ومن آثار حكمته وتدبيره في جميع كل ما صنع ودبر من الإنسان وغير الإنسان، وجميع ما في الأرض، برها وبحرها، من الدواب، والطير، والحيوان المختلفة في صورها، وهيئاتها وتركيبها، وأغذيتها، وأصواتها، وظلها، وكل ما في السماوات والأرض من الملائكة والجن والإنس وجميع الحيوان، والشمس، والقمر، والنجوم، وما يحدث الله بجريها وطلوعها وأفولها من تغير الزمان، وما تدرك به الليالي والأيام، من العدد والحساب، وإحاطة الفلك بذلك كله، ودوره على أعلاه وأسفله، دائما لا يفتر طرفة عين، عند فكر من فكر ونظر، ولا في غفلة الغافلين، وما في الحيوان في البر والبحر، من الإنسان، وغير الإنسان من عجيب صنعته، أزواج الإناث والذكران، وتصريف نسولهم في الأرحام، وما يكون منها يبيض في العش والأكنان، واختلاف أحوالها في الصور والهيئات والاعتدال والألوان، التي إنما تحيط العقول والفكر إذا اجتهدت وتفرغت لإجالة التفهم والنظر بقليل من كثير، وصغير من كبير ما يحيط به صانعها، الذي صنع كل عجيب حكمة، فابتدع، فلا بد أن يفهم كل ناظر نظر ومفكر عاقل فكر أن لما ذكرنا من المبتدعات مبتدع، إذ لا بد لكل موضوع مصنوع محدث من واضع، كما لا بد باضطرار لكل مدبر من مدبر، وكما لا بد لكل مرفوع وإن لم نر من رفعه من رافع، وكذلك كل مصور أو مبني وإن لم نر من صوره وبناه، فلا بد له من مصور بان، وكذلك فلا بد للإنسان وغير الإنسان من الحيوان من خالق خلقهم، ومصور صورهم، وتولى صنعهم وتدبيرهم، وابتداعهم، وتصويرهم، وذلك فهو الله، الواحد الحكيم، الأول قبل كل أول، والقديم الجواد الذي كل من فضل جوده، الرؤوف الرحيم الذي هو أرحم وأرأف بجميع ما خلق من الوالد الرحيم بولده، بل رحمة الآباء والأمهات من فضل رحمته، ولا بد لكل مدبر محكم مصرف من مدبر حكيم مصرف، وبلا شك فلا بد لكل ما وجد مبتدعا محدثا مصورا مصنوعا مؤلفا، من مبتدع صانع محدث مؤلف مصور بل قد شهدت فطر العقول عند كمال فطرتها قبل جولانها بالنظر وغوص الفكر أنه رب كل الأشياء مما في الأرض وفي السماء، وولي صنعتها، وتلك في جميع الناس وكل البشر سودانهم وحمرانهم من كل الأجناس معرفة طباع وفطرة، إذ لا يحتاج معها إلى نظر وفكرة، وهو الله الذي لا تشبهه جميع الأشياء، ولا تشبهه في شيء من صفاتها، لأنه لو أشبه شيئا من أجزائها أو كلها، للحق به ما يلحق بها من صفاتها وأسمائها، حتى يكون بكثير مما وصفت به موصوفا إذ كان كل شبيه لما يشبهه مثيلا، ولحاله أو ببعضها معروفا، والله تبارك وتعالى الواحد الحق في الواحدانية، الأول الذي لا مثل له في القدم والسبق والأولية، البعيد من شبه ما براء وفطر وصنع من البرية، بل هو الله الذي ليس كمثله شيء كما قال سبحانه: {وهو السميع البصير}[الشورى:11]، وهو الله ذو القوة التي لا تبلغها قوة، والقدرة العالية فوق قدرة كل قدير، كل من خلق سبحانه من خليقته فهم مفطورون على معرفته بأبين معرفة، أنه ليس له نظير ولا صفة، كما يعرف الأطفال بإلهام الله إياها، بغير فهم ولا فكرة، بل بما ركب فيهم من غريزية الطباع والفطرة.
وكذلك يقال فيما قد اتفقت به الأخبار، وجاء في كثير من الآثار: (إن الملائكة والجن والإنس والبهائم كلها والأطفال، مفطورون على معرفة الصانع الإله البارئ ذي الجلال والإكرام) فللملائكة في المعرفة به وبجلاله وعظمته، أفضل مما للجن والإنس، والبهائم في معرفتها بربوبيته خلاف معرفة ذوي العقول المكلفين، وهي معرفة طباع وولوه غريزية، لا كمعرفة ذوي العقول الناطقين، وكل بني آدم من أهل الإيمان والمشركين، فيثبتون الله صانعهم وصانع كل جميع ما يرون، لا يشكون في ذلك جحودا لصانعهم ولا يمترون، وإن ضلوا بعبادة الأوثان، وقد ذكر الله ذلك عن مشركي أهل الجاهلية في آي من القرآن إذ يقول سبحانه:{ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله}[ لقمان: 25]وقال: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا}[الإسراء: 67]، فهو الله الأول قبل كل أول، وهو الله الآخر الباقي بعد كل ما خلق وجعل، وهو الله المعروف الظاهر في فطرة العقول بأيقن الإيقان، وهو الله الباطن الخفي عن درك العيون، كما قال سبحانه: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} [الحديد: 3].
পৃষ্ঠা ২১