم وقت الذروة، صف غرفة انتظار في عيادة، صف صالون الحلاق الخاص بك، صف غرفة فتاة قبل حفل زفافها بيوم واحد، صف مسرحا صغيرا في قصر ثقافة بعد يوم بروفات طويل، صف بائع فاكهة، صف قطة تلعق فراءها، صف ملعب كرة في مباراة نهائية. تذكر دائما ألا تعتمد على البعد البصري فقط، وشغل الحواس الأخرى قدر استطاعتك.
إياك والإسراف
على الرغم من أن بعض الكتاب قد يعتمدون تقنية الوصف كأساس لنص كامل، فإن هذا يحتاج إلى مهارة وحرفة لكيلا يفتقد عملهم التوتر اللازم، ويتحول إلى لوحة متجمدة أو صورة قلمية بلا حركة أو دراما؛ ذلك لأن مشكلة الوصف الأساسية أنه ساكن، ولا يدفع حكايتك إلى الأمام؛ لذلك ينصح كثيرون بأن يتسرب الوصف من بين سطورك في سياق الأحداث والحركة، دون أن تتوقف حكايتك من أجل سواد عيون الوصف. وهذا اقتراح وجيه، لكنه لا يلزمك بالمرة إذا استطعت أن تقدم للقارئ وصفا مشدود الوتر، ومكتوبا ببراعة، فلا يفلت منك الخيط.
في القصة القصيرة على وجه الخصوص، ونظرا لمساحتها المحدودة، يحسن بك ألا تفرد فقرات مطولة لوصف محيط الأحداث أو هيئة الشخصيات أو غير ذلك؛ دع القارئ يلم بذلك من خلال إشارات متناثرة وموزعة بذكاء على طول القصة، أو من خلال ضربات فرشاة سريعة وخاطفة، بحيث لا يكاد ينتبه إلى أن القصة توقفت لضرورة الوصف.
من ناحية أخرى، ولنذكر من جديد؛ لست مضطرا لأن تقدم لقارئك جميع تفاصيل مشهدك، وهي مهمة مستحيلة على أي حال؛ يكفيك أن تتخيل أوضح صورة ممكنة لما تريد أن تنقله، ثم أن تنتقي منه بعد ذلك التفاصيل الدالة واللمسات ذات الوقع والثقل. تلك الاختيارات هي ما يشكل إطار مشهدك ويضيء أركانه، وهي في النهاية ما يفرق بين كاتب يكرر الواقع بآلية الببغاء، وآخر يعيد خلقه من جديد عبر مصفاة خاصة، مصفاة تصعب على الوصف. •••
في الفصل التالي المزيد حول آليات الوصف وعناصر المشهد القصصي.
ثلاث ملاحظات حول الوصف
البلاغة بحذر
الوصف لاعب أساسي وعنصر لا غنى عنه في اللعبة السردية، ينقل للقارئ الخبرات والتجارب الحسية عبر وسيط اللغة، وعبر جسور الحواس، ويشعل خياله بحيث يتورط في عالم النص، غافلا - أو يكاد - عن العالم المادي المحيط به، كما أنه، عند إجادة استخدامه، يضبط نبرة النص، ويشي بخفايا الشخصيات، ويوحي بالجو العام لحكايتك دون تصريح مباشر.
يميل كثير من الكتاب إلى الاستعانة في فقرات وصفهم بالتعبيرات البلاغية، مثل المجاز والتشبيه إلى آخر ذلك من محسنات وزخارف أسلوبية، بينما يميل بعضهم إلى تجنبها إلى أقصى حد ممكن، ووصف التجربة أو الشخصيات وصفا تقريريا محايدا. وسواء اتخذت هذا الجانب أم ذاك، فإن لغة الكاتب ما أن تقترب من الوصف حتى تميل بطبيعتها إلى الحلي والزخرفة والبلاغة؛ فالناعم يصبح كالحرير، والبعيد يصير قمرا، والسريع ريحا، وهلم جرا؛ لذلك ينصح بالانتباه إلى مثل تلك المحسنات؛ فإن كان ولا بد منها، فلتكن جديدة غير مطروقة، ونابعة من العالم الخاص بالنص وشخصياته، وليست آتية من تاريخ الأدب وتراث البلاغة كأنها محفوظات أو موضوعات إنشاء.
يجب أن نعترف أن لتلك الأساليب بعض المزايا إلى جانب دورها الجمالي الواضح بالطبع، فهي قد تقرب لخيال القارئ حالة متخيلة ومركبة بدرجة ما، حين تعبر عنها في صورة قريبة منه ومن مفردات عالمه البصري. ويصدق هذا بصورة خاصة على استعراض الحالات الباطنية للشخصيات؛ عواطفها وهمومها الداخلية التي يصعب الإحساس بها دون تقريبها في صور بلاغية، أي ببساطة تحويل المعنى المجرد إلى صورة يمكن إدراكها بالحواس؛ ولهذا أهميته.
وإذا كانت الكاتبة الأمريكية «نانسي كريس»، في كتابها «تقنيات كتابة الرواية»، تربط ما بين القصة كاستعارة كبرى والاستعارات البلاغية الصغرى المستخدمة في نقل مشاعر الشخصية، من مقارنة واستعارة ورمز وغير ذلك، فإنها تحذر في الفصل نفسه من تحميل الجملة الواحدة قدرا أكثر مما يجب من المعاني، عبر صورة بلاغية واحدة، فتأتي النتيجة غير مؤثرة، بل مضحكة أيضا دون قصد الإضحاك بالطبع؛ لذلك فالبساطة هي حليفك عند اللجوء إلى البلاغة، فكلما عقدت الأمور وحاولت التوصل إلى صور مركبة، زاد احتمال سقوط التعبير في الغموض أو السخافة.
وهكذا فلتكن حذرا عند استعمال تلك الصور البلاغية في فقراتك الوصفية، سواء كنت تصف شيئا ماديا مثل مكان أو شخص، أم كنت تصف ما يعتمل في داخل أحدهم من عواطف وأفكار، وبقدر ما يتوجب عليك الابتعاد عن التعبيرات الجاهزة والسهلة، وتحري الأصالة والطرافة، يجب أن تبتعد عن الصور المركبة والمعقدة زيادة عن اللزوم؛ وبين هذين الحدين، يظل الأكثر أمنا هو الاقتصاد في استعمال الصور البلاغية لأقصى درجة ممكنة.
ضد الوصف
بعد أن أكدنا إلى هذا الحد على أهمية الدور الذي يلعبه الوصف في السرد، يجب أن نلتفت نحو الجهة المقابلة، ونعترف أن بعض الكتاب لا يرون في الوصف هذه الأهمية، مفضلين ترك مساحة واسعة خالية ليملأها القارئ من ذاته وخياله وتجاربه؛ فعندهم يكفي مثلا أن نقول «بيت»، وعلى القارئ أن يرسم البيت الذي يشاء في القصة.
وعلى الرغم من ضعف هذه الحجة، لأسباب عديدة، فإن علينا الإقرار أن مهمة الوصف لم تعد من المهام الأساسية للكاتب والأديب كما كانت في أزمنة سابقة قبل الفوتوغرافيا، ثم السينما بطبيعة الحال، فإن مشهدا لا يتعدى الثواني المعدودة على الشاشة قد يحتاج نقله في كلمات إلى ما لا يقل عن ثلاث أو أربع صفحات من وصف لأغلب تفاصيله وليس كلها؛ لهذا من الجيد أن ندرك الحدود التي صار يقف عندها الوصف في الكتابة السردية، واكتشاف إمكانيات أخرى بداخله، جماليا ونفسيا، غير تلك الإمكانيات التي استولت عليها الفنون البصرية وتجاوزته فيها. هنا يبرز دور اللغة من جديد، فإن اختيار مفردة ما للتعبير عن نباح كلب جريح بعد أن أصابته سيارة مسرعة؛ اختيار تلك المفردة يساوي في القيمة صوت الكلب وصورته على الشاشة. خصوصية الوسيط الذي تشتغل به هي نفسها نقطة قوته ومكمن تفرده عن بقية الوسائط والأنواع والفنون.
متى أصف؟
يحير هذا السؤال كتابا كثيرين، بسبب علمهم أن الوصف يبطئ من حركة السرد، ويهدد المشهد بالجمود. ولعلنا نجد الإجابة المثلى في صفحات القصص والروايات العظيمة، التي لا نشعر فيها بأن السرد قد توقف من أجل وصف طفلة أو جدار أو شكل السحب، بل إنه قد زاد توترا وتوهجا؛ لأن ذلك الوصف أتى مشتبكا تماما باللحظة السردية التي تقف فيها الشخصيات وأحداث القصة.
وعلى وجه العموم، ينصح بتجنب الوصف المطول في غمار مشهد حركة ساخن، أو حوار متوتر، إلا إذا كنت بحاجة إلى وقفة التقاط أنفاس، بالنسبة إلى شخصياتك وقارئك معا. ومن الأفضل دائما أن تصف من خلال أعين شخصياتك، فبهذه الطريقة ستصيب أكثر من هدف برمية واحدة؛ ستكشف عن طبيعة شخصيتك، وترسم المشهد، وتحرك السرد إلى الأمام، ثم إنك لن تضطر لوصف كل شيء إلا ما يجذب انتباه شخصيتك وفقا لطبيعتها التي تعرفها جيدا. ولا تصف شخصية إلا حين يكون لصورتها الخارجية تأثير على شخص آخر أو آخرين؛ فقد تسرد فقرات طويلة من حكايتك عن امرأة ما، دون أن نراها إلا حينما تدخل حفلة بصحبة زوجها ذات مساء، فيراها لأول مرة مدير زوجها في العمل؛ هنا ستجد اللحظة المواتية لتقديم صورتها جماليا ودراميا؛ هنا لن يراها القارئ فحسب، بل سيرى أيضا ما في نفس ذلك المدير، وكل ما يشحن هذه اللحظة من توتر واحتمالات ولعب. •••
في الفصل التالي مكونات المشهد.
تكوين المشهد
شذب مشهدك
في كتابة السيناريو - ومن قبله المسرحية - يعد المشهد هو الوحدة الأساسية لتركيب البناء الدرامي للعمل، على الورق ثم على الشاشة أو على خشبة المسرح. وعلى الرغم من أن كتابة السرد لها معاييرها المختلفة، واعتباراتها الخاصة بالوحدة، فهناك كتاب كثيرون يتخذون من المشهد لبنة أولى في كتابتهم السردية. آخرون غيرهم قد يميلون إلى الفصل أو الفقرة أو حتى الجملة الواحدة، غير أن المشهد يبقى له ثقله وأهميته في الكتابة السردية؛ إذ يظل غالبا هو الإطار المحدد للحدث.
المشهد ببساطة هو مكان وزمن وحركة، فعلى عكس الأحلام والخيالات لا يحدث أي شيء في الحياة الواقعة خارج نسيج الزمن والمكان، وإذا ما أدركت هذا فلا بد أن تضع حركة شخصياتك في هذا الإطار المحدد، وأن تقدمه لقارئك من خلال وحدة المشهد. لا يمكنك أن تشرع في وصف شخصية أو شيء أو حدث، إن لم تضع أولا الخطوط العامة لمشهدك ومحيطه. يمكنك الاستفادة من خبرات كتابة السيناريو في أكثر من نقطة، منها أن تعرف أين يدور مشهدك، وفي أي لحظة، قبل الشروع في كتابته. بالطبع لن يكون اختيار هذين العنصرين عشوائيا، لكن هذه قصة أخرى.
يشير الكاتب الأمريكي «سيد فيلد» في كتابه «السيناريو» إلى أن لكل مشهد - شأنه شأن التتابع أو الفصل أو السيناريو كاملا - بنية مكتملة؛ أي بداية ووسطا ونهاية، ومع ذلك فليس عليك إلا أن تعرض جزءا محددا من مشهدك، أن تركز العدسة على جزئية بعينها، كما أنك تستطيع أن تبدأ مشهدك السردي بعد نقطة بدايته الزمنية، فلا يجب أن تتقصى البدايات الأولى لكل شيء؛ أي أن تبدأ من المنتصف، وأن تنهي قبل النهاية الطبيعية أو المفترضة. إنها لعبة اختزال وتكثيف من أجل شد الوتر وضبط الإيقاع وعدم الوقوع في فخاخ الترهل والثرثرة. تخيل الآن مشهدا طويلا يدور في حديقة يوم عيد، لو تتبعت جميع تفاصيل أحداث اليوم منذ بدايتها وحتى آخر اليوم لأثقلت مشهدك بالبدايات والنهايات المتلكئة والزائدة عن الحاجة، التقط اللحظة الخاصة والمطلوبة وذات التأثير، ثم قص جناحيها الفائضين، لتبرز هي وتلمع.
لا يعني هذا بالضرورة أن المشهد يجب أن يكون قصيرا ومكثفا وسريعا على الدوام، فطول المشهد في الكتابة السردية يختلف عن طوله في العمل الدرامي الذي قد يخضع لاعتبارات عملية وإنتاجية عديدة، أما على الورق فقد يستمر مشهدك لصفحات عديدة، ما دام يوجد لديك ما يقال وما يضاف كل لحظة؛ وقد تختطف لقطة سريعة في بضعة سطور؛ هذا ما يخلق إيقاع سردك، المهم أن تعرف أي المشاهد يستحق أن يوجد أولا بين صفحاتك، ثم أن تحدد الطول المناسب له، وكيفية الانتقال بينه وبين المشاهد الأخرى، وهذه أيضا قصة أخرى أقرب لعملية المونتاج في السينما.
عناصر المشهد
إلى جانب عنصري الزمن والمكان، الأساسيين لأي تجربة إنسانية أو سردية - ما لم تكن حلما أو خيالا - هناك العديد من العناصر الأخرى التي يجب أن تضعها في اعتبارك وأنت ترسم مشهدا؛ وأهمها الشخصية. فهل يوجد شخص أو أكثر في مشهدك، أم أنه أقرب إلى الطبيعة الصامتة، مثل مجرد وصف لشارع خاو في الفجر؟ إذا كان هناك شخص أو أكثر، فماذا يفعل؟ وكيف يتحرك؟ وماذا يقول؟ وما ثيابه؟ وما هو التفاعل بينه وبين الآخرين؟ إلى آخر تلك الأسئلة التي يفترض أن تجيب عنها تلقائيا وأنت تكتب سردك. ثم هناك الإضاءة، طبيعية كانت أم صناعية؛ أهي شمس الظهيرة؟ أهي مصابيح ضعيفة؟ إلى آخره. وبالطبع أضف إلى ذلك الحواس الخمس، من سمع وبصر وتذوق ولمس وشم، كل ما يمكن أن يدخل عبر تلك الحواس قد يكون عنصرا من عناصر تكوين مشهدك، إذا احتجت إليه، ولا داعي لأن نكرر الآن أن كل تلك ألوان متاحة أمامك لتغمس فرشاتك فيها وتزين بها مشهدك، دون أن تكون مضطرا لاستخدامها جميعا في كل مشهد، المهم أن تضعها في محيط بصرك، وألا تغفل عنها.
ثمة عنصر مهم للغاية كثيرا ما يتناساه كتاب السرد - ربما لأن لديهم متسعا من الورق والحبر، على عكس كتاب السيناريو الذين يعملون تحت قيود إنتاجية واضحة - ألا وهو الغرض من ذلك المشهد؛ ما الذي يقوله؟ ماذا يضيف للحكاية ككل؟ ما الخطوة التي يدفع بها الأحداث قدما؟ هل يشي بالمزيد عن الشخصيات وطبيعتها أو أزمتها، أم أنه يطور طبيعة العلاقات بينها؟ إن لم يكن لمشهدك دور أو وظيفة سردية واضحة، فعليك أن تراجع نفسك بشأنه؛ فقد يكون حجر عثرة في طريق سردك، وإن كانت وظيفته جمالية فلا بأس، ولكن حتى المشاهد ذات الغرض الجمالي يمكن لها أن تلعب دورا في السرد، تماما كما يمكن للمشاهد الدرامية أن تتسم بمسحة جمالية على الرغم من أغراضها المباشرة والواضحة، فلا داعي لهذا الفصل الباتر.
العب مع المشهد (1)
اختر مشهدا طويلا من فيلم أو رواية، وأعد كتابته بحيث يكون أكثف وأقصر، ما الذي يمكن حذفه دون أن يخل هذا ببنية المشهد وبدوره؟ ثم اختر مشهدا قصيرا للغاية من فيلم أو رواية، وأعد كتابته بحيث يكون أغنى وأطول، ما الذي يمكن إضافته لعناصر هذا المشهد بحيث يكون أقوى أثرا دون المجازفة بالإطالة والترهل؟ (2)
اكتب قصة في مشهد واحد، في زمن ومكان محددين، وبشخصيات محددة، وأفعال وأحداث معدودة. (3)
اكتب قصة على طريقة كتابة السيناريو، التزم بوصف الحركة والحوار دون البوح بما في داخل الشخصيات أو أفكارها. اكتب الصوت والصورة فقط في بضعة مشاهد، ثم حاول الاستفادة من نتاج هذا التمرين في كتابة قصة مشهدية بعيدا عن شكل السيناريو.
كن منسق مناظر
الناس أماكن أيضا
لا يمكننا أن نتذكر عائلة السيد أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ من دون أن نستحضر بيت العائلة، بغرفه وبئره وسطحه وطيوره وإيقاع دقات العجين في وقت مبكر من صباح كل يوم جديد. لا يمكننا أن نستعيد جي جاتسبي في رواية جاتسبي العظيم لفيتزجيرالد دون أن نتخيل قصره الساحر وحدائقه وحفلاته الأسطورية، كما لا يمكن أن نفصل ميخائيل بطل روايات إدوار الخراط عن الإسكندرية؛ مدينة طفولته وشبابه، ومكمن أحلامه وهواجسه وأشواق روحه.
بقدر ما يصدق هذا على أعمال الخيال وكتابات السرد، يصح أيضا على واقع حياتنا؛ فمن الصعب أن نتذكر صديقا قديما من غير أن يرتبط في ذكرياتنا بالأماكن التي جمعتنا به، وكم تغنى الشعر العربي القديم ولعا بالديار والأماكن والأطلال لمجرد أنها كانت شاهدة على وصل الأحبة والأنس بالمعشوق؛ لهذا يجب علينا أن نولي عناية خاصة بأماكن شخصياتنا؛ لأنها شواهد عليهم وهم شهود عليها، يعرفون بها وتعرف بهم. زقاق المدق هو نفسه الأشخاص الذين يعيشون فيه، وأبطال إبراهيم أصلان لا يمكن انتزاعهم من إمبابة والكيت كات وشارع فضل الله عثمان.
تلك الأماكن ليست مجرد ديكورات خارجية هشة مصنوعة من قماش ملون، ليست مجرد بيت وحارة وشارع ومدرسة ومكتب، بل هي نسيج السنوات والأعمار، في أركانها تتردد أنفاس من عاشوا فيها سابقا ومن يعيشون الآن، وعلى جدرانها ترتسم المصائر والحظوظ. إن لم ننتبه لهذا من حولنا؛ فلن نستطيع نقله إلى الورق. الإنصات لأصوات كل مكان، وتشمم روائحه الخاصة، وتلمس أبعاده، وتأمل مناظره؛ هو نقطة الانطلاق الأولى نحو تسكين شخصياتك في المحيط الملائم بها، ثم يأتي بعد ذلك التفاعل بينها وبين أماكنها، يأتي الاندماج أو الضجر، يظهر الحنين أو تثور الرغبة في الهرب، نشهد التكيف والألفة أو نراقب الضياع والاغتراب. على كل منا، إذا أراد أن ينقل خبرة شخصياته بالأماكن وما بينهما من صلات في حكايته، أن يكون معماريا بدرجة هاو، أو منسق مناظر بتعبير المهن السينمائية.
هذا البيت، هذا الشارع
ليس من الحكمة أن نكتب عن شارع لم نمش فيه ولو مرة واحدة على الأقل، حتى ولو كان دور الشارع في النص محدودا للغاية؛ إذ كيف نعرف درجة زحامه في ساعة محددة، وهل توجد فيه مدرسة أم كنيسة أم دار سينما؟ طبعا الخيال على العين والرأس، لكنه لن يكون كافيا على الدوام لكي تنقل لقارئك إحساس المصداقية. لا نتحدث فقط عن النصيحة القديمة، المشكوك فيها بدرجة ما: «اكتب عما تعرف.» بقدر ما نشدد على التجربة الحسية المباشرة. ويمكن للكاتب دائما أن يصنع من الفتات القليل الذي بين يديه أشياء كثيرة وجميلة؛ فلعل دقائق نقضيها في شقة أكاديمي عجوز متقاعد نستشعر فيها أنفاس وتاريخ هذا البيت، أضواءه وظلاله وإيقاعه الخاص؛ أو ساعة على شاطئ مدينة ساحلية، قد تكون من الكثافة والعنفوان بحيث نستطيع أن نجر البحر منها جرا إلى نصنا. المبدع هو أيضا إنسان محدود القدرات، وبالتالي لن يستطيع أن يعيش في جميع الأماكن وجميع الأزمنة ويختبر كل شيء في عمره المحدود، لكنه مع هذا يستطيع أن يشحذ حواسه ويتشبع بما يحيط به، ثم يحول ما استقبله إلى شيء آخر؛ شيء حقيقي وحاضر وحي أكثر من الواقع نفسه في بعض الأحيان، فإن مدنا مثل روما عند المخرج الإيطالي فيلليني، أو الإسكندرية عند يوسف شاهين، قد تجاوزت حدودها الطبيعية وصورها الأصلية لتصبح أيقونات خالدة، بعد أن نفخ فيها كل فنان من روحه، وسكب فيها دمه وعصارة أحلامه.
يبقى أن نكون محددين قدر ما استطعنا، فلا نكتب عن دار ريفية بسيطة، بقدر ما نصف تلك الدار بكل ما يمكن أن نراه فيها ونسمعه ونلمسه ونشمه، بتاريخها وأسرار غرفها المغلقة، ولا نكتب عن شارع في مدينة هادئة، بقدر ما نلاحق هذا الشارع حتى نكتشف وجهه الخفي، وعلاقته الخاصة بتلك المدينة تحديدا.
غرفة البطل
شخصيتك، بطلك الرمزي حتى لو لم يكن يملك أيا من أمارات البطولة وسماتها، هو نفسه مكان معيشته، بقدر أو بآخر؛ ما الذي يوجد في غرفته من أثاث؟ أهي مزدحمة، منظمة، خانقة؟ ما المنظر الذي يطل عليه حين يفتح نافذته؟ ما الأصوات التي تصل إليه في فراشه؟ إن لم تعرف أمورا مثل تلك؛ فأنت لم تتعرف على بطلك بعد. المقصد هنا أن تتخيل كل ما يحيط بشخصياتك في أوضح صورة ممكنة، وربما لا يكون المكان ككل مهما بقدر أهمية بعض تفاصيله الخاصة؛ صورة معلقة على جدار، رائحة الغراء ونشارة الخشب تنبعث من ورشة نجارة قريبة، أصوات دواجن في عشش السطوح، إلى آخره.
اكتب بالمكان (1)
قص صورة شخص لفتت انتباهك من صحيفة أو مجلة، وبعد يوم أو اثنين قص صورة أحد الأماكن؛ قد يكون منظرا طبيعيا أو غرفة أو مكانا عاما. الآن فلتزوج هذا الشخص لذلك المكان في فقرة سردية صغيرة، وانظر هل ينسجمان معا؟ ما الذي قد يجمعهما، وفي أي ظروف؟ (2)
اختر ثلاثة أماكن داخلية أو خارجية تركت أثرا هائلا في مخيلتك وحياتك؛ مدرسة أو شارعا أو غرفة أو مكان عمل. اكتب فقرة وصفية عن كل منها؛ حاول قدر استطاعتك أن تضع جانبا مشاعرك، وأن تصفها بقدر من الحياد والموضوعية وكأنك موظف حكومي يقدم تقريرا عنها. بعد فترة، اختر مكانا منها، وأعد كتابة الفقرة الخاصة به، مضيفا إليها ما تستحضره من مشاعر نحو ذلك المكان، وربما ذكرى أو أكثر تربطك به؛ وربما يستدعي المكان شخصا أو مجموعة أشخاص. لا تتردد في اقتناص كل ما يجلبه إليك هذا المكان، تدفق. قد تكون هذه بذرة حكاية جديرة بكتابتها؛ اغرسها في تربة خيالك الآن، وربما تفاجأ بنموها نبتة باسمة على سطورك ذات يوم. •••
في الفصل التالي المزيد عن عنصر المكان في السرد.
الأماكن كلها ملك يديك
رؤية
كل فن هو رؤية قادرة على اختراق أوهام الواقع.
المصور الفوتوغرافي الأمريكي «أنسل آدامز إيستون»
بلا حدود
لا بد من التذكير بأن المبادئ والأفكار التي نعرضها هنا هي أبعد ما تكون عن الإحاطة التامة بجوانب اللعبة السردية، وبعناصرها الكبرى، وخصوصا مع عنصر على قدر كبير من الاتساع مثل عنصر المكان في السرد، وضعت عنه مئات الدراسات وعشرات الكتب، ويزداد مفهومه بمرور العقود تطورا وثراء، وربما تعقيدا.
من الضروري أن نشير إلى هذه النقطة كلما أمكن؛ لأهمية عدم الاكتفاء بالخطوط العريضة لأي عنصر سردي دون محاولة التوغل فيه من وقت إلى آخر، وخوفا من فرط التبسيط الذي قد يصل إلى حد التسطيح عند التعامل مع أفكار ذات شأن؛ لذلك يجب ألا نتوقف عن النبش وراء هذا الجانب أو ذاك من جوانب اللعبة السردية، سواء أكان في داخلنا، عن طريق طرح الأسئلة والتأمل والاستكشاف العملي أحيانا، أم في خارجنا، عن طريق القراءة والبحث وربط الخيوط المتباعدة بعضها ببعض، لا سيما حين نجد في أنفسنا ميلا خاصا نحو أحد جوانب لعبة السرد دون غيره؛ حبا غامضا لفكرة الزمن أو المكان أو الشخصية؛ على سبيل المثال: عندما تصير رحلة الاستكشاف والبحث واجبا وحقا بقدر ما هي متعة فكرية واعدة بالجديد مع كل خطوة.
فإذا اكتشفت أنك تهتم في كتاباتك بالمكان، وتحتفي به دون بقية العناصر، فلا تتردد في القراءة عن دوره وأهميته ومستويات دلالاته الاجتماعية والنفسية، بل الروحية كذلك، وكلما بحثت وجدت المزيد من الدراسات والكتب التي ستجعل المكان في خيالك - كما هو في الحقيقة - فضاء لا حدود له.
ما من مكان يضيق بالخيال
قد نعتقد في بعض الأحيان أن الأماكن التي نشأنا فيها، أو تلك التي نقضي فيها أغلب حياتنا، خانقة للخيال؛ أضيق من أن تزودنا بفسحة رحبة ومضيئة للعب والانطلاق. الخبر السار الأول أنه اعتقاد خاطئ تماما، وأن حدود أي مكان هي ذاتها حدود خيالك وفكرك ولغتك، حتى لو كان صندوقا صغيرا مغلقا، فما بالك بغرفة أو شارع أو ميدان؟! الخبر السار الثاني أن القول المأثور والمبتذل عن المحلية التي يمكنها أن تحتوي بداخلها العالمية، يحمل قدرا من الصحة على الرغم من شيوعه وتكراره. يمكن للجزء أن يوحي بالكل، كما يمكن تأمل العالم في حبة رمل، والأمر يعتمد على إنصاتك لما تخبرك به حبة الرمل.
إن حارات حي الجمالية والقاهرة القديمة انتقلت من طفولة نجيب محفوظ إلى سطور كتبه لتستوعب العالم كله بداخلها، كمجاز كبير للوجود الإنساني، واستطاع أن يستكشف في مساحاتها المحدودة كونا ذا رموز لا نهائية. اغسل عينيك من نظرة الاعتياد وأعد استكشاف ما حولك، محيطك المحلي هو مكمن شغفك ومواجعك وأحلامك؛ انطلق به واصنع منه شيئا آخر. إن شخصيات وأماكن الكاتب الكولومبي الشهير جابرييل جارسيا ماركيز، حتى في أشد تجلياتها سحرا ومفارقة للواقع، يستطيع أن يتعرف عليها هؤلاء الذين كبروا معه أو كانوا جيرانه أو أقاربه، على الرغم من هالة الخيال والسحر المحيطة بكتابته.
لا تظن خطأ أننا ننصح بالنقل الحرفي لما يحيط بك، بل بالاعتماد عليه كمواد خام أولية، قد تتحول إلى أحجار كريمة في معملك السري. وربما أفضل طريقة لأن «تعرف» مكانا ما هي اتخاذ مسافة منه، وتأمله من بعيد؛ فغالبا ما يقضي الاعتياد والألفة على الدهشة وحدة الملاحظة. الرحلة بعيدا، ولو لبعض الوقت، ضرورية وحاسمة بقدر رحلة العودة للموطن ذاتها، وربما لن تغوص حقا في أعماق مكان ما قبل محاولة الكتابة عنه، وما إن تبدأ كتابته حتى يتغير ويتبدل، ويتخذ سمتا ودلالات قد تفاجئك أنت نفسك. إنها تلك اللحظة حين نرى المكتبة في نصوص الأرجنتيني الأمهر خورخي لويس بورخيس ليست مثل أي مكتبة في الواقع بالمرة، وحارة محفوظ في الحرافيش وأولاد حارتنا والعديد من قصصه القصيرة التي نظن أننا نعرفها جيدا، لكنها صارت شيئا آخر محلقا وكونيا؛ إنها تلك اللحظة التي نهضت فيها قرية ماكوندو العجيبة - في رواية مائة عام من العزلة لماركيز - من رماد ذكرياته عن أماكن طفولته وصباه. تستطيع أنت أيضا إعادة تشكيل عالمك عند كتابته حتى يواكب خيالك ومطالب حكاياتك.
وقد لا يكون المكان مهما، حقا؟
في أحيان نادرة لا يكون لعنصر المكان أهمية كبيرة؛ نظرا لطبيعة الفكرة أو موضوع النص؛ يكفي مثلا أن تدور الحكاية في قرية ما أو حديقة عامة أو مصعد. غالبا ما يكون الهم الغالب على هذه النصوص فكريا بدرجة ما، أو أنها تميل نحو أسلوب الأمثولة التي قد تجري في أي زمن وأي مكان، على طريقة حكايات كليلة ودمنة أو نوادر القدماء، وتنبع قوتها من هذا تحديدا؛ أي من طبيعتها العامة والمتجاوزة لنسيج الزمن والأماكن. في حالة كهذه يجوز ألا يعنى الكاتب كثيرا برسم مكانه وتلمسه وتأطيره، وإن ظل في هذا قدر من المخاطرة بعدم إنعاش خيال القارئ بصريا. وحتى مع تلك النصوص، سوف يميل القارئ تلقائيا إلى أن يبتكر المكان بنفسه من مخزون صوره الخاص؛ ذلك لأن الفن تفكير بالصور، كما قالوا قديما، ومن غير تلك الصور نضل في عالم من المعاني والمجردات أقرب إلى كهوف الفلاسفة المعتمة.
جرب بنفسك (1)
حاول أن تتوصل إلى فكرة قصة - قرأتها أو كتبتها أو فكرت في كتابتها ذات يوم - لا يمثل فيها المكان أي أهمية، ولا دور له تقريبا، تصلح أحداثها لأن تقع في أي زمن وأي مكان؛ ما ملامح تلك القصة؟ ما وجه خصوصيتها؟ هل ستنتقص قيمتها إذا وضعتها في سياق زمني ومكاني محدد؟ كيف ستتغير؟ هل سيتبدد مغزاها وجوهرها أم فقط سيكتسب أبعادا أخرى جديدة؟ (2)
لعلك سمعت عن قصة المكان أو رواية المكان؛ ماذا يعني هذا المفهوم لك؟ هل سبق أن كتبت نصا كان المكان فيه هو البطل؟ ماذا عن قراءاتك السابقة؟ استرجعها وحدد أبرز الأمثلة التي تخطر لك. ماذا لو قررت أن تكتب قصة أو رواية مكان؟ أي مكان سيكون؟ ولماذا يستحق هذه البطولة؟ اكتب صفحة على الأقل تزكيه فيها، وتعرض أوجه اختلافه عن كل مكان آخر. (3)
تخيل مكانا يتحدث ويسرد من وجهة نظره ما كان شاهدا عليه لفترة محددة؛ فصلا دراسيا، مقعدا في حافلة عامة، سريرا في دار بغاء، قاعة اجتماعات في إحدى الوزارات، صخرة عالية على شاطئ بحر. أنصت واندهش واكتب.
فن الإنصات
ساعي بريد الأصوات
تحكي رواية ساعي بريد نيرودا - أو «صبر متأجج» بحسب عنوانها الأصلي - التي كتبها التشيلي أنطونيو سكارميتا، عن صياد شاب ساذج يهجر الصيد ليصبح ساعي بريد في منطقة ساحلية نائية في تشيلي؛ حيث الشخص الوحيد الذي يتلقى الرسائل ويبعث بها هو الشاعر المنفي هناك، بابلو نيرودا. مع الوقت تنشأ صداقة من نوع خاص بين الشاعر الكبير وساعي البريد الساذج، ويتحدثان عن الحب والنساء وأسماء النساء، وبالطبع عن الشعر، وكيف أن كل شيء موجود في العالم ربما يكون مجازا لشيء آخر أكبر وأبعد. انتقلت الرواية في عام 1994 إلى شاشة السينما، بإخراج مايكل ردفورد، لتصير فيلما ساحرا، حاز أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 1995. بعد أن انتهت ظروف النفي وعاد الشاعر إلى حياته المعتادة، نرى ساعي البريد، في سلسلة من لقطات جميلة، يسجل أصوات الطبيعة ليرسل بها في شريط إلى صديقه الشاعر الكبير، يمسك بالميكروفون الصغير ويهمس: رقم واحد: أمواج صغيرة. ثم رقم اثنين: أمواج كبيرة على الشاطئ ذاته في الصباح. ثم ثلاثة: الرياح على الجرف. أربعة: الريح وسط الشجيرات، وشباك صيد أبيه «الحزينة» (بتعبيره) وهي تخرج من الماء بالسمك، وقرع جرس كنيسة القرية. وحتى سماء الليل المفروشة بالنجوم يرسل له صوتها، وأخيرا دقات قلب ابنه الجنين في بطن أمه.
لقد أراد أن يرسل إلى صديقه الشاعر قطعة حية من المكان الذي عاش فيه لفترة؛ لم يختر أن يرسل له صورا فوتوغرافية، بل أحس أن الأصوات الفاعلة في المكان والمهيمنة عليه أكثر قدرة على استحضار الصور والذكريات والتفاصيل. لعلنا بحاجة إلى الاقتداء بساعي بريد نيرودا في كتابة نصوصنا، وألا نبخل على صديقنا القارئ بأصوات الأماكن التي تجري فيها حكايتنا، فزمن السينما الصامتة قد انتهى، ولا بد من اقتران صورك بأصواتها لتكفل لها شروط الحياة على السطور؛ فلتكن ساعي بريد الأصوات الذي يسجلها على صفحاته وينقلها بالكلمات إلى القارئ، فيعيرها أذنيه وينفخ فيها من روحه.
تحول إلى أذن كبيرة
كما هو الحال مع تدريب العين على النظر والرؤية والالتقاط والفرز، ينبغي علينا أن نرهف أسماعنا إلى أقصى حد ممكن؛ بحيث نتحول تقريبا إلى أذن كبيرة صاغية في انتباه يقظ إلى خليط الأصوات من حولنا في كل مكان. يقال إن هذه طريقة من طرق التأمل الروحي وتهدئة النفس، لكن المهم هنا أنها الخطوة الأولى لتستطيع استيعاب «شريط الصوت المصاحب للحياة»، بحسب عنوان مقال جميل للأديب ياسر عبد اللطيف؛ حيث يشدد على أن لكل مكان بصمته الصوتية الخاصة به، ويقارن في سياقه بين الإقامة في حي عابدين ثم المعادي، قبل الانتقال إلى كندا، والانقطاع المفاجئ في شريط الصوت الذي حدث له عندئذ.
في عملية فرز وتصنيف الأصوات المحيطة بنا سنجدها صناعية وطبيعية؛ الأولى مثل أبواق السيارات وهدير محركاتها، والأجراس، وكل ما يصدر عن أجهزة الراديو والكاسيت، إلى آخر كل مصدر آلي أو صناعي للصوت؛ ثم الثانية، كتلك التي أرسلها ساعي البريد إلى نيرودا: الريح والمطر وأصوات جميع أنواع الطيور والحيوانات والحشرات.
من حقل الطبيعة يبرز صوت الإنسان بنبرته الخاصة وطبقاته العديدة، حين يتكلم ويصرخ ويهمس ويغني. لكل صوت دلالته وسياقه وحمولته المعرفية والوجدانية، فما الأصوات التي تسمعها الآن؟ التقط أحدها واستقر معه لبعض الوقت، ثم انتقل إلى سواه، ثم أنصت إليها كلها مختلطة معا دون تمييز. ثم اسأل، عند الكتابة، ما الأصوات المحيطة بشخصياتك؟ ما طبيعتها؟ هل للمؤذن في المسجد القريب صوت جميل؟ أم أنه صبي رفيع الصوت؟ هل تسكن بالقرب من بطلك معلمة بيانو تنبعث التدريبات الموسيقية من شقتها على الدوام؟ أم تمر القطارات قريبا من مسكنك بانتظام؟ إن مجموعة الأصوات التي تنتقيها لتحيط بشخصياتك وأحداثك تساهم بقوة في خلق الجو العام والأثر النهائي المرغوب، وربما يكون لها أحيانا دور درامي في الحبكة: التصنت على حديث هامس يكشف أسرارا، الأصوات التي يسمعها معتقل أو شخص مخطوف في مكان مظلم تماما أو بعد أن عصبوا له عينيه، وبالطبع كل ما يتناهى إلى سمع شخص كفيف البصر، وهنا قد يلعب الصوت دور البطولة.
من الصمت إلى الضجيج
جرب كتابة قصة صغيرة تدور في مكان عام، مكان واسع الأبعاد ومحتشد بالناس؛ مثل محطة قطار، أو سوق في قرية، أو مظاهرة في شارع عام. اكتبها في البداية دون أي إشارة إلى الأصوات المحيطة بما يحدث، صف الحركة أو الصورة إن شئت، لكن تجنب واعيا الأصوات من أي نوع. اقرأ ما كتبته الآن، إلى أي حد تفتقد هذه الصورة النثرية إلى الحياة؟ هل تبدو مثل فيلم صامت؟ هل تبدو كأنها ملاحظات شخص أصم على ما يراه؟ والآن، أعد كتابتها بإضافة كل صوت في هذا المكان، بعيد أو قريب، طبيعي أو صناعي، كلام أو صراخ أو موسيقى أو صفير. لا تفصل تلك الأصوات عن الصور التي قمت برسمها من قبل، زاوج بينهما بحيث تنطق الصورة بكل ما لديها، اقرأ الآن ولاحظ الفرق. تستطيع بالطبع أن تنتقي على الدوام، وألا تراكم كل الأصوات بعضها فوق بعض دون حاجة حقيقية إليها في سياق السرد.
صلة قرابة
لعل الكتابة في أحد أبعادها تشكيل صوتي، بما أن كل كلمة هي صوت، ما إن نقرأه حتى نسمعه بآذان خيالنا في رءوسنا؛ لهذا ولأسباب أخرى يمكننا أن نلمس صلة قرابة عميقة وقديمة بين الأدب والموسيقى؛ إذ كلاهما يلعب على عامل الزمن، ولو بطرق مختلفة. تستحق هذه القرابة منا وقفة مستقلة وشيكة. •••
في الفصل التالي وقفة مع العلاقة بين الموسيقى والكتابة.
اتبع صوت الموسيقى
تنبيه مبدئي
لا نتحدث هنا عن الموسيقى كعنصر درامي بداخل السرد، سواء أكانت تلك هي الموسيقى التصويرية التي تعزف بينما تجري وقائع حكايتك، فتستمع إليها شخصياتك، أم تلك التي يتحدثون عنها ويغرمون بها ومن خلالها؛ فهذه مسألة أخرى، لا تبتعد كثيرا عن موضوع شريط الصوت الذي أشرنا إليه سابقا. نتحدث هنا عن الإحساس الموسيقي في كتابة السرد، عن صلة القرابة القديمة والعميقة بين صوت الموسيقى وصوت راوي الحكايات.
كلمة السر: الإيقاع
لعل كلمة الإيقاع هي أكثر مفردة تتأرجح ما بين عالمي الموسيقى وكتابة السرد، أو الأدب عموما، نستبعد هنا بالطبع الحديث عن الشعر الموزون لابتعاده عن اهتمامنا من ناحية، ولوضوح علاقته بالموسيقى من ناحية أخرى. الإيقاع في الموسيقى مسألة صوتية بحتة؛ تنظيم الأصوات المختلفة في الزمن، أطوال الجمل اللحنية وحدتها وطبيعة العلاقة فيما بينها. في المقابل يتصل الإيقاع في السرد بالمفردات، وهي كائنات مرئية ومسموعة في الحين ذاته، نراها ونتخيل أصواتها في عقولنا، ونستشعر عندئذ مدى تدفق الكلمات على الصفحة، طبيعة العلاقات بين كل مفردة وأخرى، بين كل عبارة أو جملة وما يتلوها، فقرة ثم أخرى، وهكذا بتركيب اللغة ينتج الكاتب موسيقاه الصامتة على السطور، فيسرع الإيقاع حينا أو يتباطأ، يتحول صوت الراوي إلى الهمس أو الصراخ أو النشوة الضاحكة غير المبالية أو جفاف وحياد التقارير الحكومية؛ لذلك يقال إن لكل كاتب صوته الخاص، وربما لكل كتاب أيضا طموحه الصوتي الخاص، وآلاته الموسيقية التي يستعين بها في توزيع «ثيمته» أو لحنه الأساسي.
حتى مع روايات قرأتها ونسيت تفاصيل أحداثها إلى حد كبير، إذا كانت مكتوبة جيدا؛ أي إذا كانت مكتوبة بإحساس موسيقي ما، فسوف يتبقى بداخلك ذلك النغم الخفي الذي عشته خلال قراءتك؛ أصوات الكلمات وتركيب الجمل وبنية الفقرات والفصول، وكيف ينتقل بك الكاتب من جزئية إلى أخرى، ومن حالة إلى ما يليها. ينتج كل كاتب هذا الإيقاع، سواء أكان على وعي به أم لا، وكلما درب أذنه موسيقيا، وكلما أنصت - بينما يعيش ويقرأ كتابات الآخرين - إلى تلك الإيقاعات الواضحة والخفية، استطاع أن يعزف حكايته منتبها لطبيعة اللحن الخاص بها وضروراته، وواعيا بخصوصية المادة التي يشتغل عليها؛ أي اللغة كأصوات قبل أن تكون معاني مجردة.
ادرس موسيقى اللغة
من الصعب أن تجد كاتبا ليس شغوفا بالموسيقى، والأمثلة على هذا الشغف سنجدها عند كبار الكتاب أينما ولينا وجوهنا، بداية من حرص نجيب محفوظ على دراسة الموسيقى العربية وتعلم العزف على آلة القانون، وليس انتهاء بقدرة التشيكي ميلان كونديرا على دراسة تاريخ الرواية في الغرب مرتبطا بتاريخ وتطور الموسيقى الكلاسيكية، وقد صرح الكولومبي الشهير ماركيز في إحدى الروايات بطموحه إلى أن يكتبها وكأنها قطعة من موسيقى «البوليرو».
تظل الموسيقى لغة عالمية قادرة على تجاوز الحواجز والثقافات أكثر من أي فن آخر، وليس معنى شغف الكاتب بها هو ترجمتها إلى السطور؛ فهذه مهمة عبثية ومستحيلة، ولم يكن هذا مقصد ماركيز أو غيره ممن استلهموا أعمالا أدبية عن الموسيقى، بقدر ما هي محاولة للوصول إلى درجة من انسجام البنية، وتناغم الأصوات المختلفة، واستعارة الإيقاع المضبوط لحكاياتهم. وتظل مادة الكاتب هي اللغة، بكل ما تشتمل عليه هذه الكلمة الصغيرة من متاهات وألغاز؛ لذلك لا غنى عن دراسة موسيقاها الخاصة؛ صوت كل كلمة على حدة، ثم علاقتها ببقية الكلمات. استقامة الجملة نحوا وصرفا شيء أساسي، لكنه مجرد خطوة أولى نحو إنتاج النغم. طول الجملة، وكيف تبدأ وكيف تنتهي، وطريقة النسج والتوليف والتصعيد، كلها أمور يمكننا أن نتعلمها من الموسيقى بأنواعها المختلفة، ولكن سيكون لها معان أخرى عند تطبيقها مع الكتابة على السطور .
إذا بدا كل هذا الكلام غامضا بعض الشيء، وغير عملي، يمكنك أن تجرب القراءة لكاتب تعجبك أعماله، أعد قراءة نص تحبه له، وأنصت لما نسميه هنا بالإيقاع؛ العلاقات بين المفردات والجمل، وانتقالاته، أنصت لكل جملة جيدا، ثم اسمع فقرة كاملة في داخلك وتتبع صداها، هل كان يجري بك لاهثا، أم يتمشى بك بطيئا متمهلا، أم يرقص في موضعه بلا هدف غير المتعة؟ هل كان يستخدم مفردات غليظة الحروف والأصوات، أم اختار كلمات هامسة كالفحيح الناعم؟ هل كانت جمله قصيرة خاطفة كأنها طعنات سريعة، أم طويلة وملتفة حول نفسها مثل طرق ضيقة ووعرة؟ من هنا يمكنك أن تتخذ خطوة أولية بسيطة في فهم الموسيقى الخاصة باللغة وإيقاع السرد، وربما تكون الخطوة الثانية هي أن تحاول محاكاة أكثر من إيقاع مختلف لتشعر به بين يديك وعلى السطور، وتذكر دائما أنه لا يوجد إيقاع مثالي وصالح لكل الكتابات والنصوص والحكايات، وإلا لما استمع البشر طول تاريخهم إلا إلى لحن واحد يتيم.
اسمع واكتب
على سبيل التمرين، ولمزيد من الإحساس بمعنى الإيقاع، يمكنك أن تجرب أحيانا الكتابة بالاستلهام المباشر للموسيقى؛ أدر أسطوانة تلك الأغنية أو القطعة الموسيقية التي تحبها من زمن، ابتعد عن كل ما يشتت انتباهك وأنصت بانتباه، وتتبع ما تولد بداخلك من أحاسيس ومشاعر، انتبه للإيقاعات والنغمات، وانس الكلمات تماما؛ ركز على المزاج العام الذي تحمله لك الموسيقى، وكن حرا ومبتكرا في تأويلك له، ثم انطلق في كتابة حرة بينما تستمع للموسيقى ذاتها، ولاحظ أنك لا تترجمها إلى كلمات، بل تكتب انطلاقا بما توحي به لك، استمد سرعة أو بطء حركة يدك على السطور من إيقاعاتها، كأنك واحد ممن يعزفون هذه الموسيقى، ولكن بآلة موسيقية مختلفة، هي لوحة المفاتيح أو القلم والورقة، وبصوت مختلف، هو الكلمات والصور والمعاني. كرر هذا التمرين مع أنواع مختلفة من الموسيقى، ربما يكشف لك أسرارا عن نصوص سابقة لك قد كتبتها على أنغام بعينها، وربما ستعرف فيما بعد كيف تختار الموسيقى الملائمة لطبيعة نصك أو حكايتك، أو ربما تفضل فيما بعد السكون التام عند ممارسة الكتابة حتى تستكشف نوع الموسيقى الذي سوف ينبعث من داخلك، ويتخلل السطور والصفحات.
بين قوسين
عتبة دارك
لكل بيت باب، وللنص الأدبي أكثر من عتبة وباب، أهمها بعد العنوان مباشرة البداية والنهاية، باب للخروج وآخر للدخول، السطور الأولى والسطور الأخيرة، كل منهما يلعب دورا حاسما في تشكيل علاقة القارئ بقصتك أو روايتك، فيمكن لبداية غير موفقة أن تنفره من دخول عالمك تماما، وتكون طاردة للسكان من حكايتك. وفي المقابل، للنغمة الأخيرة في النهاية أهميتها في تحديد الأثر الأخير للحن، وإشباع توق القارئ وفضوله، وقد تكون أحيانا عتبة لقراءة النص نفسه من جديد، أو اتخاذ قرار إما بقراءة جميع أعمال الكاتب الأخرى، وإما عدم الاقتراب منه مجددا؛ لذلك كله لا بد من الانتباه الشديد لعتبات بيوتنا؛ قوسي البداية والنهاية.
باب الدخول
تتناسب كل بداية مع مساحة النص، فإن قصة قصيرة للغاية مكتوبة في فقرة واحدة، لا تزيد بدايتها عن الجملة الأولى؛ وهكذا تتزايد مساحة البداية مع امتداد مساحة كل نص، فقد تكون الفصل الأول لرواية كبيرة. لذلك فلتكن مرنا مع مفهوم البداية (والنهاية بقدر كبير أيضا) بحيث تربطها بطول النص وطبيعته.
على البداية المكتوبة جيدا أن تصيب أكثر من هدف برمية واحدة، عليها أن تستولي على انتباه القارئ، بأن تجعله يتساءل أسئلة مثل: «وكيف حدث هذا؟ وما الذي حدث بعدها؟ ومن هؤلاء الأشخاص؟» لا بد أن تثير البداية في نفسه الفضول، وتبث في نفسه وعودا بمتع وشيكة. ثم إن البداية نفسها تقود القارئ إلى عالم الحكاية وخصوصيتها وشخصياتها، إلى زمن ومكان وجو عام، كما تؤسس لنبرة السرد، فيظهر من الجملة الأولى تقريبا إذا كنا بصدد دخول عالم شبحي غامض، أم واقع اجتماعي مباشر، أم أجواء نفسية وعاطفية مشحونة بالصراعات، إلى آخر نغمات لا نهائية محتملة لقصتك. ويمكن للبداية كذلك أن تطرح، منذ السطور الأولى، بذور الصراع - إن كان ثمة صراع خارجي واضح في حبكتك - أو الأهداف والرغبات المستحوذة على شخصياتك.
أما كيف نستحوذ على انتباه القارئ من السطور الأولى، فلا توجد إجابة نهائية محددة على هذا السؤال، بقدر ما عليك أن تكتشف الإجابة الأقرب إليك، والأنسب لعالم نصك، وعليك أن تكتب سطور البداية مرة بعد أخرى حتى تعثر على المدخل الصحيح، وبعض الكتاب مثل التركي أورهان باموق يقول: إنه يعيد كتابة الجملة الأولى أكثر من خمسين مرة حتى يعثر على النبرة المناسبة، كما يمكنك أن تؤجل كتابة جملة البداية حتى الانتهاء من النص تماما، فربما تصير الصورة أوضح أمامك حينئذ، وتستطيع أن تحدد النقطة الأجمل والأكثر سخونة لتكون عتبة دارك.
باب الخروج
لأسباب مختلفة، قد يستهين البعض بصياغة نهاية نصوصهم؛ منها مثلا أن القارئ قد وقع في الفخ وقطع الشوط كاملا، فلا داعي إذن إلى مزيد من المغريات، أو ربما لأن الإنهاك قد نال منهم، فلم تعد بهم طاقة للاشتغال على سطور النهاية. وهذا خطأ لا يقل جسامة عن إهمال سطور النهاية، وبالذات في القصة القصيرة، التي تشكل سطورها الأخيرة لحظة حاسمة في بنيتها ككل، أو ما يسمى بلحظة التنوير، وما تحمله من كشف قد يدعوك لإعادة القراءة من جديد.
إنها النغمة التي يتم بها اللحن، والتي تحدد أثره النهائي. وإذا كنت قد أجهدت نفسك في حبك مؤامرة طويلة على القارئ، فلا بد أن تقدم له مكافأة في نهاية رحلته معك؛ لا نقصد هنا ضرورة أن تحل جميع العقد وأن تحدث الأشياء السعيدة للأبطال، بقدر ما نعني أن يشعر بنوع من الإشباع في نهاية الطريق، أن ينظر وراءه في تلك اللحظة راضيا ومستعدا لمرافقتك في الرحلة ذاتها من جديد، أو في رحلات أخرى بلا كلل أو ملل.
يمكن لنهايتك - وهي أيضا قد تكون جملة أو فقرة أو فصلا كاملا، وفقا لمساحة نصك - أن تنجز خطة الحبكة التقليدية، فتصل الشخصية لهدفها أو لا تصل، ويمكن لها أن توحي بما طرأ على شخصياتك من تغير نتيجة كل ما مرت به، ويمكن أن تلمح للقارئ بأن كل شيء سوف يتكرر من جديد في تركيب دائري؛ حيث تنتهي الأمور من حيث بدأت تماما.
المراد أن احتمالات صياغة النهاية بلا نهاية، والمهم أن ترضي خيال القارئ وتشبع فضوله وإن لم يكن بدرجة تامة، وأن تتفق كذلك مع منطق النص والشخصيات، فلا ينصح بلي عنق الأحداث من أجل تقديم نهاية مبهرة وصاعقة ولا نظير لها، فهنا أيضا سيشعر قارئك بأنه قد خدع. البعض يحدد نهايته سلفا في عمله على الحبكة، والبعض يفضل أن يترك العمل يقود نفسه نحو النهاية الأنسب له، وفي الحالتين لا تجعل الخطة التي رسمتها بنفسك قيدا على خيالك وحرية إبداعك. تخيل نقطة مبدئية للنهاية، ولكن كن مستعدا للتغيير في كل لحظة؛ فقد تكتشف في نهاية هذا الممر أو ذاك الباب الأروع للخروج.
أعد رسم الأقواس
اختر رواية، أو فيلما، وتسل بتغيير النهاية والبداية. العب بالاحتمالات كيفما تشاء. تأمل ما قد يترتب على هذا من تغيير في بنية وأحداث العمل نفسه، ثم اختر قصة لكاتب تحبه وأعد كتابتها مع تغيير البداية والنهاية.
استعد قصة قديمة لك، واقترح لها عدة بدايات وعدة نهايات مختلفة عن الأصل. انتق من تلك الاقتراحات أنسب بداية وأنسب نهاية وأعد كتابة القصة بصورة مختلفة.
اقتبس جملة أو فقرة صغيرة من بداية عمل تحبه، واتخذ منها بداية لنص خاص بك، يتجه بهذه البداية بعيدا تماما عما كانت عليه عند كاتبها الأصلي، واكتشف إلى أين يمكن أن تذهب بها.
اهزم ذلك الحاجز
رعب البياض
لعلك سمعت من قبل المصطلح الإنجليزي
The writer’s block ، الذي يوحي بصورة حاجز كبير يعوق تدفق الكتابة، العقبة، الانسداد، أو ربما أيضا الحبسة، تلك الحالة التي تمثل «بعبع» كل كاتب محترف؛ اختفاء الكلمات وهروب الأفكار وتدلل الصور والمعاني، رعب التحديق في البياض، سواء أكان ذلك الذي في عقله أم الموجود أمامه.
ينقسم الكتاب فريقين حول ذلك النوع الخاص بهم من الرهاب؛ فريق منهم يعتبره مجرد خرافة، وأنه لم يعرفه ولم يجربه، فما إن يجلس أمام مشاريع الكتابة حتى تتدفق الكلمات والأفكار ببساطة، ويصرون على رأيهم هذا، مشجعين الآخرين على إنكار وجود هذا العفريت من الأساس. أما الفريق الآخر، وهو الغالبية المسكينة، فيقر بوجود شبح العجز عن الكتابة ويعمل له ألف حساب، ويحصن نفسه ضده بكل طريقة ممكنة، وفيما يلي نستعرض بعض تلك الطرق والوسائل التي تمكننا من القفز فوق ذلك الحاجز البغيض.
أي نوع من الانسداد؟
لا بد في البداية أن تحدد نوع الانسداد أو «البلوك» الذي تعانيه مع الكتابة، حتى تستطيع أن تعالجه بما يناسبه من حيل ووسائل؛ مثلا: هل هو مؤقت وعابر، يزورك بين الحين والآخر - وهو أمر طبيعي تماما ولا يسلم منه فنان مهما بلغ من مستوى الحرفية - أم أنه دائم ومقيم، واستمر لفترة أطول من اللازم؟ وهنا يتوجب عليك التحرك. هل له علاقة بأمور شخصية في حياتك، تستهلك طاقتك الروحية والإبداعية ولا تستطيع الفرار منها، وهكذا يكون عليك معالجة شئون حياتك أولا، قبل أن تستطيع الجلوس للعمل؛ أم أنه مشكلة مستقلة عن هموم حياتك التي تجري كالمعتاد؟ كل تلك الأسئلة والتحديدات وغيرها سوف تتيح لك أفضل تعرف ممكن على الطبيعة الخاصة لحالتك تلك؛ وبالتالي أفضل معالجة لها.
في البداية أم في المنتصف؟
إن لم يكن تحت يديك مشروع كتابة محدد، فهي حالة أخرى. أنت هنا بحاجة للبحث عن أفكار ومحفزات على العمل، ولست بحاجة لوسائل تعينك على تجاوز انسداد الكتابة. يمكنك الرجوع إلى المقالات القليلة الأولى في هذا الكتاب؛ حيث جمعنا فيها بعض وسائل فتح آفاق الكتابة واستلهام الأفكار. استكشف أدوات البحث المبدئية، من أجل تفجير الإمكانيات واكتشاف طاقات وعوالم وحكايات مختبئة بداخلك، عن طريق ألعاب مثل التداعي اللفظي، أو الكتابة الحرة، أو رسم العناقيد حول كلمة أو فكرة مركزية، ثم الكتابة المتشعبة أو الكتابة على كتابة سابقة، إلى آخر «عدة الشغل» التي تستخدمها عند بحثك عن مشروع جديد للعمل عليه، وتبقى القراءة هي الأداة الأمثل في ذلك المسعى؛ القراءة عموما، في كل شيء وكل مجال، مهما بدا بعيدا عن النوع الذي تكتب فيه.
أما الحالة الثانية، وهي ما سنحاول هزيمتها معا هنا، فهي تلك التي تصيب الكاتب في أثناء عمله على مشروع محدد، وخصوصا إذا كان طويلا نسبيا؛ حيث يشعر فجأة أنه قد وصل إلى حائط سد، وأنه لا منفذ يراه أمامه يستطيع المرور منه لاستكمال رحلة النص حتى آخره. فيما يلي بعض النصائح والإرشادات المستلهمة من كتاب وتجارب مختلفة، يمكن أن نجد من بينها ما يعيننا على رعب الصفحة البيضاء.
خمس مهارات لقفز الحواجز (1)
تكلم مع شخصياتك، افتح حوارا معها في ذهنك متخيلا، أو على الورق مكتوبا؛ فلعلها تسر إليك بسبب نأيها وابتعادها عنك، وتوحي لك بمفتاح استمالتها واستدعائها إلى عالم النص من جديد. (2)
ارسم في حرية تامة خرائط عقلية على صفحة كبيرة، انطلق بدوائرك وأسهمك من نقطة إلى أخرى، تفرع والعب واستكشف علاقات جديدة. اكتب الكلمات المفتاحية أو المشاهد الأساسية وكل ما تشعر أنه مركزي في عملك، وتبين إلى أي الاتجاهات يمكن أن تؤدي تلك المرتكزات. (3)
ابدأ من موضع آخر، فحينما تشعر بأنك محاصر في ركن ما، فليس من الحكمة أن تعاند وتصر على الاستمرار في السير باتجاه بعينه مهما بدا ميئوسا منه، انتقل إلى نقطة أخرى، اقفز بالأحداث للأمام قليلا أو ارجع بها للوراء؛ فأنت الآن لا تكتب النص النهائي الذي سيعرض على القراء بقدر ما تقوم بإحماء موتور الكتابة، وتستكشف المحاور التي يمكنها دفعك إلى العمل بحماس. كن حرا تماما في اختيار أي نقطة من النص تشعر أنك ترغب في كتابتها، بصرف النظر عن الترتيب أو البنية أو أي شيء. (4)
غير أحد عناصر الخلطة السردية؛ فقد يكون سبب العقبة التي تواجهك عدم التوفيق في اختيار عنصر ما، وعليك أن تراجع نفسك بشأنه حتى تستطيع المواصلة؛ عندئذ حاول تحديد أي تلك الجوانب هو سبب الأزمة. ربما تجد أن عليك تغيير الراوي؛ فإن الصوت الذي يحكي الحكاية قد يكون عائقا لك إن لم تنسجم معه بدرجة كبيرة، وهو ما يصدق على جميع العناصر تقريبا؛ وجهة النظر، وزمن ومكان الأحداث، بل ربما يتعين عليك مراجعة الشخصيات الرئيسية حتى؛ فربما تكون شخصية ثانوية أو غير موجودة بعد في حكايتك هي الأقدر على تغذية خيالك وتفجير طاقة الكتابة بداخلك. لا ننصح هنا أبدا بإعادة كتابة النص من أوله، وخصوصا إذا كنت قد قطعت فيه شوطا بعيدا، بل ما عليك إلا أن تجرب لبعض الوقت هذا التغيير الجديد، لسطور معدودة أو فقرات أو صفحات، ثم تأمل النتيجة واحكم بعدها ما إذا كنت سوف تستمر في الاتجاه السابق، أم يحسن بك أن تستجيب إلى التجديد الذي اخترته. (5)
اقتل الناقد الجاثم على كتفيك: كثيرا للغاية ينبع العجز عن الاستمرار في الكتابة من عدم رضانا عما كتبناه، ذلك الصوت السخيف المزعج الذي يوسوس لنا باستمرار، مستهينا أو ساخرا أو مشككا، وعندئذ لن يجديك أي شيء إلا القضاء على ذلك الصوت تماما، ولي عنقه لصالحك، والسخرية منه ودحض براهينه، وما هي إلا مسألة وقت وممارسة حتى تفاجأ بخرس ذلك الببغاء البشع أمام حركة يدك على لوحة المفاتيح أو صفحاتك البيضاء. قد تبدو هزيمته مستحيلة لبعض الوقت، لكنه ينكمش ويتضاءل ويختفي أمام إصرارك على العمل دون إصدار أية أحكام في الوقت الحالي، فللمراجعة والتحرير وقت سيأتي فيما بعد، ولكن ماذا يمكنك أن تراجع وتصحح إن لم تضع شيئا على الورق من الأساس.
إلى ما لا نهاية
شكل من الرقص
في كتاب سيرته الذاتية؛ حكاية الشتاء، يخاطب الروائي الأمريكي المتميز بول أوستر نفسه عن علاقة المشي بالكتابة قائلا:
لكي تؤدي عملك عليك أن تمشي؛ المشي هو ما يوجد لك الكلمات، وهو ما يتيح لك سماع إيقاعات الكلمات بينما تكتبها في ذهنك [...] تجلس إلى مكتبك كي تدون الكلمات، ولكن في ذهنك أنت لا تزال تمشي، دائما تمشي، وما تسمعه هو إيقاع قلبك، خفقان قلبك. يقول ماندلستام: «أتساءل عن عدد الصنادل التي انتعلها دانتي وبليت بينما كان يكتب الكوميديا الإلهية.» الكتابة شكل من أشكال الرقص ...
وسواء فضلت تشبيه الكتابة بالرقص أم بالسير، فالاثنان حركة، حركة إيقاعية منتظمة بالخطوات والإحساس الداخلي بالمسافة والهدف، أو حركة جمالية غير هادفة إلا لإنعاش الجسد والحواس منسجمة مع موسيقى خارجية مسموعة؛ المهم في ذلك أن تقطع الطريق حتى نهايته، ألا تتوقف في منتصف رحلتك لأي سبب، ألا تفكر في الاستسلام قبل الوصول لهدفك؛ ولهذا فإن مواصلة السير واستمرار الحركة هما الإجابة الأهم على كثير من أسئلة الكتابة، وخصوصا سؤال انسداد الكتابة واختفاء الكلمات والأفكار، الذي بدأنا حديثنا عنه في الفصل السابق. نتابع هنا اقتراح المزيد من المهارات التي تساعد الكتاب على اجتياز عقباتهم الخانقة، طالت أم قصرت.
عشر أدوات لكسر الجمود (1)
تمرن:
لا تقتصر فوائد تمارين الكتابة فقط على مساعدة المبتدئين في صقل مهاراتهم وامتلاك التقنية، بل يمكنها أيضا أن تكون أداة ناجعة في التغلب على انحباس صوت الكاتب المحترف. يمكننا الاستعانة بعمل تمارين كتابة في أوقات الانسداد، قد نستعين بتمارين قديمة ومجربة من قبل، وقد نبتكر تماريننا الخاصة التي تخاطب مكمن الداء الذي يهددنا. ينصح البعض هنا بأداء تمارين كتابة بعيدة نسبيا عن شكل المشروع الذي نعمل عليه، ثم الاقتراب منه تدريجيا بنفس آلية التمارين، ومثال على ذلك كتابة مونولوج من عشرة سطور على لسان شخصية في رواية تحبها، أو حوار بين اثنين تعرفهما، ثم تكرر تلك التمارين في المادة التي تعمل عليها. لا يشترط بالطبع الاستعانة بنتاج تلك التمارين في نصك؛ لأن الهدف هنا هو كسر حاجز الصمت، إلا إذا أسفرت التمارين عن نتائج مغرية، وهو ما يحدث كثيرا. (2)
حدد هدفا:
لا يطيق بعض الكتاب التفكير في أنفسهم باعتبارهم موظفين لدى الكتابة، وربما يكونون محقين في ذلك، غير أن خبرات كثير من كبار الكتاب تؤكد أن وجود الكاتب أمام عمله في موعد ثابت ومكان محدد بصفة يومية، من الأشياء التي تكفل له الاستمرار والتقدم في مشروعه بوتيرة منتظمة، وتبعد شبح الانسداد إلى أقصى حد ممكن. انس الآن صورة القيود الوظيفية ومفاهيم الروتين الكئيب، وفكر في موعد غرامي منتظم، تحدده بنفسك مع كتابتك، وجرب أن تضع جدولا زمنيا لعملك وأن تلتزم به، حتى على الرغم من انسداد الكتابة أو بالأحرى من أجل ذلك تحديدا. بعض الكتاب يحددون وقتا يوميا ثابتا، أو مستهدفا بعدد الكلمات أو الصفحات، ولو كانت صفحة واحدة يومية. إن تعاملك مع الكتابة بوصفها نشاطا يوميا، وليس حالة إبداعية غيبية قد تجيء أو لا تجيء؛ من شأنه أن يدرب ذهنك على الاستعداد الدائم، وحل المشكلات، وتجاوز العقبات. ضع موعدا نهائيا لإنجاز مشروعك؛ موعدا معقولا لا يعجزك تحقيقه، واطلب من شخص مقرب لك أن يتابع وتيرة تقدمك في عملك من حين لآخر، يفضل لو كان كاتبا لا يعاني انسدادا في الكتابة هو الآخر. (3)
استأنف البحث:
لعلك تسرعت في الدخول إلى مرحلة الكتابة دون أن تعطي وقتا كافيا لمرحلة البحث والقراءة والاستعداد، خاصة إذا كان مشروعك بحاجة حقيقية إلى تلك العمليات التحضيرية؛ عندئذ يتوجب عليك أن ترجع بضع خطوات إلى الوراء، وتستعيد رحلة البحث حول موضوع روايتك، أو زمانها، أو أماكنها، أو أن تطرح الأسئلة المناسبة على الأشخاص المناسبين، أو أن تعيد رسم خطة العمل ككل وتفكر في بدائل أخرى للحبكة ومسار الأحداث. لا تعد إلى الكتابة إلا وقد عرفت ماذا تريد أن تفعل، ولا تتسرع هذه المرة أيضا. (4)
ابتعد:
قد لا تتوقع هذه النصيحة، ولكنها كثيرا ما تكون في غاية الفعالية؛ اهجر الكتابة لبعض الوقت، ليس لفترة طويلة بالتأكيد. انهمك في نشاط آخر؛ نشاط عقلي أو بدني. إنها إجازة قصيرة؛ قد تكفي هنا جولة سير على القدمين - كما نصح بول أوستر - أو القراءة لكتابك المفضلين، أو ممارسة رياضة بدنية أو روحية، أو الخروج لمشاهدة السينما وتناول الطعام بالخارج ولقاء الأصدقاء. كل تلك اقتراحات؛ لذا اكتشف مفاتيحك الخاصة، فهناك من يفضل فنجان قهوة مضبوط على رحلة سفاري لأيام. (5)
جدد:
راجع طقوسك في الكتابة، وكل ما يحيط بها من عادات وظروف وبيئة واختيار للوقت؛ فقد تكمن المشكلة هناك، قد تكون بحاجة إلى مزيد من الهدوء، أو الصخب، قد تكون كاتبا نهاريا لكنك تصر على الكتابة ليلا، وقد يكون السبب ببساطة إهمالك لتغذيتك أو صحتك النفسية. تفقد كل تلك العوامل بداخلك ومن حولك؛ فقد تعثر على مربط الفرس، وعندئذ يتوجب التغيير والتجديد. (6)
انتقل:
كثيرا ما نعمل على المشروع غير المناسب لنا، ونظن عندها أنها أزمة انسداد كتابة عادية، ولكن الأزمة تكمن في طبيعة النص نفسه وعدم مواءمته لميولنا وطموحاتنا. لا بد أن تسأل نفسك: هل ترغب حقا في كتابة هذا النص؟ هل يستحوذ على كيانك، ويشعل نيران خيالك، ويحفزك بما يكفي لأن تتغلب على كل العراقيل؟ إذا تأكدت من ذلك فواصل العمل عليه، وإلا فلا تهدر مزيدا من الوقت، وانتقل إلى الكتاب الحقيقي الذي يسكنك وينتظر لحظة مولده ليعيش حياته. (7)
حاصر مخاوفك:
أحيانا تكون العقبة هي الخوف الداخلي من الكتابة ذاتها، أو من إنهاء المشروع وعدم نجاحه، عندئذ نحول تلك المخاوف دون وعي إلى عجز عن الكتابة. قرر أن تكمل نصك بصرف النظر عن مخاوفك تلك، حاصرها واهزمها، اكتب عنها أو تحدث عنها مع شخص مقرب، ادحضها واسخر منها، وكثيرا ما يكون مجرد فعل الكتابة كافيا لهزيمتها. (8)
اعمل على أكثر من مشروع:
ينصح بعض الكتاب بالعمل على أكثر من مشروع في الفترة ذاتها، والانتقال بينها عند الشعور بانسداد الكتابة في واحد منها، ويؤكدون أنهم عند الرجوع إلى المشروع السابق غالبا ما تكون الأزمة قد انحلت تلقائيا. إذا أخذت بهذه النصيحة فلتكن حذرا؛ لأنها بحاجة إلى درجة عالية من التركيز والاحتراف، فقد ينتهي بك الحال للطيران الخاطف بين عشرات المخطوطات التي لن تكتمل أبدا. ويفضل غالبا أن تكون مشاريع الكتابة ذات طبيعة مختلفة؛ فبعضها سردي وبعضها بحثي، بعضها مشاريع طويلة وأخرى قصيرة، وهكذا. (9)
عد للجذور:
إذا أعيتك كل تلك الحيل والوسائل، ووجدت نفسك ما زلت عاجزا عن التقدم في نصك، فربما تكون بحاجة لطرح الأسئلة الأساسية، ومراجعة أهدافك من الكتابة عموما، ومن العمل على هذا المشروع خصوصا. اسأل نفسك لماذا تكتب؟ لماذا بدأت هذا المشروع؟ ما هي شرارة الحماسة التي اشتعلت بداخلك في لحظة ودفعتك للجلوس والكتابة؟ هل ما زلت محتفظا بحماستك نحو ما تكتبه؟ وإذا فقدته فكيف يمكنك استعادته؟ تخيل كتابك أو نصك مكتملا، وتخيل قارئا مستغرقا في عالمه. احرص على أن تعود للكتابة في حالة من البهجة والتفاؤل والحماسة؛ والمفاجأة أن الكتابة ذاتها كثيرا ما تكون سبيلك إلى تلك الحالة. (10)
ابتكر:
الوسائل السابقة ليست قوانين، إنها اقتراحات مبنية على تجارب آخرين، وقد لا يجدي بعض منها معك؛ لذا عليك دائما الاعتماد على خبراتك الخاصة، فأنت أعرف الناس بمزاجك وظروفك ومفاتيحك الداخلية، ويمكنك مع الوقت والممارسة أن تضع قائمتك الخاصة بوسائل هزيمة ذلك الشبح المخيف. كما أنك ستكتشف صندوق أدواتك وتقنياتك خلال رحلتك مع الكتابة؛ المهم أن تواصل، بلا يأس أو تردد، إلى ما لا نهاية.
ملحق (أ): عشرة كتب مترجمة عن الكتابة
الإبداعية
ليس هناك أصعب من وضع قوائم بعناوين كتب لا بد من قراءتها في أي مجال؛ إذ تبقى على الدوام ثمة فرصة للإضافة والحذف والتبديل والتعديل، ولا يمكن الوصول لقائمة جامعة مانعة مهما تركزت عدسة موضوعها وتواضع طموحها.
الكتب العشرة التالية هي أقرب إلى عينة نموذجية لكتب تعليم الكتابة الإبداعية، وخصوصا كتابة القصة والرواية، وهي الأوفر حظا في عدد عناوينها، أضيف لها ثلاثة عناوين في أنواع فنية أخرى غير بعيدة القرابة عن السرد.
بطبيعة الحال تبقى هناك عناوين أخرى كثيرة في غاية الأهمية، لم تسنح لنا فرصة الاطلاع عليها عند إعداد هذه القائمة، منها مثلا كتاب ستيفن كينج «عن الكتابة»، من ترجمة سمير محفوظ بشير، وكتاب إيان رايد «القصة القصيرة»، من ترجمة منى حسين مؤنس، وغيرهما الكثير بلا شك.
لم ندرج كتبا مكتوبة بالعربية؛ لأن أغلبها قديم نسبيا، كما لم يكتب بغرض تعليمي واضح، بقدر شرح وتبسيط الجوانب الأساسية لفنون السرد، وعلى الرغم من ذلك فإن من بينها علامات لا يمكن إغفال قراءتها، مثل كتب أساتذة أمثال رشاد رشدي ويحيى حقي ومحمود تيمور.
كما تتجنب هذه القائمة كثيرا من الكتب الإنجليزية المهمة في فن كتابة السرد، التي نظن أنها لم تترجم بعد؛ وعلى هذا فإن أغلب عناوين هذه القائمة لا يصعب الوصول إلى نسخ منها، سواء أكانت ورقية من خلال المكتبات أو باعة الكتب القديمة، أم نسخة إلكترونية على مواقع الإنترنت المختلفة، كما أن أغلبها خرجت ترجمته العربية في صيغة مفهومة وسلسة، لحسن الحظ.
رسائل إلى روائي شاب «ماريو بارغاس يوسا»
عنون الروائي البيروفي الحائز على نوبل في الأدب، ماريو بارغاس يوسا، كتابه الصغير هذا، على غرار كتاب الشاعر الألماني ريلكه؛ «رسائل إلى شاعر شاب»، وصدرت طبعته الأولى في 1997، لكنها ليست موجهة مثل ريلكه إلى شاعر بعينه، بل إلى كل روائي شاب يطمح لامتلاك أدواته. صدرت الطبعة العربية الأولى عنه في 2005 عن دار المدى، في سوريا، بترجمة صالح علماني، وخلال اثني عشر فصل، يستعرض يوسا أهم محاور عملية الخلق الروائي من وجهة نظره، منطلقا من أهمية الميل الحارق نحو الكتابة، والشغف باستبدال الخيال بوقائع الحياة أو دمجهما معا، ثم ينتقل فيما بعد إلى عناصر مثل: القدرة على الإقناع، ومراعاة المصداقية، والأسلوب، والراوي، والمكان، ومستويات الواقع؛ حريصا في هذا كله على تجنب النصائح الجافة والمشهورة، وضرب الأمثلة التفسيرية من أهم الروايات، ودون أن يتردد أمام الكشف عن اختياراته وتفضيلاته الخاصة. وعلى الرغم مما في هذا الكتاب من آلية تعليمية واضحة، فإنه أبعد ما يكون عن التوجيه المباشر وترديد الإرشادات المحفوظة، حتى عند تناوله جوانب محددة من العملية السردية، مثل الراوي أو المكان، فإنه يسوقها نحو استكشافات جديدة على طريقته الخاصة، مضيفا إلى تلك العناصر ابتكارات لم تطرح من قبل بخصوص اللعبة السردية، من قبيل العلبة الصينية، وكيف تتداخل وتتوالد الحكايات بعضها من بعض على غرار ألف ليلة وليلة، وأيضا لعبة الأواني المستطرقة التي يشرحها باختصار على أنها علاقة بين المشاهد والحالات السردية المختلفة وما ينتج عنها من حالة كلية تتجاوز في تشابكها ما يطرحه كل مشهد على حدة.
وعلى الرغم من كثرة استعانته بالشواهد والأمثلة، لا يغفل يوسا عن التنبيه إلى أن المعين الذي لا ينضب للكاتب الروائي هو الحياة وليس الكتب: «فأصل كل القصص ينبع من تجربة من يبتكرها، والحياة المعيشة هي الينبوع الذي يسقي القصص المتخيلة.» أخيرا، يحتاج هذا الكتاب إلى درجة معقولة من المعرفة بفن الرواية وتقنيات السرد الأولية ، فهو يخاطب احتياجات أرقى لروائيين أكثر طموحا ومكرا، حتى لو كانوا لا يزالون شبابا.
تقنيات كتابة الرواية «نانسي كريس»
الأمريكية نانسي كريس، متخصصة في روايات الفانتازيا والخيال العلمي، وإلى جانب هذا تقدم فصولا تعليمية في الكتابة الإبداعية، ولها أكثر من كتاب حول فن كتابة الرواية، منها «تقنيات كتابة الرواية»، وعنوانه الفرعي: «تقنيات وتمارين لابتكار شخصيات ديناميكية ووجهات نظر ناجحة»، صدر عن الدار العربية للعلوم، ناشرون، عام 2009.
على عكس ما قد يوحي به العنوان الفرعي، فإن فصوله العديدة والغنية بالأمثلة التوضيحية وتمارين الكتابة المحددة لكل تقنية، لا تقتصر على مناقشة الشخصية ووجهة النظر، وإن كان لهما الثقل الأساسي، بل تمتد لتحليل مسائل مثل العواطف والانفعالات وطرق رسمها وإبرازها عبر آليات الحوار والمشهد والتفكير الداخلي للشخصيات؛ غير أن أهم أجزاء الكتاب، في ظني، هو الجزء الأخير الذي تفصل فيه الفروق الدقيقة بين استخدامات أنواع الرواة المختلفين، وخصوصية الضمائر المختلفة في السرد من متكلم ومخاطب وغائب وراو كلي المعرفة، فنادرا ما يوجد كتاب يعرض هذه المسائل ببساطة من غير تعقيد ورطانة كتب النقد المستغلقة غالبا على كثير من الشباب والمبتدئين.
لا نبالغ إذا اعتبرنا هذا الكتاب دليلا إرشاديا مبسطا، من الألف إلى الياء، نحو رسم الشخصية واختيار أنسب وجهات النظر لكل حكاية، حتى مع غلبة طابع الكتابة الدرامية (وربما التجارية) عليه، فيظل من الممكن دائما لكل كاتب أن يستغل الأدوات ذاتها ليصنع بها تحفته الخاصة، ولن يعدم القارئ الفطن عشرات النصائح الذكية المبثوثة في صفحات الكتاب، من قبيل: «إن عليك أن تتعلم أن تكون ثلاثة أشخاص في وقت واحد: الكاتب، والشخصية، والقارئ.» وعشرات من تمارين الكتابة المفيدة والهادفة لتمتين تقنيات وأدوات بعينها، مثل: «ابتكر شخصية كوميدية. أعطها مهنة وهدفا وشخصية. اكتب مشهدا قصيرا تتجادل فيه مع شخصية أخرى. اختر موضوعا غير منطقي تتجادلان حوله وبالغ فيه. هل تجد فيه بداية لرواية ترغب بكتابتها؟»
الرواية اليوم «مالكوم برادبري»
برادبري أكاديمي في اللغة والأدب، إلى جانب إنتاجه الروائي، مثل: «الاتجاه غربا» و«الرجل التاريخي»، وضع أكثر من مؤلف حول فن الرواية مثل «مقالات عن الحالة الروائية»، وأيضا هذا الكتاب الذي صدر عام 1978، وترجمه إلى العربية أحمد عمر شاهين، في 1996، ونشر ضمن سلسلة الألف كتاب الثاني، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. وهو مجموعة مقالات ودراسات لروائيين ونقاد من دول غربية مختلفة، ومن اتجاهات ومدارس متباينة؛ من بينهم: أيريس ميردوخ، وفيليب روث، وميشيل بوتور، وسول بيلو، ودوريس ليسنج، وغيرهم. هو أبعد ما يكون عن شكل الكتاب التعليمي الواضح المباشر، ومع ذلك فهو يرسم صورة جدارية ضخمة وتفصيلية لفن الرواية، في لحظة مهمة، تموج بالتغيرات والوقوف على التخوم بين منجز الحداثة الراسخ والإرهاصات الجسورة لما بعد الحداثة، بين الأدوار الشعبية لهذا الفن وطموحاته الجمالية السامية.
وعلى الرغم من انقضاء أكثر من أربعين عاما على نشر هذا الكتاب أول مرة في لغته، لا تزال المسائل التي يتناولها المشاركون فيه تثير القدر نفسه من الجدل والخلاف، من أمثلة ذلك تأمل الرواية لذاتها وتركيزها على الشكل، مقابل عدم الالتفات للسردية التاريخية والاجتماعية؛ أي غرام الروائي بصورته وآليات عمله والعكوف على تأملها، أو بتعبير فيليب روث: «يلتفت الروائي إلى ذاته، وتتكشف له قدرته وموهبته بوجودها وتصرخ فيه: أنا موجودة. ثم تلقي نظرة طويلة لطيفة قائلة: وأنا جميلة، فلماذا يلتفت إلى العالم إذن؟»
ما هو واضح أن الكتاب بحاجة لقارئ أكثر خبرة، ولكن حتى إن وجد الكاتب الناشئ بعض الصعوبة في الاستيعاب التام لجميع الأفكار والقضايا المطروحة، فعلى الأقل سوف يفتح له أبوابا للاستزادة والتأمل، والأهم أنه سيضع مهارات الكتابة الصرفة في سياق أوسع وأعم من الفلسفة والتاريخ وحركة المجتمعات، وهو المنظور الذي قد يغيب تماما عن أفق كثير من المبدعين، فيضعف رؤيتهم مهما امتلكوا من مهارات وتقنيات.
تقنيات الكتابة «عدد من المؤلفين»
هذا أيضا كتاب اشترك في كتابته مجموعة من الكتاب، ولكن على عكس الكتاب السابق، فهو دون محرر معروف يقدمه، وبلا أي أسماء كبيرة أو معروفة، إلا في سياق الكتابة الروائية الخفيفة والتجارية وذات الأنواع المحددة مثل الإثارة والجريمة ونحو ذلك ، وفيه نجد اسم نانسي كريس مرة أخرى على رأس ستة فصول من بين خمسة وعشرين فصلا، بلا مقدمة إلا ما أورده المترجم د. رعد عبد الجليل جواد، من إشارات مقتضبة، وليس هناك ما يشير لأصل الكتاب في لغته الإنجليزية أو تاريخ نشره؛ ولذلك ربما كان مجرد مقالات من مصادر مختلفة، جمعها المترجم لتصدر عام 1995 عن دار الحوار في سوريا. وعلى الرغم مما قد يبدو من ارتباك في أسلوب الكتاب، فإن الكاتب المبتدئ سيقع فيه على كنز من النصائح العملية والإرشادات التقنية المتنوعة، لا يربطها سياق أو نسق، ولكنها تضرب على أوتار بعض الاحتياجات الماسة في عملية الكتابة السردية، منها على سبيل المثال علاقة الحبكة الأساسية بالحبكات الفرعية، وطرق تجاوز معضلة انسداد الكتابة وإنهاء الكاتب لمشروعه المتوقف، ونقاط ضعف كتابة قصة الحب، والإجابة عن أسئلة من قبيل: ما الذي يجعل شخصياتك مشدودة؟ وتتناول نانسي كريس في واحد من مقالاتها الستة، مسألة غاية في الدقة والغموض، هي مراقبة الإيقاع في السرد، وتحاول جاهدة إيضاحها وشرحها قدر الإمكان، دون أن تجد بأسا في الإقرار بأن «الإيقاع ليس موضوعا سهلا للمناقشة؛ إنه معقد ودقيق، مثل الهواء باعتباره الجزء الأساسي للحياة، ولكن لا يتم الحديث عنه إلا متى فسد.»
أركان القصة «إي إم فورستر»
كما يمكن ترجمة عنوان هذا الكتاب إلى «أوجه الرواية» كما يؤثر د. ماهر شفيق فريد في مقدمته له، وعلى هذا فهو كتاب عن السرد عموما، وعن كتابة وقراءة الرواية خصوصا، وهو سلسلة من المحاضرات المترابطة ألقاها إدوارد مورجان فورستر، كاتب القصة والرواية والدراسات الأدبية البريطاني (1879-1970)، في ربيع 1927، بجامعة كامبريدج، وطبعت كتابا في العام نفسه. وأحدث نسخة عربية متوافرة من هذا الكتاب هي طبعة مكتبة الأسرة في مصر عام 2001، بترجمة كمال عياد جاد، وهو كتاب كفيل بأن يدفع القاص والروائي المتشبث بقوالب ثابتة وربما عتيقة في صنعته، إلى إعادة النظر فيها ومساءلتها بهدوء وروية، دون أن يواجه صعوبة ذات شأن في استيعاب الأفكار المعقدة المطروحة بأسلوب سلس وأمثلة ناصعة من روايات مهمة . يصدق هذا مثلا على تناول فورستر مسألة بناء الشخصية، والمسافة بينها وبين الناس في واقع الحياة، ثم تناوله الشخصيات الرئيسية وتعقدها وغناها في مقابل الشخصيات المساعدة أو المسطحة، التي كانت تعرف قديما بالأمزجة، لثبات خصالها عبر الحكاية. أما الكتاب الشباب ممن يقدسون إحكام الحبكة وتشويق القارئ، فإن الفصل المخصص لهم من هذا الكتاب قد يفلح في إقناعهم بأن مفهوم الحبكة أكثر من مجرد إثارة حب الاستطلاع والفضول في نفس القارئ، وأنه نسيج وغزل، وتقديم وتأخير، بحيث ننتقل من المستوى المباشر للحكاية بصورتها الفطرية والمباشرة، إلى مستوى الحبكة الروائية التي تخاطب الذكاء والذاكرة والإحساس بالجمال؛ إذ يقول: «والشعور النهائي (إذا كانت الحبكة جميلة) لا يكون شعورا بمفاتيح ألغاز أو سلاسل، ولكن بشيء جميل مترابط، شيء كان يمكن أن يرينا إياه الروائي بطريقة مباشرة، ولكنه لو فعل لما بدا هذا الشيء جميلا على الإطلاق.» هذا كتاب لا تسقط أخباره بالتقادم، شأن كل الجواهر التي يزيد الزمن من قيمتها وتألقها.
الصوت المنفرد «فرانك أوكونور»
لا أحسب أن هناك كاتب قصة قصيرة لم يسمع من قبل بعنوان هذا الكتاب، أو لم ينصح بقراءته ولو مرة واحدة على الأقل، فعلى مدى سنوات ظل مرجعا فنيا وجماليا لأجيال من القاصين العرب منذ أن ترجمه محمود الربيعي، ليصدر في طبعات مختلفة، لعل أحدثها طبعة خاصة عن المركز القومي للترجمة، بمناسبة ملتقى القاهرة الدولي الأول للقصة العربية القصيرة عام 2009؛ ولعله العمل الوحيد الذي قرئ وذاع صيته للكاتب الأيرلندي أوكونور (1903-1966)، الذي كتب ما يزيد عن المائة والخمسين مؤلفا بين القصة القصيرة والشعر والمذكرات والدراسات. والكتاب أقرب إلى جولة حميمة بين علامات وأساطين هذا الفن الصعب، ينتقل ما بين جيمس جويس وكاثرين مانسفيلد وهيمنجواي ودي إتش لورانس، حريصا على التأمل الهادئ المرهف لعالمهم وتجربتهم، دون أن يبتلعه تل الدوامات العفية، بقدر ما يستخلص منها لآلئ مشعة أقرب إلى علامات هادية. غير أن أوكونور لا يكتفي بالتنقل بين إبداعات هؤلاء، ولا ينتهي كتابه قبل أن يقدم دروسا شبه عملية في كتابة القصة القصيرة، مؤكدا على أهمية اختيار الموضوع، ويليه البناء العضوي للأحداث وإطلاق العنان للخيال، وقيمة التكثيف بالاستغناء عن كل ما ليس ضروريا، والحذر كل الحذر من الاسترسال، وخصوصا في كتابة صفحات أو مناظر عظيمة الجمال ليست لها في الحقيقة أية علاقة بالمراد قوله: «لا أزال أقول إن الكاتب ينبغي أن يلقي الرماد على ناره الخالقة، حتى يعرف على وجه الدقة الشيء الذي ينبغي أن توجه ضده هذه النار.» إنه كتاب ينبغي على كل عاشق لفن القصة، فضلا عن كاتبها، أن يدرسه بالورقة والقلم، وسوف يجد بين صفحاته الأصل النقي لكثير من الأكليشيهات التي تتردد على الألسنة في الندوات الأدبية دون تأصيل أو فهم عميق.
المرشد في الكتابة السينمائية والروائية «راشيل فريدمان بالون»
أحدث عناوين هذه القائمة، فقد صدر مطلع عام 2015 عن دار نشر ميريت، بترجمة إيهاب عبد الحميد، دون معلومات ذات شأن حول الكاتبة، سوى أنها تدرس في إحدى ورش كتابة السيناريو للمبتدئين، فصلا دراسيا متقدما يخص إبداع الشخصيات، بجامعة كاليفورنيا، وقد بدأت في وضع هذا الكتاب أساسا من أجل كتاب السيناريو الذين يعانون من مشكلات في البناء ورسم الشخصيات، وخصوصا أولئك الذين يقيمون بعيدا في المدن الصغيرة، ولن تتاح لهم فرصة الالتحاق بورش كتابة. غير أنها ارتأت بعد فترة من التدريس لكتاب القصة والرواية في نفس فصلها الدراسي، أن كلا من كتاب السرد والسينما يعانون المشكلات ذاتها ونفس الصعوبات مع البناء وتطوير الشخصيات، مع خصوصية كل وسيط ولغته وطرائقه، فصممت كتابها بحيث يكون صالحا لنوعي الكتابة.
يعد الكتاب مرشدا مبسطا يأخذ بيد الكاتب الناشئ، ويسير معه خطوة بعد أخرى على طول رحلة تطويره لعمله، منذ اختيار القصة وإتمام عملية البحث المستفيضة حول الموضوع، ومرورا ببناء الإطار العملي وبناء المشاهد أو الفصول، مع تركيز خاص على مسائل رسم الشخصية، مع إدراج بعض الأسئلة والتمارين العملية في نهاية الفصول القصيرة؛ لكي ينفذ القارئ عمليا ما يتعلمه، ويطبق تلك المفاهيم والتقنيات على مشروعه من سيناريو أو رواية. لا تدعو الكاتبة إلى تغليب الطابع التجاري الهوليودي، والشطح بخلق أبطال محلقين فوق الحياة العادية، بقدر ما تحرض على تأمل ما يحيط بالكاتب واستمداد أفكاره من تربته، كقولها: «بالنسبة إلي أكثر القصص نجاحا هي القصص الشخصية الصغيرة عن الإنسان العادي؛ القصص التي تتحدث عن أناس يريدون ما نريده أنا وأنت، يشعرون كما نشعر أنا وأنت، هي القصص التي يتماهى معها الجميع.»
ميزة الكتاب الأساسية إلى جانب بساطته الشديدة ووضوحه الناصع، هي اشتغاله على المفاهيم الأساسية في كتابة الحكاية عموما؛ المفاهيم التي لا تقتصر فائدتها وأهميتها على كاتب السيناريو والرواية فحسب، بل تمتد أيضا نحو أي مشتغل بالكتابة السردية والدرامية تحديدا، فما أحوج كثيرين من كتاب الدراما التليفزيونية الجدد - على سبيل المثال لا الحصر - إلى الرجوع باستمرار لمرشد من هذا النوع، لعلهم يهتدون!
السيناريو «سد فيلد»
إذا كان كتاب راشيل بالون السابق قد جمع في حزمة واحدة بين هموم كتاب السيناريو والرواية، فهناك الكثير من كتب تعليم السيناريو ينصح بقراءتها لكتاب القصة والرواية أيضا، ولعل كتاب السيناريو لسد فيلد هو أشهرها، وقد ترجم أكثر من مرة في العالم العربي، وله طبعة مصرية عن مكتبة مدبولي، بترجمة سامي محمد، تتوالى طبعاتها منذ عام 2000. ويعد سد فيلد مدرب كتابة السيناريو الأشهر في أمريكا، إن لم يكن في العالم كله، وقد سبق أن زار مصر ونظم ورشة سيناريو عام 2008، وتوفي في نوفمبر 2013 عن 77 عاما. ولا يكاد يترك في كتابه هذا صغيرة أو كبيرة حول فن كتابة السيناريو، شارحا المبادئ والمفاهيم، وضاربا الأمثلة الحية من أشهر الأفلام. ولا تقتصر أهميته على كتاب السيناريو، بل تشمل عشاق السينما والأدب والروائيين، وحتى إن تباينت في أحيان كثيرة أدوات الكتابة بين الأنواع المختلفة، يبقى الهيكل العظمي الدرامي مرتبطا بوشائج لا تنكر. سيجد القارئ هنا مرشدا مبسطا يتناول عملية كتابة السيناريو بداية من اختيار الموضوع وتهيئته وتغذيته، إلى خلق الشخصية وبنائها وتمتينها، ثم وضع تتابع الفصول والمشاهد، وفصلها عن الاقتباس، ثم بناء السيناريو وكتابته في أحوال التعاون المشترك. يزود فيلد أغلب فصوله بمشاهد مأخوذة من سيناريوهات أفلام معروفة، منها: راعي بقر منتصف الليل و«كريب» وغيرهما، معلقا وشارحا. وتعد الفصول الخاصة برسم الشخصية من أهم أجزاء الكتاب وأنفعها لكل كاتب درامي أو أدبي، ومن بين ملاحظات فيلد الثاقبة فصله بين الحياة الداخلية لكل شخصية وحياتها الخارجية كما نراها مع بداية الأحداث، ويقصد بالأولى سيرة حياة الشخصية السابقة على رؤيتنا له في سياق الحدث والقصة، وهي أقرب إلى بطاقة التعريف أو تاريخ وجوانب الشخصية المختلفة في حالة ساكنة، قبل اندماجها في القصة على الشاشة أو الصفحات.
عيوب التأليف المسرحي «وولتر كير»
على مدى سنوات، خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن السابق، واصلت دار مكتبة مصر نشر سلسلة عرفت باسم مكتبة الفنون الدرامية، من المسرحيات المترجمة، أشرف عليها وترجم أغلبها الأستاذ عبد الحليم البشلاوي، صدر فيها مسرحيات لجوركي وإبسن وأونيل ووليامز وبنتر وشو وكثيرين غيرهم، ومن بين عناوين تلك السلسلة صدر كتاب «عيوب التأليف المسرحي» بترجمة البشلاوي كذلك، ونتمنى أن تواصل مكتبة مصر نشر طبعات جديدة من هذه السلسلة المهمة، وولتر كير هو ناقد مسرحي أمريكي، عمل لسنوات في جريدة هيرالد تربيون، واشتغل أيضا بالإخراج المسرحي، وقد جمع في كتابه هذا ثمرة مسيرته مع عالم المسرح والدراما مشاهدا وناقدا ومخرجا، في صيغة تحذيرات ذكية لكل كتاب هذا الفن. وإذا كان تركيزه ينصب على حركة المسرح الأمريكي خصوصا، فإن أفق طرحه يمتد إلى تاريخ المسرح ومشهده الواسع في العالم كله، ويستدعي نماذجه الكبيرة مثل أنطون تشيخوف وهنريك إبسن وجورج برنارد شو. قارئ هذا الكتاب سيلاحظ خفة الروح التي يقدم بها الكاتب نصائحه؛ فعنوان أحد الأقسام: كيف تفقد الأصدقاء بتأثيرك في الناس؟ وعنوان آخر: كيف تفسد قصة جيدة؟ وفي فصل بعنوان: الزورق البطيء إلى لا مكان، يشبه المسرحية التي لا تتحرك فيها الدراما بتجربة الجاثوم حين يفقد الإنسان قدرته على تحريك جسمه مع اندفاع عقله إلى الأمام، قائلا: «لست أعرف على وجه الدقة نوع التجربة التي يمر بها الإنسان في يقظته، فتحدث ذلك الكابوس؛ ولكني أستطيع أن أتصور حدوثه بعد أية زيارة للمسرح الحديث.» فما أحوج كثير من كتابنا إلى نصائح وولتر كير الغالية.
كيف تكتب للأطفال «جوان أيكن»
ربما تكون الكتابة للطفل هي النوع الأقل حظا من حيث توافر المواد التعليمية والإرشادية، على الرغم مما تتسم به من دقة وما تتطلب من شروط خاصة؛ لذلك فإن العثور على كتاب صغير القطع وجميل الإخراج عن هذا الموضوع ليس أكثر من مصادفة سعيدة. وقد ترجمه كاظم سعد الدين وصدر في العراق عام 1988 عن دار ثقافة الأطفال، بعد تاريخ صدوره بالإنجليزية بستة أعوام فقط. وقد كتبت جوان أيكن أكثر من خمسين كتابا للصغار والكبار، وألقت محاضرات حول كتب الأطفال على أمناء مكتبات ومعلمين وكتاب وأطفال طبعا، في كل من أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة، ومن بين ما كتبت للأطفال: البحيرة المسروقة، والضيوف الظلال، ولمسة برد، واذهب اسرج البحر، وغيرها من كتب الكبار والمسرحيات. من بين الأسئلة التي تطرحها في كتابها الصغير والعميق هذا: «لماذا تريد أن تكتب للأطفال؟ من هم قراؤك؟ ما الفرق الأساسي بين الكتابة للأطفال والكتابة للكبار؟» وتؤكد أنه لا توجد طريقة واحدة للكتابة للأطفال؛ فأذواقهم تختلف في القراءة كما تختلف أذواق الكبار تماما. وإن فكرة أن الأطفال يستمتعون بقصص الكنوز المخبوءة في قلاع مهدمة، لهي أحد الأخطاء الأساسية التي يقع فيها المبتدئون في هذا الميدان، وكذلك الانطباع الذي مفاده أن كتب الأطفال يجب أن تكون بسيطة، لذلك فهي سهلة الكتابة. تزخرف أيكن كتابها بمقولات ومقتبسات عديدة لكبار الكتاب، مثل: دويستوفسكي وجان جاك روسو وجراهام جرين، حول العالم الخاص بالطفولة والكتابة للطفل، أو ذكرياتهم عن أولى قراءتهم وهم صغار. وهي أبعد ما يكون في كتابها هذا عن تسطيح الأمور والاستخفاف، بل إن بعض نصائحها جديرة بتطبيقها على كل كتابة أدبية بلا استثناء، من ذلك مثلا: «إذا وجدت صوتا لكتابك، حتى إن كانت الحبكة والشخصيات لا تزالان في الطور الجنيني من التطور، فإنك تكون قد كسبت نصف المعركة. ولا شيء يستحث تدفق القصة على الجريان مثل اكتشاف الصوت الذي تروى به ...»
ملحق (ب): نصائح لكتابة السرد من عشرين كاتبا
محترفا
إلمور ليونارد
نشر هذا الموضوع على جزئين في موقع صحيفة الجارديان. (1)
لا تفتتح كتابا بوصف حالة الطقس؛ وإن كان هذا بغرض خلق جو عام، وليس لرصد رد فعل الشخصية على حالة الجو، فلا تجعله يطول أكثر من اللازم. القارئ ميال أكثر لأن يقلب الصفحة باحثا عن الأشخاص. لا توجد استثناءات. أما إذا كنت بالصدفة باري لوبيز، الذي يملك سبلا أكثر مما يملك شعب الإسكيمو لوصف الثلج والجليد في كتابه «أحلام قطبية»، فعندئذ يمكنك أن تكتب كل تقارير حالة الجو التي تريد. (2)
تجنب الفصول التمهيدية: بإمكانها أن تكون مزعجة، خصوصا إذا كان التمهيد يأتي بعد مقدمة وردت بعد مفتتح؛ لكن من المعتاد أن توجد في الكتب غير السردية. التمهيد ليس إلا قصة جرت في الخلفية قبل بداية الأحداث، يمكنك أن تدسها في أي موضع تريد. هناك فصل تمهيدي في كتاب جون شتاينبك «الخميس العذب»، ولكن لا بأس في ذلك لأن إحدى شخصيات الكتاب تدعم قواعدي هذه، حين تقول: «أحب أن يحتوي الكتاب على الكثير من الحوار بين الشخصيات، ولا أحب أن يخبرني أحد كيف يبدو المتحدث. أريد أن أكتشف مظهره من طريقة حديثه.» (3)
لا تستخدم أفعالا غير «قال» لنقل الحوار. سطر جملة الحوار ينتمي للشخصية؛ وفعل القول هو الكاتب حين يدس أنفه، ولكن الفعل «قال» أقل تطفلا من أفعال مثل: «دمدم»، «شهق»، «حذر»، «كذب». لاحظت مرة أن ماري مكارثي أنهت جملة حوار بعبارة: «هكذا جزمت مغلظة الأيمان.» وكان علي التوقف عن القراءة والرجوع إلى القاموس. (4)
لا تلجأ إلى الحال لكي تعدل من فعل القول؛ مثلا: «قال عاتبا بجدية». استخدام الحال بهذه الطريقة (أو بأي طريقة تقريبا) خطيئة مهلكة؛ فالكاتب هكذا يكشف عن وجوده بدرجة خطيرة، مستخدما كلمات تشتت الانتباه ويمكنها أن تعترض تدفق إيقاع الحوار. لدي شخصية في أحد كتبي تروي كيف كانت تكتب الروايات الرومانسية التاريخية بقولها: «صفحات مليئة بالاغتصاب والأحوال.» (5)
احتفظ بعلامات التعجب الخاصة بك تحت السيطرة؛ ليس مسموحا لك بأكثر من اثنتين أو ثلاث لكل مائة ألف كلمة من نثرك. أما إذا كنت تملك براعة توم وولف في اللعب بعلامات التعجب وما يسبقها من كلام، فألق بها بالحفنة. (6)
لا تلجأ لعبارات: «وفجأة»، أو «ساد الهرج والمرج». وهذه القاعدة في غنى عن تفسيرها. لقد لاحظت أن الكتاب الذين يستخدمون «فجأة» يميلون لممارسة سيطرة أقل في تطبيق القاعدة السابقة الخاصة بعلامات التعجب. (7)
كن شديد الاقتصاد والشح في استخدام اللهجات الإقليمية واللكنات المحلية. ما إن تبدأ في كتابة الكلمات كما تنطق في الجمل الحوارية وملء الصفحة بالفواصل الموضحة للحروف المحذوفة، فلن تستطيع التوقف عن ذلك. لاحظ كيف استطاعت آني برولكس أن تلتقط النكهة الخاصة بأبناء ولاية وايومنج في مجموعتها القصصية «حلقة ضيقة». (8)
تجنب الوصف التفصيلي للشخصيات، وهو ما أحسن شتاينبك القيام به. في قصة إرنست هيمنجواي «تلال مثل فيلة بيضاء»، كيف يبدو «الأمريكي والفتاة التي بصحبته»؟ «خلعت قبعتها ووضعتها على المائدة». كانت تلك هي الإشارة الوحيدة لوصف مادي في القصة كلها. (9)
لا تستغرق في تفاصيل وصف الأماكن والأشياء، باستثناء أن تكون أنت الكاتبة مارجريت أتوود، ويمكنك أن ترسم باللغة لوحات من المشاهد. أنت في غنى عن فقرات وصفية توقف تدفق الحدث والقصة. (10)
حاول أن تستبعد الأجزاء التي سيقفز عليها القارئ. فكر فيما تقفز عليه أنت بينما تقرأ رواية؛ الفقرات النثرية السميكة التي يمكنك أن ترى امتلاءها بكلمات تفيض عن الحاجة. (11)
أما قاعدتي الأهم على الإطلاق هي التي تلخص القواعد العشر السابقة: كل ما بدا بمظهر كتابة، فإنني أعيد كتابته من جديد.
ديانا آثيل (1)
اقرأ «ما كتبت» على نفسك بصوت مسموع، فتلك هي الطريقة الوحيدة للتأكد من استقامة إيقاع الجمل (إن إيقاع النثر من التعقيد واللطف بحيث لا يمكن ضبطه إلا عن طريق الأذن). (2)
احذف (أو ربما يجب أن تكون بالخط الغليظ
احذف ): فقط مع غياب الكلمات غير الأساسية يمكن للكلمات الأساسية أن تأخذ رونقها وتوضع في الاعتبار. (3)
ليس عليك أن تشتط إلى حد اغتيال أعزائك الغالين - تلك التوريات والصور البلاغية التي تشعر نحوها بفخر فائق حين تظهر على الصفحة - ولكن عد إليها وألق عليها نظرة أخرى بعين مستريبة؛ سوف يتضح لك على الدوام تقريبا أن موتها خير وأبقى. (ليست كل وخزة صغيرة من الرضا تستحق الشك فيها، ولكن التي يجب عليك أن تحترس منها هي تلك التي تنتفخ بنشوة الإعجاب بالنفس.)
مارجريت أتوود (1)
خذ قلم رصاص لتكتب به في رحلات الطيران؛ فأقلام الحبر تطفح. ولكن إذا انقصف سن القلم الرصاص فلا يمكنك أن تبريه على الطائرة؛ لأنه ليس مسموحا بالأشياء الحادة على متنها؛ ولذلك خذ قلمين من أقلام الرصاص. (2)
إذا انقصف القلمان، يمكنك أن تقوم بعملية شحذ صعبة باستخدام شريط لتثبيت الملفات من نوع معدني أو زجاجي. (3)
خذ شيئا لتكتب عليه؛ الورق جيد، وكبديل - عند الضرورة - ستفي بالغرض قطع من الخشب أو ذراعك. (4)
إذا كنت تستخدم كمبيوتر، فلتحرص دائما على حفظ النص الجديد على أداة تخزين خارجية. (5)
قم بتمرينات للظهر، فالألم يشتت الذهن. (6)
أبق القارئ شغوفا (الأرجح أن هذا سيكون أسهل إذا استطعت البقاء أنت شغوفا)، ولكنك لا تعرف من هو القارئ؛ لذا فإن الأمر أشبه بمحاولة اصطياد سمكة بنبلة في الظلام. الشيء الذي سوف يسحر فلان، هو نفسه سوف يضجر علان ضجرا لا مزيد عليه. (7)
أغلب الاحتمالات أنك بحاجة إلى معجم، وكتاب قواعد نحو مبسط، وإحساس بمتطلبات الواقع. وهذه النقطة الأخيرة تعني: لا يوجد غداء مجاني. الكتابة عمل، وهي مقامرة أيضا، ولا توفر لك معاش تقاعد. يمكن للآخرين أن يساعدوك قليلا، ولكنك في الأساس وحدك تماما - لم يدفعك أحد للقيام بهذا: أنت اخترته، فلا تبكي وتنوح. (8)
لا يمكن لك مطلقا أن تقرأ كتابتك بنفس التوقع البريء الذي ينتابنا مع قراءة الصفحات الأولى اللذيذة من كتاب جديد؛ لأنك أنت من كتب هذا الشيء. أنت كنت في الكواليس، ورأيت كيف يخفي الساحر الأرنب في القبعة؛ ولذلك فلتطلب من صديق قارئ أو اثنين أن يلقوا نظرة عليه قبل أن تدفع به إلى أي شخص في عالم النشر. يجب ألا تربطك بهذا الشخص علاقة عاطفية، إلا إذا كنت تنوي فسخ العلاقة. (9)
لا تجلس مستسلما في قلب الغابة. إذا فقدت طريقك وسط الحبكة أو أعجزتك الكتابة، فلترجع بخطواتك إلى حيث بدأ الخطأ، ثم خذ الطريق الآخر، و/أو غير الشخصية، غير زمن الجمل، غير الصفحة الافتتاحية. (10)
الصلاة والدعاء قد ينفعانك، أو قراءة شيء آخر، أو أن تتخيل صورة واضحة للكأس المقدسة باستمرار؛ والكأس هنا هي النسخة المنتهية والمطبوعة من كتابك البديع.
رودي دويل (1)
لا تضع صورة فوتوغرافية لكاتبك المفضل على مكتبك، خصوصا إذا كان الكاتب واحدا من المشهورين المنتحرين. (2)
تساهل مع نفسك. املأ الصفحات بأقصى ما استطعت من سرعة؛ اترك مسافات مزدوجة بين السطور، أو اكتب على سطر دون آخر. اعتبر كل صفحة جديدة تكتبها مثل انتصار صغير. (3)
استمر حتى تصل إلى الصفحة رقم 50، ثم اهدأ، وابدأ القلق بخصوص مسألة الجودة. لا بأس من التوتر، فهذا عمل يديك. (4)
أعط عملك اسما بأسرع ما يمكنك. امتلكه، انظر إليه؛ كان ديكنز يعرف أن روايته «البيت الكئيب»، سيكون هذا هو عنوانها من قبل أن يبدأ كتابتها. بقية الأمر لا بد أن يكون سهلا. (5)
أقصر تصفحك للإنترنت على مواقع قليلة كل يوم. لا تقترب من وكلاء الرهانات على الإنترنت - ما لم يكن هذا جزءا من عملية بحثك. (6)
احتفظ بمعجم، ولكن دعه مركونا في سقيفة بعيدة وراء البيت أو حتى وراء الثلاجة؛ أي موضع يتطلب مجهودا للوصول إليه. أغلب الظن أن الكلمات التي ستخطر في بالك سوف تفي بالغرض؛ مثل: «حصان»، «ركض»، «قال». (7)
بين الحين والآخر استسلم للإغراء، نظف أرضية المطبخ، انشر الغسيل. إنها عملية البحث. (8)
غير رأيك. الأفكار الجيدة غالبا ما تقتلها الأفكار الأكثر جودة. لقد كنت أكتب رواية عن فرقة موسيقية سميتها «تقاسيم»، ثم قررت أن أسميها «اقترافات». (9)
لا تبحث في موقع أمازون لبيع الكتب عن الكتاب الذي لم تكتبه بعد. (10)
خصص بضع دقائق يوميا للعمل على التعريف بالكاتب على الغلاف - «يقسم وقته ما بين كابول عاصمة أفغانستان وتييرا ديل فويجو (أرض النار) في أمريكا الجنوبية» - ثم عد إلى العمل.
هيلين دانمور (1)
أنه يوم الكتابة بينما لا تزال راغبا في الاستمرار. (2)
استمع إلى ما كتبته. إن مقطعا غير موفق من الحوار قد يظهر أنك لم تفهم بعد الشخصيات بما فيه الكفاية لأن تكتب بأصواتهم. (3)
اقرأ رسائل (الشاعر الإنجليزي) كيتس. (4)
أعد القراءة، ثم أعد الكتابة، ثم أعد القراءة، ثم أعد الكتابة؛ فإذا ظل العمل غير موفق فلتتخلص منه. إنه شعور لطيف، فلست مضطرا لأن تكوم جثثا لقصائد وقصص يوجد بها كل شيء عدا ما تحتاجه من أنفاس الحياة. (5)
احفظ قصائد. (6)
انضم إلى المؤسسات المهنية التي توفر حقوقا جماعية للكتاب. (7)
كثيرا ما تتضح مشكلة في قطعة من الكتابة وتحل نفسها بنفسها، إذا ما خرجت في تمشية طويلة. (8)
إذا اعتقدت أن رعايتك لأطفالك وشئون البيت سوف تدمر كتابتك، فلتتذكر (الروائي الإنجليزي) جيمس جراهام بالاراد. (9)
لا تنشغل بالأجيال القادمة؛ فكما لاحظ لاركن (وهو ليس عاطفيا): «لن يبقى منا إلا الحب.»
جيفر داير (1)
لا تقلق بخصوص الإمكانيات التجارية لمشروع كتابك؛ دع تلك الأمور للوكلاء الأدبيين ومحرري دور النشر ليهتموا بها. محادثة بيني وبين ناشري الأمريكي؛ أنا: «إنني أكتب كتابا مملا، جاذبيته التجارية محدودة، وإذا قمت بنشره فسوف تفقد وظيفتك غالبا.» الناشر: «هذا تماما ما يجعلني أريد الاحتفاظ بوظيفتي.» (2)
لا تكتب في أماكن عامة. في مطلع عقد ستينيات القرن العشرين ذهبت لأعيش في باريس؛ للأسباب الكتابية المعتادة: وقتها كانوا إذا أمسكوا بك تكتب في حانة بإنجلترا، فلربما «أكلت علقة محترمة»، أما في باريس، في «الكافيهات» ... ومنذ ذلك الحين ... نما بداخلي نفور شديد من الكتابة في أماكن عامة. أعتقد الآن أن الكتابة لا بد أن تكون في مكان خاص، مثل أي نشاط يلزمه الاختفاء عن أعين الآخرين. (3)
لا تكن واحدا من هؤلاء الكتاب الذين يحكمون على أنفسهم بالمؤبد في غرام نابوكوف. (4)
إذا كنت تستخدم كمبيوتر، فلتحرص على تطوير وتوسيع تطبيق التصحيح التلقائي للكلمات. السبب الوحيد الذي يجعلني مخلصا لجهازي البشع هذا، هو أنني استثمرت الكثير من البراعة في تكوين واحد من أعظم ملفات التصحيح التلقائي في تاريخ الأدب؛ تظهر الكلمات بهجائها المضبوط من مجرد ضربات قليلة وسريعة على لوحة المفاتيح؛ بحيث إن «نيت» تصير وحدها «نيتشه»، و«فوتو» تصبح فوتوغرافيا، وهكذا. عبقري أنا! (5)
احتفظ بدفتر يوميات. أكبر خطأ أندم عليه في حياتي الكتابية أنني لم أحتفظ قط بدفتر يوميات. (6)
ليكن لديك ما تندم على ارتكابه، فهذا هو وقودك، وعلى الصفحة ستتوهج تلك الأخطاء بالرغبة. (7)
لتكن لديك أكثر من فكرة واحدة تطورها في أي وقت كان؛ فعند الاختيار ما بين كتابة كتاب وعدم القيام بأي عمل بالمرة، فإنني على الدوام أميل للثاني. فقط حين يكون عندي فكرتان لكتابين أميل للاختيار الأول؛ علي أن أشعر دائما أنني أتهرب من القيام بشيء ما إلى شيء آخر. (8)
خذ حذرك من الكليشيهات. ليس فقط الكليشيهات التي يشن مارتن آميس حربا شعواء ضدها؛ هناك كليشيهات رد فعل مثلما في التعبيرات المنطوقة، هناك كليشيهات لها علاقة بالبصر وكذلك بالأفكار، بل حتى المفاهيم أيضا. كثير من الروايات - حتى بين تلك الجيدة الكتابة إلى حد كاف - ما هي إلا كليشيهات على مستوى الشكل، تتحول إلى كليشيهات على مستوى التوقع. (9)
قم بعملك كل يوم. فلتكتسب عادة صياغة مشاهداتك في كلمات، وبالتدريج ستتحول هذه العادة إلى غريزة ثانية لك. هذه هي القاعدة الأهم على الإطلاق، وبطبيعة الحال أنا لا أتبعها. (10)
إياك وركوب دراجة من دون فرامل. إذا أثبت شيء ما أنه أشد صعوبة من قدرتك، فلتتخل عنه ولتقم بشيء آخر. حاول أن تواصل الحياة دون الاحتماء بالمثابرة العنيدة. غير أن الكتابة ليست شيئا آخر سوى مثابرة عنيدة، ينبغي عليك أن تلتزم بها دون يأس. في ثلاثينياتي، اعتدت الذهاب إلى صالة الألعاب وإن كرهت ذلك؛ كان الغرض من الذهاب إلى صالة الألعاب هو تأجيل اليوم الذي سأتوقف فيه عن الذهاب. هكذا هي الكتابة بالنسبة إلي؛ طريقة لتأجيل اليوم الذي سأتوقف فيه، اليوم الذي سأغرق فيه في كآبة عميقة بدرجة لا يمكن تمييزها عن نعيم لا يعكر صفوه شيء.
آن إنرايت (1)
أول 12 عاما هي الأسوأ. (2)
إن طريقة كتابة كتاب هي أن تقوم بكتابته فعليا. قلم الحبر مفيد، والنقر على لوحة مفاتيح جيد كذلك. واصل وضع الكلمات على الصفحة. (3)
الكتاب السيئون فقط هم من يعتقدون أن عملهم جيد فعلا. (4)
الوصف صعب. تذكر أن كل وصف ما هو إلا وجهة نظر في العالم؛ فلتجد موضعا لتقف فيه. (5)
اكتب بأي طريقة تروق لك. القصص والروايات مصنوعة من كلمات على صفحة؛ الواقع مصنوع من أشياء أخرى. ليس من المهم معرفة إلى أي مدى قصتك «واقعية»، أو إلى أي مدى «مختلقة»؛ المهم هو «ضرورتها ووجاهتها». (6)
حاول أن تكون دقيقا عندما يتعلق الأمر بالأشياء والأغراض. (7)
تخيل أنك تحتضر. إذا كنت مصابا بمرض قاتل، فهل ستنهي هذا الكتاب؟ لم لا؟ إن الشيء الذي يعكر صفو الأسابيع العشرة المتبقية لك في قيد الحياة هو نفسه الشيء الخطأ في كتابك؛ إذن فلتغيره. توقف عن الجدال مع نفسك، غير ما يتوجب تغييره. أرأيت؟ مسألة بسيطة، ولم يمت أحد مع ذلك. (8)
يمكنك القيام بهذا كله بصحبة الويسكي. (9)
امرح. (10)
تذكر؛ إذا ما جلست إلى مكتبك على مدى 15 أو 20 عاما، كل يوم، دون احتساب العطلات الأسبوعية، فإن ذلك يغيرك تماما، يغيرك ببساطة؛ قد لا يحسن من مزاجك، ولكنه سوف يصلح شيئا آخر؛ سيجعلك أكثر حرية.
ريتشارد فورد (1)
تزوج شريك حياة يحبك ويعتقد أنها فكرة جيدة أن تكون كاتبا. (2)
لا تنجب أطفالا. (3)
لا تقرأ المقالات النقدية المكتوبة عنك. (4)
لا تكتب مقالات نقدية (ستكون شهادتك مجروحة على الدوام). (5)
لا تدخل في مشاحنات مع زوجتك في الصباح، أو في وقت متأخر من الليل. (6)
لا تشرب الخمر وتكتب في الوقت ذاته. (7)
لا تكتب رسائل إلى المحرر. (لا أحد يهتم.) (8)
لا تتمن السوء لزملائك. (9)
حاول أن تفكر في حسن حظ الآخرين باعتباره تشجيعا لك. (10)
لا تسمح لأحد بإهانتك، ما وسعك هذا.
جوناثان فرانزين (1)
القارئ صديقك، فلا هو خصمك، ولا هو مجرد متفرج. (2)
أية كتابة روائية ليست مغامرة شخصية للمؤلف داخل أرض الخوف والمجهول؛ غير جديرة بكتابتها، اللهم إلا من أجل النقود. (3)
إياك واستخدام كلمة «عندئذ» كأداة ربط - تكفيك الواو وما شابهها لهذا الغرض. اللجوء إلى «عندئذ» هو فعل كاتب كسول أو في أذنه صمم من ناحية النبرة، وهو ليس حلا لمشكلة تكرار واو العطف كثيرا على صفحته. (4)
اكتب مستخدما ضمير الغائب، إلا إذا عرض لك صوت متميز حقا ولا تمكن مقاومته بضمير المتكلم. (5)
عندما تتوافر المعلومات ويسهل الوصول إليها في كل مكان، فإن عملية البحث الموسعة لكتابة رواية، تفقد كثيرا من قيمتها. (6)
أشد روايات سيرة الأعلام إخلاصا للحقيقة تحتاج ابتكارا في نفس درجة الإخلاص. لم يكتب أحد قصة أشد إخلاصا للحقيقة من كتاب «التحولات» لأوفيد. (7)
ترى في جلوسك أكثر مما تراه في جريك هنا وهناك. (8)
من المشكوك فيه، أن شخصا لديه وصلة إنترنت في الموضع الذي يعمل فيه، يقوم بكتابة سرد جيد. (9)
الأفعال المثيرة (في جملتك) ليست بالضرورة مثيرة للاهتمام. (10)
ينبغي أن تحب قبل أن تقسو.
إستر فرويد (1)
احذف المجازات والتشبيهات. في كتابي الأول وعدت نفسي بألا أستخدم أيا منها، وغفلت عن واحد فقط في مشهد غروب في الفصل الحادي عشر؛ ما زلت أشعر بالخجل كلما مررت به! (2)
أي قصة بحاجة لإيقاع. اقرأ عملك بصوت مسموع؛ فإن لم تشعر بأنك تلقي تعويذة سحرية من نوع ما، فثمة شيء ما مفقود. (3)
التحرير هو كل شيء. احذف حتى لا يمكنك حذف المزيد، وغالبا ما سوف تسري دماء الحياة في الأجزاء المتبقية. (4)
اكتشف أفضل وقت من اليوم للكتابة بالنسبة إليك، ثم اكتب. لا تسمح لأي شيء آخر بمقاطعتك وإزعاجك؛ بعد ذلك لن يكون من المهم أن يصبح مطبخك في فوضى كاملة. (5)
لا تنتظر الإلهام؛ كلمة السر هي الانضباط. (6)
ثق في قارئك؛ لست مضطرا لتفسير كل شيء له. إذا كنت حقا تعرف شيئا ما، ونفخت فيه الحياة، فسوف يعرفه قارئك أيضا. (7)
إياك أن تنسى، كل القواعد موجودة لكسرها، حتى تلك التي وضعتها أنت لنفسك.
نيل جايمان (1)
اكتب. (2)
ضع كلمة بعد أخرى. اعثر على الكلمة المناسبة، اكتبها. (3)
أنه ما تكتبه؛ فلتفعل كل ما يجب عليك إنجازه. (4)
ضع «النص» جانبا. اقرأه متظاهرا بأنك لم تقرأه قط من قبل. اعرضه على أصدقاء تحترم رأيهم ويحبون ذلك النوع من الأمور. (5)
تذكر؛ حين يخبرك الآخرون أن هناك خطأ ما، أو أن شيئا ما لم يتجاوبوا معه، فهم محقون على الدوام تقريبا. وحين يخبرونك ما هو ذلك الخطأ وكيف يمكن إصلاحه، فهم مخطئون على الدوام تقريبا. (6)
اضبط النص واستقر. فلتتذكر ذلك، آجلا أم عاجلا، قبل أن يبلغ نصك الكمال بكثير، سيكون عليك أن تدعه وتمضي قدما وتبدأ بكتابة النص التالي. الكمال مثل مطاردة السراب؛ واصل الحركة. (7)
اضحك على نكاتك. (8)
القاعدة الأساسية فيما يتعلق بالكتابة هي أنك إذا مارستها بما يكفي من الاطمئنان والثقة بالنفس، فمن المسموح لك أن تفعل ما يحلو لك أيا كان. (ربما تكون هذه قاعدة للحياة كما هي للكتابة، لكنها تصدق مائة في المائة على الكتابة.) وهكذا اكتب قصتك كما تحتاج هي أن تكتب؛ اكتبها بأمانة، واروها بأفضل طريقة تستطيعها. لست متأكدا إن كانت هناك قواعد أخرى، أو قواعد أخرى جديرة بالاهتمام.
دافيد هير (1)
اكتب فقط عندما يكون لديك ما تقول. (2)
لا تأخذ بنصيحة أي شخص ليس له مصلحة في ثمرة كتابتك. (3)
الأسلوب هو مهارة أن تنحي نفسك جانبا، وليس أن تقف في الصدارة. (4)
إن لم ينفذ أحد مسرحيتك، فلتقم أنت بهذا. (5)
النكات بالنسبة إليك مثل رسم الأيدي والأقدام للرسام؛ ربما لا تكون هي ما تريد أن تنتهي إلى القيام به، ولكن عليك أن تتقنها في الأثناء. (6)
المسرح بالأساس ينتمي للشباب. (7)
لا أحد على الإطلاق مطالب بالتماسك والاتساق مثل كاتب السيناريو. (8)
إياك والذهاب إلى مهرجان لمشاهير التليفزيون يتنكر في هيئة مهرجان أدبي. (9)
إياك أن تشكو من إساءة فهمك؛ فأنت الذي تختار أن يفهمك الآخرون أو لا يفهموك.
بي دي جيمس (1)
ارفع من قوتك اللفظية. المفردات هي المادة الخام لحرفتنا؛ كلما تعاظم مخزونك اللغوي صارت كتابتك أقوى أثرا. نحن كتاب اللغة الإنجليزية محظوظون بامتلاك واحدة من أثرى لغات العالم وأكثرها تنوعا ومرونة. احترم هذا. (2)
اقرأ بتوسع ولكن بانتقائية متعصبة؛ الكتابة السيئة معدية. (3)
لا تخطط لأن تكتب وتكتفي بهذا؛ اكتب. إننا نطور أسلوبنا الخاص بالكتابة وحدها وليس بتخيلها. (4)
اكتب ما تحتاج لأن تكتبه، وليس وفقا للموجة السائدة أو ما تعتقد أنه سيباع أفضل. (5)
افتح ذهنك على التجارب الجديدة، وخصوصا لتأمل الآخرين. ليس هناك شيء يحدث للكاتب ويذهب هدرا - مهما كان أمرا سعيدا، ومهما كان مأسويا.
آل كينيدي (1)
تحل بالتواضع؛ فالكتاب الأكبر سنا والأكثر خبرة وإقناعا قد يقدمون قواعد ونصائح كثيرة متنوعة. تدبر ما يقولون؛ ومع ذلك، لا تسلم لهم دماغك تلقائيا، أو أي شيء آخر غير دماغك؛ فربما يتصفون بالسخرية المريرة، والعقول الملتوية، وقد يكونون منهكي القوى، ميالين للمناورات واللف والدوران، أو ببساطة مختلفين عنك. (2)
تحل بالمزيد من التواضع. تذكر أنك لا تعرف حدود قدراتك؛ سواء كنت ناجحا أم لا، فإذا واصلت المحاولة لتجاوز ذاتك، فسوف تثري حياتك الخاصة - وربما تسعد بعض الغرباء أيضا. (3)
احم الآخرين. تستطيع بالتأكيد أن تسرق حكايات وأوصاف من أفراد العائلة والأصدقاء، أو حتى تنهض لملأ بطاقة شخصية خيالية مستمدة ممن كان معك في الفراش قبل قليل. قد يكون من الأفضل أن تحتفي بهؤلاء الذين تحبهم - وبالحب نفسه - عن طريق الكتابة بطريقة تحفظ للجميع خصوصيتهم وكرامتهم دون مساس. (4)
احم عملك. الكثير من المنظمات والمؤسسات والأفراد سوف يظنون غالبا أنهم يعرفون عن عملك أفضل مما تعرف أنت - لا سيما إن كانوا يدفعون لك مالا. حين تعتقد بصدق وإخلاص أن قراراتهم سوف تدمر عملك؛ فلتبتعد، اركض هاربا؛ فليس للمال كل هذه الأهمية. (5)
احم نفسك. فلتكتشف ما الأشياء التي تجعلك سعيدا ومتحفزا للعمل ومبتكرا. (6)
اكتب. انس التعاسة التي يجلبها المرء لنفسه بنفسه، ونوبات تقلب المزاج، وارتداء الثياب السوداء، والتصرفات البغيضة على الملأ؛ فإن أي قدر من ذلك كله لن يضيف مثقال ذرة إليك ككاتب. الكتاب يكتبون؛ فامض قدما. (7)
اقرأ. اقرأ كثيرا بقدر ما يمكنك، وبأكثر درجة ممكنة من العمق والاتساع، بطريقة تغذيك وتثيرك معا. المادة الجيدة ستجعلك تتذكرها، فلا تشغل بالك بتدوين الملاحظات. (8)
تخلص من الخوف. هذا أمر مستحيل، ولكن دع المخاوف الصغيرة تقود تحريرك وإعادة الكتابة، وضع جانبا المخاوف الكبيرة إلى أن تزول وحدها؛ ثم استخدمها بعد ذلك، وربما تكتبها. إذا كان خوفك أكبر من اللازم، فلن تحقق إلا الصمت. (9)
تذكر أنك تحب الكتابة، وإلا لما وجدتها جديرة باحتمال المشقة. إذا ذبل الحب وشحب، فقم بما يلزم لاستعادته. (10)
تذكر أن الكتابة لا تحبك؛ فهي لا تكترث بك، وعلى الرغم من ذلك، فإنه يمكنها أن تعاملك بسخاء استثنائي. تكلم عنها جيدا، شجع الآخرين، مرر النعمة إليهم.
هيلاري مانتل (1)
هل أنت جاد بهذا الشأن؟ إذن ابحث لك عن محاسب. (2)
اقرأ كتاب دوروثيا براند
Dorothea Brande «أن تصير كاتبا
Becoming a Writer »، وقم بكل ما تقوله لك، بما في ذلك المهام التي تراها مستحيلة. ولعلك سوف تكره على وجه الخصوص نصيحتها بشأن الكتابة بمجرد الاستيقاظ في الصباح، ولكن إن استطعت تدبر هذا، فقد تكتشف أنه أفضل ما فعلته لنفسك على الإطلاق. لا يترك هذا الكتاب كبيرة ولا صغيرة في مسألة تحولك لكاتب، وقد صدر لاحقا الكثير من كتيبات النصائح المستلهمة منه. أنت لست بحاجة إلى كتب أخرى، ومع ذلك، إذا كنت تريد أن ترفع من ثقتك، فإن الكتب الإرشادية من هذا النوع لن تضرك؛ فيمكنك أن تنطلق في كتابة كتاب كامل انطلاقا من تمرين كتابة صغير قمت به. (3)
اكتب الكتاب الذي تود قراءته؛ فإذا لم تود أنت قراءته، فلماذا سيود أي شخص آخر ذلك؟ لا تكتب من أجل جمهور محدد أو سوق بعينه؛ فقد يختفي هذا أو ذاك عندما يكون كتابك جاهزا للنشر. (4)
إذا خطرت لك فكرة قصة جيدة، فلا تفترض ضمنا أنها لا بد أن تأخذ شكل السرد القصصي؛ فقد تكون أفضل كمسرحية، أو سيناريو، أو قصيدة. كن مرنا. (5)
انتبه إلى أن أي شيء يظهر قبل «الفصل الأول» قد يفوته القارئ؛ فلا تضع المفتاح الأساسي للعمل هناك. (6)
غالبا ما تكون الفقرات الأولى ضربة بداية قوية. راجع فقراتك؛ هل هي مثل رقصة الهاكا المحفزة على بدء مباراة قوية، أم أنك تنقل قدميك بلا هدف؟ (7)
ركز طاقتك السردية على نقطة التغير؛ ولهذا أهمية خاصة في الأعمال السردية التاريخية. حين توجد شخصيتك في مكان جديد عليها، أو حينما تتبدل الأمور من حولها، فهذه هي النقطة التي تأخذ فيها خطوة للوراء وتبدأ في ملء تفاصيل عالمها. لا ينتبه الناس إلى تفاصيل محيطهم في روتين الحياة اليومية؛ ولذلك، حين يصف الكتاب ذلك المحيط، فقد يبدو الأمر وكأنهم يبذلون جهدا مكشوفا لتوجيه القارئ. (8)
لا بد أن يكون للوصف دور في موضعه، وليس مجرد حيلة زخرفية، وعادة ما يعمل على خير وجه حين يشتمل على عنصر إنساني؛ فيكون أكثر تأثيرا حين يأتي من وجهة نظر ضمنية، وليس من عين الراوي العليم المطلع على كل شيء. إذا تلون الوصف بوجهة نظر الشخصية التي تقوم بالملاحظة، فإنه يصير بالتالي جزءا من تحديد معالم الشخصية، وجزءا من فعلها وحركتها كذلك. (9)
إذا وصلت لحائط سد، فابتعد عن مكتبك؛ امش قليلا، خذ حماما، قم وخذ غفوة، أعد فطيرة، ارسم، اسمع موسيقى، مارس التأمل، قم بتمارين بدنية؛ أو أي شيء آخر تفضله، المهم ألا تكتفي بالالتصاق بمكتبك مقطبا في وجه المشكلة. ولكن حذار من المكالمات التليفونية أو الذهاب لحفلة؛ فإذا فعلت فإن كلمات الأشخاص الآخرين سوف تنصب في ذهنك وتأخذ المكان الذي يجب أن تكون فيه كلماتك المفقودة. افتح فجوة لتصطاد تلك الكلمات، اخلق المساحة لهم. تجمل بالصبر. (10)
كن مستعدا لأي شيء؛ فكل قصة جديدة لها مطالبها المختلفة وربما تطرح عليك أسبابا تدعوك إلى كسر جميع القواعد، بما فيها السابق ذكرها، عدا القاعدة رقم واحد؛ فلا يمكنك أن تمنح روحك للأدب لو أنك تفكر في ضريبة الدخل باستمرار.
مايكل موركوك (1)
قاعدتي الأولى تلقيتها من تي إتش وايت، مؤلف «السيف في الحجر وخرافات أخرى من عصر الملك آرثر»، وكانت كالتالي: اقرأ؛ اقرأ كل ما يمكن أن تقع عليه يداك، فلطالما نصحت الناس الذي يريدون كتابة قصص فانتازية أو خيال علمي أو رومانسية أن يتوقفوا عن قراءة كل شيء يخص تلك الأنواع تحديدا، وأن يبدءوا في قراءة كل شيء آخر بداية من جون بانيان (المبشر الإنجليزي في العصور الوسطى)، وحتى إيه إس بيات (الكاتبة الإنجليزية المعاصرة). (2)
اعثر على كاتب يحظى بإعجابك (اختياري كان جوزيف كونراد)، وانسخ حبكاتهم وشخصياتهم في عمل لك حتى تحكي حكايتك أنت، بالضبط كما يقوم من يتعلمون الرسم والتصوير الزيتي بنسخ أعمال المعلمين الكبار. (3)
انته من تقديم شخصياتك و«ثيماتك» في الثلث الأول من روايتك. (4)
إذا كنت تكتب رواية من النوع المعتمد على الحبكة في الأساس، فتأكد من أنك قمت بتقديم جميع «ثيماتك» الأساسية وعناصر الحبكة في الثلث الأول، وهو ما يمكنك أن تسميه المقدمة. (5)
في الثلث الثاني طور «ثيماتك» وشخصياتك، ولتسمه التطوير. (6)
في الثلث الأخير قم بحل «الثيمات» وكشف الألغاز ... إلى آخره، ولتسمه الحل. (7)
من أجل فهم جيد للميلودراما، اقرأ دراسة ليستر دينت
Lester Dent
حول إتقان صياغة الحبكة
Master plot formula ، وهي متوافرة على شبكة الإنترنت. لقد كتبت في الأساس بغرض إيضاح كيف تكتب قصة قصيرة لمجلات الأدب الرائج الخفيف، غير أنه من الممكن تكييفها بنجاح من أجل غالبية القصص، من أي نوع أو بأي طول. (8)
إن استطعت، فاجعل شيئا ما يحدث على الدوام بينما تبوح شخصياتك بأسرارها أو فلسفتها الخاصة؛ فمن شأن هذا أن يبقي على التوتر الدرامي. (9)
سياسة العصا والجزرة، اجعل بطلك ملاحقا «من قبل هوس يسيطر عليه أو شخص شرير»، واجعله هو نفسه يلاحق شيئا ما؛ «فكرة، هدفا، شخصا، لغزا محيرا». (10)
تجاهل جميع القواعد السابقة، وقم بوضع القواعد الخاصة بك بنفسك؛ بحيث تكون أكثر توافقا مع ما تريد قوله.
مايكل موربورجو (1)
الشرط الأساسي بالنسبة إلي هو أن أحتفظ بنبع أفكاري متدفقا وغزيرا؛ مما يعني العيش حياة ممتلئة ومتنوعة بقدر المستطاع، وأن تكون قرون استشعاري مشرعة في الهواء طوال الوقت. (2)
قدم لي تيد هيوز هذه النصيحة، وهي تفعل الأعاجيب: «سجل اللحظات، الانطباعات العابرة، حوارا تناهى إلى سمعك، لحظات حزنك وحيرتك وبهجتك.» (3)
إن فكرة القصة بالنسبة إلي هي ملتقى روافد مختلفة من أحداث حقيقية، وربما تاريخية، أو من ذاكرتي الخاصة، لخلق مزيج مثير. (4)
ما يهم هو فترة الحمل «بالفكرة». (5)
ما إن يصبح الهيكل العظمي للقصة جاهزا، أشرع في التحدث عنها، غالبا مع كلير زوجتي وأسألها عن انطباعها. (6)
وحينما أجلس وأواجه الصفحة البيضاء أكون تواقا للمضي قدما؛ أحكيها كما لو كنت أتحدث إلى أعز أصحابي أو إلى أحد أحفادي. (7)
ما إن أنتهي من خربشة فصل كيفما اتفق - أكتب بخط شديد الصغر بحيث لا ينبغي علي أن أقلب الصفحة، فأواجه الصفحة البيضاء من جديد - تقوم كلير بنسخه على الكمبيوتر، وتطبع منه نسخة، وأحيانا بعد إضافة تعليقاتها الخاصة. (8)
حين أكون مستغرقا للغاية في إحدى القصص، فإنني أعيش أحداثها بينما أكتبها، وبأمانة لا أعرف أي شيء عما سوف يحدث تاليا. أحاول ألا أوجه الأمور أو أمليها على الشخصيات، أحاول إلا ألعب دور الآلهة. (9)
ما إن ينتهي الكتاب في مسودته الأولى، أقرأه على نفسي بصوت مسموع. إن نبرة صوت الكتاب في أذني لهي أمر بالغ الأهمية بالنسبة إلي. (10)
مع كل عملية تحرير، مهما كانت مرهفة وحساسة - ولطالما كنت محظوظا للغاية من هذه الناحية - يكون رد فعلي الأول هو العبوس والتجهم، ولكني أهدأ وأستقر فيما بعد، وأتكيف مع الأمر، وما هي إلا سنة بعد ذلك ويكون كتابي «المطبوع» بين يدي.
آندرو موشون (1)
قرر أي وقت من النهار (أو الليل) هو الأوفق للكتابة بالنسبة إليك، ونظم حياتك كلها تبعا لذلك. (2)
فكر بحواسك بقدر ما تفكر بعقلك. (3)
احتف بالإعجازي في قلب العادي. (4)
في غرفة مغلقة احبس شخصيات/عناصر مختلفة، وأخبرهم أن يتعايشوا معا. (5)
تذكر أنه لا وجود لما يسمى هراء. (6)
لا تنس مقولة أوسكار وايلد أنه «لا يتطور إلا كتاب الدرجة الثالثة»؛ وتحداها. (7)
دع عملك ينهض على قدميه قبل أن تقرر هل تقدمه لآخرين أم لا. (8)
لا بأس بالأفكار الكبيرة، لكن ابق محددا ودقيقا. (9)
اكتب للغد، وليس لليوم. (10)
اجتهد.
جويس كارول أوتس (1)
لا تحاول إرضاء «قارئ مثالي» - ربما يكون موجودا بالفعل، لكنه يقرأ الآن لشخص آخر. (2)
لا تحاول إرضاء «قارئ مثالي» - فيما عدا أنت نفسك ربما، في وقت ما من المستقبل. (3)
كن أنت محررك وناقدك. لا بأس من التعاطف، ولكن لا رحمة ولا شفقة! (4)
ما لم تكن تكتب عملا طليعيا للغاية - عملا شديد التعقيد والتشابك و«الغموض» - فلتنتبه إلى إمكانية تقسيم كتابتك إلى فقرات. (5)
ما لم تكن تكتب عملا ما بعد حداثي للغاية - عملا واعيا بذاته، منعكسا على نفسه، و«استفزازيا» - فلتنتبه إلى إمكانية استخدامك لمفردات واضحة ومألوفة بدلا من الكلمات «الكبيرة» المركبة. (6)
ضع نصب عينيك قول أوسكار وايلد: «قليل من الصدق شيء خطير، والكثير منه يرمي بك إلى التهلكة دون ريب.» (7)
احتفظ بقلبك خفيفا رقيقا مفعما بالأمل، ولكن توقع دائما أسوأ الاحتمالات.
آني برولكس (1)
ابدأ ببطء وكن حذرا. (2)
لتضمن أنك سوف تبدأ ببطء، اكتب بيدك. (3)
اكتب ببطء وباليد فقط حول موضوعات تثير اهتمامك. (4)
اكتسب مهارة الصنعة من خلال سنوات من الكتابة المتشعبة المتسعة. (5)
أعد الكتابة وحرر عملك إلى أن تحقق أكثر صيغة مقبولة في كل عبارة/جملة/فقرة/صفحة/قصة/فصل.
فيليب بولمان
قاعدتي الأساسية هي أن أرفض القيام بأمور مثل هذه؛ «تقديم نصائح للآخرين»، تلك التي تغريني بالابتعاد عن عملي الحقيقي.
إيان رانكين (1)
اقرأ كثيرا. (2)
اكتب كثيرا. (3)
اكتسب مهارة النقد الذاتي. (4)
تعلم ما النقد لتتقبله. (5)
كن مثابرا. (6)
لتكن قصتك تستحق أن تروى. (7)
لا تستسلم. (8)
اعرف السوق. (9)
كن محظوظا. (10)
ابق محظوظا.
ويل سيف (1)
لا تنظر وراءك قبل أن تتم كتابة المسودة بكاملها، ما عليك إلا أن تبدأ «عمل» كل يوم من آخر جملة كتبتها في اليوم السابق؛ فإن هذا يقيك من مشاعر الرهبة والجفول، ويعني أن لديك مادة ملموسة من العمل قبل أن تخوض غمار المهمة الحقيقية، التي تكمن كلها في ... (2)
التحرير. (3)
احمل معك دائما دفتر كتابة، وأنا أعني دائما وأبدا؛ فإن ذاكرة المدى القصير لا تحتفظ بالمعلومات إلا لمدة ثلاث دقائق؛ فقد تفقد فكرة ما إلى الأبد إن لم تودعها صفحتك. (4)
توقف عن قراءة السرد الخيالي - كلها أكاذيب على أي حال، وليس لديها ما تخبرك به مما لا تعرفه بالفعل (هذا طبعا بافتراض أنك قد قرأت بالفعل قدرا كبيرا من السرد فيما مضى؛ وإن لم تكن قد فعلت، فلا شأن لك بعملية كتابة السرد من قريب أو بعيد). (5)
أنت تعلم ذلك الشعور البشع - بانعدام الكفاءة والانفضاح - الذي تشعر به كلما تأملت نثرك الأدبي الرفيع؟ استرخ وسلم بحقيقة أن هذا الإحساس المروع لن يغادرك أبدا، مهما أحرزت من نجاح، ومهما امتدحك الجمهور؛ فهو شيء في صميم عمل الكتابة الحقيقي، ولا بد من القبول به. (6)
عش حياتك واكتب عنها؛ فلا غاية من عملية إنتاج المزيد من الكتب، فهناك ما هو أكثر من اللازم بالفعل من الكتب المعتمدة على كتب سابقة. (7)
تذكر كم من الوقت ينفقه الناس في مشاهدة التليفزيون. إذا كنت تكتب رواية جوها معاصر، فليس بالضرورة أن تكتب كتلا سردية طويلة لا شيء يحدث فيها عدا مشاهدة التليفزيون: «بعد ذلك، شاهد جورج برنامج جراند ديزانز بينما كان يأكل بسكوتات الهوبنوب، ثم بعد ذلك أخذ يشاهد قناة التسوق لفترة ...» (8)
حياة الكتابة هي بالضرورة حياة من العزل الانفرادي؛ فإن لم تك قادرا على هذا، فلا تتجشم العناء. (9)
آه، ولا تنس الضربات التي ستتلقاها من وقت لآخر على أيدي الساديين، ممن يزعمون أنهم حراس مملكة الخيال. (10)
اعتبر نفسك شركة صغيرة من شخص واحد؛ انطلق في تمرينات بناء الفريق (نزهات سير طويلة)؛ كل سنة اعقد حفلة العام الجديد في الشركة التي هي أنت، تقف خلالها في ركن غرفة الكتابة، تصيح بأعلى صوتك حتى تسمع نفسك بينما تجرع من زجاجة نبيذ أبيض، ثم مارس العادة السرية تحت مكتبك. في اليوم التالي سوف يعتريك إحساس عميق بالخزي.
هيلين سيمبسون
أقرب قاعدة لي مكتوبة على ورقة ملاحظات لاصقة، معلقة أمام مكتبي، تقول بالفرنسية: (اعمل في صمت)
Faire et se taire ، وهي العبارة التي أترجمها بطريقتي على أنها: «سدي فمك واستمري مع هذا للنهاية.»
زادي سميث (1)
وأنت لا تزال صغيرا، كن حريصا على أن تقرأ الكثير من الكتب. أعط وقتا لهذا أكثر مما تعطي لأي شيء آخر. (2)
عندما تكبر، حاول أن تقرأ ما تكتبه أنت كما قد يقرؤه شخص غريب، أو الأفضل، كما قد يقرؤه عدو لك. (3)
لا تضف طابعا رومانسيا على «مهنتك »، فإما أنك تستطيع كتابة جمل جيدة وإما لا تستطيع. ليس هناك ما يسمى «أسلوب حياة الكتاب»، وكل ما يهم حقا هو ما تتركه على الصفحة. (4)
تجنب نقاط ضعفك، ولكن قم بهذا دون أن توهم نفسك بأن ما تهمله لا يستحق الاهتمام. لا تغط مواطن الشك في قدرتك بقناع من الازدراء. (5)
اترك مسافة زمنية معقولة ما بين كتابة شيء ما وتحريره. (6)
تجنب الشللية، والعصابات، والجماعات. إن وجودك في جمع لن يجعل كتابتك أفضل مما هي عليه. (7)
اشتغل على جهاز كمبيوتر غير موصول بالإنترنت. (8)
احرص على حماية الوقت والمكان المخصصين للكتابة. أبعد الجميع عنهما، حتى أهم وأعز الناس لديك. (9)
لا تخلط الشهادات والتقديرات بالإنجاز الحقيقي. (10)
قل الحقيقة عبر أي حجاب تجده في متناول يدك - ولكن قل الحقيقة. تهيأ لحزن يدوم مدى العمر، ناجم عن عدم إحساسك بالرضا عن عملك أبدا.
كولم تويبين (1)
احرص على إنهاء كل ما تبدأ كتابته. (2)
ابق معه حتى نهاية الشوط. (3)
اعمل على أن يبقى ذهنك مرتديا بيجامته (طليقا ومرنا) طوال اليوم. (4)
توقف عن الشعور بالرثاء لنفسك. (5)
لا مشروبات كحولية أو علاقات جنسية أو مخدرات بينما تعمل. (6)
اعمل في الصباح، خذ راحة قصيرة للغداء، اعمل فترة ما بعد الظهيرة، ثم شاهد نشرة أخبار السادسة مساء، ثم عد إلى العمل حتى وقت النوم. قبل أن تنام، استمع إلى شوبرت، يفضل بعض أغنياته. (7)
إن كان لا بد من القراءة، فلتقرأ السير الذاتية للكتاب الذين مسهم الجنون، من أجل أن تبهج نفسك. (8)
في أيام الإجازة الأسبوعية، يمكنك أن تشاهد أحد أفلام (المخرج إنجمار) برجمان، يفضل الفيلمان: بيرسونا، وسوناتا الخريف. (9)
لا تسافر إلى لندن (العاصمة). (10)
ولا تسافر إلى أي مكان آخر كذلك.
روز تريمين (1)
انس ذلك القول القديم الممل: «اكتب عما تعرف.» وبدلا من ذلك التمس منطقة خبرة تكون غير معروفة ولكن يمكن معرفتها، منطقة من شأنها أن تعزز فهمك للعالم، واكتب عنها. (2)
وعلى الرغم من هذا، فلتتذكر أنه بداخل تجربة حياتك الشديدة الخصوصية فقط، تكمن البذور التي سوف تغذي عملك الخيالي؛ لذا فلا تلق بها كلها في كتابة السيرة الذاتية. (في العالم الآن عدد كاف بالفعل من كتب مذكرات الكتاب.) (3)
إياك والشعور بالرضا عن مسودة أولى؛ وفي الحقيقة، إياك والشعور بالرضا عن عملك على الإطلاق، إلى أن تصل إلى يقين أن هذا هو أعلى مستوى للجودة تتيحه لك قدراتك المحدودة. (4)
أنصت جيدا إلى كل الملاحظات النقدية والإشارات التي يخبرك بها «قارئك الأول» الذي تثق فيه. (5)
حين تخطر لك فكرة، اقض بعض الوقت الصامت معها. تذكر فكرة (الشاعر الإنجليزي) كيتس عن المقدرة السلبية، وكذلك نصيحة (الروائي والكاتب) كيبلنج بأن «تنجرف، وتنتظر، وتطيع»؛ فإلى جانب قيامك بجمع حقائق لا لبس فيها، اترك نفسك كذلك لتحلم بفكرة وهي تتجسد. (6)
في مرحلة التخطيط لكتابك، لا تخطط للنهاية؛ فلا بد أن تكتسبها بكل تلك الإرادة السابقة عليها. (7)
احترم الطريقة التي تتغير بها الشخصيات ما إن تبلغ من عمرها خمسين صفحة. أعد مراجعة خطتك عند هذه المرحلة، وانظر إن كانت هناك أمور بعينها لا بد من تعديلها نظرا لتلك التغييرات الطارئة. (8)
إذا كنت تكتب رواية تاريخية، فلا تجعل أبطالها من الأعلام المشهورين؛ فمن شأن هذا أن يكسبها ضجر كتب السير والأعلام بالنسبة إلى القراء، ويعيدهم من جديد إلى كتب التاريخ. إن كان لا بد أن تكتب عن شخصيات حقيقية، فلتقم إذن بحيلة ما بعد حداثية وتلاعب بها. (9)
تعلم من السينما. كن مقتصدا مع الفقرات الوصفية. افرز التفاصيل، افصل تلك التي تقول شيئا عن الأخرى العديمة الحيوية. اكتب حوارا يمكن للناس فعلا أن يقولوه. (10)
إياك أن تبدأ الكتاب متى ما شعرت بأنك تريد ذلك، اكبح جماح رغبتك لوقت أطول قليلا.
سارة واترز (1)
اقرأ بجنون. ولكن حاول أن تحلل أيضا ما تقرأ - وهو ما قد يكون صعبا؛ لأنه كلما كانت الرواية أجمل وأفتن، كنت أنت أقل انتباها لأدواتها. إن اكتشاف تلك الأدوات أمر جدير بالمحاولة مع ذلك؛ فقد تكون مفيدة لك في عملك. مشاهدة الأفلام أيضا يعلمك شيئا؛ يكاد يكون كل فيلم من أفلام هوليود المعاصرة الناجحة طويلا وفضفاضا إلى حد ميئوس منه. حاول أن تتخيل تلك الأفلام في حالتها الأفضل بعد عمليات قص وحذف جريئة، هذا تمرين رائع لك في فن الحكي؛ وهو ما يؤدي بنا إلى ... (2)
احذف كالمجنون. تذكر مقولة ما قل ودل. كثيرا ما يحدث لي بينما أقرأ مخطوطات - بما في ذلك شغلي أنا - أن أقول لنفسي بعد أن أكون بلغت بداية الفصل الثاني مثلا: «هذا هو الموضع الذي يجب أن تبدأ منه الرواية فعلا.» كمية هائلة من المعلومات عن الشخصية والقصة الخلفية لحياتها يمكن توصيلها من خلال تفصيل صغير. الارتباط العاطفي الذي تشعر به نحو مشهد أو فصل كامل سوف يتلاشى بينما تنتقل إلى قصص أخرى. كن في هذا عمليا ومهنيا؛ وفي الواقع ... (3)
تعامل مع الكتابة كأنها وظيفة؛ كن منضبطا. كان كتاب كثيرون أقرب إلى المصابين بالوسواس القهري حيال هذا الأمر؛ فمثلا من المعروف أن جراهام جرين كان يكتب 500 كلمة يوميا، والكاتبة جين بلايدي كانت تضع 5000 كلمة على الورق قبل وقت الغداء، ثم تقضي فترة ما بعد الظهيرة في الرد على بريد المعجبين. الحد الأدنى الخاص بي هو 1000 كلمة يوميا؛ وهو ما يكون أحيانا أمرا سهل الإنجاز، وأحيانا أخرى بصراحة يكون كأنك تتبرز قرميدا، ولكني أرغم نفسي على الجلوس إلى مكتبي حتى أبلغ مقصدي؛ وذلك لأنني أعلم أنه بقيامي بهذا أدفع الكتاب للأمام ولو بوصة بعد بوصة. قد يتضح أن تلك الألف كلمة ليست إلا قمامة - وهي كذلك في الغالب، ولكن عندئذ يكون من الأسهل على الدوام أن تعود إلى الكلمات القمامة تلك في وقت لاحق للعمل على تحسينها. (4)
كتابة السرد ليست «تعبيرا عن الذات» أو «طريقة للعلاج». الروايات للقراء، وكتابتها تعني توليفا بارعا وصبورا ومنكرا لذاته، للمؤثرات المختلفة. أفكر في رواياتي وكأنها نوع من أراجيح الملاهي الكبيرة؛ وعملي هو أن أحزم القارئ وأشده إلى عربته جيدا من مستهل الفصل الأول، وبعدها أدور وأرتفع به من خلال المشاهد والمفاجآت، عبر مسار مرسوم بكل عناية، وإيقاع مضبوط بكل دقة. (5)
احترم شخصياتك، حتى الثانوية والعابرة منها. في الفن ، كما في الحياة، كل شخص هو بطل قصة حياته المميزة؛ من المثمر التفكير في القصص الخاصة بشخصياتك الثانوية، حتى لو لم يتقاطعوا مع حياة بطلك إلا قليلا. وفي الوقت نفسه ... (6)
لا تزحم السرد بالناس؛ لا بد أن يكون لكل شخصية طبيعتها الفردية الخاصة بها، ولكن ينبغي أن يكون لها دورها في السرد أيضا - مثل الأشخاص المرسومين في اللوحات الزيتية. فكر في لوحة هيرونيموس بوش «تاج الشوك»
Christ Mocked ، التي يظهر فيها يسوع وهو يحتمل معاناته في صبر، ويحيط به من مسافة قريبة للغاية أربعة رجال يتوعدونه ويتهددونه. كل شخصية في اللوحة فريدة، وكل منها تمثل نموذجا بعينه؛ والشخصيات مجتمعة تشكل حكاية سردية أكثر تأثيرا بسبب بنائها المحكم والمقتصد. وبهذه المناسبة ... (7)
حذار من الإسهاب في الكتابة. تجنب العبارات الفائضة عن الحاجة، والنعوت التي تشتت عن القصد، والأحوال التي لا لزوم لها. يبدو أن المبتدئين خصوصا يظنون أن كتابة السرد بحاجة إلى نوع خاص من النثر المكتظ بالمحسنات الأنيقة، والمغاير تماما لأي لغة قد يقابلها المرء في حياته اليومية. ويعد هذا إساءة فهم للطريقة التي ينتج بها السرد تأثيره على قارئه، ويمكن التخلص من هذه المشكلة باتباع القاعدة رقم 1؛ فحين تقرأ أعمال كل من كولم توينين وكورماك مكارثي، على سبيل المثال، تكتشف كيف يمكن لقاموس محدود عن عمد أن ينتج أثرا عاطفيا صاعقا. (8)
الإيقاع مسألة حاسمة. الكتابة المنمقة وحدها لا تكفي؛ بوسع دارسي الكتابة أن ينتجوا صفحة من النثر المصقول على مستوى الحرفة، ولكن ما يفتقرون إليه أحيانا هو أن يصحبوا القارئ في رحلة، مع كل ما قد يرتبط برحلة طويلة من تغير في تضاريس الأرض وفي السرعة والجو العام. ومن جديد، أظن أن مشاهدة الأفلام يمكن لها أن تكون مفيدة؛ فأغلب الروايات تحتاج إلى أن تمضي بسرعة، أو تتريث، أو تتراجع، أو تتقدم، على نفس منوال الأفلام السينمائية. (9)
لا داعي للذعر؛ فقد عانيت أكثر من مرة، في منتصف كتابتي لرواية ما؛ رعبا يكركب الأمعاء، بينما أتأمل الهراء المكتوب أمامي على شاشة الكمبيوتر، وأرى ما سيتبع ذلك، في تتابع سريع، من قراءات صحافية ساخرة، وحرج الأصدقاء مني، وإخفاقي المهني، وتضاؤل دخلي، وضياع منزلي مني بسبب الديون، ثم الطلاق ... ومع ذلك فإن مواصلة العمل العنيد خلال محنة نفسية مثل تلك دائما ما أوصلتني لمقصدي في النهاية. قد يكون من المفيد مغادرة المكتب لوهلة، أو يمكن للتحدث عن المشكلة أن يذكرني بما كنت أحاول تحقيقه قبل أن ألتصق في المصيدة، كما أن الخروج في نزهات سير طويلة دائما ما يدفعني للتفكير في مخطوطتي بطريقة جديدة إلى حد ما. وإذا ما أخفقت كل تلك الوسائل، فهناك على الدوام القديس فرانسيس دو سال، وهو القديس شفيع الكتاب، الذي كثيرا ما نجدني للخروج من أزماتي؛ وإن لم يكن كافيا بالنسبة إليك، فعندك أيضا كاليوبي، ربة الإلهام المختصة بالشعر الملحمي، يمكنك أن تناجيها وتستجديها. (10)
الموهبة تجب ما سواها؛ فإن كنت كاتبا عظيما حقا فلست بحاجة لتطبيق أي من تلك القواعد. فلو كان (الكاتب الأمريكي) جيمس بالدوين شعر بضرورة أن يشد وتر الإيقاع قليلا، لما كان حقق الكثافة الغنائية الممتدة في روايته «غرفة جيوفاني». ودون «إسهاب» في كتابة النثر، ما نلنا شيئا من الغزارة اللغوية لدى كل من ديكنز أو آنجيلا كارتر، ولو حرصنا جميعا على الاقتصاد في عدد الشخصيات، لما قرأنا الرواية التاريخية «وولف هول» ... وعلى الرغم من هذا كله، وبالنسبة إلى بقيتنا، تظل القواعد لها أهميتها. والنقطة الحاسمة أنك لن تستطيع أن تبدأ التجريب مع تلك القواعد وكسرها، إلا حين تفهم وظائفها وطرائق عملها.
جانيت وينترسن (1)
انهض للعمل. الانضباط يتيح لك حرية إبداعية، وعدم الانضباط يعني انعدام الحرية. (2)
إياك والتوقف عندما تقع أو تلقى طريقا مسدودا. ربما لا يكون بمقدورك حل المشكلة، ولكن نحها جانبا واكتب شيئا آخر؛ لا تتوقف بالمرة. (3)
أحب ما تعمل. (4)
كن نزيها مع نفسك. إن لم تكن جيدا فتقبل الأمر. إذا كان العمل الذي تقوم به غير جيد، فتقبل الأمر. (5)
لا تظل متشبثا وحريصا على عمل ضعيف. إن كان سيئا عندما وضعته في الدرج، فسيكون بنفس السوء عندما تخرجه من الدرج. (6)
لا تكترث لملاحظة صادرة عن أي شخص لا تكن له احتراما. (7)
لا تكترث لملاحظة صادرة عن أي شيء له تحيزات خاصة بالجنس؛ فما زال كثير من الرجال يعتقدون أن المرأة تفتقر للخيال القابل للاشتعال. (8)
اقصر طموحك على العمل، وليس على الثمرة. (9)
ثق بقدرتك الإبداعية. (10)
استمتع بهذا العمل!
অজানা পৃষ্ঠা