* بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
أما بعد فالدين مشتمل على أصول وفروع ، والمتكفل لتحقيق أصوله التي هي عبارة عن عدة عقائد هو علم الكلام ، ولفروعه التي هي عبارة عن عدة أحكام هو علم الفقه ، وله مبان ومدارك يتوقف عليها توقف غصون الشجرة على أصلها ، ولذا يسمى بأصول الفقه.
ومنه ظهر أهمية علم الأصول ، فإنه مما تتوقف عليه فروع الدين وأحكام شريعة سيد المرسلين ، ولولاه لما استقرت قواعد الشرع المبين ، ولأجل ذلك تصدى الأكابر لتمهيد قواعده وتبيين ضوابطه بتدوين كتاب مستقل له أو في ضمن المباحث الفقهية ، فكل من أراد الوصول في علم الفقه إلى محصول لا بد من علم
পৃষ্ঠা ৩
الأصول كان أخباريا أو أصوليا ، ولا وجه لجعله بدعة بمجرد إفراده وتدوينه في كتاب مستقل.
ثم إن مباحث علم الأصول على أقسام :
فإن منها : ما لا نظر له إلى الواقع ، بل وظيفة عملية في ظرف الشك ، كمباحث أصالة البراءة والاشتغال والاستصحاب ، ولذا تسمى بالأصول العملية.
ومنها : ما هو ناظر إلى الواقع ، وهو على أقسام :
قسم : لا يرجع فيه إلى العرف ولا نظر فيه إلى اللفظ أصلا ، بل البحث فيه عقلي محض ، كمباحث مقدمة الواجب ، واجتماع الأمر والنهي ، وحرمة الضد.
وقسم آخر ، له مقابلة تامة مع القسم السابق المسمى بالمباحث العقلية ، وهو ما يرجع فيه إلى العرف ، وتمام النظر فيه إلى اللفظ ، كمباحث دلالة الأمر على الوجوب والنهي على الحرمة ، وثبوت المفهوم للقضية الشرطية ، وحمل المطلق على المقيد ، ويسمى هذا القسم بمباحث الألفاظ.
وقسم ثالث يبحث فيه عن دليلية ما يصلح لأن يكون دليلا وما يكون قابلا لذلك ولو إمكانا ، كمباحث حجية الشهرة والإجماع المنقول وظاهر الكتاب ونحو ذلك ، ويسمى هذا القسم بمباحث الحجج.
والقياس والاستحسان أيضا من هذا القسم ، وإنما ألغوا
পৃষ্ঠা ৪
البحث عنهما ، لأن بطلانهما صار من البديهيات ، وإلا فهما لا يكونان قابلين للبحث عن حجيتهما.
وقسم رابع يبحث فيه عن تعارض حجتين ودليلين ، سواء كانا من سنخين ، كتعارض أدلة الأمارات والأصول وتعارض الأدلة المتكفلة لأحكام العناوين الأولية والثانوية ، أو كانا من سنخ واحد ، كتعارض خبرين أو ظاهرين ، ويسمى هذا القسم بمباحث التعادل والتراجيح.
وهنا مباحث أخر تسمى بالمبادئ تبحث في مقدمة الكتاب ، كالبحث عن تعريف علم الأصول وموضوعه ، والبحث عن الحقيقة الشرعية والصحيح والأعم والمشتق ، فلا بد من البحث عن كل قسم من الأقسام الستة ، في محله ، فلا وجه لإدخال صاحب المعالم قدسسره بحث مقدمة الواجب في مباحث الألفاظ مع كونه من المباحث العقلية ، ونحن نتبع الأكابر في ترتيب هذه المباحث ، ونشرع أولا فيما يذكر في مقدمة علم الأصول من الأمور :
الأول : في موضوع العلم ، وفيه جهات من البحث :
الأولى : في أن علمية العلم بموضوعه أولا يحتاج العلم إلى موضوع واحد جامع بين جميع موضوعات المسائل؟ والحق : عدم الحاجة.
وما ذكروه في وجهه من أن كل علم له غرض واحد يترتب على مسائله ، وبما أن الواحد لا يصدر عن الكثير بما هو كثير
পৃষ্ঠা ৫
فلا بد من ترتب هذا الغرض الواحد على الجامع بين موضوعات المسائل لا على نفسها ، مخدوش من وجوه (1)، إذا أولا : لا يلزم أن يكون لكل علم غرض خارجي غير المعرفة بمسائله ، فإن من العلوم كالفلسفة العالية ، والتاريخ ، وغيرهما ما لا يكون الغرض منه إلا نفس العلم والمعرفة بمسائله من دون تعلق غرض آخر بالعلم بمسائله.
وثانيا : الكبرى المتسالم عليها في علم الفلسفة على تقدير عدم المناقشة في أصلها إنما تتم في الواحد الشخصي لا النوعي ، وواضح أن الغرض من علم الأصول مثلا وهو القدرة على الاستنباط واحد نوعي ، ضرورة أن الفروع المتفرعة على مسألة حجية الخبر الواحد مغايرة لما يتفرع على مسألة حجية الاستصحاب ، والقدرة على استنباط هذه مغايرة للقدرة على استنباط تلك الفروع.
وثالثا : لو سلم كون الغرض شخصيا مع ذلك لا يتم الاستدلال ، فإنه يتم على تقدير ترتب الغرض الشخصي على كل واحد من المسائل ، فيلزم أن يكون بين موضوعاتها جامع حتى
পৃষ্ঠা ৬
لا ينافي القاعدة ، وليس كذلك في محل الكلام ، فإن الغرض من أي علم مترتب على مجموع مسائله ، نظير الخاصية الموجودة في المعاجين ، والمصلحة المترتبة على مجموع أجزاء الصلاة من مبدئها إلى منتهاها.
ورابعا : لو سلم جميع ذلك ليس الغرض من العلم مترتبا على نفس المسائل بموضوعاتها ومحمولاتها ونسبها فضلا عن ترتبه على خصوص موضوعاتها ، بداهة أن مسائل علم الأصول وقواعدها ثابتة مدونة ، وهكذا قواعد غيره من العلوم ثابتة في وعاء المناسب له ، ومع ذلك لا يقدر كل أحد على الاستنباط ، ولا يحصل الغرض من سائر العلوم لكل أحد ، فالغرض من أي علم مترتب على المعرفة بمسائله والعلم بها فلا بد حفظا للقاعدة المتسالم عليها من أخذ الجامع بين هذه العلوم ، أي العلم بكل مسألة مسألة لا أخذ الجامع بين الموضوعات.
وخامسا : من العلوم ما لا يمكن أخذ الجامع بين موضوعات مسائله ، كعلم الفقه (1)، فإن بعض موضوعات مسائله من الأمور الوجودية وبعضها من الأمور العدمية ، كترك الأكل والشرب في
أولا : بأنه في الفقه يبحث عما ليس فعلا للمكلف أيضا ، كالبحث عن مطلق الأحكام الوضعية من العقود والإيقاعات والمواريث وغيرها.
وثانيا : بأن فعل المكلف جامع انتزاعي لا حقيقي.
পৃষ্ঠা ৭
الصوم ، وبعضها من الأمور الانتزاعية ، كالغصب المنتزع من الكون في دار للغير تارة ومن لبس لباسه أخرى ومن النوم في فراشه ثالثة ، وبعضها من مقولة الوضع ، كالقيام في الصلاة ، وبعضها من مقولة أخرى ، كالنية والقراءة ، ومن المعلوم أن لا جامع بين الأمر الوجودي والعدمي ولا بين الأمر الحقيقي والانتزاعي ولا بين المقولات التسع العرضية ، وإلا لم تكن المقولات بمقولات ، بل مقولة واحدة.
ومن جميع ما ذكرنا ظهر أن تمايز العلوم ليس بتمايز موضوعاتها ولا بتمايز محمولاتها ولا بتمايز أغراضها ، بل يختلف الأمر ، فربما لا نظر لمدون علم إلا إلى معرفة أحوال موضوع خاص ، كعلم التأريخ المدون لمعرفة أحوال طائفة خاصة أو شخص خاص.
وربما لا نظر له إلا إلى محمول خاص ، وغرضه معرفة ما يحمل عليه هذا المحمول ، كما إذا دون علما لمعرفة كل ما يعرضه الحركة والسكون.
وربما لا نظر له إلا إلى الغرض المترتب على ما دونه ، كغالب العلوم ، فلا يكون تمايز العلوم بأجمعها بالموضوعات ولا بالمحمولات ولا بالأغراض وإن كان الغالب أن يكون التمايز بالأغراض (1).
পৃষ্ঠা ৮
الجهة الثانية : في الفرق بين العرض الذاتي والغريب.
قد قسموا ما يحمل على الشيء إلى ذاتي وغيره في بابين : باب الكليات الخمس وباب البرهان.
والمراد بذاتي باب إيساغوجي (الكليات الخمس) ما يقابل العرض العام والخاص ، وهو ما به قوام الشيء وحقيقة ذاته ، كحيوانية الإنسان وناطقيته وإنسانيته ، وبالجملة الجنس والنوع والفصل.
والمراد بذاتي باب البرهان ما يكون بين الثبوت للشيء بحيث يكفي وضع الذات في ثبوته له ، كزوجية الأربعة وإمكان الإنسان ، ويقابله العرضي بمعنى ما لا يكون بين الثبوت له ، كعلم الإنسان وسخاوته وأمثالهما.
والمراد بالذاتي الذي ذكروه عند قولهم في مقام تعريف موضوع العلم : «موضوع العلم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية» لا هذا ولا ذاك ، ضرورة أن محمولات المسائل ليست من قبيل الجنس والفصل لموضوع العلم وما به قوامه وحقيقة ذاته ، ولا بينة الثبوت لموضوع العلم ، فإنها نظرية ، وإلا لا تقع موردا للبحث ، بل المراد منه معنى آخر اصطلحوا عليه ، وهو ما يعرض للشيء أولا وبالذات بلا واسطة في العروض ، سواء كان له واسطة في الثبوت والمراد بالواسطة في الثبوت ما يكون علة للعروض ،
পৃষ্ঠা ৯
كعروض الحرارة للماء بواسطة النار (1) أو لم يكن له واسطة في الثبوت أيضا ، كعروض إدراك الكليات للنفس الناطقة.
ويقابل العارض الذاتي بهذا المعنى ، العارض الغريب ، وهو ما يكون له واسطة في العروض بأن يعرض للشيء أولا ثم بواسطته يعرض للشيء الآخر ، كالتحرك العارض لجالس السفينة بسبب عروضه للسفينة ، فظهر أن الذاتي في مقابل الغريب قسم من أقسام العرضي ، وهو مقسم للعارض الذاتي والغريب.
ثم إن محمولات المسائل كلها لها واسطة في الثبوت ، لوجود العلة لها لا محالة ، ولها واسطة في الإثبات ، لعدم كونها بديهية ضرورية ، بل نظرية ، وذكروا أنها عارضة لموضوع العلم بلا واسطة في العروض.
وقسموا العارض إلى سبعة أقسام :
1 : ما يعرض للشيء بلا وساطة شيء لا ثبوتا ولا عروضا ، كعروض الإدراك للنفس الناطقة ، ومثله عوارض غيرها من البسائط ، ولا إشكال في كونه من الذاتي.
2 3 : وما يعرض بواسطة أمر داخلي أعم أو أخص.
4 7 : وما يعرض للشيء بواسطة أمر خارجي أعم أو أخص أو مساو أو مباين.
পৃষ্ঠা ১০
واتفقوا على أن العارض بواسطة الأمر الداخلي الأخص ، من الذاتي ، والعارض بواسطة الأمر الخارجي مطلقا إلا المساوي ، من الغريب.
واختلفوا في الداخلي الأعم والخارجي المساوي.
فإن قلنا بأن العارض بواسطة الأمر الداخلي الأعم غريب ، يلزم منه إشكال في خصوص علم الأصول ، وهو أن يكون كثير من محمولات علم الأصول عوارض غريبة لموضوع علم الأصول ، فإن موضوعه على ما ذكروه : الأدلة الأربعة ، والبحث عن دلالة الأمر على الوجوب وغيره من مباحث الألفاظ ، وهكذا البحث عن حجية الظواهر موضوعه أعم من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة وظواهرها ، فالأمر الوارد في الكتاب والسنة نوع من مطلق الأمر الذي يقع البحث عنه في علم الأصول.
فقولنا : «يدل على الوجوب» عرض غريب له ، لعروضه أولا وبالذات لمطلق الأمر.
وهنا إشكال آخر جار في جميع العلوم ، وهو أن لازم الاتفاق على أن العارض بواسطة الأمر الخارجي الأخص غريب هو أن يبحث في جميع العلوم عن العوارض الغريبة لموضوع العلم ، فإن موضوعات المسائل أخص من موضوع العلم ، فعوارضها تعرض موضوع العلم بواسطة عروضها أولا لما يكون أخص منه.
وقد ذهب كل في مقام الجواب يمينا وشمالا ، ونحن
পৃষ্ঠা ১১
لا نتعرض لأجوبتهم ، لعدم الفائدة فيها ، ونقتصر على ما لعله يكون أحسن من جميعها ، ويظهر ما في الجميع من الوهن بما يرد عليه وما عندنا من الجواب.
وما نريد أن نقتصر عليه هو ما أفاده شيخنا الأستاذ (1).
وحاصله بتوضيح منا : أن موضوع العلم لو كان مأخوذا على نحو الإطلاق ، لكان الأمر كما ذكر ، لكن الأمر ليس كذلك ، ضرورة أن فعل المكلف ليس موضوعا لعلم الفقه على الإطلاق من جميع الجهات حتى من حيث كونه صادرا عن اختيار أو عن جبر وقهر ، بل هو موضوع له من حيث خاص ، وهو حيث الاقتضاء والتخيير ، فهو مقيد بما يكون من الأمور الانتزاعية ، والمقيد بشيء يكسب منه ما له من الحيثية.
مثلا : يكون الإنسان المقيد بكونه فاعلا وتاركا في آن واحد ، ممتنع الوجود ، لكسبه من قيده ما له من الامتناع.
والأمور الانتزاعية وهكذا الأمور الاعتبارية في أعلى مرتبة البساطة ، لأنها أبسط من الأعراض التي تكون تحت المقولات التسع العرضية ، فإنها وإن كانت بسيطة في الخارج وليس لها مادة ولا صورة في مقابل بعض الجواهر ، الذي تكون له مادة وصورة قابلة للتبديل بصورة أخرى أحيانا ، فتتبدل صورة الحيوانية بصورة الملحية ، إلا أنها مركبات عقلية ولها جنس وفصل ، وهذا بخلاف
পৃষ্ঠা ১২
الأمور الانتزاعية والاعتبارية ، فإنها بسائط عقلية وخارجية ، ولا جزء لها ذهنا وخارجا ، فإذا كانت الأعراض لبساطتها الخارجية ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز ، فالأمور الانتزاعية والاعتبارية أولى بأن تكون كذلك ، لكونها أبسط منها ، فيكون المقيد بالأمر الانتزاعي أيضا ما به الامتياز فيه عين ما به الاشتراك ، وتصير النتيجة : أن موضوع العلم عين موضوعات المسائل ، وتكون خصوصيات موضوعات المسائل كالفاعلية والمفعولية والمضاف اليهية ملغاة في مقام عروض المحمولات لها.
وبعبارة أخرى : لو كانت نسبة موضوع العلم إلى موضوعات المسائل نسبة الجنس إلى أنواعه أو النوع إلى أصنافه وأفراده ، لتم الإشكال ، لكن ليس كذلك ، بل نسبته إليها نسبة الأمر الانتزاعي إلى مناشئ انتزاعه.
وما أفاده قدسسره غير تام ، ويرد عليه :
أولا : أن هذه الحيثيات راجعة إلى البحث لا إلى موضوع البحث ، ضرورة أن الصلاة بنفسها واجبة لا من حيث الاقتضاء.
مثلا : يمكن البحث عن الدار الكذائية من جهات ، فيقال : هذه الدار قيمتها كذا أولا ، مساحتها كذا أولا ، ارتفاعها كذا أولا ، والموضوع في الجميع هي الدار بنفسها ، لا الدار من حيثية خاصة ، فالبحث تارة يقع من حيث وأخرى من حيث آخر ، لا أن الموضوع مقيد بحيث دون حيث.
পৃষ্ঠা ১৩
وثانيا : هذا الأمر الانتزاعي أي موضوع العلم المقيد بالحيثية الخاصة إما أن يلاحظ معرفا ومشيرا إلى موضوعات المسائل ، وإما أن يلاحظ مستقلا ، فإن لوحظ معرفا ومشيرا ، فلازمه إنكار وجود الموضوع للعلم ، وإن لوحظ مستقلا ، فلازمه أن يكون ما يعرض لمنشإ انتزاعه وهي موضوعات المسائل عرضا غريبا له ، إذ عارض النوع إذا كان غريبا بالإضافة إلى الجنس مع كون الجنس متحدا مع النوع ذاتا ، فعارض منشأ الانتزاع بالقياس إلى الأمر الانتزاعي الذي لا يتحد مع منشئه أولى بالغرابة.
وثالثا : الحيثيات وإن كانت من الأمور الانتزاعية البسيطة عقلا وخارجا ، إلا أن المقيد بها لا يكسب منها جميع ما لها من الجهات حتى البساطة ، ضرورة أن الدار الواقعة في جهة الفوق مقيدة بالفوقية التي هي أمر انتزاعي بسيط ، ومع ذلك لها أجزاء خارجية.
نعم المقيد بالممتنع يكسب ما للقيد من الامتناع.
ورابعا : سلمنا أن موضوع العلم بسيط ، وما به الامتياز فيه عين ما به الاشتراك الذي هو حيث خاص لكن لا تعرض عوارض موضوعات المسائل عليها أي على موضوعات المسائل ملغى عنها الخصوصيات مأخوذا فيها مجرد الحيث الذي يقيد به موضوع العلم ، ضرورة أن خصوصية فاعلية الكلمة ومفعوليتها لها دخل في عروض الرفع والنصب لها.
وهكذا في علم الفقه فعل المكلف بعنوان كونه صلاة واجب ،
পৃষ্ঠা ১৪
وبعنوان كونه غيبة حرام ، ولا معنى لعدم دخل عنوان الصلاة والغيبة في الوجوب والحرمة.
فالتحقيق في الجواب أن يقال : منشأ هذا الإشكال وسابقه الذي يختص بعلم الأصول أمران كل منهما قابل للمنع :
أحدهما : الالتزام بأن موضوع العلم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، وهذا الالتزام بلا ملزم ومجرد دعوى بلا دليل ، وأظن أنه ابتدعه بعض الفلاسفة وجرى في الألسنة تقليدا.
وذلك لما عرفت من أن علمية العلم ربما تكون بالموضوع أو بالمحمول ، وغالبا تكون بالغرض الذي دعا المدون إلى تدوين العلم لأجله ، فكل ما له دخل في غرض المدون يصح البحث عنه في هذا العلم ولو كان عرضا غريبا لموضوعه بل ولو كان عرضا غريبا لموضوعات مسائله أيضا.
نعم ينبغي أن لا يكون من قبيل الوصف بحال المتعلق والإسناد المجازي ك «جرى الميزاب» بل يكون من قبيل الوصف بحال الموصوف نفسه ، والإسناد الحقيقي ، وإن كان لا محذور في كونه من قبيل الإسناد المجازي إذا كان هو أيضا له دخل في الغرض.
وبعبارة أخرى : لا بد أن لا يعد البحث لغوا بلا فائدة.
وهكذا إذا كان نظر المدون إلى موضوع خاص أو محمول خاص يصح البحث عن كل ما يكون إسناده إلى هذا الموضوع أو
পৃষ্ঠা ১৫
إسناد هذا المحمول إليه إسنادا حقيقيا ووصفا بحال نفسه.
وثانيهما : القول بأن عوارض الأخص غريبة بالإضافة إلى الأعم ، وهكذا العكس.
وهذا أيضا ممنوع ، فإن السلسلة الطولية من الشخص والصنف والنوع والجنس القريب إلى جنس الأجناس مفاهيم متعددة لها وجود واحد حقيقة ، فزيد حقيقة عالم وإنسان وحيوان وجسم وجوهر ، فعوارض زيد حقيقة عوارض للإنسان وللعالم ، فإذا كان عادلا حقيقة يصح أن يقال : العالم عادل والإنسان عادل ، إذ ليس المراد العالم والإنسان بوجودهما السعي ، بل المراد الإنسان بنحو الطبيعة اللابشرط القسمي وبنحو القضية المهملة التي هي في قوة الجزئية.
ولعل هذا مراد المحقق السبزواري مما أفاده في حاشية الأسفار (1) من أن موضوعات العلوم مأخوذة لا بشرط ، فعوارض موضوعات المسائل عوارض لموضوع العلم حقيقة.
وهكذا في العكس حقيقة يصح أن يقال : زيد يمشي بالإرادة ، أو الإنسان يمشي بالإرادة ، إذ وجود زيد وإنسان حقيقة وجود الحيوان.
فظهر أنه لو فرضنا لزوم كون البحث في العلوم عن العوارض الذاتية لموضوعاتها أيضا مع ذلك يندفع كلا الإشكالين : إشكال
পৃষ্ঠা ১৬
أعمية بعض موضوعات مسائل علم الأصول ، وأخصية موضوعات مسائل جل العلوم عن موضوعات العلوم ، وأن عوارض الأخص عوارض للأعم حقيقة وبالعكس.
الأمر الثاني : في تعريف علم الأصول.
وقد عرفه القوم بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية.
وقد عدل عنه صاحب الكفاية ، وعرفه بأنه «صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام ، أو التي ينتهى إليها في مقام العمل» (1).
وأتى بلفظ المعلوم وذكر الفاعل في باب البراءة ، وقال : «أو التي ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل» (2).
ووجه عدوله وإضافة قيد «أو التي ينتهي» إلى آخره : أنه قدسسره فهم من الحكم الشرعي في تعريف القوم الحكم الواقعي الذي هو مقسم للقطع والظن والشك كما جعله الشيخ (3) قدسسره مقسما لها ، حيث إن الحكم الظاهري مقطوع الوجود أو العدم ، فأضاف هذا القيد لإدراج ما هو خارج عن التعريف ، وهو الظن الانسدادي على تقدير الحكومة ، والأصول العملية ، فإنها لا يستنبط منها الحكم الواقعي ، بل العمل بالظن الانسدادي على
পৃষ্ঠা ১৭
الحكومة مجرد وظيفة يعينها العقل في مقام الامتثال ، وهكذا الأصول العملية العقلية ، والشرعية منها وإن كان يستنبط منها الحكم الشرعي ، إلا أنه الحكم الظاهري لا الواقعي.
ولكن لا وجه للعدول ، حيث إن المراد من الأحكام في تعريف القوم هي الأحكام الأعم من الواقعية والظاهرية ، فإنهم عرفوا الفقه بأنه «علم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية».
وأوردوا على أنفسهم : بأن الأحكام الشرعية ليس كلها معلوما ، بل بعضها مظنون أو مشكوك ، فكيف يعرف الفقه بأنه العلم بالأحكام!؟
وأجابوا : بأن المراد من الأحكام الأعم من الظاهرية والواقعية.
فعلى هذا يدخل في تعريف القوم الأصول العملية الشرعية بأجمعها حيث إنها أيضا يستنبط منها الحكم الشرعي غاية الأمر الظاهري منه لا الواقعي ، تبقى الأصول العقلية والظن الانسدادي على تقدير الحكومة.
والأصول العقلية بأنفسها ليست من مسائل علم الأصول ، إذ لا نزاع في قبح العقاب بلا بيان وقبح الترجيح من دون مرجح ووجوب دفع الضرر ، أي : العقاب المحتمل ، فإن الأول من فروع قبح الظلم ، والأخيرين مما استقل العقل به ، فلا يقع البحث عن هذه الكبريات بأنفسها في علم الأصول ، بل البحث في أن أخبار
পৃষ্ঠা ১৮
الاحتياط هل هي تامة سندا ودلالة وبلا معارض حتى تكون بيانا ، أو لا حتى تتحقق صغرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان؟
وهكذا في دوران الأمر بين محذورين يبحث في أن الشارع هل قدم جانب الحرمة ورجحه ، أو لا حتى يثبت التخيير العقلي بقاعدة قبح الترجيح بلا مرجح؟
وفي موارد العلم الإجمالي يقع البحث في أن أخبار البراءة وسائر أدلتها الشرعية هل تشمل أطراف العلم الإجمالي كلا أو بعضا ، أو لا تشمل أصلا حتى يكون في الفرض الأخير صغرى لوجوب دفع الضرر المحتمل ؟
وبالجملة ما لا يستنبط منه الحكم الشرعي وهي الكبريات بأنفسها مما هو المتسالم عليه ، وليس من مسائل علم الأصول ، وما هو من مسائل العلم ومورد البحث فيه يستنبط منه الحكم الشرعي على بعض تقاديره ، يعني مثلا البحث عن كون أخبار الاحتياط بيانا ، أو لا ، يستنبط منه الحكم الشرعي الظاهري ، وهو وجوب الاحتياط على تقدير القول بكونه بيانا ، كاستنباط الحكم الشرعي من مسألة حجية خبر الواحد على تقدير القول بالحجية دون القول بعدمها.
ومن هنا ظهر دخول الظن الانسدادي على تقدير الحكومة ، حيث إنه بهذا العنوان ليس موردا للبحث ، بل البحث عن أن الظن الانسدادي حجة أو لا ، وعلى تقدير حجيته هل هي بنحو
পৃষ্ঠা ১৯
الكشف ، يعني العقل يستقل بأن الشارع جعله طريقا وحجة ، أو بنحو الحكومة ، يعني أن العقل بنفسه يحكم بأنه حجة؟
فهذه المسألة لها تقادير يستنبط الحكم الشرعي منها على بعض تقاديرها ، ويكفي في كون المسألة أصولية ذلك ، ككثير من مباحث علم الأصول.
فاتضح من جميع ما ذكرنا أن تعريف القوم تام لا إشكال فيه ، ولا يحتاج إلى إضافة قيد «أو التي ينتهي» إلى آخره.
نعم ، هناك شبهة أخرى ، وهي أن المراد من التمهيد للاستنباط إن كان مجرد الدخل فيه ، فلازمه دخول مسائل علم اللغة والصرف والنحو والرجال وغير ذلك في علم الأصول ، ضرورة أن لها دخلا في الاستنباط.
وإن كان المراد ما كان جزءا أخيرا للاستنباط ويستخرج منه الحكم الشرعي بلا واسطة ، فأية مسألة أصولية كذلك؟ ضرورة أن مباحث الألفاظ وحدها لا تكفي لذلك ، بل تحتاج إلى تنقيح مباحث أخر.
مثلا : مجرد إثبات أن الأمر ظاهر في الوجوب لا يكفي لاستفادة الحكم من الخبر الآمر بشيء ، بل يحتاج إلى إثبات حجية الظواهر وحجية الخبر وتنقيح بحث التعادل والتراجيح لتقديمه على معارضه إن كان له.
والجواب : أن المسألة الأصولية ما يستنبط منها الحكم
পৃষ্ঠা ২০
الشرعي بلا واسطة (1) بنحو الموجبة الجزئية وفي الجملة ، وكل مسألة أصولية كذلك ، بخلاف مسائل سائر العلوم التي تعد من مبادئ هذا العلم ، فإنها لا يستنبط منها الحكم الشرعي ولو في الجملة.
بيان ذلك : أن مباحث الألفاظ نحو البحث عن أن الأمر ظاهر في الوجوب أو لا لا تحتاج دائما إلى تنقيح غيرها من المباحث الأصولية لاستنباط الحكم الشرعي ، إذ نفرض الكلام في الخبر المقطوع الصدور الآمر بوجوب شيء مثلا ، ونفرض أنه بلا معارض ، فالبحث عن كون الأمر ظاهرا في الوجوب يستنبط منه بعد البناء على ظهوره فيه وجوب ما قام الخبر المذكور على وجوبه ، ولا نزاع بعد إثبات ظهور الأمر في الوجوب ، في حجيته ، إذ حجية الظواهر مما لا خلاف فيه ولم يشك فيه أحد ، وإنما الخلاف في خصوصيات هذه الكبرى ، أي : حجية الظواهر ، فذهب منهم إلى حجيتها مطلقا ، وآخر إلى حجيتها بالإضافة إلى
فالأصح في تعريف الأصول أن يقال : هو العلم بالقواعد المشتركة لاستنباط جعل شرعي.
ومنه يعرف الفرق بين مسائل الأصول وقواعد الفقه. (م).
পৃষ্ঠা ২১
خصوص المقصودين بالإفهام دون غيرهم ، وثالث إلى اشتراط الظن بالوفاق في حجيتها ، ورابع إلى اشتراط عدم الظن بالخلاف فيها ، وخامس إلى اشتراط عدم كون الظاهر من ظواهر الكتاب.
وبالجملة لا ريب في أصل حجية الظواهر في الجملة ، ونحن نفرض الكلام فيما لم يستشكل فيه أحد ، نفرض مثلا كونه خبرا ومظنون الوفاق وبالإضافة إلى المقصودين بالإفهام.
والحاصل : أنا لا ندعي أن كل حكم فرعي يستنبط من مسألة واحدة من مسائل علم الأصول بلا واسطة ، بل ندعي أن كل مسألة أصولية يستنبط منها الحكم الشرعي بلا واسطة في الجملة وبنحو الموجبة الجزئية ، وهذا المعنى متحقق في جميع المسائل الأصولية دون غيرها.
ثم إن المراد من الحكم الشرعي الذي هو نتيجة المسألة الأصولية هو الحكم الكلي القابل لإلقائه إلى المقلدين ، كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ووجوب السورة في الفريضة مثلا.
وبذلك ظهر أن قاعدة الطهارة في الشبهات الحكمية مسألة أصولية لا قاعدة فقهية ، إذ الذي يمكن إلقاؤه إلى المقلد طهارة الحديد وبول وخرء الخفاش مثلا ، لا مدرك هذا الحكم الذي هو أصالة الطهارة في مشكوك الطهارة ، إذ المقلد عاجز عن تحصيل شرائط جريانها من الفحص عن الدليل أو عن معارضه وإعمال قواعده.
পৃষ্ঠা ২২