على أن تأثير هذه الشخصيات على ماركيوز لم يمارس في وقت واحد أو في نفس الميادين؛ فقد كان تأثير «هيجل» هو الأسبق، وهو الذي ظل ملازما له حتى النهاية. وتلاه تأثير ماركس، ومع «نيتشه». وفي مرحلة تالية كان تأثير «فرويد»، ثم «هيدجر»، «ومن جهة أخرى فإن تأثير هيجل وهيدجر كان أقرب إلى الطابع الفلسفي، على حين أن «ماركس ونيتشه وفرويد» قد زودوه بالأسلحة اللازمة لنقد المجتمع الحديث نقدا حضاريا وأيديولوجيا.»
ولكن هذا كله قد يوحي بأن تفكير ماركيوز قد سار في ميادين منفصلة. بل إن عنوان هذا القسم قد يعني أن ثمة نقدا فلسفيا مستقلا، وأن لدى ماركيوز مذهبا واسع الأطراف، يعالج في جانب منه مشكلات فلسفية خالصة وفي جانب آخر مشكلات اجتماعية أو نفسية أو فنية. وحقيقة الأمر أن هذه الصورة التجزيئية، وإن كانت تصدق على كثير من المفكرين، هي أبعد ما تكون عن الصواب في حالة ماركيوز؛ ذلك لأن من الميزات القليلة لفكره ذلك التماسك والإحكام وروح الوحدة التي تبلغ أحيانا حد التكرار شبه الحرفي للآراء؛ فهناك علاقة عضوية وثيقة بين كل ما يقوله ماركيوز في مختلف مجالات الفكر.
ولقد تعمدنا أن نبدأ هذا العرض لفكر ماركيوز بالكلام عن نقده الفلسفي لسببين رئيسيين: «أولهما» أن النقد الفلسفي عنده أساس لكل نقد آخر، وأن الفلسفة هي التي تقدم بذور تفكيره في سائر الميادين، «وثانيهما» أن نظرته إلى الفلسفة - التي يفترض أنها أكثر ميادين الفكر تجريدا - كانت أبعد ما تكون عن التجريد، بل إن الفلسفة عنده يستحيل أن تنعزل وتنتحي جانبا، تاركة بقية ميادين النشاط الروحي وشأنها؛ فهي على الدوام متشابكة متداخلة مع هذه الميادين. ومن هنا كان عرض نقده الفلسفي في بداية هذا البحث يمثل في الواقع إشارة واضحة إلى تلك الوحدة الفكرية العميقة التي هي من أبرز سمات هذا الفيلسوف. •••
إن تفكير ماركيوز يعد في واقع الأمر نموذجا للبحث الفلسفي الذي لا يكتفي بمعالجة المفاهيم أو المذاهب بصورة تجريدية تعزلها عن مضمونها الاجتماعي، بل هو يحاول دائما كشف هذا المضمون حتى في أشد المفاهيم تجريدا، وحتى في تلك المذاهب التي تبدو بعيدة كل البعد عن حركة الواقع ومجرى التاريخ. وهو من جهة أخرى ينقب عن الأسس الفلسفية للحركات والتيارات الاجتماعية في عصرنا الحديث بوجه خاص، ويؤمن بأن هناك، من وراء كل ممارسة عملية أساسا نظريا تستطيع الفلسفة أن تعبر عنه تعبيرا كافيا. «وهكذا يتبين لنا، في موقف ماركيوز من الفلسفة، اتجاهان متكاملان: أولهما الاتجاه إلى كشف الأساس العيني - المستمد من تجربة المجتمع الفعلية - للمعاني والأفكار الرئيسية التي تحكمت في مسار الفكر الفلسفي، وثانيهما هو الاتجاه المقابل الذي لا يكتفي، في تحليله لأية حركة اجتماعية، بالوصف المباشر، بل يمضي في التحليل حتى يكتشف لها أسسا فلسفية عميقة.» ومن الجلي أن الاتجاه الأول يبدو كما لو كان يقضي على الطابع المميز للفلسفة؛ إذ إنه لا يعترف بالاستقلال الذاتي للمفاهيم الكبرى في الفلسفة، وإنما يربطها على الدوام بسياق أوسع، هو سياق العلاقات الاجتماعية التي تكتسب هذه المفاهيم معناها الحقيقي منها، ومن ثم فهو ينكر أن يكون للفلسفة تطور تلقائي مستقل، وإنما يجعل تطورها جزءا من التطور الأعم الذي مرت به المجتمعات البشرية في كفاحها من أجل حياة تسودها علاقات متحررة من الظلم والاستغلال. غير أن الاتجاه الثاني يعوض تأثير الأول، ويعيد تأكيد هذا الطابع المميز للفلسفة، بل إنه يجعل الفكر الفلسفي النظري منبثا في أكثر حركات التاريخ عينية وأقواها تأثيرا في حياة الناس العملية. ومن ثم فإن الفلسفة تصبح، في هذه الحالة، هي التيار الخفي الذي يتحكم في كل ما يظهر فوق السطح من اتجاهات.
ومعنى ذلك أن إضفاء الطابع العيني على الفلسفة لا يتم - عند ماركيوز - على حساب الفلسفة ذاتها، وهو في ذلك يتميز عن الكثيرين ممن يستهويهم هدف القضاء على عزلة الفلسفة وتستبد بهم الرغبة في إعطائها وظيفة عملية من نوع ما، وإزالة الحواجز بينها وبين بقية مظاهر النشاط العيني للإنسان، فينتهي بهم الأمر إلى القضاء على خصوصية التفكير الفلسفي، أو إلغاء كل ما هو مميز له. فقيمة المحاولة التي قام بها ماركيوز - مع الاعتراف بكل ما يشوبها من عيوب سننبه إلى البعض منها بعد قليل - تكمن في أنها قد احتفظت للفلسفة بكل عناصرها، واكتشفت، داخل هذه العناصر، مضمونا عينيا هو أساس تلك النظرة الجديدة التي تأمل بها ماركيوز مفاهيم الفلسفة وتياراتها الكبرى.
ولقد عبر ماركيوز ذاته تعبيرا واضحا عن نظريته الجديدة هذه، القائلة بوجود مضمون اجتماعي وتاريخي حتى لأشد المفاهيم الفلسفية تجريدا، فقال: «توجد في الفلسفة مفاهيم أساسية لها طابع ميتافيزيقي ينأى بها عن الجذور الاجتماعية التاريخية للفكر. ويبدو أن بقاء مضمونها على ما هو عليه في أشد النظريات الفلسفية تباينا هو أقوى تبرير لفكرة «الفلسفية الأزلية الثابتة
» ومع ذلك فحتى أرفع التصورات الفلسفية وأشدها مفارقة تخضع للتطور التاريخي، وليس ما يتغير هو مضمونها، بقدر ما هو موقعها ووظيفتها داخل المذاهب الفلسفية.»
1
ومن الجدير بالذكر أن ماركيوز قد اتخذ هذا الموقف من الفلسفة منذ بداية حياته الفكرية الناضجة، وكان اتخاذه هذا الموقف تعبيرا عن طريقته الخاصة في الجمع بين تأثير «هيجل وماركس وهيدجر» في مركب واحد؛ ذلك لأن هؤلاء الفلاسفة الثلاثة، وإن اختلفوا في اتجاههم العام اختلافا هائلا، يشتركون جميعا في أنهم يؤمنون بأن للفلسفة طابعا عينيا، وبأن عهد التجريد المطلق قد انتهى. وهكذا نرى ماركيوز يؤلف بحثا من أول كتاباته بعنوان «في الفلسفة العينية
über konkrete Philosophie » (1929م) وينطلق فيه من أفكار «هيدجر»كما عبر عنها في كتابه الأكبر «الوجود والزمان»، ليمزجها بأفكار «هيجل وماركس» في التاريخ، ويخرج من هذا كله بوظيفة جديدة للفلسفة - حتى في أشد اتجاهاتها إغراقا في التجريد - هي في أساسها وظيفة عينية مرتبطة بالواقع والتاريخ، وبالمجتمع الذي نشأت فيه.
অজানা পৃষ্ঠা