naturaliste
متجاهلا تماما وظيفته الأصلية بوصفه رفضا للواقع وتباعدا عنه. وفي المجتمعات الرأسمالية يفقد الفن وظيفته الثورية إذ يندمج في المجتمع، ويتمسك بمبدأ الواقع، ويدعم النظام القائم بدلا من أن يحارب من أجل تجاوزه ولقد كانت الروح التجارية التي يعامل بها الفن في المجتمع الصناعي الرأسمالي هي الوسيلة الكبرى التي يتبعها هذا المجتمع لابتذال الفن والقضاء على ثوريته؛ فالفن والأدب ينتشران على أوسع نطاق، ويدخلان كل بيت، ويبدو ظاهريا أنهما حققا رسالتهما على الوجه الأكمل، مع أن هذا الانتشار الواسع ذاته هو الذي يؤدي إلى تسطيحهما وربطهما بمجرى الحياة اليومية الرتيبة، وإدماجهما - بالتالي - في النظام القائم.
فهل يعني ذلك أن ماركيوز يدعو إلى عودة الفن إلى قصور النبلاء وصالونات الأرستقراطيين، وإلى تضييق نطاقه وقصره على صفوة مختارة؟ وإذا كان بيع الأعمال الأدبية الكبرى، والتسجيلات الكلاسيكية الرائعة، في الصيدليات وأسواق البقالة (كما يحدث فعلا في الولايات المتحدة) قد أدى إلى تسطيحها وضياع قدرتها على الرفض والاحتجاج، فهل يعني ذلك أن نتنازل عن المزايا الهائلة التي أتاحها التقدم التكنولوجي، ونحمل على الاتجاه الديمقراطي في الاستمتاع بثمار الفن والأدب؟ يرد «نيكولاس» على هذا التساؤل بقوله: «كثيرا ما أسيء فهم أفكار ماركيوز في هذه المسألة. فمن السخف الادعاء بأن ماركيوز يهاجم انتشار الطابع الديمقراطي في الفن والأدب. بل إنه، على خلاف ذلك، يهاجم ما له بعد واحد، يهاجم ظاهرة التمثل والاندماج الثقافي بقدر ما يتم هذا التطبيع الثقافي في إطار من استمرار الاستغلال والربح. فلنسلم بمبدأ بيع مؤلفات بودلير (في الصيدليات). ولكن ماذا عسى أن يجد فيها القارئ؟ لا شيء مما كانت هذه الأعمال تنطوي عليه في عصرها، أعني قوتها المعارضة. وعلى ذلك فإذا كان التمثل والاندماج الثقافي الحالي يخلق «مساواة ثقافية» فإنه في الآن نفسه يحمي السيطرة والتسلط، وإذا كان هذا الانتشار يلغي الامتيازات الأرستقراطية القديمة، بوصفها امتيازات ظالمة مستبدة، فإنه يدعم المجتمع ذا البعد الواحد الذي يخلقه الترشيد التكنولوجي، ذلك الترشيد الذي يستحيل التباعد عنه أو الدخول في نزاع معه.»
4
ومع ذلك فإن آراء ماركيوز عن الفن بوصفه قوة ثورية رافضة للنظام القائم، تنطوي على قدر مفرط من التعميم، وتتعرض لكل ما يتعرض له التعميم السريع من انتقادات. ذلك لأن ما يسمى بخروج الفن عن القوانين القائمة، هو نوع من المغالطة التي تستغل الخلط، في استخدام لفظ «القوانين»، بين القوانين السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية من جانب، وقوانين الإدراك أو رؤية العالم من جانب آخر، فالأولى قوانين متغيرة يمكن التمرد عليها عندما تكون ظالمة، أما الثانية فهي مشتركة بين البشر، لها قدر كبير من الثبات الذي تتسم به قوانين علم النفس عامة، وتظل صحيحة في ظل أي نظام، وأي وضع اجتماعي. فإذا كان الفن يخرج عن القوانين بمعناها الثاني؛ لأنه يمنحنا رؤية غير عادية، وإدراكا غير مألوف، للعالم، فإن هذا لا يجعل منه على الإطلاق قوة تثور ضد القوانين بمعناها السياسي أو الاجتماعي.
ولو صح رأى ماركيوز هذا، لكان الفن التجريدي أشد الفنون ثورية؛ لأنه أكثرها خروجا عن الواقع القائم وتمردا عليه. ويبدو أن ماركيوز يميل ضمنا إلى الأخذ بهذا الرأي، بدليل أنه يعيب على الفن السوفيتي نزعته الطبيعية
Naturalisme
التي يرى فيها خروجا عن الفن الحقيقي بما فيه من رفض للواقع وابتعاد عنه. ولكن رأيه هذا هو، على أحسن الفروض، رأي قابل للمناقشة؛ فقد أثبت تاريخ الفن أن النزعة الطبيعية اتجاه أساسي ظل يتردد منذ أقدم العصور حتى عصرنا الحاضر، ولم تكن فترات ظهوره فترات تدهور للفن على الإطلاق، كما أنها لم تكن فترات تتسم بالطابع المحافظ من الوجهة السياسية. هذا فضلا عن أن أي اتجاه فني يستطيع أن يزعم أنه يلتزم الواقع بمعنى، ويرفض الواقع بمعنى آخر. فحتى لو كان يرفض الواقع «السائد»، فمن الممكن القول إنه واقعي بمعنى أنه يبحث عن الاتجاهات المتطلعة إلى المستقبل، والموجودة في الواقع الراهن بصورة كامنة، ويعمل على تصويرها. وهكذا فإن كل قبول للواقع ينطوي ضمنا على رفض لواقع آخر، والعكس بالعكس. ومن هنا فإن من غير الممكن الكلام عن فن رافض أو فن قابل بالمعنى المطلق.
ومن جهة أخرى فإن كثيرا من اتجاهات الفن التجريدي - وهو فن لا يمكن وصفه إلا بأنه رافض للواقع - يمكن أن توصف، من زاوية معينة، بأنها اتجاهات تدعو إلى الرضوخ أو الامتثال من الناحية السياسية أو الاجتماعية؛ ذلك لأن مبدأ التجريد نفسه يمكن تفسيره بأنه هروب من الواقع وتباعد عنه. وحين يغرق الفنان في التجريد فمعنى ذلك أنه يترك الواقع العيني الملموس على ما هو عليه، ولا يقول «لا» أو «نعم» لمن يعبثون به وينشرون فيه الفساد، وإنما يخلق لنفسه عالما خاصا يمارس فيه فاعليته. وحتى لو كان هذا الهروب ناشئا عن السخط، فإنه ينطوي من الوجهة الموضوعية على مساعدة ضمنية للأوضاع الجائرة القائمة، تتمثل في السكوت عليها.
5
অজানা পৃষ্ঠা