نابوليون في إبان مجده.
مقدمة
نظرة في حياة نابوليون بونابرت
لم يعل نجم قائد ولا ملك ولا سياسي نجم هذا الكورسي، بل كسفت شمسه شموس الإسكندر وقيصر وهنيبال؛ لأنه دوخ الأرض وغير وجه قارة أوروبا وقلب نظام العالم، وترك وراءه آثارا خالدة لا تماثلها آثار أبطال التاريخ مجتمعة.
ومهما طال الزمان على عهده وتلت الأجيال بعضها، فإن الرأس القوي ذا الشعر الأسود الحالك المنسدلة منه خصلة على الجبين العريض العالي، والوجه الشاحب المستطيل، والعينين الوقادتين الدعجاوين العميقتين، والأنف الدقيق الذي ليس بالقصير ولا بالطويل، والفم الهادئ ذي الشفتين الرقيقتين، والذقن المستديرة التي بقيت كمحل الشاربين بلا نبت - ستبقى تلك الصورة كلها محفورة في فؤاد الدهر، مكروهة لدى قليلين من المؤرخين، ومحبوبة لدى معظم الناس، حتى أحفاد الجنود البواسل الذين لقوا الحتف تحت لواء نابليون في مشارق الأرض ومغاربها، وماتوا وهم يصيحون ليحي الإمبراطور.
إن الناظر في تاريخ نابوليون بونابرت يتشابه لديه عظم سعادته وعظم شقوته؛ فقد بدأ حياته بائسا محتاجا ذا فاقة وعيلة حتى حاول قتل نفسه مرة؛ لأنه لم يكن يملك ما يسد به رمق أخواته وأمه، وقد نجا من تلك التهلكة بمعجزة خير أرادها الله. هذا أعظم ما بلغه بونابرت من الحاجة وليس بعده حد للشقاء، أما عن عوزه قبل ذلك وبعده، مما لم يدعه إلى قتل نفسه فحدث ولا حرج. كان يقطن بعيد خروجه من المدرسة الحربية غرفة حقيرة في أعلى دور بمنزل حقير بشارع كوردلييه الذي كان من طرق الضفة اليسرى لنهر السين واختفى الآن. وكان لا يملك من المال ما يدفع به أجر من تغسل له ملابسه، وبقي عليه بعض ديون المآكل والمشارب وأجر المسكن والغسل إلى أن بلغ شأوا بعيدا. ولكن كل هذه العقبات الأولى تلاشت حيال إرادته وحسن طالعه.
ثم أراد القضاء أن يصعد بونابرت فصعد ثم صعد، ثم صعد إلى أن لم يبق مكان للصعود، فحرر إيطاليا وفتح مصر والشام وغاظ بريطانيا واستفزها، واستولى على ممالك إسبانيا ونابولي والبورتغال، وقهر الألمان في أوسترليتز، واخترق جبال الألب القاسية، وسار يشق جسم أوروبا فأخضع إمبراطور النمسا الذي زوجه من بنته ليجامله ويتقيه، ووصل إلى أعماق روسيا، وعاد بعد أن هلك تسعة أعشار جنده، وبعد أن خاض في محيط من الدم ولم تفتر همته ولم تطفئ المشاق نار حبه للمجد.
لأنه كان في مجده يسترشد بنور نجمه السعيد الذي يهديه ويضيء محجته، وهو نجم خيالي لم يستطع غيره أن يراه، ولكنه كان يراه بعينه ويشعر بوجوده بقلبه.
على قدر هذا الصعود كان الهبوط؛ على قدر هذا المجد والسعادة كان الفشل والشقاء؛ على قدر العز نحو أربع عشرة سنة كان الذل فيما بقي له من حياته منذ وطئت قدمه أرض جزيرة القديسة هيلانة ذات الطالع المشئوم؛ حيث استقبله اللؤم والدناءة في شخص حاكمها هدسون لو.
كما أن بونابرت جر ملوك الأرض من فوق عروشهم، وأرغم أنوف القياصرة، كذلك أرغم أنفه حاكم الجزيرة الدنيء هدسون لو الذي شهد اللورد روزبري بأنه وحش شيطاني في شكل إنسان، وأن في ذكره معرة لبلاده وأمته (راجع الدور الأخير في حياة بونابرت
অজানা পৃষ্ঠা