تقديم
تصدير
المقدمة
الملك هنري الثامن
الشخصيات
البرولوج
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الختام
تقديم
تصدير
المقدمة
الملك هنري الثامن
الشخصيات
البرولوج
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الختام
هنري الثامن
هنري الثامن
تأليف
ويليام شكسبير
ترجمة
محمد عناني
تقديم
على نحو ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» - وما فتئت أردد ذلك في كتبي التالية عن الترجمة - يعد المترجم مؤلفا من الناحية اللغوية، ومن ثم من الناحية الفكرية. فالترجمة في جوهرها إعادة صوغ لفكر مؤلف معين بألفاظ لغة أخرى، وهو ما يعني أن المترجم يستوعب هذا الفكر حتى يصبح جزءا من جهاز تفكيره، وذلك في صور تتفاوت من مترجم إلى آخر، فإذا أعاد صياغة هذا الفكر بلغة أخرى، وجدنا أنه يتوسل بما سميته جهاز تفكيره، فيصبح مرتبطا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويا فقط، بل هو فكري ولغوي، فما اللغة إلا التجسيد للفكر، وهو تجسيد محكوم بمفهوم المترجم للنص المصدر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقا لخبرة المترجم فكريا ولغويا. وهكذا فحين يبدأ المترجم كتابة نصه المترجم، فإنه يصبح ثمرة لما كتبه المؤلف الأصلي إلى جانب مفهوم المترجم الذي يكتسي لغته الخاصة، ومن ثم يتلون إلى حد ما بفكره الخاص، بحيث يصبح النص الجديد مزيجا من النص المصدر والكساء الفكري واللغوي للمترجم، بمعنى أن النص المترجم يفصح عن عمل كاتبين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النص المصدر)، والكاتب الثاني (أي المترجم).
وإذا كان المترجم يكتسب أبعاد المؤلف بوضوح في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعض تلك الأبعاد حين يترجم النصوص العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فكره الخاص ولغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوت حظ المترجم من لغة العصر وفكره، فلكل عصر لغته الشائعة، ولكل مجال علمي لغته الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضا أساليب المترجم ما بين عصر وعصر، مثلما تتفاوت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية.
وليس أدل على ذلك من مقارنة أسلوب الكاتب حين يؤلف نصا أصليا، بأسلوبه حين يترجم نصا لمؤلف أجنبي ، فالأسلوبان يتلاقيان على الورق مثلما يتلاقيان في الفكر. فلكل مؤلف، سواء كان مترجما أو أديبا، طرائق أسلوبية يعرفها القارئ حدسا، ويعرفها الدارس بالفحص والتمحيص؛ ولذلك تقترن بعض النصوص الأدبية بأسماء مترجميها مثلما تقترن بأسماء الأدباء الذين كتبوها، ولقد توسعت في عرض هذا القول في كتبي عن الترجمة والمقدمات التي كتبتها لترجماتي الأدبية. وهكذا فقد يجد الكاتب أنه يقول قولا مستمدا من ترجمة معينة، وهو يتصور أنه قول أصيل ابتدعه كاتب النص المصدر. فإذا شاع هذا القول في النصوص المكتوبة أصبح ينتمي إلى اللغة الهدف (أي لغة الترجمة) مثلما ينتمي إلى لغة الكاتب التي يبدعها ويراها قائمة في جهاز تفكيره. وكثيرا ما تتسرب بعض هذه الأقوال إلى اللغة الدارجة فتحل محل تعابير فصحى قديمة، مثل تعبير «على جثتي
over my dead body » الذي دخل إلى العامية المصرية، بحيث حل حلولا كاملا محل التعبير الكلاسيكي «الموت دونه» (الوارد في شعر أبي فراس الحمداني)؛ وذلك لأن السامع يجد فيه معنى مختلفا لا ينقله التعبير الكلاسيكي الأصلي، وقد يعدل هذا التعبير بقوله «ولو مت دونه»، لكنه يجد أن العبارة الأجنبية أفصح وأصلح! وقد ينقل المترجم تعبيرا أجنبيا ويشيعه، وبعد زمن يتغير معناه، مثل «لمن تدق الأجراس»
for whom the bell tolls ؛ فالأصل معناه أن الهلاك قريب من سامعه (It tolls for thee) ، حسبما ورد في شعر الشاعر «جون دن»، ولكننا نجد التعبير الآن في الصحف بمعنى «آن أوان الجد» (المستعار من خطبة الحجاج حين ولي العراق):
آن أوان الجد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
فانظر كيف أدت ترجمة الصورة الشعرية إلى تعبير عربي يختلف معناه، ويحل محل التعبير القديم (زيم اسم الفرس، وحطم أي شديد البأس، ووضم هي «القرمة» الخشبية التي يقطع الجزار عليها اللحم)، وأعتقد أن من يقارن ترجماتي بما كتبته من شعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضح من أن تحتاج إلى الإسهاب.
محمد عناني
القاهرة، 2021م
تصدير
هذه هي المسرحية السادسة التي تخرجها هيئة الكتاب في سلسلة ترجمات شيكسبير، بعد «تاجر البندقية» (1988م)، و«يوليوس قيصر» (1991م)، و«حلم ليلة صيف» (1992م)، و«روميو وجوليت» (1993م)، و«الملك لير» (1996م)، وهي تخرج بالعربية كاملة لأول مرة. ولما كانت العادة قد جرت على تصنيفها ضمن المسرحيات التاريخية، وثار الخلاف حول نسبتها إلى شيكسبير وقيمتها الفنية، كان لا بد من كتابة مقدمة وافية تتناول هذه القضايا الخلافية، إلى جانب نبذة تاريخية موجزة عن العصر الذي تصوره وقضايا الإصلاح الديني في إنجلترا، مما استغرق المساحة المخصصة للمقدمة وزاد عليها، فلم أتناول أي قضية تتعلق بالترجمة أو المذهب الذي ارتضيته فيها، اكتفاء بكتابي «فن الترجمة الأدبية» الصادر عن الشركة المصرية العالمية للنشر - لونجمان عام 1997م. وأرجو أن تكون المقدمة على طولها ذات نفع لقارئ المسرحية ودارس الدراما الشيكسبيرية والمسرح العالمي بصفة عامة.
محمد عناني
القاهرة، 1996م
الكاردينال وولزي في لوحة رسمها له رسام معاصر (من كتاب حياة وولزي للأستاذ بولارد).
المقدمة
ظهرت أول طبعة من هذه المسرحية، في آخر القسم الذي يتضمن المسرحيات التاريخية من طبعة «الفوليو» الأولى لمسرحيات شيكسبير عام 1623م. ومعنى «الفوليو» هو «القطع الكبير» عندنا؛ أي حجم الصفحة الذي يبلغ ضعف حجم هذا الكتاب الحالي بالعربية، ويدل أصلها على الطي مرة واحدة للصحيفة الكبيرة المعتادة في طبعات الصحف اليومية محليا وعالميا. ونص المسرحية المطبوع في هذه الطبعة يختلف إذن عن نصوص كثير من المسرحيات الأخرى في أنه لم يطبع في حياة الشاعر (فيما يسمى بطبعات «الكوارتو»؛ أي ربع حجم الصحيفة أو ما يوازي «القطع المتوسط» لدينا) وإن كان قد طبع بعد ذلك بتعديلات كثيرة، أدخلها كبار المحققين والناشرين. أما النص المطبوع عام 1623م، فهو بالغ الوضوح، ويتضمن تقسيم المسرحية إلى فصول ومشاهد (بخلاف النصوص الأخرى)، إلى جانب إرشادات مسرحية وافية، والظاهر أنها كانت ضرورية بسبب مشاهد «الفرجة» الكثيرة التي تتسم بالجاذبية، و«الثراء البصري» وهو يعتبر عنصرا مهما من عناصر هذا العرض الخاص. ويقول فوكس
Foakes
محرر طبعة آردن
Arden (1955م و1962م) التي اعتمدت عليها في هذه الترجمة: «إن لغة «هنري الثامن» تتسم أحيانا بالتعقيد، وتتضمن صعوبات كثيرة في التفسير، ولا يعزى من ذلك إلى التحريف إلا أقل القليل.» - وهذه هي العبارة بالإنجليزية.
The language of
Henry VIII
is sometimes complicated, and offers many difficulties of interpretation, but few that can be attributed to corruption. p. xv.
ولذلك فقد اضطررت إلى إدراج الحواشي في الهامش، وإثبات ما يحتاج إلى الإثبات من الحقائق التاريخية التي يصورها النص، إلى جانب الخلافات التي ترجع إلى جمهور المحققين والناشرين مثل الدكتور صمويل جونسون
Samuel Johnson
والشاعر ألكسندر بوب
Alexander Pope ، والأساتذة و. أ. رايت
W. A. Wright
محقق طبعة كلارندون (وقد أشرت إليها باسم كلارندون فحسب) وك. ديتون
K. Deighton
محقق طبعة ماكميلان، وبولر
محقق طبعة آردن الأولى التي صدرت عام 1915م، ثم صدرت منقحة عام 1936م، وهي خلافات في التفسير وقراءة النص لا يمكن تجاهلها لأن بعض اللاحقين (مثل الأستاذ جورج هاريسون محقق طبعة بنجوين التي كنت اعتمدت عليها أول الأمر) يأخذ ببعضها ويترك البعض الآخر، وكان لزاما علي من ثم أن أقارن وأختار، ثم أثبت في الهامش آراء الآخرين، إيمانا مني بأن الترجمة لون من التفسير القائم على الاختيار أيضا.
وإذا كنت لم أعرض لمشكلات النص والتحقيق في ترجمتي لمسرحية «الملك لير» (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1996م) إلا عرضا عابرا في المقدمة، فإنني لا بد أن أعرض لهذه المشكلات تفصيلا هنا، بسبب ما شاع في طبعات شيكسبير الحديثة من أن هذا النص لا ينسب بأكمله إلى شيكسبير، وأن جون فلتشر
John Fletcher
شاركه كتابته. وكان فلتشر يصغر شيكسبير بنحو 15 سنة، واشتهر عنه مشاركة فرانسيس بومونت
Francis Beaumont
في كتابة المسرحيات، وله وحده 16 مسرحية، وكثيرا ما يشار إلى ما كتبه هو وبومونت باسم فلتشر فقط، وإلى الأسلوب باسم الأسلوب «الفلتشري»!
وهذه هي المشكلة الأولى التي لا بد من التصدي لها بسبب أهميتها العامة؛ أي التي لا تقتصر على تحقيق نصوص شيكسبير؛ فحتى منتصف القرن التاسع عشر لم يكن أحد يشك في نسبة النص إلى شيكسبير، ولكن أستاذا يدعى ج. سبيدنج
J. Spedding
نشر مقالا في مجلة اسمها
Gentleman’s Magazine
عام 1850م، بعنوان «من كتب مسرحية شيكسبير «هنري الثامن»؟» يقول فيه إنه تمكن من تمييز أسلوبين مختلفين في المسرحية «الأول معقد وحافل بالصور الشعرية» والثاني «تقل فيه نسبة الفكر والخيال إلى الألفاظ والصور». وأعد إحصاء بالسطور التي تنتهي بنهاية الجملة، وعلل الزيادة (العروضية) في الأبيات، وانتهى من ذلك إلى الزعم بأن هذه من السمات التي يتميز بها الأسلوب المعتاد لفلتشر؛ ومن ثم أعد قائمة بما يمكن أن ينسب في المسرحية إلى شيكسبير وما يمكن أن ينسب إلى فلتشر، باستثناء الفصل الرابع؛ إذ ذكر أنه أقوى من أن ينسب إلى فلتشر وأضعف من أن ينسب إلى شيكسبير. وفي العام نفسه كتب صمويل هيكسون
Samuel Hickson
مقالا يحمل عنوانا مماثلا في مجلة
Notes and Queries
ينتهي فيه إلى الرأي نفسه، وإن كان ينسب الفصل الرابع إلى فلتشر. ولم يلبث سبيلنج أن وافقه في رأيه.
وقبل أن نعرض لتفاصيل القضية نورد نموذجا مما يعتبره سبيدنج أسلوبا مميزا لشيكسبير، بسبب انتظام الإيقاع الشعري وعدم الخروج عن البحر إلا في المواضيع ذات الدلالة الدرامية، وهو ما حاكيته في الترجمة المنظومة بالعربية، وهذا هو النموذج الذي أورده جورج هاريسون، محرر طبعة بنجوين من المسرحية: إنه إجابة وولزي على الملك، في المشهد الثاني من الفصل الثالث:
My Sovereign, I confess your royal graces
Shower’d on me daily, have been more than could
My studied purposes requite, which went.
Beyond all man’s endeavours ... My endeavours
Have ever come short of my desires,
Yet fill’d with my abilities; Mine own ends
Have been mine so, that evermore they pointed
To th’good of your most Sacred Person, and
The profit of the State. For your good graces
Heap’d upon me (poor Undeserver) I
Can nothing render but allegiant thanks,
My prayers to heaven for you; my loyalty
Which ever has, and ever shall be growing,
Till death (that Winter) kill it.
Ill.ii. 166-179
مولاي، إنني أقر بالعطايا الملكية،
وكل ما أمطرتني به من النعم ... في كل يوم،
تلك التي تفوق ما أستطيع أن أناله مهما بذلت من جهود،
بل فوق ما يستطيع أي فرد أن يحققه.
أما إذا كانت جهودي قد أتت ببعض خير لي،
فإن غايتي كانت وما تزال تحقيق الذي
يعود بالخير العميم دائما
لشخصكم، وما له من بالغ القداسة،
وثروة البلاد كلها! وفي مقابل المكارم العظيمة
تلك التي أغدقتموها (فوق من لا يستحقها، أنا الضعيف).
لا أستطيع غير الشكر والولاء،
وكل دعوة من أجلكم إلى السماء،
وإخلاصي الذي ما انفك ينمو، بل وسوف يظل ينمو،
بل ولن يفنيه إلا الموت (ذلك الشتاء).
أما النموذج الثاني فهو حديث منفرد يقوله وولزي أيضا على المسرح، بعد إدراك انهيار آماله، وضياع حظوته لدى الملك، واقتراب النهاية المحتومة:
So farewell, to the little good you bear me. 350
Farewell? A long farewell to all my Greatness.
This is the state of Man; today he puts forth
The tender leaves of hopes, tomorrow blossoms,
And bears his blushing honors thick upon him:
The third day, comes a frost; a killing frost, 355
And when he thinks, good easy man, full surely
His greatness is a-ripening, nips his root,
And then he falls as I do. I have ventur’d
Like little wanton boys that swim on bladders:
This many summers in a sea of Glory,
But far beyond my depth: my tigh-blown
At length broke under me, and now has left me
Weary, and old with service, to the mercy
Of a rude stream, that must for ever hide me.
Vain pomp, and glory of this World, I hate ye, 365
I feel my heart new open’d. Oh how wretched
Is that poor man, that hangs on Princes’ favours!
There is betwixt that smile we would aspire to,
That sweet aspect of Princes, and their ruin,
More pangs, and fears than wars, or women have; 370
And when he falls, he falls like Lucifer,
Never to hope again.
III.ii, 350-372
إذن وداعا للقليل مما تضمرانه من كل خير! 350
وداع؟ بل وداع دائم للمجد والعظمة!
فذاك حال كل إنسان هنا في يومه!
قد ينشر الأوراق من آماله الغضة،
ويشهد البراعم الحسناء في غده،
ويحمل الورود القانيات الوافرات في مدارج الشرف،
لكنه يرى الصقيع القاتل الثقيل قادما في ثالث الأيام، 355
وعندما يظن وهو ناعم في الخير والهناء،
أن الثمار أوشكت على النضوج، وأن مجده لا شك قد أتي،
يرى الصقيع ناخرا جذورها،
والجذع قد هوى كما أهوي أنا!
لقد نزلت سابحا في بحر مجد صاخب، 360
مثل الصغار السابحين يمسكون بالقرب.
وكنت كل صيف أضرب الأمواج حتى اجتزت منطقة الأمان.
وبعدها شهدت كبريائي مثل قرية الصغار تنفجر،
ورحت أهوي منهكا محطما من طول ما جهدت،
وتحت رحمة البحر العنيف إذ سيطويني إلى الأبد!
يا ريف مجد العالم الخاوي وزيف الأبهة! 365
لشد ما أبغضكا! إني لأشعر أن قلبي يتفتح.
ما أتعس الذي يعيش عالة على رضى الأمراء ما أفقره!
فبين بسمة نحاول اقتناصها وبسمة الرضى على المحيا،
وبين وهدة السقوط والهلاك ألوان من الألم،
وهوة من المخاوف التي تزيد عن هول الحروب أو مخاوف النساء. 370
فإنه عند السقوط مبلس كأنه إبليس قد ضاع الرجاء منه للأبد!
وقد وضعت الأرقام هنا لمساعدة القارئ على المقارنة، ويعلق هاريسون على الفرق بين النصين قائلا إن «النهايات الضعيفة» إيقاعيا في الحديث المنفرد الأخير هي مما يزعم أنه ينتمي إلى أسلوب فلتشر أكثر ما يميز أسلوب شيكسبير، والمقصود بالنهايات الضعيفة استناد حروف القافية على مقطع غير منبور مثل
left me (362)، و
hide me (364)، و
hate ye (365)، وهذا أيضا مما قاله سبيدنج، ولكنه ليس من جوهر حجته؛ إذ يستند جوهر الحجة على تفاوت «المستوى اللغوي» بين أجزاء المسرحية، وتفاوت الإيقاعات أيضا، وهذا ما دفعني إلى اقتباس هاتين الفقرتين اللتين يزعم سبيدنج نسبتهما إلى كاتبين مختلفين. ولن أفيض في تحليل الإيقاعات فهي واضحة لمن يقرأ النص بصوت عال. وأرجو أن أكون قد وفقت في نقلها إلى العربية حتى يحس بها القارئ العربي، ولكنني سأشير قبل العرض السريع لقضية الاشتراك في الكتابة إلى أن طبعة بنجوين قد صدرت عام 1958م؛ أي قبل أن ينشر سايراس هوي
Cyrus Hoy
دراسته الرائعة (التي سنعود إليها) بأربعة أعوام، والتي يثبت فيها بما لا يدع مجالا للشك أن الفقرة الثانية هي أيضا من تأليف شيكسبير، وأنا أدعو القارئ إلى تأمل بعض الملامح الأساسية في أسلوب شيكسبير، والتي يعرفها كل دارس مهما صغر حظه من التعمق في علم الأسلوب، وأهمها «الاستعارة الممتدة
extended metaphor »؛ أي المبسوطة على مدى أبيات متعاقبة؛ فحديث «وولزي» الأخير يستند إلى ثلاث استعارات ممتدة؛ الأولى هي استعارة الشجرة وهي تزهر وتثمر ثم يقتل الصقيع الثمر، والثانية هي استعارة السباحة في اليم والغرق، والثالثة هي استعارة السقوط الذي لا أمل بعده ولا رجاء كأنه سقوط إبليس، والملمح الآخر هو «التعبير المضغوط
compressed » الذي يقتضي البسط عند ترجمته، وهناك ملامح أخرى مثل الاستعارة الخاطفة
swift shifting
وتردد الإيحاءات بالطباق المعنوي، وسوف نعود للصور الشعرية فيما بعد.
وفكرة الاعتماد على التحليل الأسلوبي، أو ما يسمى بالأدلة الداخلية
internal evidence ، للتوصل إلى معرفة المؤلف الحقيقي للنص فكرة ذات جاذبية لا تقاوم، أو قل على الأقل إنها فكرة وجد فيها الباحثون مجالا خصبا للبحث والكتابة، فانهمرت المقالات التي تؤيد تقسيم هيكسون أو تعارضه أو تدخل عليه بعض التعديلات، وهذا هو ما شاع في معظم الطبعات التي أشرت إليها في البداية:
البرولوج
فلتشر
الفصل الأول: المشهد الأول والمشهد الثاني
شيكسبير
الفصل الأول: المشهد الثالث والمشهد الرابع
فلتشر
الفصل الثاني: المشهد الأول والمشهد الثاني
فلتشر
الفصل الثاني: المشهد الثالث والمشهد الرابع
شيكسبير
الفصل الثالث: المشهد الأول
فلتشر
الفصل الثالث: المشهد الثاني، السطور 1-203
شيكسبير
الفصل الثالث: المشهد الثاني، السطور 204-459
فلتشر
الفصل الرابع: المشهد الأول والمشهد الثاني
فلتشر
الفصل الخامس: المشهد الأول
شيكسبير
الفصل الخامس: المشهد الثاني والمشهد الثالث والمشهد الرابع
فلتشر
الختام
فلتشر
وتبارى النقاد في العثور على الأدلة النصية التي تؤكد مشاركة فلتشر في كتابة المسرحية، وإن كان معنى الأسلوب الذي يستندون إليه أقرب إلى ما نسميه بناء الجملة أو التركيب
Syntax ؛ إذ كان مقصورا على بناء عبارات بعينها ومدى تواترها في أماكن معينة من النص، مثل وقوع
else
في آخر الجملة - «وإلا تأخرنا عن موعدنا
We Shall be late else » (1 / 3 / 65)
1
أو التركيب
and a [adjective] one (مثل
he makes a supper and a great one (1 / 3 / 52)) الذي يماثل العامية المصرية «عامل حفلة - لأ وإيه! حاجة هايلة !» بدلا من «عامل حفلة هايلة». أما مقابل هذا التركيب في الفصحى فيتطلب التوكيد اللفظي: «يقيم حفلة عشاء، حفلة رائعة!» إلى جانب استخدام بعض الكلمات في معان محددة مثل
sink
بمعنى
ruin (الهبوط أو يهبط بمعنى يدمر أو الدمار)، ولكن أهم الأدلة قاطبة هو تفضيل كل من الشاعرين لصيغ معينة من الأفعال المساعدة والضمائر، فشيكسبير يفضل (does) doth
وفلتشر (has) hath
وشيكسبير يفضل كتابة
them
كاملة وفلتشر يحذف (’em) th
وشيكسبير يفضل
you
وفلتشر يفضل .ye
وقد أعد أ. ك. بارتريدج
A. C. Partridge
إحصاء كاملا لهذه الاستخدامات في كتاب عنوانه: «
The Problem of Henry VIII Reopened , Cambridge
إعادة فتح ملف مشكلة هنري الثامن» أصدره عام 1949م، وأظن ظنا أنه استفاد من كتاب أصدره ثورندايك في أول القرن عن تأثير بومونت وفلتشر في شيكسبير، ونشر في الولايات المتحدة؛ إذ يعتمد اعتمادا مبالغا فيه على استخدام
them
الكاملة و ’em
المبتسرة
A. H. Thorndike,
The Influence of Beaumont and Fletcher On Shakespeare , Worcester, Mass, 1901, pp. 24-44 .
والواقع أنه لا يجد ما يشين أو يعيب التعاون بين شاعرين وخصوصا بين فلتشر وشيكسبير؛ فقد تعاون الشاعران في كتابة مسرحية طبعت عام 1634م، بعنوان «نبيلان تربطهما صلة القرابة» (
The Two Noble Kinsmen ) ويظهر اسماهما على الغلاف جنبا إلى جنب، كما اشتركا في كتابة مسرحية مفقودة هي «كاردينيو
Cardenio » وإن كانا قد سجلاها باسميهما في الشهر العقاري الإنجليزي، استنادا إلى ما ذكره تشيمبرز في كتابه الضخم «وليم شيكسبير: دراسة للحقائق والمشاكل» - مجلدان - عام 1930م،
W. S. Chambers William Shakespeare: A Study of Facts and
وقد ورد ذكرها في المجلد الأول في صفحة 528 وصفحة 538؛ ومن ثم فليست مسألة التعاون بالمسألة التي تتسبب في أي حرج للشاعرين، وكان كلاهما قادرا على الإفصاح عنها لو حدثت، ولكن عدم وجود أدلة تاريخية لا ينفي إمكانية حدوثها استنادا إلى الأدلة النصية. أما القول بأن المسرحية قيمتها الفنية أدنى من قيمة أعمال شيكسبير الأخرى ومن ثم فنسبتها إليه مشكوك فيها فهذا مردود عليه، والخلاف بين النقاد في تقدير قيمتها الفنية يشهد بأن الحكم على القيمة الفنية لم يتبلور حتى الآن بصورة قاطعة، ولا يكفي حتما لنفي نسبة المسرحية لشيكسبير.
ولنناقش الآن مبدأ الاستناد إلى الأدلة النصية. لقد قام عدد من كبار الباحثين والنقاد بتفنيد هذه الأدلة دليلا دليلا. وكان أولهم وأكثرهم إقناعا أستاذ متخصص هو بيتر ألكسندر الذي أصدر عام 1930م، كتابا عنوانه مقالات ودراسات، يتضمن فصلا عنوانه «التاريخ الحدسي أو مسرحية هنري الثامن لشيكسبير»
Essays and Studies , London 1930
وعنوان الفصل هو
Conjectural History or Shakespeare’s
Henry VIII
ويدحض فيه (في الصفحات 85-120) الأدلة الإحصائية، مبينا أن خصائص نهايات الأبيات وعلل الزيادة العروضية هي من خصائص أسلوب شيكسبير في مسرحياته الأخيرة، وأنها كانت شائعة في كتابات معاصريه في أوائل القرن السابع عشر وغير مقصورة على فلتشر، كما لا تخلو منها الفصول والمشاهد المنسوبة إلى شيكسبير. كما رصد الاختلافات الكثيرة بين الأسلوب المنسوب إلى فلتشر؛ أي المستقى من مسرحياته المنشورة، وبين الأسلوب المستخدم في المشاهد المنسوبة إليه في هذه المسرحية، وخصوصا كثرة وجود العبارات الاعتراضية هنا
parentheses ، وعدم انتهاء الجملة نحويا بانتهاء السطر أو البيت
run-on lines ، والأمثال السائرة، والتكرار، فوجد أنها أقل كثيرا في مسرحياته عنها في الأسلوب المنسوب إليه هنا. وقد أكد ذلك كتاب أصدره بولدوين ماكسويل عام 1939م، وعنوانه «دراسات في بومونت وفلتشر وماسينجر»، وخصوصا في الفصل الخاص باللغة
Baldwin Maxwell,
Studies in Beaumont, Fletcher and Massinger . كما أثبت باحث آخر هو هاردين كريج أن اختلاف الأسلوب في المسرحية قد يكون متعمدا، فالملاحظ كما يقول أن المشاهد التي ينسبها الباحثون إلى شيكسبير هي المشاهد التي تتطلب أسلوبا «رسميا» رفيعا ويتسم ب «الفخامة»، بينما تنسب المشاهد «العاطفية» إلى فلتشر! أفلا يمكن أن يغير الكاتب من أسلوبه تبعا للمقتضيات الدرامية من مشهد إلى مشهد؟ واسم كتابه هو:
Hardin Craig,
An Interpretation of Shakespeare (New York, 1948).
كما أننا إذا وسعنا من نطاق النظرة إلى الأسلوب وجدنا أن الكلمات والعبارات المنسوبة إلى فلتشر شائعة شيوعا كبيرا في كتابات تلك الفترة.
أما أقوى دليل إحصائي يورده الباحثون على وجود أسلوب فلتشر في المسرحية فهو كثرة ورود صيغة
ye
و
er
في بعض أجزاء المسرحية المنسوبة إليه. ولكن فوكس
Foakes
يرد على ذلك قائلا إن تواترها في هذه الأجزاء أقل من تواترها في أسلوب فلتشر المعتاد؛ فهو يضرب مثلا بمسرحية كتبها فلتشر في الفترة نفسها تقريبا (1610-1613م) واسمها «بندقة
Bonduca » إذ يجد في نص طبعة «الفوليو » من هذه المسرحية المنشور عام 1647م، عددا لا يقل عن 349 من صيغة
ye
وعدم ورود
you
تقريبا. أما في المشهد الأول من الفصل الرابع المنسوب إليه في «هنري الثامن» فنجد أن
you
ترد 12 مرة، و
ye
ثلاث مرات، وأن الأخيرة لا ترد إلا في أربعة سطور يقولها «السيد الثالث» (انظر النص) في وداع سيدين آخرين (113-116). ويفسر فوكس ذلك قائلا إن تغير هذه الصيغ قد يعزى إلى تدخل من جانب الكتبة أو النساخ أو رجال الطباعة. وتشهد على ذلك مسرحية «بندقة» نفسها؛ إذ يوجد مخطوط لها ما يزال في حالة جيدة، ويختلف اختلافا شاسعا عن طبعة «الفوليو»، ويبدو أن المحاسب الخاص بفرقة التمثيل التي قدمت النص كان قد أعده لأحد هواة جمع المخطوطات، أو ربما كان ملقن الفرقة هو الذي أعده، وفقا لما يقوله فوكس
Foakes ، وفي هذا النص نجد أن كلمة
you
هي المستخدمة بدلا من
ye
في طبعة الفوليو في 172 حالة، وقد نشر النص فعلا عام 1951م (وإن لم أطلع عليه) وهو من تحقيق و. و. جريج وف. ب. ويلسون
W. W. Greg and F. P, Wilson ، في سلسلة طبعات جمعية مالون
Malone Society Reprints ، وأشار إلى المخطوط باحث يدعى ر. س. بولد في أهم مرجع ببليوغرافي عن أعمال بومونت وفلتشر وهو:
R. C. Bold, Bibliographical Studies in The Beaumont and Fletcher Folio, 1938.
وحسبما يقول «بولد» فإن استبدال هذه الألفاظ في الفوليو يقل قليلا عما يذهب إليه فوكس
Foakes . ووفقا لعادة رجال الطباعة من التدخل في النص بالتعديل والتبديل فقد يكون نص «هنري الثامن» الذي لم يصل إلينا إلا في طبعة «الفوليو» قد امتدت إليه يد المصحح أيضا، مثلما حدث في حالة مسرحية ريتشارد الثالث»، على نحو ما أوضحت أليس ووكر في كتابها «المشكلات النصية في طبعة الفوليو»
Alice Walker,
Textual Problems of the First Folio
الصادر عام 1953م؛ إذ استعاض المحرر بكلمة
you
عن كلمة
ye ، وهو ما حدث أيضا في مسرحية «طرويلوس وكريسيدا»، مما يؤكد تفضيل محرري طبعة «الفوليو» الصورة
you
وقيامهم بوضعها مكان
ye
في مسرحيات أخرى كذلك، يحتمل أن يكون من بينها نص «هنري الثامن»، كما يذهب إلى ذلك فيليب ويليامز الابن في مقال نشره في مجلة
Studies in Bibliography
عام 1956م (وأشار إليه فوكس
Foakes ). ومن المحتمل أن صيغ الكلمات الأخرى التي يستند إليها الباحثون في تحديد مؤلف النص قد تعرضت للتغيير هي أيضا؛ إذ تذكر أليس ووكر في صفحة 62 من كتابها أن ناشري طبعة الفوليو كانوا يستخدمون
has
و
does
مكان
hath
و
doth
في طبعة الكوارتو، وتضيف قائلة إن العكس قد حدث عند طباعة مسرحية «عطيل»، في طبعة الكوارتو استنادا إلى مخطوط لا يرقى إليه الشك.
وأعتقد أن القارئ العربي سوف يكتفي بهذا القدر من الدحض ل «الأدلة الداخلية» (المستمدة من الأسلوب) وهو دحض يستغرق مئات الصفحات في الكتب المتخصصة. ولتنظر الآن إلى الأدلة الخارجية، فطبعة الفوليو التي تتضمن النص لم تورد أي مسرحية اشترك مؤلف آخر مع شيكسبير في كتابتها، والناشران هما همنجز وكونديل
Hemings and Condell
المشهود لهما بالصدق وتحري الدقة، وهما يؤكدان في تقديمهما للطبعة أنها تتضمن مسرحيات شيكسبير «كاملة غير منقوصة وعلى نحو ما أبدعها قلمه» ولم يقل أحد في أي وقت سابق على النشر باحتمال مشاركة أحد في كتابة أي مسرحية في المجموعة، والخصائص الأسلوبية العامة كما رأينا في البداية تشير إلى مؤلف واحد.
ويقدم فوكس
Foakes
دليلا دامغا على أن للنص مؤلفا واحدا وهو استعمال المصادر التاريخية؛ فالمعروف أن شيكسبير اعتمد في المسرحية على كتاب تاريخ إنجلترا الذي كتبه هولنشد
Holinshed
وعلى المؤرخ الآخر فوكس
Foxe
وكذلك على حوليات «هالي»، والنص يدل على الدقة الشديدة في اتباع المصادر، والقدرة الفائقة على ضغط الحوادث، واقتباس كثير من العبارات بل والأقوال منها، فإذا افترضنا وجود مؤلفين اثنين، فيجب أن نفترض اتفاقهما التام في اختيار الفقرات التي تصور أحداث المسرحية، وتطابق وجهة نظرهما فيما يتعلق بالضغط الزمني والتنسيق الدرامي. وهذا شبه محال، بل إن أسلوب فلتشر في الكتابة التاريخية يختلف اختلافا بينا؛ ففي مسرحية «بندقة» لا يستخدم فلتشر أي اقتباسات مباشرة من كتاب هولنشد بينما تحفل مسرحية «هنري الثامن» بهذه الاقتباسات (انظر كتاب بولدوين ماكسويل المشار إليه آنفا).
وأما النظرية البديلة القائلة بأن شيكسبير لم يكمل المسرحية وتركها لصديقه فلتشر حتى يكملها بدلا منه، فمن الصعب قبولها بسبب ما تتسم به المسرحية من دقة في اختيار المادة المستقاة من المصادر، وإعادة ترتيبها زمنيا ودراميا على امتداد الفصول الخمسة.
ويذهب جمهور النقاد إلى أن «وحدة التصور والروح» تشهد بأن الكاتب مؤلف فرد ؛ فالشخصيات الرئيسية تقدم إلينا لأول مرة في المشاهد المنسوبة إلى شيكسبير، وهذه المشاهد أيضا هي التي ترسم بناء الحبكة، وتشير إلى المشاهد الأخرى وما يقع فيها (وبعضها منسوب إلى فلتشر). والعديد من هذه المشاهد التي يظن نسبتها إلى فلتشر تتضمن بعض «السادة» الذين يتحدثون عما وقع أو مشاهد احتفال (مثل مأدبة الكاردينال وولزي ومشهد التعميد) وهي مشاهد تتطلب أسلوبا يختلف مثلا عن مشهد محاكمة كاثرين (الملكة)؛ ومن ثم فقد ترجع الاختلافات اللغوية إلى ضرورة تغيير الأسلوب وفقا لطبيعة المشهد. أما من زعموا (مثل سبيدنج) بأن المسرحية تفتقر إلى التماسك والوحدة فقد رد عليهم كبار الشعراء والأدباء، وأهمهم سوينبيرن
Swinburne
في كتابه
A Study of Shakespeare (دراسة لشيكسبير، 1879م، والطبعة التي بين أيدينا هي الطبعة الرابعة الصادرة عام 1902م) والدكتورة كارولاين سبيرجون في كتابها الشهير الصور الفنية عند شيكسبير ودلالاتها
Caroline Spurgeon,
Shakespeare’s Imagery and What It tells us (1935م)؛ إذ لفتت الأنظار إلى الوحدة التي يتسم بها بناء الصور الشعرية في المسرحية كلها مما يقطع بأن مؤلفها واحد، فقد وضعت يدها على أهم ملمح من ملامح هذه الصور، وهو الحركة المادية العنيفة، التي تهب اللغة طابعا ديناميكيا، يعوض المسرحية عما تفتقر إليه من الحركة الجسدية؛ ف «التفاعلات» داخل نفوس الشخصيات، والمؤامرات التي يحوكها «وولزي»، ومحاكمات الأشخاص وسقوطهم، يقدمها شيكسبير إلينا من خلال الحركة، وخصوصا من خلال صورة تحمل الأعباء والخلاص منها، أو من خلال صور حركة السقوط، فالذي يبدأ في المشاهد الافتتاحية يستمر في المشاهد التالية؛ إذ نقرأ في البداية عمن «دبر الاحتفال العظيم ... من صور جسده وفصل أطرافه» (1 / 1 / 45-46)، وعن المعاهدة التي كالكأس التي «لم تحتمل التنظيف فانكسرت» (1 / 1 / 168)، وعن «قطع الحماية عن الرعايا»، وعما «يتسلل إلى قلب الضمير» (2 / 2 / 17)، ثم نجد الصور نفسها في مشهد منسوب إلى فلتشر، حيث توصف مؤامرات وولزي على النحو التالي:
لقد نجح في فصم عرى التحالف
بيننا وبين إمبراطور إسبانيا (ابن شقيقة الملكة )،
كما نجح في النفاذ إلى أعماق قلب الملك، وبث فيه
التشكك من صحة زواجه، وغرس فيه بذور الأخطار
وآلام الضمير ...
2 / 2 / 24-27
كما تصطبغ الصور بصبغة المرض، وتنتشر في طول المسرحية وعرضها ، وهي توحي بالظلم أو بالمعاناة النفسية والذهنية، كما تنتشر صور الشمس والضياء، والشمس ترتبط عند شيكسبير، كما هو معروف، بصورة الملك، إلى جانب صور البحر والعواصف وتحطم السفن، وهي الصور ذات الحيوية الدافقة في المسرحية، وهي التي تبرز أهم اللحظات الدرامية فيها في جميع أجزائها. والدكتورة كارولاين سبيرجون تورد العشرات من هذه وتلك جميعا.
أما فوكس
Foakes
فإنه يتصدى للتشابه الكبير بين روح التعاطف والرحمة التي تسود هذه المسرحية ومسرحيات شيكسبير الأخيرة مثل «العاصفة»
The Tempest
و«حكاية الشتاء»
The Winter’s Tale
وغيرهما. وينتهي من ذلك إلى أن يقول:
إن روح فلتشر غريبة عن ذلك تماما؛ ومن ثم فلدينا من الأسباب ما يبرر الإبقاء على مسرحية «هنري الثامن» حيث وضعها هيمنج وكونديل؛ أي بين مؤلفات شيكسبير. أما إذا كان لا بد من الزج باسم فلتشر فأعتقد أن نصيبه أقل كثيرا مما يوحي به التقسيم المعتاد للفصول والمشاهد، وأقصى ما يمكن أن ينسب إليه هو مشهد أو مشهدان. (مقدمة طبعة «آردن» (1955م)، صفحة 25)
وفي طبعة عام 1962م، أضاف فوكس
Foakes
إلى المقدمة أحدث الآراء المبنية على الدراسات اللغوية والأدبية الحديثة، خصوصا الدراسة التي أعدها سايراس هوي
Cyrus Hoy
وسبقت الإشارة إليها وقام فيها بتحليل جميع أعمال فلتشر وأساليب الطباعة (وما يعتريها من تصحيح أو تحريف للنصوص) وانتهى فيها إلى أن دور فلتشر في بعض المشاهد التي جرى العرف على نسبتها إليه، (وهي 2 / 1 و2 / 2، و3 / 2 من السطر 203 حتى آخر المشهد، و4 / 1 و4 / 2) لم يزد على «تنقيح فقرة كتبها شيكسبير أو إدراج فقرة من تأليفه في سياق شيكسبيري». وهو ينتهي إلى أن السمات المميزة للغة فلتشر يمكن رصدها بسهولة في المشاهد التالية: 1 / 3 و1 / 4 و3 / 1 و5 / 2 و5 / 3 و5 / 4؛ ومن ثم فهو يقلل عدد المشاهد المنسوبة إلى فلتشر إلى أكثر من النصف من حيث عدد الأبيات. ويختتم فوكس
Foakes
هذه الإضافة قائلا: ليت المناقشة حول تدخل فلتشر في النص تتوقف عند الحكم الرزين الذي انتهى إليه «هوي
Hoy » وهو:
من يبحث عن حقيقة نصيب فلتشر في «هنري الثامن» فسيجده حيث توجد الحقيقة بصفة عامة؛ أي في مكان وسط بين الآراء المتطرفة التي ورثناها عنها، فالذين ينكرون وجوده تماما في المسرحية مخطئون؛ لأنه لا شك موجود، والذين ينسبون إليه عشر مشاهد ونصف مشهد من مشاهد المسرحية الستة عشر مخطئون إذ ينسبون إليه أكثر مما يستحق. (مقتبسة من مقدمة «آردن»، صفحة 27 و28)
والطريف أن أحدث طبعة للمسرحية (1990م) وهي طبعة نيوكيمبريدج قد حققت أمنية «فوكس»؛ إذ يختتم «جون مارجسون» مناقشته للموضوع بإعلان اتفاقه مع «هوي»!
وقد قدمت المسرحية على المسرح لأول مرة في 29 يونيو عام 1613م، وهذا تاريخ مهم لأنه تاريخ الحريق الذي شب في مسرح الجلوب
Globe ، وكان سبب الحريق فيما ذكره المؤرخون هو إطلاق عيار ناري من مدفع صغير يشبه مدفع الهاون؛ إما في حفل الكاردينال وولزي في آخر الفصل الأول أو في حفل التعميد في المشهد الأخير. ولما كانت المسرحية توصف آنذاك بأنها جديدة، فقد اتفق جمهور النقاد والباحثين على أنها كتبت إما في أواخر عام 1612م، أو أوائل عام 1613م، ولغة المسرحية كما سبق أن ذكرنا تتفق مع لغة مسرحيات شيكسبير الأخيرة، أو ما يسمى بالرومانسيات الأخيرة. ومصادرها معروفة؛ فهي كما سبق أن ذكرنا تاريخ إنجلترا الذي ألفه هولنشد، وكتاب تاريخ آخر من تأليف فوكس
Foxe ، وشيكسبير يتبع ما أورده هذان بصورة بالغة الدقة، ويكاد يكرر العبارات التي أورداها حرفيا في الحوار. ولن نقف طويلا عند تاريخ التأليف أو المصادر، بل سنورد لمحة عن مواقف النقاد من النص، وهي مواقف تتسم بالتعارض والتناقض أحيانا.
وأول ملاحظة مهمة هي أن المسرحية عانت من التجاهل النقدي بسبب قضية مشاركة فلتشر؛ أي بسبب تحول الاهتمام من النص إلى التساؤل عن مؤلف النص، ولم يبدأ الاهتمام الحقيقي بها باعتبارها نصا دراميا إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، عندما تبلورت المذاهب النقدية في النقد الإنجليزي نفسه بفضل ما أتى به النقد الجديد أولا من ضرورة التركيز على النص، وبسبب دراسة الأستاذ فوكس
Foakes
في مقدمته لطبعة آردن والتي تقع في نحو 25 صفحة (13 ألف كلمة) وتقترب كثيرا من المنهج البنيوي بسبب تركيزها على البناء الذي يتميز بالتناقضات أي «المقابلات» أو التعارضات الثنائية، وإن كانت لا تغفل الجوانب الأخرى للنص. وفي التسعينيات خرجت علينا بعض الدوريات المتخصصة في شيكسبير بمقالات مناهضة للمنهج البنيوي ولكنها تقر بفضل فوكس
Foakes ، وأهمها في رأيي دراسة رنة المفارقة والثورية الساخرة في المسرحية باعتبارهما من سمات الحداثة في نص لا بد من اعتباره شرفا مسرحيا في المقام الأول، وهي الدراسة التي كتبها جون مارجسون
John Margeson
في صدر طبعة عام 1990م من المسرحية في سلسلة نيو كيمبريدج شيكسبير. ويمكن القول بصفة عامة إن الاتجاه النقدي الحديث أصبح يرى جوانب إيجابية في المسرحية لم يسبق للنقاد رصدها.
كان من أوائل من كتبوا عن المسرحية باعتبارها نصا دراميا ناشر الأعمال الكاملة لشيكسبير نيكولاس رو
Nicholas Rowe
في طبعة عام 1709م، وكان ذلك بطبيعة الحال في عصر الكلاسيكية الجديدة، فاهتم مثل معاصريه بالإشارة إلى عدم محافظة الكاتب على «الوحدات» الدرامية الثلاث، وخصوصا وحدتي الزمان والمكان، واعتبر ذلك عيبا من عيوب المسرحيات التاريخية بصفة عامة، ولو أنه امتدح مبدأ المواءمة أو اللباقة
decorum ؛ أي اتفاق صفات وأفعال وأقوال كل الشخصيات مع مكانتها في المجتمع والعالم، وهو مبدأ أساسي من مبادئ الكلاسيكية الجديدة (طبعة 1997م، الصفحتين 29-30). ويعرب رو عن إعجابه بشيكسبير بسبب عدم إظهاره عيوب الملك هنري الثامن على نحو ما رواه المؤرخون، قائلا إن ذلك يدل على احترام الكاتب لذكرى الملكة إليزابيث (ابنة الملك)، كما يمتدح دون إسهاب تصوير الكاتب لأحزان الملكة كاثرين، قائلا إنه يشير «الشفقة» و«الخوف» ويقترب بمصيرها من مصير المأساة، وذلك أيضا من أصول الكلاسيكية الجديدة التي ازدهرت في القرن الثامن عشر. وكان الإعجاب الذي أثارته عروض هذه المسرحية على امتداد القرن الثامن عشر - أساسا بسبب ثراء المناظر وجمالها
pageants - كفيلا بلفت نظر كبار النقاد إليها، وربما أثرت العروض في تقدير قيمتها الدرامية، مع التركيز على مأساة الملكة كاثرين، إذ ركز الدكتور صمويل جونسون
Samuel Johnson
على مصيرها المأسوي واعتبرها البطلة الحقيقية، وقد تنبه إلى سر نجاحها الجماهيري، وامتدح المشاهد التي تظهر فيها الملكة، وأثنى بصفة خاصة على المشهد الثاني من الفصل الرابع، قائلا إنه يفوق أي جزء آخر من مآسي شيكسبير، بل وربما كان أفضل من أي مشهد كتبه أي شاعر آخر (طبعة 1957م، من ملاحظات حول شيكسبير
Notes to Shakespeare ، الصفحتين 65-66) وهو يثني بصفة خاصة على الرقة والشفقة والتعاطف في هذا المشهد، لكنه يستثني سائر المسرحية من إطرائه.
وظلت آراء جونسون سائدة حتى جاء سبيدنج في منتصف القرن التاسع عشر وألقى بقنبلة التشكيك في نسبة المسرحية إلى شيكسبير على نحو ما أشرنا آنفا، فأثار لدى نقاد العصر الفكتوري نوازع القيم «الأخلاقية»؛ أي البحث في القيمة المعنوية أو الروحية لأحداث المسرحية، خصوصا بسبب عبارته الشهيرة التي تقول «إن المسرحية تكاد لا تقدم إلا الانتصار النهائي للشر»؛ ومن ثم فهو ينعى على المسرحية الافتقار إلى التماسك المعنوي في بنائها (أو عدم التماسك الأخلاقي
incoherent moral design ) وقد رد على ذلك بيتر ألكسندر في الفصل المشار إليه من كتابه الصادر عام 1930م (مقالات ودراسات) قائلا إنه يرى الكثير مما يستحق المديح، سواء في بناء المسرحية أو في تطوير موضوعاتها الأساسية، وهو يفصل القول في نمط بناء المسرحية من خلال البناء الموسيقى الذي يعتمد على «التكرار والتنويع
repetition with variation »؛ أي إن «الثيمة» (خيط الفكرة) تتكرر على امتداد المسرحية في صور مختلفة؛ أي في صور تتنوع لتؤكد الجوهر، بمعنى أن العرض (بفتح الراء) الذي يمثله العرض (بتسكين الراء) يتغير ولكن الجوهر واحد، وهو في رأيه «موضوع» أخلاقي، يتمثل في تفاهة العظمة الدنيوية وبهرجها الزائف. ويضيف ألكسندر إن ما يوحد المسرحية حقا هو هذا العنصر البنائي، إلى جانب جو التسامح والتعاطف الذي يسود المسرحيات الرومانسية عند شيكسبير. وأظن ظنا أن ألكسندر كان يرد على آرثر سايمونز
Arthur Symons
أيضا، الذي ردد ما قاله سبيدنج تقريبا في تقديمه للأعمال الكاملة لشيكسبير التي حررها الممثل الذائع هنري إيرفنج
Henry Irving
وف. أ. مارشال
F. A. Marshall
عام 1922م .
ووصل هذا التراشق النقدي في النصف الأول من القرن العشرين إلى ذروته في عام 1948م، عندما أصدر الأستاذ ولسون نايت
Wilson Knight
كتابه الشهير «إكليل الحياة
The Crown of Life » الذي يعلن فيه أن هذه المسرحية أحد الأمثلة الرائعة على فن شيكسبير، وأنها تستعين بالحفلات الصاخبة، والمناظر الخلابة، والطقوس الجذابة، لإضفاء معان وطنية ودينية على الحدث، وأن الملك رمز الانتماء الوطني والقوة الدينية معا، وأن هذه المعاني تتجسد في حركة المجموعات على المسرح وما يصاحبها من موسيقى واستعراض للأبهة والفخامة. وهو يبالغ كثيرا في تفسير دلالة هذه الحفلات والشعائر، فيعتبرها دليلا على جلد الأمة وطموحها وآمالها العريضة؛ ولذلك يزعم أن المسرحية تتضمن أكبر وأصدق قدر من المشاعر الدينية؛ فهي تركز على معنى العدالة والحق والخير والإحسان؛ ومن ثم فهي جديرة باحتلال الذروة بين المسرحيات التاريخية والرومانسية، ولكن هذه المبالغة سرعان ما أحدثت رد فعل عنيفا من جانب بعض محرري طبعات شيكسبير ممن أثروا تأثيرا كبيرا في الفكر النقدي، وأهمهم فوكس
Foakes
وماكسويل، الأول في طبعة آردن (1955م) (حيث تجاهل تماما آراء ويلسون نابت) والثاني في طبعة نيو شيكسبير (1962م) حيث ركز في مقدمته على نقاط الضعف الدرامي في المسرحية.
وسوف نعود إلى فوكس
Foakes
فيما بعد بسبب مقدمته البالغة العمق، بينما نعرض عرضا سريعا لآراء الآخرين. أما ماكسويل فيقول في مقدمته إنه مقتنع بأن فلتشر قد شارك مشاركة كبيرة في تأليف النص؛ لأن نجاح المسرحية الجماهيري لا ينفي أن النص يفتقر إلى ما يسميه ب «الحياة الدرامية الحقة» وهو يعرف هذه الصفة بأنها «الأهمية» أو «الضخامة
momentousness »، وهي كلمة غامضة أقصى ما يفهم منها هو الحكم على قيمة ما يقدم من أحداث وأقوال، وهو يشير إلى أن «المادة»
substance
هزيلة بسبب عدم وضوح تصوير الملك باعتباره الشخصية الرئيسية، مدللا على أن الكاتب يقدم صورا متباينة له دون أن يحسم موقفه من أي من هذه الصور، والنتيجة في رأيه أن المسرحية تفتقر إلى وضوح الاتجاه
direction (أو ما نسميه اليوم بالتوجه
orientation )؛ ومن ثم تفتقر إلى المعنى العام. وهو لا يعفي المشاهد التي تصور الملكة كاثرين؛ إذ يقول إنها مشاهد تفتقر إلى «انطباع موحد»، بل ولا يظهر فيها «انطباع مركب» على الإطلاق. وهذا هو أيضا ما ينتهي إليه كليفورد ليتش
Clifford Leech
في كتابه عن المسرحيات التاريخية لشيكسبير الذي صدر في العام نفسه؛ إذ يقول في صفحة 34 إن القارئ لا يشعر أثناء سير الأحداث أنه يسير في خط محدد نحو «رؤية مركبة
complex » للشخصيات والموقف، أو أنه ينفذ إلى مستويات متزايدة العمل من الدلالة والمعنى. ويبدو، بدلا من ذلك، أن الكاتب يقدم إلينا سلسلة من البدائل في النظر إلى «الشخصيات والمواقف» وأن تنوع الاستجابة للمسرحية مرده عدم إحكام النظرة إلى المادة؛ أي عدم التيقن مما يريد الكاتب توصيله، وهو ما يميز «طريقة» أو «فن» (
manner ) فلتشر.
ويخرج القارئ من قراءة الفصل الخاص بهذه المسرحية في الكتاب المذكور وهو
William Shakespeare,
The Chronicles
بأن ليتش «يتوقع» أو «يطلب» من الكاتب إعلاء شأن قيمة إنسانية محددة دون إفساد المسعى بالتطرق إلى ضعف البشر الذي يحول دون تحقيق تلك الغاية، فهو يشير إلى خيط الفكرة السائدة وهي أن الزمان حول قلب، وأن أمجاد الدنيا زائلة، ويوحي في كتابه بأن هذا «الموضوع» كان يقتضي من الشاعر أن يؤكد الحركة الداخلية في الدراما نحو غاية أسمى، ولكن الكاتب في رأيه يضيع جهوده في تصوير المؤامرات الخسيسة والصغار والأحابيل وخداع النفس. وينتهي من ذلك إلى أن المسرحية «لا تتضمن أي درس سياسي»؛ لأن الشخصيات الخيرة والشريرة تنتهي إلى المصير التعس نفسه! (صفحة 39).
والذي أدهش له أن يخرج الناقد بهذه النتيجة بناء على ما ذكره من أسباب؛ فالمسرحية التاريخية تختلف تعريفا عن المسرحية الخيالية في أنها تخضع للحقائق التي يعرفها الجمهور، وهي تقدم «مادتها» في إطار رؤية تفسيرية للتاريخ، وكل تاريخ لا يعدو أن يكون تفسيرا، والتفسير الذي يقدمه شيكسبير هنا، مهما تكن إضافات فلتشر أو تدخلاته: هو انهيار «النظام القديم» حسبما يسميه الأستاذ جيفري بولو
Geoffrey Bullough
وبداية العصر الجديد؛ أي حكم أسرة تيودور وما يرمز له الملك هنري الثامن من الوعد بحكم الملكة إليزابيث، وقد عاش شيكسبير معظم سني حياته في ظل هذا الحكم. ويرجع خطأ النقاد الذين يعيبون على النص افتقاره إلى مزايا التراجيديا الشيكسبيرية المألوفة (في «هاملت» مثلا أو في «ماكبث») هو أنهم كانوا يريدون بطلا تراجيديا أوحد، يتعاطفون معه أو يدينونه؛ أي حدثا دراميا محددا تلتقي فيه نوازع الشخصيات وينتهي إلى ذروة تقليدية (كلاسيكية)، بدلا من رؤية ما يرمي إليه الكاتب من خلال ما كتبه؛ أي من خلال ما يبادر أن النص يريد أن يقوله.
والمدخل الصحيح في رأيي هو مدخل فوكس
Foakes
الذي لا يربط المسرحية بالمسرحيات التاريخية أو التراجيديات التي سبقتها بل بالمسرحيات الرومانسية؛ إذ إن المعنى الدرامي في هذه المسرحيات لا ينبع من عمق تحليل شخصية معينة، بل من البناء العام للمسرحية والقرى المحركة لها، والبناء هنا في رأيه يعتمد على المحاكمات الأربع - لدوق بكنجهام، وكاثرين، وولزي، وكرانمر - وهي محاكمات تمثل مراحل متعاقبة على طريق «الوعي» العام، أو الرؤية العامة لذلك العصر، والتي تؤدي إلى ثبات النظام الذي أوجد إنجلترا الحديثة. وسلسلة التوازيات والتناقضات الثنائية سلسلة محكمة يستعيض بها شيكسبير عن الأحداث الفردية التي يقوم بها أبطال تراجيديون كلاسيكيون، والبناء هنا إذن هو البطل، مثلما كان البناء هو البطل في «روميو وجوليت» ثم في «حلم ليلة صيف»، فهو بناء يعتمد على التقابلات والتعارضات ثم ينتهي بالتوافق. ويسهب فوكس في تحليل هذه المحاكمات، والحديث عن دور أبناء الشعب في المسرحية، من خلال شخصيات السادة
gentlemen
والجمهور غير المثقف، وكذلك دور المناظر والحفلات التي تنهض بأدوار طقسية لا غنى عنها في هذا اللون من المسرح.
وقد أكد هذا الاتجاه الحديث أولا هاورد فيلبرين
Felperin
في كتابه عن رومانسيات شيكسبير عام 1972م، ثم عاد ألكسندر ليجات
Leggatt
فأفرد له مقالا مهما عام 1985م، وكل منهما يركز على الطابع الأسطوري الذي يضفيه شيكسبير على التاريخ الإنجليزي في هذه المسرحية، وهو طابع يقترب بالمسرحية كما يقول فيلبرين من الأبنية القصصية أو السردية القديمة، وكان مثله الأعلى هو الكتاب المقدس، وهو يمثل له أيضا «كوميديا إلهية» تتضمن ألوانا من العذاب والمعاناة حتى تصل إلى إحقاق الحق والعدالة والسلم، أو كما يقول «الحرية الروحية»، فكل سقطة تراجيدية في المسرحية هي، من هذا المنظور، سقطة حميدة لأنها تؤدي إلى تحرير النفس من الالتصاق بالأرض وعرض الدنيا الزائل، وهو يقيم توازيا بين هذه المسرحية و«مسرحيات الأخلاق»؛ أي
morality plays
في العصور الوسطى، فيرى أن وولزي يلعب دور الشيطان (إبليس) أو الرذيلة، وأن كاثرين تلعب دور ملاك الخير مع زوجها هنري الذي يمثل هنا دور ملك خاطئ سبقه عدد كبير من الملوك الخطاة. وفيلبرين إذن يحاول تحديد «النوع الأدبي» الذي ينبغي قبوله حتى نقبل هذه المسرحية، فالسرد عنصر قصصي، والاحتفالات عنصر رومانسي أساسي، ولكنهما يتزاوجان هنا في بناء درامي، وإن كان ذلك الناقد يأخذ على شيكسبير التزامه الشديد بالسياق التاريخي الحقيقي، ويأخذ عليه في الوقت نفسه حذف الكثير من ذلك التاريخ (صفحة 209، من كتاب
Shakespearean Romance ، 1972م).
وقبل أن نعرض لغير هؤلاء من النقاد يحب أن نذكر أن هذه المسرحية التاريخية كانت تتضمن أحداثا وشخوصا معروفة للجمهور؛ ولذلك فإن مقال ليجات يقيم وشائج وثيقة بين الرؤية المثالية للتاريخ التي تضمنت نبوءة كرانمر في آخر المسرحية، والواقع الأليم الذي تصوره الأحداث والشخصيات، وهو يقول إن تحقيق الرؤية في عصر جيمس الأول (وقت كتابة المسرحية) كان أول معنى له هو «فصل الكنيسة عن الدولة» أو إقامة علاقة جديدة بينهما، وهذا هو المعنى الذي كان الجميع يعرفونه آنذاك ولا يعرفه قراء العربية، مما يتطلب بعض الشرح والتفصيل. وعنوان مقال ليجات هو
Henry VIII and (1985) the Ideal England,
Shakespeare Survey , 38 .
تقع أحداث المسرحية في أوائل القرن السادس عشر الميلادي، وفي وقت لم تكن دول أوروبا الحديثة قد اتخذت طابعها وحدودها المعروفة، بل ولم تكن اللغات الأوروبية الجديدة قد تبلورت بصورة كاملة، وكانت اللغة الإنجليزية تسير في طريق التطور من لغة تشوسر المتوفى عام 1400م حتى وصلت إلى النضج في أيدي كتاب آخر القرن وعلى رأسهم شيكسبير، وكان الجو العام هو ما يوصف بجو التحول من تراث العصور الوسطى إلى عصر النهضة. وقد يجد البعض أن ذلك تاريخ متأخر للنهضة، ولكن هذا هو ما يذهب إليه المؤرخون المحدثون، خصوصا تريفيليان صاحب التاريخ الاجتماعي لإنجلترا، وهو الكتاب الذي استعنت به أكثر من غيره في رسم صورة فترة المسرحية.
ولما كنت أومن، مثل ليجات، بأن جوهر المسرحية لا يكمن في تصوير مأساة فرد بعينه، ولا في علاقة الشخصيات بعضها بالبعض، بل في الجو العام الذي يملي الأحداث إملاء، ويرهص فيه بالتحول من سلطة البابا، رأس الكنيسة الكاثوليكية، إلى سلطة الملك الذي أصبح رأس الكنيسة الإنجليزية؛ ومن ثم التحول من الكاثوليكية تدريجيا إلى البروتستانتية في عصر خلفاء الملك هنري الثامن، فأعتقد أن الفهم الكامل للمسرحية لن يتأتى إلا بإدراك الواقع التاريخي للشخصيات الرئيسية الحقيقية، وعلى رأسها في نظري الكاردينال وولزي، والملك هنري الثامن، وزوجته كاثرين، ثم زوجته الجديدة آن بولين.
ولد وولزي
Wolsey
عام 1475 في إبسويتش
Ipswich
بمقاطعة سافرك
Suffolk ، وكان أبوه جزارا ولكنه أنفق بسخاء على تعليمه حتى تخرج في أكسفورد وحصل على الشهادة الجامعية في العلوم اللاهوتية ولما يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، وكان ذا موهبة فذة في الإدارة لفتت أنظار رجال الجامعة، فعهدوا إليه، بعد تسلمه عمل الكاهن في 1498م، بالإشراف على الشئون المالية في كلية مودلين
Magdalen
2
وكانت الشئون المالية لا تنفصل عن الإدارة، وما لبث أن أثبت نجاحا منقطع النظير في تجديد الكلية وبناء برج لها، واشتهر بذلاقة اللسان وحسن المعشر، والطموح الشديد، والتفاني في العمل، وأصبح الكاهن الخاص (
chaplain ) للسير ريتشارد نانفان
Nanfan
نائب قائد حامية كاليه (المدينة الفرنسية التي كانت تابعة لإنجلترا)؛ إذ بهره سحر بيانه وإخلاصه الشديد، فزكاه إلى الملك هنري السابع الذي حكم إنجلترا من عام 1485م إلى 1509م، وعندما توفي نانفان عام 1507م، اتخذ الملك ذلك القسيس الشاب كاهنا خاصا له فأثار حسد الكثيرين. وحذره الملك من مكائد القصر ونصحه بمواصلة الجد والاجتهاد، ويقول بعض المعاصرين إن الملك أبعده عن القصر عمدا بتعيينه رئيسا لكاتدرائية لنكن
Lincoln
حتى يكون بمأمن من أحابيل الحساد.
كان وولزي في عنفوان شبابه حين توفي الملك هنري السابع عام 1509م، وخلفه الملك هنري الثامن الذي كان ما يزال في الثامنة عشرة، وكان طالبا مجتهدا برع في اللغات القديمة فكان يؤلف باللاتينية وهو في هذه السن المبكرة، ويعزف الموسيقى ويكتب الشعر، واستهوته رسائل وولزي المكتوبة بلاتينية سلسلة تنم عن ذكاء متوقد، كما بلغت أسماعه أنباء الإنجازات الإدارية والمالية لذلك القسيس العصامي فقرر استدعاءه واصطفاه لنفسه، وقرر تعيينه مديرا لصندوق البر والإحسان التابع للملك
royal almoner
وهو الصندوق الذي كان يعتمد على بعض موارد الأوقاف
endowments
في الإنفاق على الفقراء. ولم تمض سنوات معدودة حتى بزغ نجم وولزي في سماء القصر الملكي؛ إذ كان هنري الثامن يعمل بمشورته وينتصح بنصحه، وكان الملك آنذاك يفتقر إلى الخبرة اللازمة بشئون السياسة الدولية بل وعازفا عنها، فأول مذاق لها لديه كان زواجه ممن تكبره سنا ومن لا يحبها، لأسباب سياسية، وهي كاثرين خالة الإمبراطور شارل الإسباني، وكان دائم التطلع إلى الحب الذي قرأ عنه في أشعار اليونان والرومان، فكان يقضي سحابة يومه في الصيد والقنص والاستماع إلى القيان وتطارح الشعر في المساء، وكان اهتمامه الشديد بالرياضة البدنية والمهارة الحربية لا يترك له وقتا للنظر في أمور الدولة؛ ولذلك فقد كان يرحب بكل ما يقترحه عليه الكاهن ذو البيان الساحر، ويكاد يقتصر دوره على التوقيع والموافقة على ما يقوله الكاهن بنبرات خفيضة تمثل أقصى درجات الخضوع والخشوع وتقوى الله.
وما انقضت السنة الرابعة من حكم هنري الثامن (1513م) حتى لاحت للكاهن فرصة نادرة لتحقيق أول طموحاته في مجال السياسية، فأقنع الملك بضرورة الهجوم على فرنسا وضم أراضيها إلى إنجلترا أثناء انشغال لويس الثاني عشر بالحرب في إيطاليا. وكان الصراع قائما ومحتدما بين إسبانيا التي يحكمها الإمبراطور شارل ابن أخت الملكة (وكان اسمها جوانا)، وبين فرنسا؛ ولذلك فلو تمكن الملك من عقد حلف مع إسبانيا لتأمين حملته في فرنسا فسوف يكتب له النجاح. ورأى هنري الثامن أن النجاح العسكري سيوطد سلطانه في القارة الأوروبية (وفي إنجلترا بطبيعة الحال) وأنه سوف يساعده كذلك في تحقيق المثل الأعلى للملوك في العصور الوسطى، وهو المثل الأعلى الذي ورثه عن أسلافه واستقاه من قراءاته؛ إذ سوف يعود منتصرا بأكاليل الغار، وسوف يدخل لندن على صهوة جواده فيحييه أبناء الشعب، ويتغنى الشعراء بمدائحه وهو بعد في الرابعة والعشرين!
وأبحر الجيش الإنجليزي بقيادة الملك وكبار النبلاء والفرسان، وحقق نصرا كبيرا طارت أنباؤه بفضل رسائل وولزي وأتباعه عام 1513م، فأثلج الصدور وأحيا الأمل في نفوس الشعب بقرب استعادة أراضي فرنسا وضمها إلى إنجلترا. وبلغ من سرور الملك أن استجاب لطلب وولزي فاقترح على البابا ليو العاشر أن يعينه أسقفا للكاتدرائية التي عمل فيها نائب رئيس ذات يوم (كاتدرائية لنكن) وإن كان يريده في الحقيقة أن يظل إلى جواره.
ويقول بعض المعاصرين إن طلب وولزي الذهاب إلى لنكن رغم طموحاته السياسية الكبيرة من أهم الدلائل على ذكائه الأصيل ودهائه الفطري؛ إذ كان يريد أن يكون الملك هو الذي يسعى إليه ويطلبه حين يشعر بالعجز في غيابه عنه، وهكذا فلم تمض شهور على تعيينه أسقفا لكاتدرائية لنكن (فبراير 1514م) حتى عينه الملك (عن طريق البابا بطبيعة الحال) أسقفا لكاتدرائية بورك (سبتمبر 1514م) تمهيدا لتحقيق ما كان وولزي يطمح فيه حقا وهو أن يكون كاردينالا - والكاردينال هو أعلى منصب ديني يمكن للبابا أن يمنحه. وفعلا أصبح وولزي الكاردينال العظيم في عام 1515م.
ويقول بعض المؤرخين إن فطنة وولزي جعلته يضع الأسس اللازمة لاستمرار النصر الذي تحقق على الفرنسيين، وذلك بالتمهيد لعقد صلح مع فرنسا، فاقترح تزويج لويس الثاني عشر من ماري شقيقة هنري، وكتب التاريخ حافلة بالأحابيل التي لجأ إليها لتحقيق هذه الغاية، فهي حقا مما يطمح إليه كل ملك منتصر، لا لاستتباب السلم فحسب بل للاحتفاظ بوقع النصر وأصدائه في القارة؛ إذ أصبح هنري الثامن وهو في شرخ الشباب ملكا مرهوب الجانب، وأصبحت أوروبا تتطلع إليه بعيون حذرة.
ولكن السلم الذي ساد مؤقتا لم يكن قائما على الأسس التي تكفل استمراره، وأهمها القوة الاقتصادية اللازمة لإعداد الجيش وتجهيزه؛ فالمعروف أن الملوك آنذاك لم يكن لديهم «جيش نظامي» بالمعنى الحديث للتعبير، ولكنهم كانوا يقومون بتعبئة الجنود عن طريق النبلاء والأشراف عندما ينشأ ما يدعو لشن حملة ما أو للدفاع عن البلد ضد الغزاة، وكان كبار الضباط من ذوي الخبرة في تنظيم المعارك وفنون القتال ثم الذين يتولون هذه التعبئة في العادة؛ ولذلك فهم دائما على صلة بالقيادة السياسية التي كانت تتمثل في المجلس الملكي الخاص
وفي رئيسه الذي يتمتع بحظوة كبيرة لدى الملك، فإذا علمنا أن السلطة الفعلية كانت في أيدي كبار رجال الكنيسة الذين يتمتعون بعضوية هذا المجلس، ليس بسبب سطوتهم الدينية فحسب بل أيضا بسبب ثرائهم الفاحش، أدركنا أن وصول وولزي إلى منصب الكاردينالية كان معناه جمع خيوط السلطة في يده، وهكذا لم يكن من المستغرب أن يعينه الملك رئيسا للمجلس في ديسمبر عام 1515م، فيصبح بهذه الصفة رئيسا للوزراء بتعبيرنا الحديث (أو الوزير الأول بالتعبير التونسي) أو الوزير وحسب بتعبير العرب القدماء، وكان اسم المنصب آنذاك هو
Chancellor
واسمه بالكامل هو
Lord Chancellor of England ، وهي الكلمة التي أسيئ فهمها بسبب الخلط بينها لدينا وبين كلمة
counsellor
بمعنى المستشار (في الخارجية) وكلمة
councillor
بمعنى عضو المجلس (عادة عضو المجلس البلدي أو المحلي في بريطانيا).
3
ومن ثم فقد كان رئيس الوزراء يجمع بين السلطة الدينية بصفته كاردينالا والسلطة الزمنية
temporal
أو العلمانية
secular (أي سلطة الدولة) باعتباره يمثل سلطة الملك، ولكن الكنيسة الإنجليزية لم تكن مستقلة عن سلطة البابا فكان لزاما على من ينشد السلطة الحقيقية أن يستمدها من البابا، وهكذا سعى وولزي حتى يحصل من البابا على منصب «القاصد الرسولي
legate a latere »؛ أي ممثل البابا الخاص في إنجلترا، وهو المنصب الذي يتيح له أن يتحدث باسم البابا، وأن يصدر القرارات الدينية التي تستمد قوتها من قوة رئيس الكنيسة الكاثوليكية الأكبر في روما.
ورغم سعادة الملك واطمئنانه إلى ذكاء وولزي ونشاطه، فقد كان ما يزال يطمح في أن تكون إنجلترا هي الحكم
arbiter
في منازعات القارة الأوروبية التي لم تهدأ بين القوتين العظميين آنذاك وهما فرنسا والإمبراطورية الرومانية المقدسة، وأن يسود سلام دائم؛ أي سلام يتضمن التسليم بسيادة إنجلترا على شمال أوروبا كلها لتأمين طرق التجارة الإنجليزية مع هولندا وبلجيكا وبلدان الشمال التي لم تكن قد استقرت حدودها السياسية استقرارا كاملا آنذاك. وحاول وولزي تحقيق آمال الملك عن طريق إعلان خطبة ماري ابنة الملك من كاثرين (خالة إمبراطور إسبانيا) إلى ابن فرانسيس ملك فرنسا، وكانت الطفلة في الثانية والطفل لا يتجاوز عمره سبعة شهور، وصاحب إعلان الخطبة الإعلان عن حلف أوروبي (أي معاهدة سلام) بين جميع القوى الكبرى، وبذل وولزي جهودا جبارة لإنجاح هذه المعاهدة، فأقام حفلا ضخما لم يشهد تاريخ إنجلترا له مثيلا في لندن، حتى يشعر المتدربون بمدى القوة الاقتصادية لإنجلترا ومن ورائها، بطبيعة الحال، القوة العسكرية والسياسية. وكانت هذه هي الفرصة التي استغلها وولزي في إقناع البابا بتعيينه «قاصدا رسوليا». ويقول بعض المؤرخين إنه قدم الأموال ل «الجميع» على سبيل الرشوة، لتحقيق هذا الهدف، الذي نجح في تحقيقه فعلا كما قلنا، فأصبح يجمع سلطة الدين والدنيا في عام 1518م.
ولكن حفل التوقيع أظهر للملك مدى ثراء الكاردينال (ورئيس الوزراء) الذي لم يكن يتقاضى أي مرتبات من خزانة الدولة. ولا بد أن الملك قد سمع أيضا عن المبالغ الكبيرة التي أنفقها الكاردينال لتحقيق مراميه. ويختلف المؤرخون حول تحديد موقف الملك من الكاردينال في تلك الأيام المبشرة بالسلام الأوروبي، وإن كان معظمهم يميل إلى تصديق السجلات المعتمدة التي تفصح عن الثقة الكبيرة التي كان الملك يوليها له، ويجب ألا ننسى في خضم هذا البحر السياسي المتلاطم الموج أن الملك كان مشغولا آنذاك بعجز زوجته عن إنجاب مولود ذكر من صلبه يرث عرش إنجلترا، وأنه كان قد فقد تماما أي دافع لمواصلة الارتباط بزوجته كاثرين، فهجرها في المضجع وبدأ يفكر في وسيلة لإنهاء الزواج. وتتضمن كتب التاريخ بعض الإشارات إلى الجهود التي بذلها وولزي في تدبير بديل للملكة؛ أي العثور على ملكة أخرى تساعده في تحقيق طموحاته السياسية من خلال إحلال السلام في أوروبا، وكان يطمح في أن يجد للملك زوجة فرنسية إذا استطاع إيجاد السبل القانونية (الشرعية) لإعلان بطلان زواج الملك بكاترين، وكان يميل إلى اختيار أخت الملك فرنسيس واسمها «رينيه».
وفي العام التالي (1519م) تبين لوولزي بوضوح وجلاء أن علاقة الملك بزوجته قد انتهت. ويبدو أنه غض الطرف عن العلاقات الغرامية التي كان الملك يقيمها مع بعض نساء القصر؛ إذ إن هنري اتخذ عشيقة له في ذلك العام هي إليزابيث بلاوتد
، وأنجبت له ابنا سفاحا، ففرح به، وأنعم عليه بلقب دوق ريتشموند وسومرست، وفكر في أن يقف وراثة العرش عليه، ولكن وولزي تدخل بسلطته الدينية وثناه عن عزمه.
وعندما نصل إلى عام 1520م، وهو العام الذي اختاره شيكسبير بداية لأحداث المسرحية، نصل إلى نقطة البداية حقا في الصراع الذي أضفى عليه الكاتب السمات الدرامية، من خلال تجميع الخيوط المتفرقة، والتي عرضنا لبعضها في حياة وولزي، ونعرض الآن للبعض الآخر في حياة الملك.
كان الملك (عند بداية المسرحية) في التاسعة والعشرين، منفصلا عن زوجته الإسبانية، ويبحث جادا عن بديل، وكانت الأحوال السياسية ما تزال مضطربة في القارة الأوروبية. ونرى في المشهد الأول تركيزا على لقاء العاهلين الفرنسي والإنجليزي الذي دبره الكاردينال وولزي، سعيا لإقرار السلام في أوروبا، ومحاولة منه في التقريب بين الدولتين عسى أن ينجح في تزويج أحدهما من أسرة الآخر.
كان هنري الثامن هو الابن الثاني للملك هنري السابع، أول ملوك أسرة تيودور
Tudor ، وقد ولد في جرينتش في 28 يونيو عام 1491م. وعندما توفي أخوه الأكبر آرثر في عام 1502م، أصبح وريثا للعرش. وعندما آل إليه الملك في عام 1509 تعلقت به آمال الشعب، بل إن المؤرخين يبالغون في تصوير مدى تفاؤلهم به وتطلعهم إلى لون من الاستقرار الذي حرموه سنوات طويلة.
أما زوجته كاثرين فكان قد زوجه منها أبوه رغم إرادته، بعد أن توفي أخوه آرثر عام 1502م. والذي حدث هو أن آرثر كان في الخامسة عشرة وكان مريضا عندما تزوج كاثرين التي كانت في السادسة عشرة عام 1501م (14 نوفمبر)، ولم يبق في قيد الحياة بعد ذلك سوى أشهر معدودة، وكانت كاثرين تصر على أنه لم يبن بها، وهنا يختلف المؤرخون في مدى صحة ذلك ؛ فالوقائع تساند احتمال عدم إتمام الزواج فعليا، رغم إجراء مراسمه العلنية. وعلى أي حال فعندما مات آرثر أصبحت كاثرين أرملة (عذراء في زعمها) وكانت قد أحضرت معها صداقا قدره مائتا ألف من الدوكات، وهو مقدار من الذهب يصل إلى عشرات الملايين من الدولارات بعملة العصر الحاضر، وكره هنري السابع أن تعود إلى إسبانيا بهذا المبلغ، فقرر أن يزوجها من هنري ابنه الثاني، الذي كان ما يزال في الحادية عشرة.
واستنكر وارام
Warham
كبير الأساقفة آنذاك ذلك الزواج المقترح ، وأيده الأسقف فوكس
Foxe
استنادا إلى آية في الكتاب المقدس تقول «وإذا أخذ رجل امرأة أخيه فذلك نجاسة ... يكونان عقيمين» (سفر اللاويين، 20: 21) ووافق على الزواج أساقفة آخرون استنادا إلى آية أخرى هي: «إذا سكن إخوة معا ومات واحد منهم وليس له ابن ... أخو زوجها يدخل عليها ويتخذها لنفسه زوجة» (سفر التثنية، 25: 5). وهكذا كان لا بد أن يحتكم الجميع إلى البابا وكان اسمه آنذاك يوليوس، الذي أصدر فتوى عام 1503م، بأن الزواج حلال، ولكن فتوى البابا لم تحسم الأمر تماما؛ إذ ظل الفقهاء في خلاف، وإن كان الخلاف هذه المرة حول حق البابا في الإفتاء، مما يرهص بنوازع الاستقلال عن كنيسة روما. ولم تهدأ المسألة، رغم إعلان الخطبة رسميا عام 1503م، إلا عندما أعلن تأجيل الزواج بسبب صغر عمر هنري؛ إذ كان هنري ما يزال في الثانية عشرة، وكان يرى في المرأة غير الجميلة التي تكبره بست سنوات زوجة لا يشتهيها قلبه كما سبق أن ذكرنا، فطلب إعلان بطلان الزواج لأن أباه أكرهه عليه، ولكن والده أصر، وأصر معه كثيرون ممن كانوا في قلق على الأوضاع السياسية والعسكرية، وكانوا يرون فيه إنقاذا للبلد من الحرب مع إمبراطورية قوية من المستحسن أن تساندهم في صراعهم التقليدي مع فرنسا. وهكذا تزوج هنري الثامن كاثرين، قبيل أن يبلغ الثامنة عشرة؛ أي بعد أن مات أبوه وتولى العرش في 21 أبريل 1509م.
وبعد سبعة شهور أنجبت كاثرين أول طفل لها مات عند الولادة، (31 يناير 1510م)، وبعد ذلك بعام أنجبت طفلا آخر مات بعد بضعة أسابيع (1511م)، وسقطت في طفلها الثالث (1513م) والرابع (1514م)، مما جعل الملك يفكر من جديد في إعلان بطلان الزواج، ولكن عندما أنجبت كاثرين طفلة أسماها ماري عام 1516م، تفاءل الملك لأن الطفلة ظلت في قيد الحياة (وهي التي أصبحت ملكة فيما بعد) وعاوده الأمل في إنجاب وريث للعرش، ولكن آماله تحطمت عندما أنجبت كاثرين ابنا آخر ولد ميتا في عام 1518م.
في بداية المسرحية إذن نرى الملك وقد فقد الأمل في نجاح زواجه، إلى جانب ظهور مشكلة وراثة العرش وما يمكن أن تتسبب فيه من مشكلات، ونرى الكاردينال وولزي وهو يعمل جاهدا على إقامة الروابط العائلية بين الدولتين، ونعلم من الخلفية التاريخية أن خطبة ماري لولي عهد فرنسا (رغم أنهما كانا طفلين) أثارت انزعاج كبار رجال الدولة (اللوردات؛ أي كبار الملاك)؛ لأن ذلك معناه أن تكون بريطانيا خاضعة لفرنسا؛ ومن ثم عارضوه، وكان من بينهم لورد نورفوك ودوق بكنجهام. ويختلف المؤرخون في مدى صحة ما ورد في كتاب تاريخ إنجلترا (من تأليف رافائيل هولنشد) الذي استند إليه شيكسبير بصورة كاملة، عن اعتزام دوق بكنجهام الاستيلاء على العرش، ولكنهم يجمعون على أن خطبة ماري إلى ولي عهد فرنسا كانت تمثل خطرا داهما على البلاد. ويبدو أن المعارضة الرئيسية كانت من جانب دوق بكنجهام
Buckingham ، ويفسر ذلك أحد المؤرخين قائلا إنه لم يكن يرى أنه من كبار رجال الدولة فحسب بل كان يعتقد أنه يتحمل مسئولية حماية سلامة الأمة من مغبة الانسياق وراء الأحلاف الأوروبية. ولا شك أن هذه المعارضة السياسية كان معناها إفساد خطط الكاردينال وولزي، بل كان معناها تحطيم آماله الطموحة التي لم يكن لها حدود؛ ولذلك دبر للقضاء على بكنجهام، ورأى شيكسبير في ذلك موقفا دراميا يرهص بالموقف الدرامي «المتكرر» للمؤامرات والدسائس التي أودت بجميع من عمل في خدمة الملك، وبنهاية الكاردينال وولزي نفسه، ف «كما تدين تدان».
ويصور شيكسبير على لسان الراوي نورفوك ما حدث في اللقاء بين الملكين الإنجليزي والفرنسي عام 1520م، ويصور أيضا موقف بكنجهام، ولكنه لا يصور ما حدث بعد ذلك إذ عندما ترك هنري الثامن «حليفه» ملك فرنسا (فرانسيس) عاد إلى كاليه في يوليو 1520م (أي بعد 17 يوما فقط) ليعقد اتفاقا مع الإمبراطور الإسباني شارل، في حضور الكاردينال وولزي أيضا، وهو الاتفاق الذي تراجع فيه عن عزمه على مصاهرة الأسرة المالكة الفرنسية! أي إن وولزي كان في الحقيقة يسير دفة السياسية الإنجليزية، ولم يكن من ثم على استعداد لقبول أي معارض من أي طرف. ولقد خرج من هذه المغامرات كلها بثروة يصعب حصرها؛ إذ أمر الملك رهبان دير سانت أولبانز
Albens
ب «اختيار» وولزي رئيسا لهم وتقديم صافي دخل الدير له، عوضا له عن تكاليف الرحلة.
ولنقرأ الآن ما كتبه تريفيليان في كتابه «تاريخ إنجلترا الاجتماعي»، ص94، عن وولزي: «كان هنري السابع وابنه هنري الثامن يتسمان بالحماس للعقيدة السلفية (
orthodoxy )، ولم يهمل أي منهما واجبه في إحراق الهراطقة (أصحاب البدع الدينية سواء منهم المصلح أو المجدد أو المارق) وكثيرا ما استعانا بالأساقفة للعمل مستشارين للدولة أو وزراء، وفقا لتقاليد القرون الوسطى، وكانت الذروة التي أسدلت الستار على تلك التقاليد تعيين الكاردينال وولزي وزيرا (رئيسا للوزراء بلغة العصر الحديث) للملك هنري الثامن؛ إذ اجتمعت في وولزي كبرياء الكنيسة القروسطية.
4
وجبروتها على نحو لم يسبق له مثيل. كان وولزي أداة لسلطة البابا، ولكنه زاد من سيطرة هذه الأداة على الكنيسة الإنجليزية، فكان يعامل النبلاء والسادة من غير رجال الكنيسة كأنما هم تراب يطؤه بقدميه؛ ومن ثم ساعد سلوكه هذا في إشعال نار الثورة المضادة للكهنوت التي صاحبت سقوطه. كان يعمل في منزله ما يقرب من ألف شخص، وكان يسير في موكب رسمي يسبقه فيه حاملو القضبان الفضية والجلادون الذين يرفع كل منهم بلطة الإعدام. وكانت مصادر ثرائه متعددة لا تكاد تحصى، ومن بينها راتب باعتباره رئيس أساقفة يورك، وأسقف دارام
Durham ، ورئيس دير سانت أولبانز
Albans ، وإن كان يهمل القيام بواجبات أي من هذه المناصب. ويقول كاتب سيرة وولزي وهنري الثامن (البروفسور بولارد، ص320-321): إن الكاردينال كانت ثروته تعدل ثروة الملك تقريبا. وإنه استطاع بدهائه أن يدبر للابن الذي أنجبه سفاحا الحصول على دخل عدة كنائس وأبرشيات وأديرة لكنه لم يستطع أن يمكنه من دخل أبرشية دارام البالغة الثراء. وكما كان بالغ الزهو والخيلاء، شديد الجشع والطمع، يعيش في بذخ وأبهة لاحد لهما، كان سخيا شديد السخاء في الإنفاق على إنشاء المعاهد والكليات الجامعية والعليا والتي كانت روعتها لا تجارى ولا تبارى في زمانها. لقد كان حقا من أمراء الأسرة الأوروبية الحاكمة التي تخطت الحدود الجغرافية الضيقة، وطالما انحنى أمامها الرجال وركعوا، وإن كان ذلك قد قضي عليه إلى الأبد في إنجلترا. ومع ذلك فقد كرس نفسه لخدمة الملك وتفانى فيها أكثر مما كرس نفسه لخدمة المصالح الدينية للكنيسة. وكان وولزي في ذلك كله من أعظم الشخصيات وأصدقها تمثيلا لروح القرون الوسطى في تاريخنا، وقد وصلت طاقتها إلى ذروة جبروتها بعد انتهاء موقعة بوزورت فيلد (أي انتهاء الحرب بين الأسرتين المالكتين في إنجلترا) بأكثر من أربعين سنة.» (
G. M. Trevelyan,
English Social History , p. 94 )
وينبغي ألا يدهش القارئ العربي من ذكر الأبناء غير الشرعيين لرجال الدين أو للملك؛ فإن وولزي قد أنجب ابنا وبنتا سفاحا، ولم يكن أبناء السفاح يكتبون اسم الأب بل اسم العم، وكان يطلق على الواحد منهم اسم «ابن الأخ
nephew ». والطريف أن كلمة المحاباة في اللغة الإنجليزية
nepotism
مشتقة من هذه الكلمة، فهي مأخوذة من الإيطالية
nepotismo
المشتقة من
nepote
بمعنى ابن الأخ، وأصلها اللاتيني هو
nepotis
وهي حالة المضاف إليه من
nepos
بمعنى الحفيد أو ابن الأخ، وقد ارتبطت المحاباة بالكلمة لطول ما أظهر القسس في العصور الوسطى من إسباغ الفضل والتفضيل على أبنائهم الذين كانوا ينجبونهم سفاحا ويطلقون عليهم لقب أبناء الأخ! أما الملك، فقد كان ذلك من حقه: ويقوله ول ديورانت
Will Durant
في كتابه قصة الحضارة (وأنا أعتمد هنا على ترجمة الدكتور عبد الحميد يونس للجزء الرابع من المجلد السادس، القاهرة، 1972م).
وكان في ذلك العهد قانون غير مكتوب ينص على حق الملك في إرضاء نوازع غرامه خارج حدود الزواج إذا كان قد أجبر على الزواج ممن لا يحبها من أجل مصلحة الدولة.
ولذلك لم يكن من الغريب أو المدهش ألا يعترض وولزي على مغامرات الملك الغرامية؛ إذ لم يلبث هنري الثامن أن اتخذ عشيقة أخرى (عام 1524م) هي ماري بولين ابنة السير توماس بولين، وكان دبلوماسيا يعمل بالتجارة أيضا، وذا ثراء كبير، وكانت أمها هي ابنة دوق نورفوك وتنتمي لأسرة عريقة هي أسرة هاوارد، ويبدو أن الملك قد طارح الأم الغرام أيضا؛ إذ إنه لم يستطع إنكار التهمة حين ألقاها أحد النبلاء في وجهه، ولكن ذلك كله، كما يقول، ديورانت، كان من «الهفوات التي تغتفر في ذلك العصر الطروب» (ص64).
ويعتمد شيكسبير في تقريره لشخصية وولزي على ما يحيط به المتفرجون أو جمهور القراء عنه، وعما هو معروف عن تاريخ العصور الوسطى؛ ولذلك فنحن أبناء العربية نجد كل ذلك غريبا لأننا لا نستطيع أن نتصور كيف يكون رجل الدين منكبا على الدنيا ومباهجها إلى هذه الدرجة، وتعجز عن إدراك وجهة نظره التي يمكن تلخيصها في أنه كان يرى نفسه ممثلا لمملكة السماء على الأرض، فكان الكاردينال وولزي يتلقى الأموال من ملك فرنسا ومن إمبراطور إسبانيا باعتبارها هدايا «في سبيل إعلاء كلمة الله»، وهي لم تقتصر على الهدايا العينية بل كانت تصله أيضا في صورة مرتبات منتظمة، وكان يحصل على ذلك كله إلى جانب الرواتب، التي يحصل عليها من دخل أبرشيتين، وست ورواتب للقسس، ومرتب رئيس جامعة، ومرتب رئيس دير سانت أولبانز
St. Albans ، وأسقف باث
Bath ، وأسقف ويلز
Wales ، ورئيس أساقفة يورك
York ، ومدير أبرشية ونشستر
Winchester ، وشريك أسقف وستر
Worcester ، وأسقف سولزبري
Salisbury
وهما إيطاليان ويقيمان في إيطاليا.
وقبل أن نعود إلى المسرحية يجمل بنا أن نصور الأحوال الدينية التي سادت آنذاك، أو ما وصلت إليه عند بداية المسرحية، ولا شك أن ذلك الجو العام كان معروفا للقراء في عصر الملكة إليزابيث وجيمس الأول (الذي قدمت المسرحية في عهده). كان عدد الأبرشيات في إنجلترا بلغ نحو 8000 إلى جانب ستمائة دير للرهبان و130 ديرا للراهبات. وقد كتب ريتشارد فوكس
Fox
إلى وولزي عام 1519م، يقول إنه قد يئس تماما من إصلاح حال الكنيسة؛ إذ كان القسس يرون أن ترقيتهم في سلك الكهنوت تتوقف على ما يجمعونه من مال، فتسابقوا في الحصول على المكوس من الفلاحين وصغار التجار (العشر من كل شيء). ومن الطبيعي ألا يستجيب وولزي لهذه الشكوى لأنه كان هو نفسه على رأس هذا النظام الكنسي. ويقول فرود في كتابه عن هنري الثامن (Froude,
Henry VIII , vol. II pp. 114-115)
إن مورتون
Morton
كبير الأساقفة اتهم رئيس رهبان دير سانت أولبانز في عام 1489م (الذي خلفه وولزي فيما بعد) بالاتجار «في المقدسات والرتب والوظائف الدينية، ومزاولة الربا والاختلاس والإقامة علنا وباستمرار مع العاهرات والعشيقات داخل أرباض الدير وخارجه» (ص114). كما «اتهم الرهبان بأنهم يحيون حياة داعرة ... لا بل إنهم يدنسون الأماكن المقدسة، حتى كنائس الرب ذاتها، بمضاجعة الراهبات، وما أبغض ذلك إلى قلوب المؤمنين!» (ص115)، بل إنه ذهب إلى القول بأنهم حولوا ديرا صغيرا مجاورا إلى «ماخور عام» (نفس الصفحة).
وأهم من ذلك كله ما شاع عن الخروج عن الدين، أو المروق أو التجديف في الدين، والذي يدخل جميعا في باب الهرطقة، أو البدعة التي يعاقب مرتكبها بالإعدام حرقا. وكانت سلطة الكنيسة في معاقبة الهراطقة لا حدود لها، وكانت أحكامهم لا راد لها، فأشاعت الخوف في النفوس وقذفت الرعب في القلوب. وكان من بين ما يعد من قبيل الهرطقة الدخول في جدل حول القربان المقدس، أو القول بأنه يكفي أن يقدم من الخبز، والتشكيك في السلطة الإلهية للقسس؛ أي السلطة المفوضة للقس من الرب في الحكم بأن الشخص مؤمن أو كافر، وفي التكريس أو الحل، أو القول بأن القرابين المقدسة ليست ضرورية للحصول على الخلاص، أو التشكيك في قيمة زيارة قبور الأولياء والصالحين، وفي قيمة الصلاة من أجل الموتى. والجدير بالذكر أن بعض الأملاك الشاسعة والأراضي الخصبة كانت موقوفة على الإنفاق على هذه الصلوات (
chantries )، وكذلك الدعوة إلى أن يتوجه الإنسان بالصلاة إلى الله فقط، والزعم بأن الإيمان وحده قادر على أن ينقذ الإنسان من النار بغض النظر عن صالح الأعمال، وبأن المسيحي المخلص لا يلتزم أو له ألا يلتزم بأي قانون بشري لم يأت به المسيح؛ ومن ثم القول بأن الكتاب المقدس والكنيسة هما المرجع الأوحد للعقيدة، والدعوة إلى تعميم الزواج بين الجميع بمعنى إلغاء الأيمان التي يحلفها القسس بأن يظلوا دون زواج، وكان يطلق عليها «أيمان العفة» (
Vows of Chastity ). وكانت بعض هذه الأفكار نابعة من تفسير المثقفين الشبان وتذييلاتهم لترجمة الكتاب المقدس إلى الإنجليزية التي تنسب إلى ويكليف
Wycliffe (1330-1384م) والتي شاعت وانتشرت بين الطبقات الفقيرة، ودعت كل من يعرف لغته الأم إلى التساؤل عن صدق ما يدعو إليه الكهنة إذا لم يجد له سندا في الكتاب. وعلى امتداد القرن كله (أي حتى عهد هنري الثامن) كانت هذه التفسيرات والتذييلات تلقى الهجوم والسخرية، ويطلق على من يرددها لفظ المتشدق الأجوف، وعلى التشدق الأجوف لفظ
lollardry ، وكانت الأفكار في مجموعها تعتبر مرادفة للهرطقة. وذلك قبل أن يصدر مارتن لوثر ترجمته للكتاب المقدس من اليونانية إلى الألمانية عام 1517م، ولا يجب أن ننسى ما حدث قبل مائة عام تقريبا؛ أي في 1408م؛ إذ دعا رئيس الأساقفة السير توماس أرندل
Sir Thomas Arundell
إلى عقد مجمع مقدس لرجال الكنيسة انتهى فيه إلى منع ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الوطنية، وانطلق مندوبو الكنيسة في كل مكان للبحث عن النسخ الإنجليزية وإحراقها، ولكن الحظر لم يكن محكما برغم جميع الجهود المبذولة؛ إذ ما تزال بين أيدينا نحو 200 نسخة من هذه الترجمة يرجع تاريخها إلى ما بين عامي 1420م و1450م. ويذهب المؤرخون إلى أن «المتشدقين» قد اشتد ساعدهم في النصف الأخير من القرن الخامس عشر، وكانوا من العوامل التي أوجدت المناخ الملائم للإصلاح الديني الذي نهض به هنري الثامن، فلولا التأييد الشعبي لما استطاع كبار علماء التنوير مثل إرازموس
Erasmus
وصحبه التأثير في الجيل الجديد.
إننا نجد أنفسنا مع بداية المسرحية على فوهة بركان، ولم تكن المشكلة التي يركز عليها شيكسبير؛ أي موضوع الطلاق من كاثرين والتزوج من آن بولين، إلا الفتيل الذي أشعل النار، أما اللهيب الحقيقي فكان لهيب ثورة الإصلاح الديني التي قادها الملك، باسم الدين الصحيح، فبذر أولى البذور التي ضربت جذورها في التربة الإنجليزية في عهد خلفه، وآتت أكلها في عهد الملكة إليزابيث، وهي التحول من الكاثوليكية إلى البروتستانتية.
ولكن من هي آن بولين «الفتيل الذي أشعل النار»؟ كانت آن هي الشقيقة الصغرى لعشيقة الملك (ماري برلين). وقد أرسلها والدها للدراسة في فرنسا وهي بعد في العاشرة، وعندما عادت إلى البلاط عام 1522م، لم تكن قد تجاوزت الخامسة عشرة، وكان سلوكها في البلاط ينم على الذوق الرفيع الذي كان الإنجليز ينسبونه إلى تقاليد فرنسا المستقاة من فنون عصر النهضة، سواء في الملبس أو طريقة الكلام أو في الميل إلى الرقة والرشاقة في كل ما تقوله وتفعله، وسرعان ما التحقت بخدمة الملكة (أي أصبحت من وصيفاته) فاقتربت من كبار أهل البلاط واستطاعت بموهبتها الكبيرة أن تحذق أساليب حياته وتحيط بدسائسه ومؤامراته. ويقول معاصروها إنها ليست رائعة الجمال؛ فهي قصيرة القامة، وبشرتها داكنة، وفمها واسع، وعيناها سوداوان، ولكنها كانت بعيدة مهوى القرط، وشعرها البني ينسدل على كتفيها، وحركتها رشيقة، وبديهتها حاضرة، فتغزل فيها الشاعر سير توماس وايات، وتشبب بها، كما أوقعت في حبائلها أحد كبار رجال الدولة وهو السير هنري بيرسي
Sir Henry Percy
الذي ترقى فيما بعد فأصبح لورد نورثمبرلاند
Lord Northumberland ، وأشيع أنه تزوجها سرا، ولكن طموحها لم يقف عند هذا الحد، على خلاف ما يصوره شيكسبير في المسرحية.
ويقول المؤرخون إن أقدم ما يشهد على توله الملك هنري الثامن بها هو رسائل الغرام التي كان يرسلها إليها منذ يوليو عام 1527م، ولكن العلاقة كانت ولا شك قد بدأت قبل ذلك التاريخ. وإذا كان شيكسبير قد صور لقاء الملك بها في الحفل الذي أقامه وولزي تصويرا يحمل أصداء «روميو وجوليت»، فهذا خيال شاعر محض! بل إن العبارة التي يقولها الملك عندما يراها ل «أول مرة» في الحفل هي نفس العبارة التي يقولها روميو عندما يرى جوليت في حفل أسرة كابيوليت وهي «أنا لم أشاهد الجمال ولم تعرفه عيناي قبل الآن!»
والصدق التاريخي هنا يقتصر على جوهر الحدث؛ أي افتتان الملك بالفتاة، أما أنها هي التي دفعته إلى طلب الطلاق فمسألة خلافية، فالملك كان ينتوي الطلاق منذ أمد بعيد، وكان موضوع إنجاب وريث يخلفه على عرش إنجلترا شغله الشاغل، وكان الشعب يشاركه القلق، فالحرب الأهلية بين أسرتي يورك ولانكاستر بسبب الخلاف على تولي العرش كانت ذكراها ما تزال عالقة بالأذهان (1454-1485م) والأسرة الحاكمة التي يمثلها الملك لم تقض في الحكم إلا اثنتين وأربعين سنة، وكان آخرون يطمعون في ارتقاء العرش؛ ولذلك فإن حبه للفتاة، مهما يكن صادقا وعميقا، كان الشرارة وحسب التي أوقدت البركان الساكن.
وعلى أي حال فإن هنري الثامن طلب من وولزي مساعدته في إعلان بطلان زواجه من كاثرين عن طريق إقناع البابا بذلك، ولكن البابا كان حينذاك أسيرا عند إمبراطور إسبانيا، ولم يكن الإمبراطور على استعداد لمساعدة الملك في التخلص من الملكة التي هي خالته (أي حالة الإمبراطور). وكان وولزي يتصور أن الطلاق سوف يمكن الملك من الزواج من رينيه أخت ملك فرنسا، مما يساعده في خططه السياسية، لا تلك الفتاة التي لم تتجاوز العشرين، والتي لا تمثل له أي قيمة سياسية، ومع ذلك فقد عمل على تحقيق رغبة الملك.
وأحس الملك أن وولزي ليس مخلصا في تحقيق رغبته، ولا بد أن آن بولين كانت تحفز الملك على إتمام الطلاق وتمارس أقصى ما تستطيعه المرأة من ضغوط وحيل، فأرسل مندوبا عنه إلى البابا الأسير «كليمانت»، اسمه السير وليام نايت، بطلبين محددين؛ الأول أن يسمح له بالاحتفاظ بزوجتين إذا تعذر الطلاق، والثاني أن يصدر فتوى بتحليل زواجه من فتاة كانت له علاقات جنسية مع أختها! ولكن الملك تراجع في آخر لحظة وألغى المطلب الأول. ويقول لنا بولارد في كتابه عن وولزي (ص207): إن الملك لا بد قد أصابه الذهول عندما تلقى من أحد مندوبيه في روما، وهو إيطالي يدعى جوفاني كاسالي
Giovanni Cassali
خطابا بعد ذلك بثلاث سنوات يقول له فيه إن البابا قد اقترح عليه آنذاك (أي في عام 1527، عندما بعث إليه وليام نايت) بأنه يستطيع أن «يسمح لجلالتكم بالجمع بين زوجتين!» ولم يستطع البابا الأسير لدى الإمبراطور شارل أن يسمح بالطلاق لأن معنى ذلك الحكم بأن البابا السابق أخطأ حين سمح بالزواج أصلا! وأخيرا أرسل الملك إلى البابا طلبا بعقد محكمة؛ أي جلسة فقهية، للنظر في صحة زواجه من كاثرين، وأن يرسل لهذا الغرض مندوبا عنه وممثلا له بحيث يلتزم الملك بالحكم الذي يصدره. وكان البابا مترددا، ولكن الملك هنري استطاع بفضل جهود وولزي أن يعقد حلفا مع فرانسيس ملك فرنسا لشن حملة على إمبراطور إسبانيا وفك أسر البابا إذا نجحت الحملة - في يناير 1528م - وعندها رأى البابا أملا في الخلاص من الأسر، فوافق على إرسال مندوب عنه هو الكاردينال كامبيجيو (كسامبيوس في مسرحية شيكسبير).
ولما علم ملك فرنسا أرسل خطابا شديد اللهجة إلى البابا يؤنبه فيه على اتخاذ قرار يعارض فيه قرار البابا السابق (يوليوس الثاني) فانزعج البابا، وأرسل إلى مندوبه يطلب منه تأجيل البت في القضية (وهو ما يصوره شيكسبير من خلال استياء الملك لهذا «التسويف»). وكانت دوافع هنري في هذه الآونة قد تبلورت، فلم يكن، كما يظن كامبيجيو، مدفوعا بالحب الجارف للفتاة آن بولين وحسب، ولكنه كان يعيد النظر في حساباته جميعا، خصوصا فيما يتعلق بموقف إنجلترا من كنيسة روما، وتلك السلطة التي بدت له أكبر مما يمكن لملك ما أن يحتمله! كان كامبيجيو يتصور حسبما كتب إلى البابا في فبراير 1529م، أن العاطفة المشبوبة هي التي تتحكم في تصرفات الملك، غير مدرك للتحولات الاجتماعية والفكرية التي كانت تحفز الملك إلى معاداة الكهنوت، شأنه في ذلك شأن رعاياه، وإلى معاداة البابا بصفة خاصة، باعتباره رمزا لسلطة أصبحت - بسبب الفساد الذي شاب ممارستها - غير صالحة للعصر الجديد.
ويحافظ شيكسبير على الحقائق التاريخية في تصويره للمحاكمة، ولكنه لا يظهر التيارات الاجتماعية والفكرية التي أدت إلى نشوء هذا الموقف، فهو يصوره من وجهة نظر الشخصيات العليا، متبعا في ذلك المذهب الكلاسيكي في الدراما، وهو يصور المأساة الإنسانية للملكة، وإن كان يحذف أنها أقسمت أنها كانت عذراء عندما تزوجها الملك، حتى لا يجعل كفة الحكم تميل في صالحها، وضد الملك، وربما لم يجد «المساحة الزمنية» الكافية لرصد كل هذه العوامل.
فالمسرحية تبدأ زمنيا في عام 1520م، وتنتهي بمولد إليزابيث في عام 1533م؛ أي إن الفترة الزمنية تنتهي بنا إلى بداية الهجوم على الكهنوت والقضاء على سلطان الكنيسة الكاثوليكية الرومانية التي كان وولزي رمزها الواضح بل وقوتها الجبارة. ويقول لنا البروفسور بولارد صاحب ترجمة وولزي إن وولزي كان يمتطي دائما صهوة جواد جامح، وإنه استغل السلطة البابوية في إنجلترا استغلالا شديدا فجنح الفرس به وأودى به وبها! أي إن انتهاء المسرحية هو بداية لا نهاية، وإن كانت نهاية وولزي هي بداية التحول الذي لم تكن أحوال الملك الشخصية إلا مظاهره البادية، بينما كانت جذوره تضرب في تربة الشعب على أوسع نطاق. ويضيف بولارد قائلا: «كان الخلاف الأساسي بين وولزي وهنري ينحصر في أن الكاردينال يناصر سلطة الكهنوت، بينما كان الملك يناصر سلطة الدولة، وهذا هو الذي كان يميز الكنيسة الرومانية عن الكنيسة الإنجليكانية، لا أي مسألة أخرى من مسائل اللاهوت، فالسلطة الأولى في أيدي القس والسلطة الثانية في يدي الملك ... ولقد أدى سلوك وولزي إلى أن أصبحت الكنيسة سلطة مستبدة، وكان سلطانها يتمثل في تحكمها في أبناء الشعب لا في طاقتها على حكم نفسها، وهكذا فإن انتصار هنري وضمه الأديرة إلى الدولة أنقذ الكنيسة الإنجليكانية من السقوط في الهوة التي تردت فيها الكنيسة وفقا لمفهوم وولزي؛ أي الكنيسة البابوية المستبدة التي تتناقض مع روح حق تقرير المصير، وهي الروح التي كانت تتغلغل في وجدان الأمية وتعيد تشكيلها.» (
369-370 )
وعندما تنتهي المسرحية بمولد إليزابيث تكون إنجلترا قد دخلت مرحلة تحول بطيء يصطرع فيها دعاة السلفية مع دعاة التجديد والإصلاح، على مدى عقد كامل سجل أحداثه مؤرخو الفترة، ولنا في كتاب رحلات، ليلاند
The Itinerary of John Leland
شاهد حي على التحول الاجتماع الذي شهدته إنجلترا في هذه الفترة، والذي بدأ يتخذ صورة بارزة بعد سقوط وولزي؛ فزواج الملك هنري الثامن من آن بولين كان يرتبط في نظره وفي نظر الشعب باستقلال إنجلترا كدولة ذات سيادة عن سلطة روما، ولا يمكن أن يكون الاستقلال كاملا طالما كان في الدولة ممثل للبابا (القاصد الرسولي) بفرض آراءه على رجال الدين في البلد. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن موقف هنري الثامن من مسألة الطلاق والأزمة الشخصية لم تكن إلا عرضا من أعراض التحول، أما التحول الحقيقي فهو ما يرصده المؤرخون في موقف الشعب من الكهنوت وانتشار روح التنوير الجديدة، التي ولدت في ألمانيا بترجمة مارتن لوثر للكتاب المقدس، وكانت قد بذرت بذورها كما قلنا بترجمة ويكليف في القرن السابق، ثم بلغت أوجها في الصدام بين الملك وبين الكهنوت، والذي انتهى بتأميم الأديرة ثم حل الأوقاف في عهد خليفته إدوارد السادس.
ومن ثم فإن تركيز شيكسبير على المشكلة الشخصية للملك هو تركيز على العرض لا على الجوهر، والجوهر هو روح التنوير التي كان الملك يرفع لواءها مهما يكن من تمسكه بأهداب العقيدة السلفية، وقد تجاهل شيكسبير قضية ترجمة الكتاب المقدس إلى الإنجليزية التي قام بها وليام تيندال
William Tyndale
في الفترة التي تغطيها أحداث المسرحية، وهي الترجمة التي بدأها بإصدار العهد الجديد في عامي 1525-1526م، معتمدا على الأصل العبري والأصل اليوناني لا على النسخة اللاتينية، وكان يرمي بذلك إلى توعية الشعب من غير المتعلمين (ومن غير رجال الكنيسة بطبيعة الحال) بما جاء في الكتاب المقدس، حتى يستطيع كل من يعرف الإنجليزية أن يقرأ الكتاب المقدس وأن يفهمه (ولو قرأه عليه آخرون). وقد طبع الكتاب في ألمانيا وتخاطف الشعب النسخ عند وصولها، وكان من الطبيعي أن يثور عليه كبار السلفيين بحجة أخطاء الترجمة أو لتأثره الواضح بأفكار مارتن لوثر، ولكن هذه الحجة مردود عليها، بل إن المترجم نفسه قد رد على انتقادات توماس مور
Thomas More
للترجمة في كتاب ضخم، أظهر فيه تمكنه من اللغات القديمة وإحكامه «للصنعة» إحكاما لم يسبق له مثيل، ولكن الفتنة كانت قد بدأت، ورأى الملك في عام 1530م، أن يخمدها بمنع تداول الكتاب، وأصدر وولزي مرسوما يمنع حيازة المؤلفات (بما فيها المترجمات) غير المعتمدة من الكنيسة (والمقصود بها طبعا الكنيسة الكاثوليكية التي يرأسها البابا).
ويذهب كولتون
Coulton
في كتابه عن الحياة في القرون الوسطى إلى أن معارضة ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات الحية في أوروبا كان وراءها حرص الكهان على الاحتفاظ لأنفسهم بحق تفسير النصوص اللاتينية على نحو ما يناسب أهواءهم، والواقع أن مفهوم العلم والمدرسة في العصور الوسطى كان قائما على هذا الأساس، فكان طلب العلم هو طلب الإحاطة باللاتينية، وكانت المدارس التي كان يطلق عليها
Grammar Schools
هي مدارس تعليم الكتابة باللاتينية، وكانت تقتصر إلى حد كبير على الذين يعتزمون الدخول في سلك الكهنوت، خصوصا من أبناء القادرين أو من «أبناء إخوة» الكهان (أي الأبناء الذين أتوا بهم سفاحا كما سبق أن أشرنا) فاللاتينية هي لغة العلم، والعلم هو العلم بالكتاب المقدس وشروحه وتاريخ القديسين والأولياء والصالحين من مفسرين ورهبان، وهي أيضا لغة إيطاليا الكاثوليكية والتي كانت تتحول تدريجيا إلى الإيطالية الحديثة؛ ومن ثم فإن الاعتصام بالكتاب المقدس المكتوب باللاتينية يكفل عزل الكهنوت عن الشعب، ويجعل الكاهن صاحب الحق الأوحد في «هداية» العامة وتوجيه خطاهم.
وبعث وولزي إلى رجال الكنيسة في كل مكان يطلب موافاته بالمترجم «الزنديق» الذي كان يمضي قدما في ترجمة العهد القديم (1530م) وعملاء وولزي له بالمرصاد، وما لبث أن بث إمبراطور إسبانيا عيونه لمعرفة مكانه، ثم ألقي القبض عليه في أنتويرب
Antwerp ، وسجن نحو عام ونصف عام في سجن بالقرب من بروكسل، ثم أعدم حرقا عام 1536م، على الرغم من تشفع توماس كرومويل وزير هنري الثامن له. ومن المفارقات أن النسخة الإنجليزية التي وضعها أصبحت أساس النسخة الحالية المعروفة باسم نسخة الملك جيمس من الكتاب المقدس، وهذا كله ما أغفله شيكسبير بسبب اعتماده على تاريخ إنجلترا الذي كتبه هولنشد فقط. ويجمل بنا أن نقرأ ما كتبه تريفيليان عن نهاية العصور الوسطى التي آذن ذلك بها: «في العقد الذي قام فيه ليلاند برحلاته في إنجلترا (1534-1543م)، وسجل ملاحظاته عما شاهد وسمع، قام الملك هنري الثامن باستخدام البرلمان في إحداث الثورة التي أطاحت بالكهنوت، والتي نستطيع أن نعتبرها، دون غيرها، أعظم شاهد على انتهاء المجتمع القروسطي في إنجلترا؛ فإن قيام كنيسة وطنية تتمتع بالاستقلال وترفض سلطة البابا أتاح إمكان إخضاع الكهنوت للسلطة العلمانية، وتقسيم الأملاك الشاسعة والنفوذ الاجتماعي للأديرة على أفراد الشعب. وكانت هذه الأحداث مجتمعة تمثل ثورة اجتماعية. وقد صاحب تلك الثورة قدر محدود من التغييرات الدينية التي سمح بها الملك هنري الثامن الذي يرى المؤرخون أنه ممن تشربوا الروح الحديثة التي تدعو إلى نشر الكتاب المقدس بالإنجليزية بين جميع طبقات الشعب، وإلى القضاء على الأشكال الساذجة للتدين من تقديس لتماثيل الأولياء ومخلفات القديسين، وإلى إنشاء معاهدة علمية تنتمي حقا لروح عصر النهضة في أكسفورد وكيمبريدج بدلا من الفلسفة الاسكولاتية الكنسية والفقه الديني القديم، وكانت هذه الروح الحديثة تعتبر في نظر هنري الثامن ضربا من الإصلاحات الكاثوليكية القويمة التي يأمر بها الدين الصحيح. ولم يتوقف في غضون تلك الإصلاحات عن كراهيته للبروتستانت واضطهادهم، ولو لم يكن ذاك موقفه فربما فقد عرشه في ظل المناخ الفكري السائد آنذاك. ومع ذلك فإنه قد ساهم بهذه الإصلاحات في إيجاد نظام اجتماعي وكنسي جديد، كان من المحال الإبقاء عليه في السنوات اللاحقة وما أتت به من مظاهر التحول دون إقامته على أساس بروتستانتي صريح.
كانت حركة الإصلاح في إنجلترا حركة سياسية ودينية واجتماعية في الوقت نفسه، وكانت مظاهرها الثلاثة ترتبط ارتباطا شديدا بعضها بالبعض ... فالعداء للكهنوت كان ظاهرة اجتماعية تتفق مع شتى أشكال النظر إلى الدين والعقيدة. وكان العداء للكهنوت هو النغمة الأساسية للحركة الفكرية التي أحس بها المثقفون والعامة جميعا، وهي التي مكنت الملك من الانفصال عن البابوية وتأميم الأديرة وحل الأوقاف، في وقت كان عدد البروتستانت الإنجليز ما يزال يمثل أقلية ضئيلة تعاني من الاضطهاد.
كان هنري الثامن قد تلقى تعليمه على ضوء المناهج المعادية للكهنوت التي وضعها إرازموس وأصدقاؤه في أكسفورد، وهم رجال يتمتعون بإخلاص ديني صادق وينتمون للمذهب السلفي القويم، وإن كان قد أثارهم وأغضبهم ما كان صغار الكهنة وحقراؤهم يلجئون إليه من تحايل لابتزاز النقود من الجهلة والمؤمنين بالخرافات. وكان إرازموس وصحبه يناصبون طوائف الرهبان وقسس الطوائف (وتسمى طوائف الإخوان الشحاذين الأربع)
Four Mendicant Orders
5
عداء مستحكما باعتبارها الطوائف الداعية إلى تعميم الجاهلية وجمود الفلسفة الاسكولائية وباعتبارها معادية لدراسة الكتاب المقدس في أصله اليوناني، وهو الأصل الذي كان إرازموس وكوليت يعتبرانه معيار الصدق الديني.
ولننظر إلى بعض ما كتبه إرازموس في هذا الباب، وهو الذي يفصح إفصاحا صريحا عن عداء لا هوادة فيه للكهنوت؛ ففي الكتاب الذي كتبه باللاتينية وأعطاه عنوانا ساخرا هو «تقريظ الحماقة»، نراه يدين الرهبان «لأنهم يراعون مراعاة شديدة ويحافظون بكل ما أوتوا من قوة على كثير من الطقوس السخيفة البلهاء والقواعد التقليدية التافهة العجفاء.» ويؤكد أن المسيح لم يكن ليكترث إطلاقا لهذه الطقوس والقواعد، وهي التي توسل بها هؤلاء ليكفلوا لأنفسهم معيشة بذخ وترف، و«التهام اللحم وملء البطون حتى كادت تنفجر.» وهو لا يعفي قسس الطوائف «الحقراء» (الذين يعيشون على الصدقات) ويسخر من وعظهم سخرية مريرة قائلا: «إن أسلوبهم في الوعظ برمته يوحي بأنهم قد تلقوا دروسا من الدجالين الطوافين، وإن كان الدجالون لا شك يتفوقون عليهم كثيرا.» ويواصل إرازموس هذا الهجوم على امتداد صفحات وصفحات.
فإن كان هذا الرجل، الذي يعتبر أعظم عالم في أوروبا وأشد أبنائها ثقافة ورقة طبع، والذي كان يحط من قدر الخطوات الثابتة القوية والمباشرة التي اتخذها مارتن لوثر، يستطيع أن يكتب مثل هذا الكلام باللاتينية عن الرهبان وقسس الطوائف، فلنا أن نتخيل نبرة الكتاب الشعبيين الذين هاجموا الكهنوت والذين وجهوا كلامهم إلى أبناء الشعب الإنجليزي بلغته الوطنية.» لقد دارت المطابع وأصدرت العديد من أمثال هذه الهجمات، وأثارت في هجماتها طمع الناس من غير رجال الدين وطموحهم إلى الثراء الفاحش والممتلكات الشاسعة للكنيسة، والتي كانت قد فقدت منذ فترة أهم أسلحة دفاعها عن حماها، ألا وهو سلاح النفوذ المعنوي والرهبة الدينية.
وعلى سبيل المثال فقد نشر سايمون فيش كتيبا بعنوان «ابتهال الشحاذين»، قبل تأميم الأديرة بسنوات قليلة ، وقرأ هنري الثامن ذلك الكتيب دون أن يظهر أدنى استياء منه، وقرأه أبناء لندن فأعربوا عن ابتهاجهم البالغ به، وهو يتوجه فيه بالخطاب إلى الملك قائلا: «في العهود الغابرة لأسلافك النبلاء، تسلل إلى مملكتكم في مكر ودهاء، نوع آخر من الشحاذين والمتشردين الذين يلبسون مسوح القداسة ولا يزاولون أي مهنة، وهي مسوح زائفة قوية وبالغة التأثير (ولا يشوبها أي ضعف) ... وهم الأساقفة، ورؤساء الأديار، ومقدمو الأديار، والشمامسة، ورؤساء الشمامسة، ومعاونو الأساقفة، والكهان، والرهبان، ورجال الكنيسة، وقسس الطوائف، وبائعو صكوك الغفران، والمحضرون الكنسيون، ومن ذا الذي يستطيع أن يحصي عدد هذا الضرب العاطل الهدام من الرجال الذين أخذوا (بعد أن نبذوا كل عمل يمارسه الإنسان) يسألون الناس إلحافا حتى تمكنوا من الاستيلاء على أكثر من ثلث مملكتكم كلها؟ فهم أصحاب أجمل المقاطعات والمساكن، وأخصب الضياع والأراضي. وهم يستولون إلى جانب ذلك كله على نسبة العشر من كافة المحاصيل، ومن المروج والمراعي والكلأ والصوف والمهور والعجول والحملان والخنازير والإوز والدجاج ... بل إنهم ليحرصون بالغ الحرص على الدقة في تحصيل هذه الأرباح، حتى إن الفلاحة الفقيرة يجب أن تقدم إليهم عشر عدد البيض جميعا وإلا حرمت من حقوقها «المقدسة» في عيد الفصح، واعتبرت مارقة في الدين ... ترى ما مقدار النقود التي يحصل عليها المحضرون ابتزازا كل عام؛ إذ إنهم يعلنون الناس بالحضور إلى محاكم ممثلي الأساقفة، ثم يعفونهم من طلب الحضور لقاء مبلغ من المال؟ ... ومن تلك التي تقبل العمل بيديها مقابل ثلاثة بنسات في اليوم إذا كان في وسعها أن تحصل على عشرين بنسا في اليوم على الأقل في اليوم لقاء النوم ساعة مع قس من قسس الطرائف أو راهب أو كاهن؟»
والنتيجة التي ينتهي إليها مؤلف الكتيب هو «ضرورة الاستيلاء على ثروة الكهان وخصوصا ثروة الرهبان وقسس الطوائف، لصالح الملك والمملكة، وضرورة قيامهم بالعمل مثل غيرهم من الرجال، بل والسماح لهم بالزواج حتى يتسنى لهم أن يتركوا زوجات الآخرين في حالهن».
G. M. Trevelyan,
English Social History , pp. 100-103.
والذي نستشفه من تأمل المهاد التاريخي لأحداث المسرحية أن إنجلترا كانت تشهد تغيرا بطيئا ولكنه ثابت الخطى نحو الإصلاح الديني، ويتجلى ذكاء شيكسبير في تجميع أحداث 13 سنة أو أكثر في عمل درامي لا يستغرق عرضه أكثر من ثلاث ساعات، إذا رأينا كيف يجعل الملك ممثلا لطموح الشعب في إسقاط سلطة الكهنوت، ويجعل وولزي ممثلا للكهنوت الذي ينتهي به الأمر إلى السقوط! وتتجلى عبقريته الدرامية في إيجاد مساحات الألوان «الرمادية»؛ أي التي تجمع بين الأبيض والأسود بدرجات متفاوتة، فهو ينصف وولزي على لسان خادم الملكة بعد أن يعرضه لأشد ألوان القدح على لسانها وعلى لسان الآخرين. وهو يجعل الملك شديد التمسك بالعقيدة السلفية، شديد العداء لمارتن لوثر وأتباعه، وللهراطقة المارقين، حتى وهو يقدم على الإصلاحات الدينية التي يعرفها المتفرج أو قارئ المسرحية. وهو في هذا يؤكد الحقائق التاريخية التي يرويها تريفيليان: «كان الرأي العام في إنجلترا، بين عامة الشعب خارج الكنيسة وبين رجال الكنيسة أنفسهم، يموج بتيارات متغيرة ومتضاربة؛ أي إنه لم يكن قد انقسم في عهد هنري الثامن إلى حزبين ثابتين، حزب الإصلاح والحزب الرجعي، بحيث يمكن التفريق بينهما بوضوح. وفي خضم هذه الأمشاج المختلطة تمكن الملك من فرض مذهبه الذي يضم العناصر المحددة التي انتقاها من هذا وذاك؛ فإن سياسته المناهضة للبابوية والأديرة لم ينقذها من الفشل إلا كبار النبلاء المحافظين، مثلما حدث في عام 1539م، عندما قامت الثورة في الشمال، التي عرفت باسم «حركة الحج المبرور»؛ إذ تصدى لها لورد نورفوك، ولورد شروزبري، والأسقف جاردنر والأسقف بونر، وكل منهم كان لا يقل حدبا عن الملك على إحراق أتباع مارتن لوثر. ويذكر راوز في كتابه عن تاريخ مقاطعة كورنوول تحت حكم أسرة تيودور (ص222)
Rowse’s
Tudor Cornwall
أن جميع الكبار الذين انهمكوا في تأميم الأديرة وحل الأوقاف في كورنوول كانوا من الكاثوليك، ولم يكن من بينهم بروتستانتي واحد. ومن ناحية أخرى فإن رجلين من أعظم المتنورين في عصر النهضة الأكاديمية والإصلاح وهما السير توماس مور والأسقف جون فيشر (وهما من أعز أصدقاء إرازموس) فضلا الإعدام على الموافقة على طرح سلطة البابا وإخضاع الكنيسة للدولة.» (المرجع نفسه، ص108-109)
ويذهب بعض المؤرخين إلى أن حاجة الملك إلى المال كانت من الدوافع التي جعلته يتجه إلى تأميم الأديرة، وقد يكون ذلك صحيحا، ولكننا لا نستطيع أن ننكر ما يقوله تريفيليان عن «روح التنوير» التي كانت وراء استقلال الكنيسة الإنجليزية؛ ولذلك فإن المواجهات التي تجري في المسرحية بين رجال الدين، خصوصا تلك السهولة التي يدينون بها أعداءهم ويرسلونهم إلى السجن أو الإعدام، ونكوصهم عن آرائهم أمام سلطة الملك، تؤكد أن الملك كان يواجه فكر التعليم القروسطي، وينشد العدالة للطبقات الوسطى الناشئة آنذاك.
كان التغير بصفة عامة في صالح الطبقات المتوسطة والأغنياء، بينما كان قانون حماية الفقراء هو البديل الذي استندت إليه الدولة في رعاية المتضررين من حل الأوقاف وتأميم الأديرة، ويقول تريفيليان: «كان المذهب البروتستانتي ينزع إلى إضفاء الاحترام والتبجيل على الزواج، والتفاني في حياة العمل والإنتاج، مما يمثل رد فعل عنيفا للمذهب القروسطي القائل بأن حياة «المتدين» الصادق هي عدم الزواج والانعزال عن الدنيا في الدير. وكان السماح للقس بالزواج (بأمر من الملك إدوارد السادس ثم من الملكة إليزابيث) أحد مظاهر هذا التغيير الفكري. وكان المثل الأعلى البروتستانتي هو المنزل المتدين، الذي يقرأ فيه أفراد الأسرة الكتاب المقدس وكتاب الصلوات، إلى جانب حضورهم صلوات الكنيسة وشعائرها ...
وكان اللون الجديد من الدين الإنجليزي يعتبر العمل مثلا أعلى قائلا إن التجارة والزراعة أنشطة تبذل في سبيل الله، وكما قال جورج هيربرت:
من يكنس غرفة طاعة لشريعتك،
فإنه ينظفها وينظف سريرته.
لقد كان لونا من الدين المناسب لشعب من التجار والمزارعين.» (المرجع نفسه، ص127)
ويضيف ترافيليان قائلا:
وكان الوقت الذي شهد بذر بذور هذه الأفكار والأعمال التي شاعت وتفشت في القرن اللاحق، هو عصر الملك إدوارد السادس وأخته الكبيرة، بينما كان كرانمر يقوم بإعداد كتاب الصلوات، والملكة ماري تقتل البروتستانت فتقدم الشهداء الذين لا غنى عنهم لانتشار أي دين جديد، فإذا كانت الثورة المناهضة للكهنوت في عصر هنري الثامن قد شابها انقضاض مقيت وشره بغيض لالتهام ثروة الكنيسة ، فإن الشهداء الذين خلد فوكس
Foxe
ذكرهم في كتابة الذائع ضربوا المثل على التفاني، وأوحوا بذلك الأساس الأخلاقي المتين الذين كان الدين الجديد على مستوى الأمة كلها يحتاج إليه حتى تتضح ملامحه وتشتد أركانه. وعندما جلست الملكة إليزابيث على عرش إنجلترا كان الكتاب المقدس وكتاب الصلوات هما الأساس الفكري والروحي للنظام الاجتماعي الجديد (ص128).
وإزاء هذا كله نرى أن نبوءة كرانمر في ختام المسرحية ليست مجرد حلم، وليست وهما من الأوهام الجوفاء، بل هي صورة يرسمها شيكسبير للنظام الاجتماعي، خصوصا إذا ذكرنا أبعاد التحول الاجتماعي الواسع النطاق في عصر الملكة إليزابيث، وهذا ما ذهبت إليه الأستاذة فرانسيس ييتس
Yates
في كتابها العظيم «آخر مسرحيات شيكسبير»: مدخل جديد، (1957م)؛
Francis Yates,
Shakespeare’s Last Plays: A New Approach , London, 1957.
إذ إنها تربط بين هذه المسرحية وبين مسرحية سيمبلين
Cymbeline
باعتبارهما أعمالا تبشر بالعصر الجديد، كما أنها ترى في احتفالات التعميد في نهاية المسرحية انعكاسا لروح الاحتفال بزواج الأميرة الصغيرة إليزابيث، على نحو ما فعل فوكس
Foakes
في مقدمته الطويلة، وهي تقدم أدلة تاريخية لا شك فيها على اهتمام القراء ورواد المسرح بهذا الزواج، وإحساس العامة في مطلع القرن السابع عشر بالتغيرات التي أتى بها النظام الجديد، وتعلق آمال الكثيرين بازدهار الإصلاح البروتستانتي في العهد الجديد، واعتبارهم أن الأمير هنري الصغير (أحد أحفاد هنري الثامن) لو تولى الملك فسوف يواصل جهود أسلافه المصلحين، ولكنه توفي في سن مبكرة. وهي تري محقة أن المسرحية تمثل تحقيقا دراميا لرؤية التاريخ الإنجليزي باعتباره صراعا بين سلطة الملك وسلطة البابا «والسلطة الأولى قرينة العدالة والنظام والسلم، بينما تجر السلطة الثانية في أعقابها الظلم والحروب» (ص70). وأعتقد أن الاتجاه الحديث بصفة عامة يؤكد ويؤيد الربط بين نظرة فرانسيس ييتس إلى المسرحية في إطارها التاريخي وبين نظرة فوكس
Foakes
إليها باعتبارها بناء دراميا له منطقه الذي يرهص بالنظام الجديد.
وقد سبق أن أشرنا إلى ما ذكره ليجات في هذا الصدد، ونضيف اتجاها جديدا في النظر إلى المسرحية باعتبارها مزيجا من مسرحية القصر الغنائية الراقصة أو ما يسمى
court masque
وبين الرومانس، وأهم الكتب الحديثة في هذا الصدد تستلهم مقالا كتبه ج. د. كوكس في مجلة التاريخ الأدبي الإنجليزي
ELH ، العدد 45، عام 1978م، بعنوان «هنري الثامن ومسرحية القصر الغنائية»، الذي يلتقط فيه الخيط من كتاب الأستاذ ستيفن أورجيل
Stephen Orgel
بعنوان «وهم السلطة: المسرح السياسي في عصر النهضة الإنجليزية»؛
The Illusion of
Renaissance
الصادر عام 1975م، ولكن أهم كتاب صدر في الثمانينيات هو كتاب روي سترونج
Roy Strong
بعنوان الفن والسلطة: احتفالات عصر النهضة في الفترة 1450-1650م (Art and
، الصادر عام 1984م؛ لأنه يشرح بالتفصيل كيف كانت الموسيقى والرقص واللوحات الاستعراضية
tableaux
والمواكب
processions
من العناصر المعترف بها في الدراما الكلاسيكية، ضاربا الأمثلة على تأثيرها الدرامي المباشر في النظارة باعتبارها جزءا من نسيج المسرحية، ومدافعا عن وجودها في هذا النص باعتبارها جزءا لا يتجزأ من «الحدث»، فالدراما الحديثة كما نعرف ليست كلاما فقط، ولهذا فإن شيكسبير تعمد إدراج الإرشادات المسرحية المطولة تحقيقا لغرضه، ونقطة البدء كما يقول سترونج هو أن نحدد نوع المسرحية على ضوء ما «تفعله» المسرحية لا على ضوء ما نتوقعه منها، وهو يستشهد بمقال كتبه الناقد الأشهر نورثروب فراي
Northrop Frye
بعنوان «رومانسية أم مسرحية قصر غنائية
A Romance or a Masque? »، في كتاب بعنوان «إعادة النظر في رومانسيات شيكسبير» من تحرير
c. McG. Kay
و
H. E., Jacobs
صدر عام 1978م، وبغيره ممن رأى هذه الإمكانية في «هنري الثامن».
ونختتم هذا العرض الموجز بفقرة من مقدمة جون مارجسون، محرر طبعة نيوكيمبريدج (1990م)، يقول فيها:
أثار النقد الذي كتب في الآونة الأخيرة سؤالا آخر لم يجب عليه أحد حتى الآن، أو قل إنه ربما دل على أن الخلاف على المسرحية لم يحسم بعد، وهو: هل العامل الذي يحدد الصورة الذهنية لمسرحية «هنري الثامن» ويتحكم في بنائها ونسيجها معا، هو سياقها التاريخي، أو المناسبة «الجماهيرية» الخاصة التي ترتبط بنشأتها، والقضايا السياسية والدينية التي اختلف عليها الناس في إنجلترا إبان حكم الملك هنري، واستمرت تعكر صفو حكم الملك جيمس الأول؟ هل تعتبر المسرحية عملا أدبيا يتصل ويعتمد على إدراك الجمهور لهذه القضايا على نحو ما تفترض فرانسيس بيتس وجلين ويكام
Glynne Wickham ؟ أم تعتبر هذه المسائل السياقية هامشية بالقياس إلى الصفات النوعية لمسرحية الأخلاق والمسرحية التاريخية والرومانسية ومسرحية القصر الغنائية، بعد صهرها في عمل مسرحي مستقل؟ وهناك من يقولون إن «هنري الثامن»، باعتبارها مناظر مسرحية أو عرضا مسرحيا بصريا، تعتبر لونا من الدراما الذي يقل فيه عنصر المحاكاة عن عنصر الاحتفالية الذي تنظمه مشاهد «الفرجة» والطقوس؛ فالعناصر التي تربط العمل بمسرحية القصر الغنائية توحي، على نحو ما أشار إليه كوكس
Cox
وفراي
Frye ، بمجتمع مثالي أو لون من الوجود المثالي، بينما نجد بها أنماطا مناهضة لتقاليد مسرحية القصر الغنائية وهي تهدم العناصر السلفية السائدة في المسرحية. ولم يعد هناك في الواقع أدنى اتجاه إلى نبذ «هنري الثامن» باعتبارها مسرحية تفتقر إلى الحياة الدرامية، ولا تثير اهتمام المتفرج أو القارئ إلى درجة كبيرة. (ص32)
لوحة تصور الملك هنري الثامن وهو يطأ بقدمه البابا كليمانت، وهي اللوحة التي صدر بها جون فوكس
John Foxe
كتابه عن تاريخ إنجلترا وعنوانه الأعمال والآثار (1583م)، وهي تبين الملك وهو يتلقى الكتاب المقدس من كرانمر بينما يتراجع مندوبو البابا في فرق وهلع، وتعتبر تجسيدا للرأي البروتستانتي الشائع في القرن السادس عشر من انتصار الملك على البابا.
ويقدم مارجسون بعد ذلك وجهة نظره النقدية الخاصة عن نص المسرحية، مؤكدا وحدة العناصر التي تتكون منها وتلتحم في نسيج متجانس بحيث تعتبر «لونا جديدا من الدراما» يقع في مكان وسط بين المسرحية التاريخية والرومانسية، ويتميز بالتورية الساخرة
irorsy
في البناء والنغمة، ويصبح لونا من الدراما التعبيرية من خلال الاستخدام الواسع النطاق لعناصر الفرجة (المناظر الخلابة) والموسيقى والرقص. ويخصص مارجسون جانبا كبيرا من مقدمته لمناقشة هذا اللون الجديد من الدراما فيصفه بأنه «تجريبي»، ويقيم الأدلة على الإمكانيات الكبيرة التي أتاحتها هذه النزعة التجريبية لإخراج مسرحية تتقيد بأحداث التاريخ ولا تستطيع تغييرها ومع ذلك تقدم رؤية فنية أصيلة من خلال البناء، وهو يحلل البناء في 11 صفحة كاملة للتدليل على قوة التورية الساخرة على إخراج هذه الرؤية الفنية، ويختتم دراسته بأن يؤكد أن المسرحية تقبل تفسيرات كثيرة مختلفة، سواء باعتبارها محاولة لاكتشاف نمو السلطة الملكية، أو باعتبارها مأساة اثنين من كبار الأضداد وهما الملكة كاثرين والكاردينال وولزي، أو باعتبارها عرضا ساخرا لفترة تاريخية كان لا بد فيها من اتخاذ قرارات حاسمة تتعلق بمستقبل الدولة.
ولا أعتقد أن القارئ العربي سوف يحتاج إلى المزيد من الآراء النقدية للاسترشاد بها في تفهم هذا النص العسير التفسير؛ فما أوردناه يكفي، وإن كان لا بد هنا من إضافة كلمة حول الترجمة المنثورة التي اخترتها وكان يمكن أن تكون نظما على نحو ما فعلت في الفقرتين الواردتين في أول المقدمة. والسبب الأول في اختيار النثر بدلا من النظم هو الذي أوردته في مقدمتي لترجمة «يوليوس قيصر» (هيئة الكتاب، 1991م)، وهو باختصار محاولة الالتزام الدقيق بالأبنية الفكرية والشعورية للعبارات في الترجمة، وعدم تغييرها في الصياغة المنظومة، خصوصا بسبب الخلاف الناشب حول اختلاف الأساليب ونسبة بعضها إلى فلتشر؛ إذ رأيت أن التدخل بالإيقاع العربي سيضيف حتما نغمة غريبة عن هذه الأساليب، وأن محاولة الاقتراب الحرفي والدقيق من النص الأصلي أصدق للمسرحيات التاريخية وأقرب للحفاظ على روح الوقائع المروية؛ فالنظم العربي يميل إلى إلغاء البعد الزمني وإيجاد روح الألفة، وهذا ما لا تتطلبه هذه المسرحية التي تمثل لقراء العربية وقائع تاريخية حقيقية مرتبطة بزمان ومكان من المحال تجريد أي منهما.
وإزاء الاختلافات الكبيرة في تفسير النص كان لا بد من إدراج هوامش مهمة، وقد فضلت إدراجها في نفس الصفحة، رغم تعطيلها للقارئ، حتى لا أرهقه بالعودة إلى ثبت في آخر النص نادرا ما يعود إليه القارئ في الأحوال العادية. كما كتبت الأسماء بصورتها المنطوقة في النص والمقدمة، وكثيرا ما كنت أضع الاسم الأجنبي أيضا لمساعدة من يعرف اللغة الإنجليزية، أما البرولوج والخاتمة فهما مترجمان نظما، وكذلك أغنية القينة للملكة.
وقد اعتمدت في الترجمة على ثلاث طبعات هي طبعة آردن، من تحرير فوكس
Foakes
وطبعة نيوكيمبريدج من تحرير جون مارجسون
Margeson
وطبيعة بنجوين من تحرير جورج هاريسون
Harrison ، كما استعنت بالمراجع الشيكسبيرية المعروفة والمذكورة في سياق المقدمة قبل الترجمة وبعدها، وعدلت النص وفقا لبعض ما عثرت عليه من «قراءات» أصدق. ولا يفوتني أن أشكر صديقي الدكتور ماهر شفيق فريد الذي أمدني بطبعة بنجوين، وصديقي ماهر حسن البطوطي الذي أرسل لي من نيويورك طبعتي آردن ونيوكيمبريدج، وكثيرين من الأصدقاء الذين أمدوني بالمراجع التي استندت إليها في كتابة المقدمة وخصوصا الصور الزيروكس من كثير من فصول الكتب والمقالات التي استعنت بها في التعرف على اتجاهات النقد للمسرحية ومهادها التاريخي، خصوصا الدكتور حيان الساعي الذي أرسل لي من لندن معجم شيكسبير (العمدة) من تأليف شميث في صيف هذا العام.
الممثل العظيم هنري إيرفنج
Henry lrving
في دور الكاردينال وولزي بمسرح ليسيوم
Lyceum
عام 1892م، وقد شاركته البطولة إلين تيري في دور الملكة كاثرين.
أرجو أن أكون قد وفقت في تقديم صورة عربية لمسرحية غير مألوفة لشاعر الإنجليزية الأكبر؛ فإنها لم تترجم من قبل، فيما أعلم، إلا ترجمة ناقصة قام بها في العشرينيات أحمد محمود العقاد وأحمد عثمان القربي، ولم أجد لها أي نص عربي حديث.
والله من وراء القصد.
محمد عناني
القاهرة، 1996م
الملك هنري الثامن
الشخصيات
الملك هنري الثامن
King Henry VIII
الكاردينال وولزي
Cardinal Wolsey
الكاردينال كامبيوس
Cardinal Campeius
كرانمر رئيس أساقفة كانتربري
Cranmer
جاردنر أسقف ونشستر
Gardiner, Bishop of Winchester
أسقف لنكن
Bishop of Lincoln
دوق بكنجهام
Duke of Buckingham
دوق نورفوك
Duke of Norfolk
دوق سافوك
Duke of Suffolk
لورد سري
Earl of Surrey
لورد أبرجاني
Lord Abergavenny
لورد ساندر
Lord Sands
حامل أختام الملك (رئيس الوزراء)
Lord Chancellor
كبير الأمناء
Lord Chamberlain
سير هنري جيلفورد
Sir Henry Guilford
سير توماس لافل
Sir Thomas Lovell
سير نيكولاس فوكس
Sir Nicholas Vaux
سير أنطوني ديني
Sir Anthony Denny
براندون
Brandon
كرومويل
Cromwell
الدكتور بتس، طبيب الملك
Dr. Butts
جريفيث، المنادي الخاص بالملكة كاترين
Griffith, Gentleman-Usher to Queen Katherine
كابوشيوس، سفير الإمبراطور شارل الخامس
Capuchius
ثلاثة من السادة
1st, 2nd, and 3rd Gentlemen
جارتر، حارس الملك
Garter King-at-Arms
ضابط
Sergeant-at-Arms
بواب وخادمه
man
بواب غرفة المجلس الملكي
Door-Keeper of the Council-Chamber
أمين سر الكاردينال وولزي
Secretary/to Wolsey
المنادي، الرسول والخادم
Crier, messenger, servant
الملكة كاترين، زوجة الملك هنري، التي طلقها
Queen Katherine
آن بولين: وصيفة الملكة، التي تزوجها الملك بعد ذلك
Anne Bullen
عجوز: صديقة آن بولين
Old Lady
بيشنس، وصيفة من وصيفات الملكة كاترين
لوردات وسيدات في العروض المسرحية الصامتة، ونساء يخدمن الملكة، وكتبة وضباط، وحراس، وأتباع، وأبناء الشعب
أرواح
البرولوج
لم آت الآن لكي أضحككم؛
إذ نعرض هذي المرة أحداثا ذات خطر،
عبس محياها وتجهم،
ذات أسى تدعو للفكر وإنعام النظر،
بل ذات جلال وألم ،
ومشاهد ذات سمو تسكب عبرات عبر! 5
ولمن يعرف معنى الشفقة،
واستحسن ما يشهد أن يذرف دمعة،
فالأمر حقيق بدموعه! أما من دفع نقوده
أملا في ترسيخ الإيمان بقلبه،
فسيشهد أيضا صورة صدق حقه،
وكذا من جاء ليشهد حدثا أو حدثين وحسب، 10
لن يلبث أن يجد التمثيلية مقبولة،
فإذا صبر وأبدى الرغبة والحب،
فأنا أتعمد أن أجزيه خير جزاء عن إنفاق نقوده،
بالعرض الحافل في ساعات معدودة.
لن نخدع إلا من جاء ليشهد مهزلة فاحشة،
أو قعقعة دروع الحرب، 15
أو من جاء ليشهد رجلا في ثوب مهرج،
كثرت فيه الألوان، طويل، وموشى بحواش صفراء!
فلتعلم يا سامعنا الأكرم أنا لو شئنا
أن نهبط بجلال حقائقنا المنتخبة، أو أرخصنا
هذا الأمر بمشهد تهريج، أو بعض مبارزة جوفاء،
سنكون تنازلنا عن فكر الحكماء، 20
والعهد بألا نروي إلا صدق الأمناء،
بل إنا نفقد ثقة العقلاء!
إني أستحلفكم يا خير جماهير البلدة،
يا من ذاعت أذواقهمو رقة،
أن تلتزموا بالجد المنشود ونبرات الشجن المقصود. 25
ولنتخيل أنا نشهد أشخاص القصة ذات الرفعة
وكأنهمو بين يدينا أحياء.
ولنتصور أنا نشهد تلك النخبة من أهل العظمة،
يتبعهم جمهور العامة،
وبجهد وعرق، من ألف صديق خلصاء.
ولننظر كيف انقلبت تلك العظمة
في لمح البصر إلى مهوى بؤس وشقاء، 30
فإذا أحسستم في ذلك بسعادة،
فبنفس المنطق قد يبكي الرجل على نفسه،
في ليلة عرسه!
الفصل الأول
المشهد الأول (لندن - غرفة في القصر الملكي.) (يدخل دوق نورفوك من باب ودوق بكنجهام من الباب الآخر وبصحبته اللورد أبرجاني.)
بكنجهام :
عم صباحا ومرحبا! لم أرك منذ لقائنا الأخير في فرنسا!
كيف حالك؟
نورفوك :
شكرا لمعاليك! أنا في أتم الصحة وما زلت في عجب مما شاهدته هناك!
بكنجهام :
لقد أصابتني الحمى على غير انتظار،
فمكثت رهين المحبس في غرفتي. 5
أثناء اللقاء بين شمسي المجد والبهاء،
أثناء اللقاء بين العلمين الساطعين،
في سهل أندرين.
نورفوك :
لقد شهدت اللقاء في واد بين مدينتي جينيس وآردي
ورأيتهما يتبادلان التحية على ظهر الجياد،
ثم يترجلان ويتعانقان حتى أصبحا كالجسد الواحد! 10
ولو أصبحا جسدا واحدا
لما بزهما أربعة ملوك متوجين!
بكنجهام :
كنت طيلة ذاك الوقت حبيسا في غرفتي.
نورفوك :
لقد فاتك مشهد المجد على الأرض!
قد يقول الناس إن الأبهة كانت بكرا حتى تلك اللحظة،
ثم اقترنت ببهاء أغنى وأسمى! كانت أيام الاحتفال 15
يفوق بعضها بعضا، حتى حل يوم الختام فجمع
روائع الأيام كلها! كنت ترى الفرنسيين اليوم
يتلألئون في أردية ذهبية كأنهم أصنام وثنية،
يطغى بريقها على سناء الإنجليز، ثم تراهم في الغد 20
وقد ألبسوا بريطانيا ثراء الهند وأبهتها!
1
كان كل رجل يبرق كأنه كنز من الذهب!
وكان خدمهم القصار أيضا يرتدون ملابس موشاة
بالنضار مثل صور الملائكة في الكنائس، ونساؤهم كذلك؛
إذ لم يتعودن التعب، وكاد العرق أن يتفصد منهن
لارتداء تلك الملابس الفاخرة، 25
واصطبغت خدودهن بلون وردي كأنه طلاء مصطنع!
كان العرض يوصف ليلة بأنه لا يبارى
فإذا كان عرض الليلة التالية
طغى عليه فبدا كالأبله الفقير!
كان الملكان متعادلين في البهاء
يتبادلان المكانة الأولى والأخيرة في الحضور والغياب، 30
فإذا حضر أحدهما كان الأفضل وفاز بالثناء.
وإذا حضر كلاهما قال الناس إنهم لم يروا إلا واحدا،
ولم يجرؤ ناقد على التشدق بكلمة تنتقص أيا منهما.
وعندما أمر هذان الشمسان (كما يدعونهما)
مناديهما بدعوة الكماة الأشراف للنزال،
شهدنا مبارزة لا يستطيع الفكر أن يحوطها، 35
ورأينا رأي العين قصص الخوارق
فصدقناها، حتى لقد آمن الناس
بما روي من خرافات بييس.
2
بكنجهام :
لا بد أنك تبالغ في وصفك.
نورفوك :
قسما بكرم محتدي، وبالتزامي الشرف والأمانة،
إن رواية أي شيء مهما يكن من بلاغة الراوي،
تفقدها بعض طلاوتها وحيويتها، 40
ولا يفصح عن الفعل مثل وقوعه.
كان كل شيء ينطق بسناء الملك،
ولم يخرج شيء عن موقعه في تقديم العرض،
فساعد النظام في إبراز مواطن الجمال،
وكان المسئولون يؤدون واجبهم كاملا بوضوح وجلاء.
3
بكنجهام :
ولكن من الذي دبر هذا الاحتفال العظيم؟ 45
من الذي صور جسده وفصل أطرافه؟
نورفوك :
هو من تحدس! رجل لا شأن له أصلا بالموضوع! وثق في قولي.
بكنجهام :
أرجوك، أفصح عنه سيدي.
نورفوك :
لقد عقد الاحتفال بناء على أوامر القس الأكبر، ذي النظر الثاقب، كاردينال يورك. 50
بكنجهام :
وفقه الشيطان! لا تسلم فطيرة إنسان من أصابعه النهمة.
4
ما شأنه هو بهذه الملاهي الدنيوية الصارخة؟!
إني لأعجب كيف يستطيع هذا اللحيم
5
أن يمتص بجسده 55
أشعة الشمس واهبة الصحة، ويمنعها من الوصول إلى الأرض!
نورفوك :
لا شك يا سيدي أن به خصالا أصيلة تحفزه
لتحقيق هذه الغايات؛ فهو لا ينتسب إلى سلالة عظيمة
من أمثال من يرسمون طرائق الحياة لأبنائهم، 60
ولا هو ممن يطلب إليهم تأدية الخدمات الجليلة للدولة،
بل وليس له معاونون بارزون يسعون بين يديه،
ولكنه مثل العنكبوت ينسج بيته من خيوط يفرزها جسمه!
وهذا يوضح لنا أن جدارته في القوة التي تشق
طريقه في الحياة، وهي هبة من السماء، 65
اشترى له بها مكانا متاخما للملك.
أبرجاني :
كيف لي أن أعرف ما وهبته السماء له؟!
فلينظر ذو البصر الثاقب في هذا الأمر،
أما أنا فأرى أن كبرياءه، تطل من خلال جوارحه جميعا!
وأنى يأتي بذلك إن لم يكن من الجحيم؟
الشيطان ضنين بصفاته،
6
أو قل إنه أسبغها عليه 70
جميعا كي ينشئ في ذاته جحيما جديدا!
بكنجهام :
قل بحق الشيطان لماذا تصدى بنفسه، (ودون استشارة الملك) لتعيين مرافقيه في رحلته إلى فرنسا؟
لقد أعد قائمة بجميع أعيان البلد، وكان يرمي من ذلك 75
أن يتكبد معظمهم نفقات باهظة دون أن يفوز بشرف يذكر!
وقد كتب الخطابات التي أرسلها إليهم بنفسه،
رغم عدم مصادقة المجلس الملكي عليها!
أبرجاني :
أعرف يا قريبي ثلاثة على الأقل 80
باعوا بعض عقاراتهم، وأنفقوا جانبا كبيرا من ثمنها،
ولن يعودوا أبدا إلى سابق ثرائهم.
بكنجهام :
ما أكثر الذين أنقض ظهورهم رهن ضياعهم
للإنفاق على هذه الرحلة الباذخة! وماذا كانت نتيجة
هذا الزهو الأجوف؟ محادثات لم تثمر شيئا ذا بال! 85
نورفوك :
يحزنني أن أقول إن اتفاقية السلام التي عقدناها مع الفرنسيين لا تستحق ما أنفق في سبيلها!
بكنجهام :
بل سرعان ما أعقب الاتفاقية هبوب
تلك العاصفة المقيتة، حتى لقد اجتمعت آراء الناس، 90
ودون تشاور فيما بينهم، على التنبؤ بالنهاية المحتومة،
وهي أن تلك العاصفة التي خضبت جلباب السلم
تنذر بتمزيقه فجأة!
نورفوك :
وها هي بوادرها! إذ خرقت فرنسا المعاهدة،
وصادرت بضائع تجارنا في إقليم بوردو. 95
أبرجاني :
أهذا سبب إخراس صوت السفير؟
نورفوك :
أقسم إنه كذلك.
أبرجاني :
يا له من سلم بالاسم وحسب!
ويا للثمن الباهظ الذي دفعناه في شرائه!
بكنجهام :
عجبا! كيف دبر الكاردينال الأعظم ذلك كله؟
نورفوك :
اسمحوا لي يا صاحب السعادة أن أقول 100
إن رئيس الدولة قد لاحظ الخلاف الشخصي
بينك وبين الكاردينال؛ ومن ثم فأنا أسدي إليك نصيحة (صادرة من قلب يتمنى الحفاظ على شرفك وموفور سلامتك)
وهي ألا تغفل عند التصدي لخبث الكاردينال،
سلطانه النافذ! وأن تنظر أيضا في
قدرة كراهيته على إحداث الأذى؛ إذ لن يدخر وسيلة
في طوقه مهما تكن! أنت عليم بطبيعته
وتدرك أنه منتقم جبار ، وأنا أعرف أن سيفه
ذو حد بتار قاطع، وهو سيف طويل 110
يمكنه من الوصول إلى أقصى أهدافه،
فإن لم يستطع الوصول قذف به كنصل السهم
فأصاب الهدف!
أرجو أن تنزل مشورتي مكانا راسخا في قلبك
وستجد في ثناياها السلامة. عجبا!
ها هي الصخرة قادمة،
بعد أن نصحتك بتحاشيها! (يدخل الكاردينال وولزي، وأمامه تابع يحمل صندوق ختم الملك، وبعض الحراس، واثنان من الكتبة يحملان بعض الأوراق، وعندما يمر الكاردينال بدوق بكنجهام يحدجه بنظرات احتقار، ويبادله الدوق النظرات نفسها.)
7
الكاردينال :
وكيل دوق بكنجهام؟ أنت هنا؟ 115
أين تقرير مراجعة حساباته؟
الكاتب :
تفضل يا سيدي.
الكاردينال :
وهل استعد لمناقشته شخصيا؟
الكاتب :
نعم يا صاحب الغبطة.
الكاردينال :
سنعرف منه المزيد إذن، وسوف يقلل بكنجهام
من حجم الديون الواردة في هذا الكتاب الضخم! (يخرج الكاردينال مع حاشيته.)
بكنجهام :
إن كلب الجزار ذو أنياب سامة
8
120
وليس في طوقي تكميم فمه!
والأفضل ألا أوقظه من سباته!
إن دفتر الدائن قيمته أكبر من كرم المحتد!
نورفوك :
عجبا لك كيف تغضب؟
اسأل الله الصبر، نهر الدواء الوحيد لمرضك.
بكنجهام :
إني أقرأ في نظراته ما يضمره لي من الشر. 125
ولقد اقتحمتني عينه كأنني أحقر الحقراء،
ولا بد أنه يدبر لي في هذه اللحظة مكيدة ما.
لقد ذهب إلى الملك وإذن سأتبعه،
وأدحر نظراته بنظراتي الصادقة.
نورفوك :
بل اصبر يا مولاي! ولتقهر حكمتك سورة غضبك 130
كي ترسم لك طريق خطاك! إن الصعود إلى القمم الشماء يقتضي البطء أولا. أما الغضب فهو كالفرس الفائر الثائر،
إذ أطلقت له العنان فسيكبو!
إنك أرجح عقل أطلب المشورة منه في إنجلترا،
فاطلب لنفسك ما تسديه لصديقك.
بكنجهام :
بل سأذهب إلى الملك، وأتكلم بلسان محتدي الكريم،
حتى أمحق صفاقة ذلك المولود في إبسويتش،
أو أعلن أنه لم تعد لعلو المكانة قيمة!
نورفوك :
أرجوك استمع لنصحى.
إن أعددت أتونا لعدوك فلا تزد لهيبه 140
فتكتوي أنت بناره! إنك إن كنت
تطارد أحدا وعدوت جموحا مهتاجا فلسوف تسبقه،
فإذا سبقته لم تدركه! ألا تعلم أن النار إذا
زاد لظاها تحت القدر غلى ما فيه وفار؟
قد يبدو لك أن السائل يعلو ويزيد،
لكن الفائر مسكوب ضائع! اسمع نصحي! 145
إني لأكرر: لن تجد في إنجلترا من هو أقدر منك
على إرشادك حين تصب رحيق العقل
لتطفئ أوار الغضب أو لتخفف من غلوائه.
بكنجهام :
إني شاكر لك يا سيدي، وسوف أعمل بنصيحتك، 150
ولكنني لا أذكر ذلك الشخص الذي بلغ الذروة في الصلف بدافع الحقد عليه، بل بدافع الإخلاص والصدق؛
فلدي معلومات استقيتها من مصادرها الصحيحة،
وبراهين واضحة مثل الغدران الصافية في شهر يوليو،
تلك التي تكشف لنا عن كل حصاة في القاع، 155
وهي تدمغه بالفساد والخيانة.
نورفوك :
لا تقل إنه خائن.
بكنجهام :
بل سأقولها للملك وأسوق الدليل عليها صلبا
كصخور الشاطئ! إن هذا القس مثل الثعلب أو الذئب،
أو هو ثعلب وذئب معا؛ إذ يتساوى لديه النهم
بمكر الإيقاع بالفريسة، والميل للأذى بالقدرة على إحداثه! 160
فذهنه يحفزه ومنزلته تمكنه من إظهار سطوته،
وذهنه ومنزلته يؤثر أحدهما في الآخر،
بحيث يظهر السطوة في فرنسا مثلما أظهرها هنا!
وهكذا فقد أوحى لمولانا الملك بهذه المقابلة الأخيرة،
التي تكلفت كثيرا!
لقد ابتلعت مبلغا كبيرا من الخزانة العامة،
لكنها كانت كالكأس لم تحتمل التنظيف فانكسرت!
نورفوك :
هذا هو الواقع حقا!
بكنجهام :
أرجوك أن تصغي إلي سيدي! إن هذا الكاردينال الماكر
قد صاغ مواد المعاهدة وفقا لهواه، وصادق الطرفان 170
عليها كأنما قال كن فيكون! لكنها غير ذات نفع
كأنها عكاز تقدمه لجسد ميت، ولكن رجل البلاط
9
العظيم ذلك الكاردينال هو الذي أنجزها فلا بد أن تكون
على ما يرام! إن وولزي العظيم (المعصوم من الزلل)
هو الذي فعل ذلك، وبعد ذلك وقع حادث
أعتبره جروا أنجبته الكلبة العجوز؛ أي الخيانة! 175
إذ حضر الإمبراطور شارل متظاهرا بأنه يريد زيارة
خالته الملكة (وهذا هو ما أعلن عنه في الواقع)
ولكن دافعه الحقيقي هو التحادث سرا مع وولزي؛
إذ كان يخشى أن تؤدي المعاهدة بين إنجلترا وفرنسا 180
وما ينجم عنها من التقارب بينهما
إلى الإضرار بمصالحه! فمن خلال ائتلافهما أطلت
رءوس أذى تتهدده! وهكذا عقد صفقة مع الكاردينال
وفقا لمصادر معلوماتي الموثوق بها.
والثابت عندي أن الإمبراطور دفع إليه المال، 185
قبل أن ينال منه ما وعده به، وهكذا أجيب إلى طلبه
حتى قبل أن يتقدم به! فلما شق الطريق رصفه بالذهب
وأفصح الإمبراطور عن رغبته في أن ينقض الملك عهده،
وينتهك معاهدة السلام المذكورة. وإذن فلا بد للملك أن يعرف (وسوف أتولى اطلاعه بنفسي بعد قليل) 190
أن الكاردينال يشتري ويبيع شرفه وفق هواه،
وتحقيقا لمصالحه الشخصية.
نورفوك :
يؤسفني أن أسمع ذلك عنه، وأتمنى أن يكون اتهامه
قد شابه بعض الخطأ!
بكنجهام :
بل لم أخطئ في حرف واحد! ولسوف أسوق 195
التهمة وفقا لبراهين الإدانة بحذافيرها! (يدخل براندن وأمامه ضابط يحمل السلاح، وبعض جنود الحرس.)
براندن :
إلى مهمتك أيها الضابط! نفذ الأوامر!
سيدي! يا دوق بكنجهام وصاحب مقاطعات
هيريفورد وستافورد ونورثامبتون! 200
إني ألقي القبض عليك بتهمة الخيانة العظمى،
باسم مولانا صاحب الجلالة الملك!
بكنجهام :
انظر سيدي اللورد ما يحدث!
لقد وقعت في الشرك! وسوف أهلك
بسبب المكر والتآمر!
براندن :
يؤسفني أن تحرم حريتك، 205
ويحزنني أن أشهد ما يحدث ! ولكن مشيئة صاحب السمو
أن تساق إلى البرج.
10
بكنجهام :
لن يجدي أن أدفع ببراءتي! فقد أصبت بوصمة،
صبغت بالسواد أنصع خصالي بياضا! فلنمتثل
لإرادة السماء في هذا الأمر وفي كل ما عداه! سمعا وطاعة! 210
وداعا يا لورد أبرجاني!
براندن :
لا تودعه فعليه أن يصحبك؛
فمشيئة الملك أن تظل في البرج حتى يبت في أمرك،
ونحيطك علما بذلك.
أبرجاني :
أقول كما قال الدوق، وأمتثل لإرادة السماء، 215
وأطيع أمر الملك.
براندن :
معي أمر من الملك باحتجاز اللورد «مونتاكيوت»،
و«جون دي لاكار» صاحب اعترافات الدوق،
وشخص يدعى «جلبرت بيرك» وهو أمين خزائنه.
بكنجهام :
هكذا هكذا! هؤلاء هم أطراف المؤامرة،
وأرجو ألا يكون هناك غيرهم. 220
براندن :
بل هناك قس من شارترو.
بكنجهام :
تعني نيكولاس هوبكينز؟
11
براندن :
بعينه.
بكنجهام :
إن وكيلي كاذب! فالكاردينال الأعظم قد لوح له
بالذهب. إني لأشهد ساعة أجلي الآن!
وما عدت سوى ظل بكنجهام المسكين،
تغشى جسمه في هذه اللحظة ظلة من الغمام 225
تحجب ضوء الشمس الساطعة! وداعا أيها اللورد! (يخرجون.)
المشهد الثاني (نفس المشهد - غرفة في مبنى المجلس الملكي الخاص.) (صوت الأبواق - يدخل الملك مستندا إلى كتف الكاردينال، مع الأشراف والسير توماس لافيل. يجلس الكاردينال عند قدمي الملك من الناحية اليمنى.)
الملك :
إن حياتي نفسها وقلبها الخافق
يلهجان بالشكر لك على هذه الرعاية الفائقة؛
إذ كنت في مرمى مؤامرة راشت سهامها وصوبتها
فشكرا لك على قمعها! نادوا رجل بكنجهام
وليقف بين أيدينا، وسأسمع اعترافه بنفسي
وروايته المفصلة لخيانات سيده. (ضجة من خارج المسرح وأصوات تطالب بإفساح المكان للملكة، ثم تدخل الملكة يتقدمها دوق نورفوك، ومن بعده دوق سافوك. ينهض الملك من العرش ويرفعها إليه ويقبلها ويجلسها إلى جانبه.)
الملكة :
بل علي أن أطيل الركوع لأني ألتمس منكم طلبا.
الملك :
بل انهضي وخذي مكانك بجانبنا! أما طلبك فلا تذكري 10
نصفه الأول، فأنت تتمتعين بنصف سلطاننا!
وأما نصفه الآخر فقد أجبتك إليه قبل أن تطلبيه!
قولي ما تطلبين وسوف تنالينه!
الملكة :
شكرا لجلالتكم. كل ما ألتمسه هو حبكم لذاتكم،
دون أن تتخلوا في هذا الحب عن شرفكم، 15
ورفعة مقام سموكم.
الملك :
أكملي حديثك يا قرينتنا!
الملكة :
لقد ذكر لي نفر غير قليل، وكلهم من ذوي الإخلاص لكم،
أن الرعية تشكو مر الشكوى
من الأوامر التي صدرت في الآونة الأخيرة، 20
فصدعت الإخلاص في قلوبهم جميعا،
ومع أنهم يلومون الذي أصدر الأوامر؛ أي الكاردينال الكريم،
فإنهم يوجهون مر اللوم أيضا إلى جلالتكم، باعتباركم
صاحب تلك المطالب الباهظة! وهكذا فإن الملك
مولانا وسيدنا، الذي ندعو السماء أن تصون شرفه 25
مما يلوثه، لم يسلم من جارح القول،
ومن الألفاظ التي تزلزل أركان الإخلاص وتقوضه
وتكاد تبدو ناطقة بصوت العصيان الجهير!
نورفوك :
بل هي تبدو كذلك فعلا! فإن رجال صناعة النسيج
لم يستطيعوا أن يتحملوا هذه الضرائب؛ ومن ثم فصلوا كثيرا 30
من عمالهم، من غزالين وندافين وقصارين ونساجين!
ولما كانوا عاجزين عن مزاولة حرف أخرى
فقد باتوا جوعى! ودفعهم الجوع
وعدم توافر مصادر رزق أخرى إلى الثورة، 35
مستميتين في معارضة الضرائب،
والخطر قائم على قدم وساق بينهم.
الملك :
الضرائب؟ علام فرضت وما مقدارها؟
أيها الكاردينال! أنت يا من شاركتنا مسئولية فرضها،
هل علمت بهذه الضرائب؟
الكاردينال :
لا تؤاخذني يا مولاي! فأنا لا أحيط إلا إحاطة
فرد واحد بما يتعلق بأمور الدولة،
وإذا كنت في مقدمة الصف فإن آخرين
يسيرون معي بنفس الخطوات.
الملكة :
بلى يا مولاي! إنك لا تحيط حقا بما يزيد
عن علم سواك! ولكنك صاحب قرارات يعرفها الجميع! 45
وهي كالعلقم لمن يعرفها ويتمنى لو جهلها، ومع ذلك
فلا مناص من إحاطتهم بها! إن هذه الضرائب (التي
يريد مليكي أن يحيط بها) تؤذي الأسماع،
وتنقض ظهور من يحملها. 50
يقولون إنك الذي فرضتها، هذا وإلا كان يظلمونك
ظلما شديدا!
الملك :
تعودين إلى ذكر الضرائب؟ ما هذه الضرائب؟ أخبرونا
ما طبيعتها وما نوعها؟
الملكة :
لقد تجاسرت أكثر مما ينبغي حين رجوتك الصبر،
ولكن يشجعني ما وعدتني به من عفو! 55
إن الرعية غاضبة من فرض الاستقطاعات،
ومعناها إرغام كل فرد على دفع سدس رأسماله
فورا ودون إبطاء! بحجة الإنفاق على
حروبك في فرنسا!
وهذا هو ما أكسب الأفواه جرأة،
ودفع الألسنة إلى لفظ واجباتها،
وجمد الولاء في القلوب الباردة، 60
وحلت اللعنات محل الدعوات،
فإذا بالطاعة النابعة من الولاء
تخضع للغضب الجائح في نفوس الأفراد؛ 65
ولذا فأرجو من سموكم أن تنظروا في المسألة
على وجه السرعة، فلا أرى الآن قضية أهم منها.
الملك :
أقسم بحياتي إن ذلك ضد إرادتنا.
الملك :
لقد تألم الكثيرون لذلك؛ فالرجل علامة نحرير، 110
وحديثه لا يجارى ولا يبارى، وقد جادت الطبيعة عليه
بمواهب وافرة، بل قد تبحر في الدرس حتى أصبح جديرا
بتعليم وتخريج كبار المعلمين، دون الرجوع إلى أحد سواه.
ومع ذلك فإن هذه الخصال السامية قد تضل الطريق 115
إذا فسد القلب، بل إنها لتخذ أشكالا خبيثة
أقبح عشر مرات من سابق جمالها! كان هذا الرجل الكامل
يعد من الأعاجيب، وكان يستولي على أسماعنا ويسحرها
عندما يتحدث حتى لتمر الساعة كأنها دقيقة! 120
هذا الرجل يا مليكتنا قد كسى الفضائل التي كان يتمتع بها
أردية شائهة، فاصطبغ بالسواد كأنما
كساه سناج الجحيم!
فلتمكثي بجانبنا وسوف تسمعين
من كاتم سره السابق أنباء تحزن كل شريف! 125
هيا أيها الكاردينال! مره أن يعيد على أسماعنا
ما سبق أن قصه من المؤامرات التي حاكها
فمهما سمعنا من تفاصيلها لا بد أن نطلب المزيد!
الكاردينال :
تقدم أيها الرجل وأخبرنا بلسان جسور
كل ما استطعت أن تجمعه من معلومات عن دوق بكنجهام، 130
تكلم باعتبارك من الرعايا المخلصين!
الملك :
تكلم ولا تخش شيئا!
الوكيل :
كان من عادته أولا أن يقول إنه إذا
مات الملك دون وريث للعرش فسوف يجتهد حتى يستولي على
صولجان الملك! وكان يدس ذلك القول في ثنايا حديثه 135
كل يوم. بل لقد سمعته يقول هذه الكلمات نفسها لصهره
لورد أبرجاني، ويقسم أمامه أن يثأر من الكاردينال!
الكاردينال :
أرجو من سموكم أن تلاحظوا مدى الخطر الكامن هنا؛
أي إنه إذا فشل في الوصول إلى عرشكم السامي،
فلن يتورع خبث طويته عن تجاوز شخصكم 140
إلى أشخاص أصدقائكم!
الملكة :
سيدي الكاردينال! أنت علامة تعرف معنى الإحسان!
فلتعرض القضية دون تحامل.
الملكة :
تكلم أيها الرجل! قل كيف أقام دعوى حقه في العرش
إذا لم أنجب وريثا؟ وعلى أي أساس؟ هل سمعته 145
يتكلم عن ذلك في أي مناسبة؟
الوكيل :
كان دافعه إلى ذلك
نبوءة جوفاء أدلى بها نيكولاس هنتون
12
الملك :
ومن هو هنتون هذا؟
الوكيل :
إنه يا سيدي قس من الشارترو
وهو صاحب اعترافه، وهو الذي ما فتئ يسقيه
ألفاظ السيادة والملك.
الملك :
وكيف عرفت ذلك؟ 150
الوكيل :
قبيل رحيل سموكم إلى فرنسا، كان الدوق يقيم في
قصر الروز، بأبرشية القديس لورانس بولتني في لندن،
وطلب مني أن أخبره عن رأي أهل لندن
في رحلتكم المزمعة إلى فرنسا، فقلت له إن الناس 155
يخشون غدر الفرنسيين وما ينطوي عليه من خطر
على الملك. وعلى الفور قال إن ذلك هو ما يخشاه حقا.
وإنه يؤكد صحة كلمات معينة نطق بها راهب جليل. 160
ثم أردف قائلا: كثيرا ما أرسل لي ذلك الراهب
يرجوني أن أسمح للقس جون دي لاكار بزيارته في ساعة مناسبة
حتى يحدثه عن موضوع مهم. وبعد أن
أقسم يمين الكتمان جعله يحلف يمينا مغلظة بألا يبوح 165
بشيء مما يسمع لأي إنسان سواي.
وبعد ذلك قال الراهب بثقة ونبرات بالغة الرزانة
للقس: «أخبر الدوق أنه لن يكتب البقاء للملك
ولا لأي وارثيه، وحثه على أن يعمل على اكتساب 170
محبة العامة، إذا كتب للدوق أن يحكم إنجلترا.»
الملكة :
أعرف خير المعرفة أنك كنت وكيل أعمال الدوق،
وأنك قد فصلت من عملك بسبب شكوى مستأجري الأرض منك!
حذار إذن من اتهام شخص شريف بدافع الحقد
وإلا أفسدت نفسك الشريفة. 175
أقول لك حذار، وأرجوك من كل قلبي أن تسمع لي!
الملك :
بل فليستمر!
الوكيل :
قسما بحياتي لا أقول إلا الصدق!
إذ ذكرت لمولاي الدوق أن نبوءة الراهب
قد تكون وهما صوره له الشيطان،
وأنه من الخطر الارتكان إليها إلى هذا الحد، 180
حتى لا تدفعه إلى أفكار وأهداف يصدقها
فيعمل على تحقيقها بالمكيدة والمكر!
ولكنه قال إن ذلك هراء،
وإنها لن تصيبه بأي أذى! ثم أضاف قائلا: «لو أن الملك قضى نحبه في مرضه الأخير 185
لطارت رأس الكاردينال ورأس توماس لافيل!»
الملك :
حقا؟ وضيع إلى هذا الحد؟
حقا حقا إنه ليضمر السوء والأذى!
ألديك أدلة أخرى؟
الوكيل :
نعم يا مولاي.
الملك :
أخبرنا بها ...
الوكيل :
عندما كنا في جرينتش، وبعد أن قام سموكم بتوجيه
اللوم إلى الدوق بشأن السير وليام بولمر ... 190
الملك :
أذكر ما حدث آنذاك! إذ كان من أتباعي المخلصين،
فضمه الدوق إلى رجاله! لكن استمر ... ماذا جرى؟
الوكيل :
قال حينئذ إنه لو أرسل إلى البرج، وهو
ما كان يتوقعه، لتظاهر بالانصياع ثم أغمد فيه خنجره!
وأوضح ذلك بأنه سيكون قد نفذ خطة والده
إزاء ريتشارد المغتصب! 195
إذ طلب أن يقابله عندما كان في سولزبري،
ولو أجيب إلى طلبه لتظاهر بأداء واجبه وغرس
السكين في قلبه!
الملك :
الخائن الجبار!
الكاردينال :
مولاتي! كيف يحيا الملك في أمان 200
وهذا الرجل حر طليق؟
الملكة :
أصلح الله الأحوال!
الملك :
أتريد أن تزيد على ما قلته؟ أفصح!
الوكيل :
وبعد أن أقسم بوالده الدوق، وبالسكين أيضا،
تمطى ثم وضع إحدى يديه على الخنجر والأخرى على صدره،
وصعد ببصره إلى السماء،
وحلف يمينا مخيفة معناها 205
أنه لو لقي العنت لفعل ما لم يفعله والده،
ولامتاز عليه امتياز الأداء على العزم الخائر!
الملك :
تلك غايته! أن يغمد سكينه في جسدنا!
إنه معتقل فقدموه للمحاكمة على الفور، 210
فإذا وجد في القانون رحمة فسوف ينالها،
وإذا لم يجد تلك الرحمة فلن أجود بها عليه.
قسما بالليل والنهار إنه لخائن من ناصية رأسه
إلى أخمص قدمه. (يخرجون.)
المشهد الثالث
13 (غرفة في القصر الملكي.) (يدخل كبير الأمناء واللورد ساندز.)
كبير الأمناء :
لا أصدق أن السحر الفرنسي قد لعب بعقول الناس
فأحدث هذه الألوان الغريبة من السلوك!
ساندز :
هذا شأن العادات الجديدة، مهما تكن مدعاة للسخرية،
بل مهما انتقصت من صفات الرجولة!
كبير الأمناء :
أظن أن الإنجليز لم يكسبوا من الرحلة الأخيرة إلى فرنسا 5
إلا عادة زم ملامحهم وبسطها أثناء الحديث!
ما أغربها ! إنك إن شاهدتهم وهم يقطبون
لأقسمت إن أنوفهم نفسها كانت من مستشاري الملك
بيبان أو الملك كلوتاريوس!
14
بل انظر كيف يصعرون خدودهم! 10
ساندز :
لقد اختلفت طريقة مشيهم كأنهم اتخذوا سيقانا جديدة!
بل سيقانا عرجاء! ويخيل لمن لم يشاهدهم من قبل
أن ورم مفصل الركبة قد تفشى بينهم إلى جانب العرج!
كبير الأمناء :
قسما بالموت يا سيدي اللورد!
إن أزياءهم توحي بملابس الوثنية
بل لتتناقض مع جميع ملابس بلدان المسيحية. 15
كيف حالك يا سير توماس لافل! (يدخل توماس لافل.)
ما وراءك من أنباء؟
لافل :
لا شيء حقا سوى المنشور الجديد المعلق على باب القصر!
كبير الأمناء :
بأي شأن؟
لافل :
عن إصلاح أحوال أبطالنا العائدين من فرنسا،
والذين ملئوا القصر بالمنازعات والضجيج والخياطين! 20
كبير الأمناء :
يسعدني أن أسمع ذلك! ليت هؤلاء السادة يعلمون
أن رجال البلاط الإنجليزي لا يحتاجون إلى زيارة قصر اللوفر
حتى يتحلوا بالحكمة !
لافل :
يقول المنشور إن عليهم أن يتخلوا عن
ملابس التهريج وريش القبعات الذي أتوا به من فرنسا، 25
وأساليب التمييز بين درجات الشرف
التي تفصح عن الجهل، مثل المبارزات وإطلاق الصواريخ،
والإساءة إلى من هم أفضل منهم
كعادة الفرنسيين، وأن يقلعوا تماما
عن إيمانهم برياضة التنس
15
والجوارب الطويلة، 30
والسراويل القصيرة المزركشة، وسائر ملابس السياح،
وأن يعودوا إلى رشدهم مثل الشرفاء،
هذا وإلا فإن عليهم أن يرجعوا إلى رفقاء لهوهم
في فرنسا! وأتصور أنهم يستطيعون هنا،
بإذن خاص من الملك
16
أن يتمادوا ما شاء الله لهم أن يتمادوا في فجورهم، فيضحك الناس منهم! 35
ساندز :
آن أوان إعطائهم الدواء؛ فإن أمراضهم أصبحت معدية!
كبير الأمناء :
ما أفدح خسارة نسائنا عندما يقلعون
عن هذه المظاهر الجوفاء!
لافل :
لا شك في هذا! سيسود الحزن يا سيدي بالتأكيد!
فهؤلاء الأنذال الماكرون يستطيعون أن يقضوا وطرهم 40
بحيل ناجعة، ولا يمكنك أن تنافس
أغنية فرنسية ومعزوفة على الكمان!
ساندز :
فليعزف الشيطان بهم! سيسعدني أن يغادروا البلاد
فلا شك أنه من المحال إصلاح حالهم!
فإذا ذهبوا استطاع سيد ريفي بسيط مثلي،
حرم العزف ردحا طويلا من الزمن،
أن يعود إلى أغانيه الساذجة، 45
فيشنف بها الآذان ساعة أو بعض ساعة،
بل قد تعتبر من الموسيقى الحديثة أيضا!
كبير الأمناء :
نعم ما قلت يا لورد ساندز! لم تسقط أسنان شبابك بعد!
أصبت يا سيدي اللورد! بل ولن تسقط.
ساندز :
طالما ظللت أدب على الأرض!
كبير الأمناء (إلى لافل) :
ولكنك لم تقل لي أين كنت ذاهبا
يا سيد توماس؟
إلى قصر الكاردينال، حيث دعيت أنت أيضا! 50
لافل :
كدت أنسى! إنه يقيم الليلة حفلة عشاء عظيمة.
كبير الأمناء :
دعا إليها كثيرا من الأعيان رجالا ونساء،
وستحضرها بالتأكيد أجمل جميلات المملكة.
لافل :
إن لذلك الكاهن نفسا فياضة، 55
ويدا مثمرة كالأرض التي نأكل من خيرها،
وأنداؤه تساقط على الجميع.
كبير الأمناء :
لا شك في نبله، ولا يقول بغير ذلك إلا أسود اللسان!
ساندز :
قد حق له ذلك يا سيدي اللورد! فلديه كل ما يؤهله لذلك ،
فإن أمسك يده كانت خطيئة أقبح من فساد العقيدة، 60
وعلى الرجال من أمثاله أن تسخو أيديهم
كل السخاء، فهم قدوة تحتذى!
كبير الأمناء :
وهم لا شك قدوة! ولكن ما أقل الذين يظهرون مثل
ذلك الكرم العظيم! إن سفينتي في انتظاري
17
لا تتخلف يا سيدي اللورد. هيا بنا يا سير توماس الكريم
وإلا تأخرنا عن موعدنا، وذلك ما لا أرضاه؛ 65
إذ إنني قد تلقيت التكليف بأن أتولى مع السير هنري
جيلفورد إدارة حفل الليلة.
ساندز :
أنا طوع أمرك. (يخرجون.)
المشهد الرابع (قاعة في قصر يورك - تعزف المزامير.) (منضدة صغيرة أمام مقعد مرتفع للكاردينال، ومنضدة أكبر للضيوف، ثم تدخل آن بولين وشتى الآنسات والسيدات والسادة من الضيوف من باب، ويدخل السير هنري جيلفورد من باب آخر.)
جيلفورد :
أيتها الآنسات والسيدات! إن صاحب الغبطة يرحب بكن جميعا
فأهلا وسهلا بكن! لقد وهب هذه السهرة للحسن والمرح!
وهو يرجو أن تكون كل واحدة
في هذه الزمرة من النبيلات،
قد طرحت كل ما يشغل بالها خارج هذه القاعة!
وهو يود أن يسود الفرح والسرور 5
بقدر ما تبعث عليه الصحبة الطيبة والنبيذ الحسن
والترحاب الحار بين أخيار الناس! (يدخل كبير الأمناء واللورد ساندز والسير توماس لافل.)
أهلا بك سيدي اللورد! كيف تأخرت؟!
إن تفكيري في هذه الطاقة من الفاتنات
جعلني أطير بجناحي إلى المكان!
كبير الأمناء :
أنت شاب يا سير هنري جيلفورد!
ساندز :
سيدي سير توماس لافل! لو كان الكاردينال 10
يتمتع بنصف أفكاري الدنيوية،
لقدم لهؤلاء الحسان بعض المرطبات قبل أن يجلسن!
فهذا من شأنه أن يسرهن حقا! قسما بحياتي
ما أرق هذه الزمرة من الجميلات!
لافل :
أتمنى لو كنت أنت صاحب اعتراف واحدة أو اثنتين! 15
ساندز :
ليتني كنت كذلك! إذن لجعلت التكفير عن الخطيئة
سهلا ميسرا!
لافل :
سهلا إلى أي حد؟
ساندز :
بالسهولة التي يوفرها الفراش الناعم!
كبير الأمناء :
أيتها الجميلات! أرجوكن الجلوس! أرجو أن تتولى
يا سير هاري إرشاد الواقفات في هذا الجانب إلى مقاعدهن، 20
وسأتولى أنا الجانب الآخر! لقد دخل صاحب الغبطة.
لا لا! لا ينبغي هذا الجمود! ولا يصح أن تجلس
اثنتان متجاورتين وإلا بردت حرارة الجو!
سيدي اللورد ساندز! أنت الذي سيضمن اليقظة
في أجفانهن! اجلس بين هذه الآنسات!
ساندز :
أقسم إني أود ذلك وأشكر معاليكم! 25
أرجو الصفح يا آنساتي الرقيقات إذا أفلتت مني عبارة رعناء،
اغفرن لي فقد ورثت ذاك من والدي!
آن بولين :
هل كان مجنونا يا سيدي؟
ساندز :
بل مجنون حقا! فاض به الجنون وبرح به العشق!
لكنه لم يكن يعض أحدا،
18
بل
يقبل الفتاة عشرين قبلة في نفس واحد!
مثلما أفعل الآن! (يقبلها).
كبير الأمناء :
أحسنت يا سيدي اللورد! وهكذا جلس الجميع! 30
أيها السادة! ستجب عليكم الكفارة إذا قضت هذه الجميلات
وعلى وجوههن العبوس!
ساندز :
أبرشيتي صغيرة! وكذا كفارتي!
19
دعوني وحدي! (موسيقى المزامير، يدخل الكاردينال وولزي يجلس في مكانه.)
الكاردينال :
مرحبا بكم يا ضيوفنا الكرام! أرجو من الجميع،
آنسات وسيدات وسادة، أن يطلقوا العنان للمرح 35
والا كانوا يخاصمونني! فلنشرب نخب صحتكم جميعا
تأكيدا لترحابي!
ساندز :
إنكم يا صاحب الغبطة نبيل،
وأريد قدحا كبيرة أودعها آيات شكري،
فتتولى عني التعبير عنه!
الكاردينال :
سيدي اللورد ساندز! أنا ممتن لك! 40
وعليك أن تدخل البهجة على من تجلس إلى جوارهن!
أين المرح أيتها الآنسات والسيدات؟
من المسئول عن ذلك أيها الرجال؟
ساندز :
لا بد أن يصعد النبيذ الأحمر أولا إلى خدودهن الجميلة،
وعندها ستنطلق ألسنتهن يا سيدي اللورد،
حتى ما نجد فرصة للحديث!
آن بولين :
سيدي اللورد ساندز! إنك تحب اللهو واللعب. 45
ساندز :
خصوصا إذا ربحت،
فلأشرب نخبك يا آنستي، فهو نخب نجاحي!
آن بولين :
لن تستطيع ربح شيء! (صوت الطبل والنفير وطلقات نارية.)
ساندز :
قلت لمعاليكم إنهن لن يلبثن حتى يثرثرن!
الكاردينال :
ماذا كان ذلك؟
كبير الأمناء :
فلينظر بعضكم ماذا حدث.
الكاردينال :
ما هذه الأصوات الحربية وما غايتها؟ 50
لا تخشين شيئا آنساتي سيداتي؛
فجميع قوانين الحرب تمنحكن امتيازات خاصة. (يدخل خادم.)
كبير الأمناء :
ماذا حدث؟ ماذا كان ذلك الصوت؟
الخادم :
جماعة من الأجانب، يبدو أنهم من النبلاء،
رست سفينتهم عند مرسانا وهم في طريقهم إلينا،
سفراء نابهين لأمراء من الأجانب. 55
الكاردينال :
يا كبير الأمناء الكريم،
اذهب فقابلهم بالترحاب اللائق؛
فأنت تتحدث الفرنسية، وأرجوك أن تحتفي بهم،
وتأتي بهم إلى حضرتنا حيث تسطع شمس هذا الجمال عليهم
بسناها وسنائها، فليرافقه بعضكم. 60 (ينهض الجميع وترفع الموائد.)
معذرة أيها الضيوف لقطع حبل المأدبة،
لكننا سوف نصل ما انقطع! تفضلوا، كلوا هنيئا مريئا،
ولينهمر ترحيبي بكم من جديد ... أهلا وسهلا بكم. (موسيقى المزامير، يدخل الملك
20
مع آخرين يلبسون الأقنعة، ويرتدون ثياب الرعاة، يتقدمهم كبير الأمناء، فيمرون على الفور أمام الكاردينال ويقدمون له التحية الرسمية.)
تلك زمرة من الأشراف لا شك، ماذا يبتغون؟
كبير الأمناء :
إنهم لا يعرفون الإنجليزية؛ ولذلك طلبوا مني أن أقول لكم، 65
يا صاحب الغبطة، إن خبر هذه الحفلة الرائعة،
التي تجمع بين كرم المحتد وسحر الجمال،
قد تناهى إلى أسماعهم، فصمموا على الحضور هذا المساء!
لم يستطيعوا بسبب ما يكنونه للجمال من تقدير
إلا أن يتركوا قطعانهم
21
ويلتمسوا من سعادتكم، 70
السماح لهم برؤية هذه الآنسات، وقضاء ساعة
سرور وطرب معهن.
الكاردينال :
قل لهم يا كبير الأمناء إنهم قد شرفوا منزلي المتواضع،
وأنا أقدم لهم ألف شكر على ذلك،
وأرجوهم أن يشاركونا السرور والطرب. (الضيوف يختارون من يرقص معهم، ويختار الملك آن بولين.)
الملك :
أجمل يد لامستها في حياتي! أيها الجمال! أنا لم أعرفك قبل الآن. 75 (تستمر الموسيقى، ويستمر الرقص.)
الكاردينال :
سيدي.
كبير الأمناء :
صاحب الغبطة.
الكاردينال :
أرجو أن تخبرهم على لساني،
أن من بينهم شخصا أجدر بهذا المكان مني،
وأنني لو عرفته فسوف أتنحى له عن مكاني،
بدافع الحب والواجب جميعا. 80
كبير الأمناء :
سأخبرهم يا مولاي. (يتهامس مع المقنعين.)
الكاردينال :
ماذا يقولون؟
كبير الأمناء :
يقولون إن مثل هذا الشخص موجود فعلا،
ويطلبون من غبطتكم أن تتعرفوا عليه،
ولا مانع لديه في أن يأخذ مكانكم.
فلأنظر فيمن حولي! أرجو عفوكم يا سادتي الأفاضل!
الكاردينال :
هذا هو! لا بد أن يكون ذلك هو الملك. 85 (طارحا قناعه) لقد تعرفت عليه حقا أيها الكاردينال!
الملك :
ويا لها من حفلة رائعة! أحسنت أيها اللورد!
لو لم تكن كاهنا أيها الكاردينال لساء ظني بك!
يسعدني أن جلالتكم مسرور!
الكاردينال :
يا كبير الأمناء! أرجوك اقترب قليلا! 90
الفصل الأول، المشهد الرابع؛ لوحة تمثل الحفلة في منزل الكاردينال وولزي في مسرح الجلوب يوم 29 يونيو 1613م، رسمها الرسام ك. والتر هودجز، وتظهر في أعلى الصورة أولى سحائب الدخان الناجم عن الحريق الذي أتى على المسرح.
الملك :
من هذه الغادة الفاتنة؟
كبير الأمناء :
ابنة السير توماس بولين، وهو فايكاونت روتشفورد!
وقد يسر جلالتكم أن تعرف أنها إحدى وصيفات الملكة!
22
الملك :
قسما بالسماء، إنها رقيقة وممتعة!
حبيبة الفؤاد، كيف أطلب الرقص معك ولا أقبلك؟ 95
فلنشرب نخبا في صحتكم جميعا يا سادة!
الكاردينال :
هل أعددت المائدة يا سير توماس لافل،
في القاعة الداخلية الخاصة؟
لافل :
نعم يا سيدي.
الكاردينال :
أخشى يا مولاي أن يكون الرقص قد أجهدكم بعض الشيء!
الملك :
بل أجهدني كثيرا. 100
الكاردينال :
الهواء نقي منعش يا مولاي في القاعة المجاورة.
الملك :
ننتقل إليها إذن! فليتقدم كل رجل وزميلته في الرقص!
لن أستطيع يا زميلتي الرقيقة أن أتخلى عنك : هيا معي
فهذا واجبي، ولنفرح ونمرح! يا أيها الكاردينال الكريم،
سنشرب ست كئوس في صحة هذه الفاتنات،
وتعزف الموسيقي كي نرقص رقصة أخرى، 105
ثم نحلم بالفوز بالمركز الأول! فلتعزف الموسيقى! (يخرجون على أنغام الأبواق.)
الفصل الثاني
المشهد الأول (وستمنستر - شارع - يدخل سيدان من بابين متقابلين ويلتقيان.)
السيد الأول :
إلى أين وفيم العجلة؟
السيد الثاني :
وقاك الله! إلى قاعة المحكمة الكبرى
لأعرف مصير دوق بكنجهام العظيم!
الأول :
سأوفر عليك التعب؛ فقد انتهت المحاكمة، 5
ولم يبق إلا إجراءات العودة بالسجين.
الثاني :
هل شهدت المحاكمة؟
الأول :
شهدتها كلها!
الثاني :
أرجوك قل ما حدث!
الأول :
كما توقعت تماما!
الثاني :
ثبتت عليه التهمة؟
الأول :
نعم، وحكم عليه بالإعدام.
الثاني :
كم يؤسفني ذلك.
الأول :
ويؤسف كثيرين غيرك!
الثاني :
وكيف كان ذلك؟ 10
الأول :
لن أطيل عليك. أتى الدوق العظيم إلى المحكمة،
وأنكر التهمة الموجهة إليه، وأدلى ببراهين قوية
ليفلت من قبضة القانون ، ولكن النائب العام 15
برع في استجوابه، وأدلى بأدلته،
واستند إلى اعترافات مختلف الشهود الذين طلب الدوق إحضارهم!
وهكذا مثل من شهود الإثبات وكيل الدوق،
ثم أمين خزائنه السير جلبرت بيرك، 20
ثم صاحب اعترافه جون كار،
ثم ذلك الراهب الشيطان هوبكنز
الذي تسبب في تلك الكارثة!
الثاني :
أهو الذي سقاه من كأس نبوءاته؟
الأول :
هو نفسه! وكانت الأدلة التي ساقوها ضده دامغة!
ورغم محاولاته دحض تلك الأدلة فقد باء بالفشل! 25
وهكذا حكم أقرانه من النبلاء بإدانته بتهمة الخيانة العظمى.
لقد تكلم طويلا، وأظهر التبحر في العلم عند محاولته
إنقاذ حياته، ولكن أقواله لم تفلح
إلا في إثارة الشفقة عليه، بينما تجاهلها القضاة!
الثاني :
وماذا كانت حاله بعد ذلك كله؟ 30
الأول :
عندما عاد الحراس به إلى المحكمة ليسمع ناقوس نعيه،
أي الحكم الصادر عليه، بدت عليه آثار الألم المبرح
حتى لقد تصبب منه العرق،
وتفوه بألفاظ تنم على الغضب والمرض والتعجل،
لكنه سرعان ما استعاد رباطة جأشه، ورقة حاشيته، 35
وأظهر بعد ذلك أبلغ آيات الصبر الجميل!
الثاني :
لا أظنه يخشى الموت!
الأول :
إنه حقا لا يخشاه، ولم يكن يوما ما جبانا
1
إلى هذه الدرجة!
ولكن سبب الحكم بإعدامه هو الذي يؤلمه بعض الشيء.
الثاني :
لا شك أن الكاردينال هو الذي دبر كل ذلك. 40
الأول :
محتمل! بل هو ما ترجحه الشواهد جميعا! فهو الذي فصل
لورد كيلدير نائب الملك في حكم أيرلندا، وصادر أملاكه،
وما إن تخلص منه حتى أرسل مكانه اللورد سري،
وعلى وجه السرعة أيضا حتى تفوته فرصة مساعدة صهره!
الثاني :
تلك أحبولة عميقة الجذور من أحابيل السياسة،
ودافعها الحسد!
الأول :
لكن اللورد سري سوف يثأر لصهره عندما يرجع ولا شك! 45
لقد لاحظ الجميع أنه ما من شخص يحظى بحب الملك،
حتى يجد الكاردينال عملا آخر له، وبعيدا عن البلاط أيضا!
الثاني :
إن العامة جميعا يكرهون الكاردينال،
بل يبغضونه بغضا شديدا. وأشعر في قرارة نفسي 50
أنهم يودون لو كان يرقد على عمق عشر قامات في الأرض!
لكنهم يحبون الدوق ويكنون له كل احترام!
وكنيته لديهم هي ذو الكرم والنعم،
مرآة الذوق الرفيع واللباقة! (يدخل بكنجهام من باب المحكمة، وأمامه الكتبة وحد بلطة الجلاد موجه إلى عنقه، وحاملو الرماح على الجانبين، معه السير توماس لافل والسير نيكولاس فوكس، والسير والتر ساندز، وبعض العامة.)
السيد الأول :
انتظر هنا سيدي حتى ترى النبيل الذي أخنى عليه الدهر!
السيد الثاني :
فلنقترب منه حتى نراه.
بكنجهام :
يا أيها الكرام جميعا! يا من قطعتم هذه المسافة 55
كي تظهروا العطف والثقة بي،
استمعوا إلى ما أقول ثم عودوا إلى بيوتكم،
واحتسبوني بين الموتى. لقد صدر علي اليوم حكم بالخيانة
وسوف أموت مدانا بهذه التهمة. لكني أشهد السماء
على أنني مخلص! وإذا كان عندي ضمير
فليته يقذف بي في وهدة العدم 60
من قبل أن يمسني نصل الجلاد. أنا لا أناصب القانون العداء
فقد أخذت العدالة مجراها بافتراض صحة الأدلة،
ولكنني كنت أود ممن سعوا في هلاكي أن يكونوا
أقرب إلى خصال المسيحية. ومع ذلك، ومهما يكونوا،
فإنني أصفح عنهم من أعماق قلبي. 65
ألم يكن الأولى بهم أن يحققوا أمجادهم
بغير الأذى والإساءة؟
وألا يبنوا شرورهم على قبور العظماء؟
إذ إن دمي البريء لا بد أن يصرخ مطالبا بالثأر!
لقد انقطع أملي في أن أعيش أكثر مما عشته
في هذه الدنيا، ولن أتفرع لطلب المزيد،
رغم أن الملك قادر على أن يعفو 70
على ما لا أجسر عليه من الخطايا،
لكنني يشق علي فراقكم يا من أحببتم بكنجهام،
على قلتكم، ومن جرؤتم على رثائه
لا مرارة في الموت إلا مرارة هذا الفراق!
سيروا معي إذن مثل ملائكة الخير إلى حيث ألقى مصيري. 75
وعندما يهوى النصل الفولاذي الفاصل على رقبتي،
قدموا صلواتكم قربانا شافعا يرفع روحي إلى السماء،
فلتصحبوني باسم الله!
لافل :
أتضرع إلى سعادتكم أن تحسنوا إلي،
وإذا كنتم تضمرون ذرة من الحقد في قلبكم علي، 80
فأرجو أن تعلنوا صفحكم صراحة!
بكنجهام :
يا سير توماس لافل! إني لأصفح عنكم مخلصا،
صفحا أرجوه لنفسي، بل إني أصفح عن الجميع.
فلم يصبني من الإساءات ما لا يحصى،
حتى أعجز عن الصفح عنها،
ولن يبنى قبري من الحسد الأسود. 85
اذكرني عند صاحب الغبطة، فإذا سألك عن بكنجهام
فأرجو أن تقول له إنك لقيته وإحدى قدميه في السماء.
وما زلت حافظا لعهودي ودعواتي للملك،
وسأظل أبتهل الله أن يباركه،
حتى تصعد روحي إلى بارئها. فليمد الله في عمره 90
سنوات لا أقوى على عدها.
وليستمر في الحكم عاهلا محبا ومحبوبا،
وعندما يقضي الدهر التليد بالنهاية المحتومة،
فليدفن مع الخير معا في ضريح واحد.
لافل :
مهمتي أن أصحبكم حتى شاطئ النهر، 95
ثم أعهد بالمهمة إلى السير نيكولاس فوكس،
فهو الذي سيمضي معكم إلى حيث تنتهون.
فوكس :
استعدوا أيها الرجال فالدوق قادم.
احرصوا على إعداد السفينة،
وتزويدها بالأثاث الذي يليق بجلال قدره.
بكنجهام :
لا يا سير نيكولاس! بل اتركوها كما هي! 100
إن حالي الآن يسخر مني ويضحك!
عندما قدمت إلى هنا كنت دوق بكنجهام ورئيس جهار الشرطة،
أما الآن فأنا إدوارد بوون - فرد لا حول له ولا طول!
ومع ذلك فأنا أغنى نفسا من الحقراء الذين رموني بالتهم،
والذين لم يدركوا يوما معنى الصدق. 105
إنني أضع خاتم الدم عليه، وسوف أجعلهم بهذا الدم
يصرخون ذات يوم ألما وندما!
كان والدي النبيل هو هنري دوق بكنجهام،
الذي كان أول من عارض ريتشارد المغتصب،
ولما أحدق به الخطر طلب الغوث من خادمه بانيستر،
ولكن ذلك الوغد خانه ووشى به، 110
فكان مصيره الإعدام دون محاكمة! عليه رحمة الله!
ولذلك فلما تولى هنري السابع حكم المملكة،
أحزنه مصير أبي، وفعل ما يفعله كل أمير شريف؛
إذ رد لي شرفي ومنزلتي،
ومن بين الأطلال أعاد بناء اسمي النبيل الشامخ. 115
وها هو ابنه هنري الثامن يجردني بضربة واحدة،
من الحياة والشرف والألقاب وسعادة الدنيا كلها!
ولكنني قد مثلت للمحاكمة على أي حال،
وهي محاكمة قانونية لا شك جعلتني أسعد حالا
من أبي المسكين، وإن كان كلانا قد لقي نفس المصير؛ 120
إذ إن كلا منا قد راح ضحية خدمه،
وضحية للرجال الذين أحببناهم حبا جما ،
فيا لها من خدمة خئون تنافي الطبيعة.
لكن للسماء حكمة في ذلك!
ولذلك فإنني أقول لكم قولا ثابتا،
يا من تستمعون إلي الآن وأنا على شفا الموت، 125
حذار ممن تحبونهم كل الحب وتسرون إليهم بأسراركم،
لا تسرفوا في الحب وتقبلوا عليهم دون روية؛
فالذين تتخذونهم أصدقاء وتقدمون لهم أفئدتكم
سوف يخذلونكم عندما يدبر الحظ عنكم،
ويفلتون كالماء لا تنضم عليه الأصابع! 130
ولن يعودوا إليكم إلا حين يريدون القضاء عليكم.
أرجو من جميع الأخيار أن يرفعوا الدعوات لي؛
فلقد آن أوان رحيلي، وحانت الساعة الأخيرة،
في هذه الحياة المريرة الطويلة! وداعا!
وإذا أردتم يوما ما أن تذكروا ما يثير الأشجان،
فاذكروا هذه النهاية التي انتهيت إليها!
لقد انتهيت حقا، وليشملني الله بعفوه ومغفرته. 135 (يخرج الدوق والحاشية.)
السيد الأول :
ما أشد ما يبعث ذلك على الأسى!
وما أكثر اللعنات التي سيمطرها على رءوس من كانوا السبب!
السيد الثاني :
إذا كان الدوق بريئا
فما أعظم الويل والثبور!
ومع ذلك فسوف ألمح لك عن كارثة مقبلة، 140
لو وقعت فسوف تفوق هذه المأساة حقا!
السيد الأول :
فلتحفظنا ملائكة الخير من شرها! ما عساها تكون؟
أفصح لي عنها! هل تشك في إخلاصي؟
السيد الثاني :
إنه سر كبير يتطلب إرادة جبارة في كتمانه!
السيد الأول :
أفصح عنها؛ فأنا قليل الكلام.
السيد الثاني :
أنا واثق من ذلك، وسأبوح لك بالسر. 145
ألم تسمع في الأيام الأخيرة همهمات عن الفراق الوشيك
بين الملك وكاثرين؟
السيد الأول :
سمعت الهمهمة التي لم تلبث أن سكتت،
وعندما سمعها الملك غضب، وأرسل إلى العمدة 150
أمرا بنفي الشائعة، وإسكات ألسنة الذين تجرءوا
على نشرها.
السيد الثاني :
ولكن تلك الشائعة المغرضة، يا سيدي،
قد أصبحت اليوم حقيقة! إذ عادت إلى الانتشار بقوة،
وبات من المؤكد أن الملك سوف يترك زوجته. 155
وسواء كان المدبر هو الكاردينال أم غيره من المقربين للملك،
فلقد دفع الحقد على الملكة الكريمة بعضهم
إلى الإيحاء إلى الملك بأن زواجه منها باطل،
ولا بد له أن يفارقها.
وتأكيدا لذلك وصل الكاردينال كامبيوس أخيرا إلى القصر، 160
ويعتقد الجميع أنه جاء لهذا السبب نفسه.
السيد الأول :
إنه من تدبير الكاردينال،
وهدفه هو الانتقام من إمبراطور إسبانيا قريب الملكة؛
لأنه رفض منحه أسقفية طليطلة.
لقد تعمد ذلك دون شك.
السيد الثاني :
لقد أصبت كبد الحقيقة فيما أرى!
ولكن أليس من الظلم أن تعاقب الملكة على ذلك؟ 165
لسوف ينفذ الكاردينال إرادته، وسوف يقضي على الملكة!
السيد الأول :
هذا موضوع مؤلم. إننا نتكلم في الطريق العام وقد يسمعنا أحدهم!
فلنستكمل حوارنا في مكان خاص. (يخرجان.)
المشهد الثاني (غرفة استقبال في القصر - يدخل كبير الأمناء وهو يقرأ خطابا.)
كبير الأمناء (يقرأ) : «سيدي اللورد! إن الخيول التي أرسلتم في طلبها قد تم اختيارها بكل عناية، كما تم تدريبها وتجهيزها. وهي في فورة الشباب وجميلة المظهر، ومن أفضل سلالات بلدان الشمال. وعندما كنت على أهبة الرحيل بها إلى لندن، تعرض لي رجل من أتباع مولاي الكاردينال، وأخذها مني بالقوة قائلا إن مولاه لا بد أن يتمتع بالأولوية على الجميع، إن لم يكن على الملك نفسه، وإذ ذاك لم نستطع الرد عليه.»
أظن أن الكاردينال سوف يستولي عليها حقا! فليكن! وظني أنه لن يترك شيئا حتى يستولي عليه. 10 (يدخل دوق نورفوك وسافوك.)
نورفوك :
مرحبا بكبير الأمناء.
كبير الأمناء :
طاب يومكما يا صاحبي السعادة!
سافوك :
ما الذي يشغل الملك؟
كبير الأمناء :
تركته وحيدا، مهموما يعصره القلق.
نورفوك :
وما السبب يا ترى؟
كبير الأمناء :
أمر زواجه من أرملة أخيه! 15
يبدو أنه تسلل إلى قلب من ضميره!
سافوك (جانبا) :
بل قل إن ضميره تسلل إلى قلب فتاة أخرى!
نورفوك :
هذا صحيح! وهو من تدبير الكاردينال،
هذا الكاردينال المتوج، هذا القس الأعمى،
كأنه الابن الأكبر لربة الحظ! إنه يدير عجلة الحظوظ.
سافوك :
في الوجهة التي يريدها. وسوف ينكشف أمره للملك يوما ما! 20
أسأل الله ذلك، وإلا فلن يعرف الملك حقيقة ذاته نفسها!
نورفوك :
إن الكاردينال يتفانى في كل ما يعمل،
كأنه يتفانى في عبادة الله! لقد نجح في فصم عرى التحالف
بيننا وبين إمبراطور إسبانيا، ابن شقيقة الملكة!
2
25
كما نجح في النفاذ إلى أعماق قلب الملك،
وبث فيه التشكك من صحة زواجه، وغرس فيه بذور الأخطار،
وآلام الضمير، وآيات اليأس!
وهو ينصحه بالطلاق حتى يطهر روحه؛ 30
أي بأن يرمي تلك الجوهرة التي زانت صدره
عشرين سنة، كأنها قلادة ثمينة،
لم تفقد فيها بريقها لحظة واحدة.
تلك التي أخلصت في حبه إخلاص الملائكة
في حب الأخيار، والتي لن تتوقف عن مباركة الملك، 35
حتى حين تصيبها طعنة القدر الساحقة!
كبير الأمناء :
أفلا يدل سلوك الكاردينال على التقوى والورع؟
فلتحفظني السماء من مثل هذه النصيحة!
لقد انتشرت الأخبار في كل مكان، وهي على كل لسان،
وتبكي القلوب المخلصة لذكرها. أما من يجرؤ على النظر في الأمر
فسيرى غاية واحدة وهي أخت ملك فرنسا.
3
ليت السماء تفتح عين الملك يوما ما،
بعد أن ظلت ردحا طويلا غافلة عن ذلك الخبيث الجسور!
سافوك :
وليتها تنقذنا من عبوديته!
نورفوك :
علينا أن نبتهل إلى الله من قلوبنا حتى يخلصنا منه، 45
وإلا هبط بنا هذا الجبار من مراتب الأمراء
إلى مراتب الخدم! فإن شرف الناس في يديه
مثل الصلصال يشكله في الشكل الذي يريده.
سافوك :
أما أنا يا صاحبي السعادة فلا أحبه ولا أخافه،
وهذه عقيدتي الراسخة؛ فأنا لست مدينا له بشيء، 50
وسأظل في موقعي ما دام الملك يريد ذلك.
وأما لعنات هذا الرجل وبركاته فلا أثر لها في نفسي؛
إذ إنها كلمات لا أومن بها! لقد عرفته في الماضي
وأعرفه اليوم حقا؛ ولذلك فأنا أتركه للرجل الذي نفث فيه هذه الكبرياء والجبروت - أي البابا. 55
نورفوك :
فلندخل على الملك، ونطرح عليه بعض المسائل التي
تمحو أثر تلك الأفكار المحزنة التي تعكر صفوه وتشغل باله.
هل تصحبنا يا سيدي اللورد؟
كبير الأمناء :
عفوا! لقد كلفني الملك بمهمة في مكان آخر.
والواقع أن هذا الوقت غير مناسب إطلاقا لإقلاق الملك. 60
أرجو لكم موفور الصحة.
نورفوك :
شكرا لك يا كبير الأمناء الأكرم. (يخرج كبير الأمناء - يقوم الملك برفع الستار ويجلس وهو يقرأ غارقا في أفكاره.)
سافوك :
ما أشد الحزن الذي يكسو وجهه! لا بد أنه في غاية الهم والكرب.
الملك :
من هناك؟ من أنت؟
نورفوك :
أدعو الله ألا يكون غاضبا!
الملك :
من هناك أقول؟ كيف تجسران على اقتحام خلوتي،
وتعكير صفو تأملاتي؟ هل تعرفان من أكون؟ 65
نورفوك :
ملك رحيم، يغفر كل ذنب غير مقصود!
إننا ما جرؤنا على انتهاك الواجب بهذا الشكل،
إلا لأمر هام من أمور الدولة،
نريد استطلاع رأي جلالتكم فيه.
الملك :
بل هي جرأة غير مقبولة! تبا لكما! 70
سوف أعلمكما مواعيد العمل المقررة لكما.
هل هذه ساعة إنجاز أعمال الدولة؟ (يدخل وولزي وكامبيوس حاملا أوراق اعتماده.)
من هناك؟ إنه الكاردينال الكريم!
أقبل يا وولزي العزيز! يا ترياق ضميري المجروح!
إنك الدواء الشافي للملوك! ومرحبا بك يا كامبيوس!
أيها الحبر العلامة في مملكتنا! 75
فنحن وإياها في خدمتك، عزيزي اللورد وولزي،
أرجو أن تحتفي به حقا حتى لا يقال
إن كلامي ألفاظ جوفاء!
محال أن يقال ذلك! أرجو من جلالتكم أن تسمحوا لنا.
وولزي :
بساعة للحديث على انفراد. (إلى نورفوك وسافوك) إننا مشغولون الآن. تفضلا بالرحيل. 80
الملك (جانبا إلى سافوك) :
أما لدى هذا القس كبرياء؟!
نورفوك (جانبا) :
بل ما لا يذكر! ولو أنني لا أحسده مطلقا على.
سافوك :
منزلته! ولكن هذا لن يستمر! (جانبا) إذا استمر فسوف أضربه ضربة ماضية!
نورفوك (جانبا) :
وأضربه أنا ضربة أخرى!
سافوك (يخرج سافوك ونورفوك) :
لقد قدمت يا صاحب الجلالة مثالا على الحكمة.
وولزي :
سبقت به جميع الأمراء!
لقد قمت طواعية بإحالة شكوكك إلى الكنيسة 85
وهي المتحدث بصوت العالم المسيحي!
كيف يغضب أحد؟ وأي حقد يمكن أن ينالك؟
إن ملك إسبانيا الذي يرتبط بالملكة برابطة الدم ويعطف عليها
لا بد أن يعترف الآن بأن قرار إجراء المحاكمة
قرار منصف وشريف؛ فالإسبان من الأخيار؛ 90
إذ إن رجال الدين، وأعني بهم الراسخين في العلم
في الممالك المسيحية، سوف يدلون بأصواتهم بصراحة.
أما روما، مرضعة الحكم السديد،
فلقد لبت دعوتكم الشريفة، وأرسلت
رجلا ينوب عن الجميع إلينا. وهذا هو الرجل الصالح،
القس المنصف العلامة ، الكاردينال كامبيوس، 95
الذي أقدمه الآن من جديد إلى سموكم.
الملك :
وأنا أرحب به من جديد، وأفتح له ذراعي،
وأشكر رجال المجمع المقدس
على ما أبدوه من حب بإرسال مثل هذا الرجل،
الذي كنت أتطلع إلى قدومه.
كامبيوس :
إنكم يا صاحب الجلالة جديرون
بحب الأجانب جميعا لشرف منزلتكم السامية. 100
إنني أقدم أوراق اعتمادي إلى يدي سموكم.
وقد قضت محكمة روما بأن تشاركني. (إلى وولزي)
يا سيدي كاردينال يورك، في إصدار الحكم المحايد،
في هذه القضية. 105
الملك :
إن منزلتكما عندي سواء، وسوف تحاط الملكة فورا بسبب
زيارتكم. أين جاردنر؟
وولزي :
أعرف يا صاحب الجلالة أنك طالما أحببتها
وطالما أحللتها أعز مكان في قلبك؛ ومن ثم أرجو
ألا تحرمها من الحق الذي يوفره القانون للجميع 110
حتى من هم أقل منزلة منها، ألا وهو حق الدفاع،
وليتوله بعض العلماء بحرية وصراحة.
الملك :
بل سيتولاه أفضل العلماء! وسيحظى برضاي من يخلص
في الدفاع عنها! حاشا الله أن يكون موقفي غير ذلك!
أرجوك يا كاردينال أن تدعو جاردنر للحضور.
إنه أمين سرى الجديد! وأعتقد يصلح لهذا العمل. 115 (يخرج وولزي ويعود مع جاردنر فورا.)
وولزي (جانبا إلى جاردنر) :
هات يدك. أرجو لك السعادة والتوفيق؛
فأنت الآن في خدمة الملك.
جاردنر (جانبا إلى وولزي) :
لكتني طوع أمركم إلى الأبد؛
فإن يدك هي التي رفعتني إلى هذه المنزلة!
الملك :
تعال هنا يا جاردنر. (يذهب إليه ويتهامس معه.)
كامبيوس :
يا سيدي كاردينال يورك! ألم يسبق هذا الرجل في منصبه 120
شخص يدعى الدكتور بيس؟
وولزي :
نعم.
كامبيوس :
ألم يكن يقال آنذاك إنه عالم نحرير؟
وولزي :
بالتأكيد.
كامبيوس :
صدقني يا سيدي الكاردينال، لقد انتشرت الظنون السيئة
آنذاك، حتى بكم يا مولاي!
وولزي :
عجبا؟ كيف يساء الظن بي؟ 125
كامبيوس :
لم يتردد الناس في القول بأنك كنت تحسده،
وأنك خشيت أن يرقى إلى الدرجات العلا،
بسبب فضائله العليا،
فنقلته إلى مكان بعيد، مما سبب له حزنا شديدا،
دفعه إلى الجنون، ثم قضى عليه.
4
وولزي :
عليه رحمة السماء! وهذا ما يجب على كل مسيحي صادق
أن يقوله! أما مروجو الإشاعات بيننا فلا بد من عقابهم! 130
لقد كان يتسم بالبلاهة إذ قصر حياته على التنسك!
ولكن أمين السر الجديد رجل صالح،
يصغي إلي ويأتمر بأمري،
وإلا ما كنت قربته مني. واعلم يا أخي
أننا لا نسمح بأن يتحكم البغضاء فينا. 135
الملك (إلى جاردنر) :
سلم هذا بكل أدب واحترام إلى الملكة. (يخرج جاردنر.)
إن أفضل مكان يصلح في رأيي لمثل هذه المناظرة العلمية
هو دير بلاك فرايرز.
5
فليكن مكان لقائكم
لبحث تلك القضية الهامة. أنت مكلف يا عزيزي وولزي
بإعداده الإعداد اللائق، يا لله!
كم يحزن الرجل القوي أن يفارق تلك الزوجة الرقيقة! 140
ولكن آه من وخز الضمير! الضمير الضمير!
إنه حساس رقيق، ولا مناص لي من فراقها! (يخرجون.)
المشهد الثالث (غرفة داخلية في قصر الملكة.) (تدخل آن بولين مع سيدة عجور.)
آن :
ولا لهذا السبب أيضا! أما مصدر الألم الذي يخزني وخزا،
فهو أن جلالته قد عاش معها ردحا طويلا من الزمن،
وهي سيدة كريمة فاضلة، لا يمكن للسان أن يمسها
بما يخدش شرفها، وأقسم بحياتي أنها لم تعرف الإساءة
يوما ما! انظري كم مرة دارت الشمس في فلكها منذ تتويجها، 5
وكيف تزداد بهاء كل يوم وعظمة!
إن مرارة تخليها عن مكانتها تزيد ألف مرة،
عن فرحتها بوصولها إليها أول مرة!
وكيف يستطيع بعد هذه الحياة المشتركة أن ينبذها؟
إن الأسى عليها يثير قلوب الوحوش! 10
العجوز :
إن أغلظ القلوب وأشدها تحجرا لتذوب حسرة وكمدا عليها.
آن :
بل هذه إرادة الله! ليتها ما عرفت الأبهة والمجد،
ولو كانا ينتميان للدنيا الفانية!
ومع ذلك فإذا عبست ربة الحظ المشاكسة،
وجردت الإنسان منهما، كان الألم مبرحا،
كفراق الروح للجسد.
العجوز :
وا أسفا أيتها المسكينة!
لقد أضحت غريبة من جديد!
آن :
وهو ما يبعث على المزيد من الأسى والرثاء!
أقسم إنه لأهون على الإنسان
أن يولد في أسرة متواضعة،
ويعيش مع الفقراء القانعين، 20
من أن يلبس أفخر الثياب وهو حزين،
ويزدان بالذهب وهو كاسف البال.
العجوز :
القناعة أثمن كنز للإنسان .
آن :
أقسم بشرفي وعفافي إني لا أتمنى أن أصبح ملكة.
العجوز :
وانا أقسم إني أتمنى ذلك ولو ضحيت بعفافي، 25
وكذلك أنت يا فتاتي، رغم نفاقك وتظاهرك بغير ذلك!
إنك تجمعين بين جمال المرأة الفائق وقلب المرأة،
وهو ما اجتذب إليك قلوب الوجهاء والأغنياء والملوك!
وهو في الحق نعمة أنعمها الله عليك، 30
بل تلك هي هبات يستطيع ضميرك الحساس أن يتقبلها؛
فليس ضيقا إلى الحد الذي يوحي به تزمتك،
وتستطيعين «توسيع ذمتك» قليلا.
آن (مقاطعة) :
أبدا! كلا قسما بالله.
العجوز :
بل هو الحق كل الحق. أفلا تريدين أن تصبحي ملكة؟
آن :
كلا، ولو أعطيت جميع الثروات تحت قبة السماء! 35
العجوز :
هذا غريب! إني أقبل رغم سني الكبيرة أن أصبح ملكة من أجل قطعة نقود بثلاثة بنسات
ولو كانت القطعة معوجة! لكن أرجوك أجيبي:
ما رأيك في لقب الدوقة؟ هل تستطيع أطرافك أن تحمل ثقل
ذلك اللقب؟
آن :
كلا حقا!
العجوز :
إذن فأنت ذات جسد ضعيف! فلننزل عن هذه الدرجة
قليلا! ما رأيك في لورد شاب؟ هل تتمنعين هنا أيضا؟ 40
إذا كان كاهلك سينوء بهذا العبء أيضا ،
فهو أضعف من أن يحمل طفلا!
آن :
ما أغرب كلامك! أقسم من جديد
إنني لا أريد أن أصبح ملكة،
ولو أعطيت الدنيا وما فيها. 45
العجوز :
بل قد تقبلين خدش عفافك من أجل تاج إنجلترا،
أما أنا فأقدم عفافي كله من أجل أفقر مقاطعة
وهي كارنافون شاير! حتى ولم يبق
في المملكة سواها! انظري من القادم! (يدخل كبير الأمناء.)
كبير الأمناء :
عمتما صباحا! هل لي أن أعرف موضوع حديثكما؟ 50
آن :
بل لا يستحق يا سيدي الكريم طلبك ولا سؤالك عنه،
كنا نرثي لحال مولاتنا الملكة!
كبير الأمناء :
موضوع نبيل، ويليق بذوات الأخلاق الفاضلة،
ما زلنا نأمل في إصلاح الحال. 55
آن :
أدعو الله مخلصة، آمين.
كبير الأمناء :
إن لك نفسا كريمة، وبركات السماء
تتنزل على أمثال هؤلاء. وحتى تعرفي
يا آنستي الجميلة مدى صدقي، ومدى إدراك العظماء
لفضائلك الجمة، أقول لك إن جلالة الملك 60
قد كلفني بأن أنقل إليك تقديره البالغ،
واعتزامه إسباغ شرف كبير عليك
وهو لقب مركيزة بمبروك، ومنحك إلى جانب ذلك
دخلا سنويا قدره ألف جنيه، إعالة لك.
آن :
لا أعرف كيف أعبر عن امتناني وطاعتي، 65
وماذا أقدم لجلالته؟ إن قلت كل شيء وأكثر
لم يكن شيئا يذكر، وإن قلت دعواتي وابتهالاتي
فلن تكون ألفاظا كستها القداسة حقا
وإن قلت تمنياتي الطيبة،
فلن تكون سوى كلمات جوفاء. ومع ذلك فإن دعواتي
وتمنياتي هي كل ما أستطيع أن أقدمه. أرجوك يا سيدي اللورد
أن تعرب له عن شكري، وعن طاعتي، 70
باعتباري خادمة غلبها الحياء،
وأبلغ سموه أنني أدعو له بالصحة ودوام الملك.
كبير الأمناء :
آنستي! لن أتوانى عن إقرار حسن ظن الملك بك. (جانبا) لقد فحصتها فحصا دقيقا!
إن الجمال والعفاف يمتزجان فيها امتزاجا كاملا 75
حتى سلبت لب الملك! ومن يدري؟
فقد تنجب هذه الفتاة درة يسطع ضوءها
على أرجاء هذه الجزيرة. (إلى آن) سأذهب إلى الملك وأخبره بأني حادثتك! (يخرج كبير الأمناء.)
آن :
الوداع، سيدي الجليل. 80
العجوز :
وهكذا حدث ما حدث! فانظري وتعجبي!
لقد قضيت ستة عشر عاما في البلاط أستجدي الفضل
وما زلت على حالي من الفقر! كنت أسرف في البكور
أو أسرف في التأخر فلا أنال جنيهات معدودة! 85
أما أنت فما أعظم حظك! سمكة خرجت من الماء لتوها!
تبا تبا لهذه الأقدار التي أتتك بالحظ رغما عنك!
لقد ملأت فمك بالطعام من قبل أن تفتحيه!
آن :
ما أشد ما يدهشني ذلك!
العجوز :
ما طعم الحظ الآن؟ أبه مرارة؟
أراهنك بأربعين بنسا أنه ليس مريرا!
هل تذكرين القصة القديمة، عن سيدة أبت أن تصبح ملكة، 90
ورفضت الملك ولو أعطيت كل طمي مصر الخصبة؟
هل سمعتيها؟
آن :
إن حديثك ممتع!
العجوز :
إذا تحدثت عنك استطعت التحليق عاليا،
وتفوقت على القبرة! مركيزة بمبروك؟
وألف جنيه في السنة تقديرا لك ودون التزام من جانبك؟ 95
أقسم بحياتي إن هذا لينبئ عن آلاف أخرى مقبلة!
فذيول رداء الشرف أطول من طرفه الأمامي!
والآن أرى أن ظهرك يستطيع حمل لقب الدوقة!
تكلمي! ألست الآن أقوى مما كنت عليه؟
آن :
سيدتي الكريمة، أرجوك أن تجدي موضوعا آخر للهزل 100
حسبما يميل خيالك! وأخرجيني من هذا الموضوع.
قسما بحياتي إن ذلك لم يثر مشاعري على الإطلاق!
بل يكاد أن يغمى علي إذا تأملت عواقبه!
إن الملكة يعتصرها القلق وقد غبنا عنها طويلا
وتناسينا قلقها! أرجو ألا تذكري أمامها شيئا 105
مما سمعتيه هنا.
العجوز :
من تظنينني أكون؟ (تخرجان.)
المشهد الرابع (غرقة في دير «بلاك فرايرز».) (أصوات نفير وأبواق ومزامير.) (يدخل حاجبان يحملان صولجانين من الفضة، يتبعهما كاتبان في ثياب العلماء، ثم أسقف كانتربري وحده، وبعده أساقفة لنكن، وإيلي، وروتشستر، وسانت أساف. ويتبعهم بمسافة قصيرة سيد يحمل خزانة النقود، وخاتم الدولة، وقبعة الكاردينال. وبعد ذلك يدخل قسيسان يمسك كل منهما بصليب من فضة ثم مناد من السادة عاري الرأس، يصحبه ضابط يحمل السلاح ومعه صولجان فضي. وبعده سيدان يمسك كل منهما بقضيب فضي كبير، ثم يدخل الكاردينالان جنبا إلى جنب، وشريفان مع كل منهما سيفه وصولجانه. ويجلس الملك في الكرسي تحت شعار المملكة، وعلى منصة أقل ارتفاعا يجلس الكاردينالان في أماكن القضاة. وتأخذ الملكة مكانها على مسافة من الملك، وتجلس الأساقفة على الجانبين على النحو المتبع في مجمع الإكليروس، وفي مقدمة المسرح يجلس الكتبة، بينما يجلس اللوردات إلى جوار الأساقفة، ويقف الأتباع في الأماكن المناسبة في أرجاء المسرح.)
وولزي :
فليصمت الجميع أثناء قراءة التوكيل الذي تلقيناه من روما
بفحص القضية.
الملك :
وما جدوى ذلك؟ لقد سبقت قراءته علنا،
وأعلن الطرفان التزامهما به. لا تضع الوقت في القراءة.
وولزي :
فليكن. (إلى الكاتب) ابدأ عملك. 5
الكاتب :
نادوا هنري الثامن ملك إنجلترا.
المنادي :
هنري الثامن ملك إنجلترا ...
الملك :
حاضر.
الكاتب :
نادوا كاثرين ملكة إنجلترا.
المنادي :
كاثرين ملكة إنجلترا. 10 (لا ترد الملكة بل تقوم من كرسيها وتجتاز ساحة المحكمة، ثم تصل إلى الملك فتركع أمامه وتتكلم.)
الملكة :
سيدي! أنشد منكم العدل والإنصاف،
وأن تشملني بشفقتك وعطفك؛
فأنا امرأة مهيضة الجناح، غريبة عن هذه الديار،
رأيت النور خارج المملكة ،
وليس لي قاض محايد ينظر أمري،
أو أي ضمان بالإنصاف في إجراءات المحاكمة، 15
أو العطف على حالي. وا أسفا يا سيدي!
قل لي فيم أسأت إليك؟ ما الذي أغضبك مني
ومن سلوكي حتى اعتزمت أن تطرحني
وتحرمني عطفك ورضاك؟ فلتشهد السماء
أنني كنت وما أزال الزوجة المخلصة الوديعة، 20
الخاضعة لإرادتك دائما وفي جميع الأحوال،
وكنت دائما أخشى أن أثير سخطك،
بل كنت تابعة لأهوائك في الأفراح والأتراح،
حسبما أشاهد في محياك! قل لي متى خالفت مشيئتك؟ 25
أولم أجعل مشيئتك مشيئتي؟ قل لي من من أصدقائك
لم أصادقه، حتى ولو كان لي عدوا؟ ومن من أصدقائي
غضبت يا مولاي عليه فلم أقطع صداقتي به؟ 30
بل إنني كنت أعلن أنه مغضوب عليه طريد!
أرجوك يا سيدي أن تذكر أنني كنت وما أزال زوجتك
مطيعة لك مخلصة، لما يربو على عشرين عاما،
كما رزقت منك بأطفال كثيرين. فإذا استطعت أن تذكر 35
وأن تثبت أنني ارتكبت أي شيء يمس شرفي
على امتداد هذه الفترة الطويلة، أو يمس رباط زواجي بك
أو حبي وواجبي إزاء شخصكم المقدس؛
فلك باسم الله أن تنبذني، وأن تلقي بي 40
في محبس العار والاحتقار، حتى تلتهمني أحد أسنان العدالة.
أرجوك يا مولاي أن تذكر والدك الملك العظيم
وما اشتهر به، أميرا حكيما بالغ الحصافة،
ذا ذكاء وقاد، وقدرة على الحكم الصائب لا تجارى! 45
واذكر والدي الملك فرديناند، ملك إسبانيا،
الذي كان أحكم من تولى الحكم من الأمراء،
قبل سنوات عديدة، ولا مراء في أنهما جمعا مجلسا
من الحكماء من كل إقليم، وناقشوا هذه المسألة، 50
وأقروا بشرعية زواجك مني؛ ومن ثم فإنني أرجو
بكل تواضع منكم، وأتوسل إليكم أن تمهلني
حتى أطلب المشورة من أصدقائي في إسبانيا
وإذا لم يجبني مولاي إلى طلبي
فإنني سأنصاع باسم الله إلى إرادته. 55
وولزي :
لديك يا مولاتي هنا هؤلاء العلماء الأفاضل
من القساوسة الذين وقع اختيارك عليهم،
وهم صفوة أحبار الأرض الذين اجتمعوا
للدفاع عن قضيتك؛ ولذلك فلا طائل من تأجيل الجلسة، 60
بل إن الانتهاء من نظر القضية مهم لبث الطمأنينة في قلبك،
ولتبديد القلق الذي يساور الملك.
كامبيوس :
لقد تحدث صاحب الغبطة فأحسن الحديث ولازم العدل؛
ومن ثم فأرجو يا سيدتي الاستمرار في إجراءات هذه الجلسة،
وطرح حجج العلماء وأدلتهم والاستماع إليها. 65
الملكة :
إنني أوجه الخطاب إليه يا مولاي الكاردينال.
وولزي :
أنا طوع أمرك يا سيدتي.
الملكة :
كنت يا سيدي على شفا البكاء، ولكنني ذكرت أنني ملكة،
أو قل ذاك ما توهمته سنينا طويلة،
وذكرت أنني قطعا ابنة ملك،
وهكذا فإن عبراتي السائلة سوف أحيلها 70
إلى شرر متطاير!
وولزي :
بل اصبري يا مولاتي!
الملكة :
سأعرف الصبر عندما تعرف التواضع!
ولن أظهر الصبر قبل ذلك وإلا فليعاقبني الله!
لدي اعتقاد راسخ، يستند إلى براهين قاطعة،
بأنك عدوي؛ ومن ثم فإنني أطعن في صلاحيتك 75
للحكم في قضيتي. إنك أنت الذي أوقد لهيب هذه الجمرة،
التي اشتعلت بيني وبين مولاي،
وأدعو الله أن يحيلها بردا وسلاما!
ولذلك فإنني أكرر أنني أمقتك مقتا شديدا
وأرفض أن تكون القاضي في هذه المسألة، 80
بل إنني أعتبرك ألد وأخبث أعدائي
ولا أراك مطلقا ممن يصادقون الصدق !
وولزي :
لا بد أن أقر بأن ألفاظك لا تنم عن طبعك الحق!
فلقد اتسمت دائما بالميل إلى الإحسان والخير،
وكان حديثك يشي برقة الشمائل، والحكمة، 85
والتعقل الذي تبزين فيه بنات جنسك، سيدتي!
لقد ظلمتني؛ فلست حاقدا عليك، ولا أنتوي بك ظلما،
بل ولا ظلما بأي أحد! ولم يكن ما فعلته حتى الآن،
ولن يكون ما أفعله بعد ذلك، إلا بموجب السلطة التي
خولها لي مجمع الإكليروس، والمجمع المقدس في روما. 90
إنك تتهمينني بأنني قد ألهبت نار الجمرة، وأنا أنكر اتهامك.
وها هو الملك بيننا، فإذا رأى أنني أنكر حقيقة وقعت
فما أقدره وأجدره بأن يجرح كذبي! 95
مثلما جرحت يا مولاتي صدق أقوالي!
فإذا كان واثقا من براءتي مما ذكرته عني
فهو واثق أنني لم أسئ إليك، وهو قادر
على علاج الأمر! أما العلاج فهو إقصاء هذه الأفكار
عن ذهنك، وأرجو قبل أن يتكلم مولاي في الموضوع، 100
بل أتوسل إليك يا سيدتي الكريمة
أن تعيدي النظر في أقوالك، وألا تكرري هذا الاتهام.
الملكة :
سيدي يا سيدي! إنني امرأة ساذجة
أضعف بكثير من أن تتصدى لمكرك وتحايلك!
إنك تكسو ألفاظك بالرقة والتواضع، 105
وتتظاهر بهاتين الصفتين، اللتين هما من خصائص منزلتك ومهنتك،
ولكن قلبك مفعم بالغطرسة والحقد والكبر!
لقد ساعدك الحظ، وحب مولاي صاحب الجلالة،
على أن تتخطى درجاتك الدنيا بحذق وحنكة،
فصعدت إلى ذروة ترعاك فيها الصولة والسطوة، 110
وأصبحت الألفاظ خدما مطيعة لك،
تأتمر بأمرك، وتفعل ما تود منها أن تفعل!
لا بد لي أن أصارحك أنك تخدم أمجادك الشخصية،
أكثر مما تنهض بوظائف الكهنوت الروحية! 115
وهذا يدفعني أيضا إلى رفض قضائك في أمري،
وأعلن أمام الجميع أنني أناشد البابا
إحالة القضية برمتها إلى قداسته،
وأن يتولى هو إصدار الحكم فيها. (تنحني احتراما للملك، وتتجه إلى باب الخروج.)
كامبيوس :
إن الملكة عنيدة، فهي ترفض إجراء العدالة، 120
بل توجه التهم إليها، وتأنف المحاكمة في ساحة العدالة.
وذلك ما لا ينبغي أن يكون. إنها ستغادر القاعة.
الملك :
نادها من جديد.
المنادي :
كاترين ملكة إنجلترا ، تمثل أمام المحكمة.
الحاجب :
سيدتي، لقد نادوا عليك يطلبون عودتك. 125
الملكة :
لا تأبه لهم! أرجو أن تواصل عملك وإذا دعوك
فعد إليهم، رحماك ربي رحماك!
لا أستطيع الصبر على مضايقاتهم، أرجوكم استمروا!
لن أنتظر أكثر من ذلك، بل ولن أمثل في أي من محاكمهم
بشأن هذه المسالة بعد الآن. 130 (تخرج الملكة مع حاشيتها.)
الملك :
افعلي ما بدا لك يا كيت!
ولو زعم رجل ما في هذا العالم
أن له زوجة أفضل منها، فحذار أن تثقوا
بأي شيء يقوله لكذبه في هذه المسالة.
إنك امرأة فريدة! نادرة الصفات،
رقتك ذات حلاوة وطلاوة، متواضعة كالقديسات، 135
وحكمك السديد حكم زوجة صالحة،
مطيعة حتى حين تصدرين الأوامر، فنفسك حرة أبية
ذات تقوى وورع، فإذا كان لهذه الشمائل
أن تتحدث عنها لقالت إنها ملكة ملكات الأرض،
فهي كريمة المحتد حقا، وقد أخلصت لكرم محتدها الأصيل 140
في سلوكها معي.
وولزي :
سيدي الأكرم والأعظم،
إنني أطلب من سموكم بأقصى آيات التواضع
أن تعلنوا رأيكم على مسمع من هؤلاء الحضور جميعا.
فما دمت قد تعرضت للسرقة وشد الوثاق
فلا بد أن تطلق جلالتكم سراحي، وإن لم يكن ذلك فورا، 145
ابتغاء رد اعتباري، أقول أرجوكم أن تقولوا
إذا ما كنت أنا الذي فتح باب هذا الموضوع
أمام سموكم، أو أثرت لديكم أي شكوك
قد تكون السبب في تساؤلكم عن حقيقة الأمر،
وإذا ما كنت قد تفوهت في أسماعكم
بغير الشكر لله على هذه الملكة، 150
أو نطقت بأدنى كلمة تنال من فضائلها
أو تمس شخصها الكريم.
الملك :
سيدي الكاردينال! إنني أعلن براءتك المؤكدة،
وقسما بشرفي لا ذنب لك في هذه المسألة،
لا تحتاج إلى من يذكرك بأن لك أعداء كثيرين 155
لا يعرفون لماذا يناصبونك العداء،
لكنهم ينابحونك مثل الكلاب في القرية
عندما تسمع نباح غيرها! وبعض هؤلاء قد أغضب الملكة!
إنك بريء، فإذا طلبت المزيد من الإنصاف، 160
فسأذكر أنك دائما ما طلبت إخماد هذه المسالة
ولم تطلب يوما الخوض فيها،
بل كثيرا ما أغلقت السبل المؤدية إليها.
وقسما بشرفي إنني أصدقكم القول بشأن الكاردينال الكريم،
وأبرئ ساحته من المشاركة في إثارة القضية.
أما الباعث الحقيقي على إثارتها، 165
فاسمحوا لي أن أطلب المزيد من وقتكم وإصغائكم،
وأرجو أن تنصتوا إلى ما دفعني إلى ذلك،
وتنتبهوا إلى منشأ القضية: لقد بدأت أول ما بدأت
بخفق رقيق في ضميري، كأنه الشك المثبط،
أو الوخز الموجع، عندما سمعت بعض الخطب التي ألقاها
أسقف «بايون» الذي كان سفيرا لفرنسا لدينا، 170
والذي كان قد بعث به إلينا للتفاوض على الزواج
بين دوق «أورليان» وابنتنا ماري.
وأثناء السير في الإجراءات،
وقبل اتخاذ قرار نهائي، طلب الأسقف مهلة 175
يستطلع فيها رأي مولاه الملك عما إذا كانت ابنتنا هذه
تعتبر ابنة شرعية أم لا،
وذلك لأنني أنجبتها من زوجة هي أرملة أخي.
وقد زلزلت هذه المهلة أعماق ضميري، 180
واقتحمت نفسي بقوة جبارة فغدوت أرتعد
حتى قضقضت ضلوع صدري، وكان من عنف اقتحامها
أن أثارت أمشاجا مختلطة من التساؤلات،
تزاحمت في فؤادي ورانت عليه بثقل عظيم من الريبة،
فقلت في نفسي أولا إنني أغضبت السماء، فأمرت الطبيعة 185
أن تجعل رحم زوجتي قبرا يئد الحياة ولا يهبها
لأي مولود ذكر تحمله مني؛ فكل جنين ذكر كان يموت
في رحمها، أو يلقى الموت حالما ينشق هواء الدنيا؛
ومن ثم تبادر إلى ذهني أن ذلك حكم قضت به السماء، 190
وأن مملكتي الجديرة بأفضل وريث في العالم،
قد كتب عليها أن تحرم من الفرحة بسليل من صلبي.
وتلا ذلك أني قدرت الأخطار التي تتعرض لها المملكة 195
لعدم وجود وريث، فكان ذلك يطرحني أرضا صارخا من الألم
المرة تلو المرة، ويدفع بسفينتي وقد طويت قلوعها
في لجج بحر الضمير المتلاطمة، ومن ثم يممت وجهي
شطر هذا العلاج، وهو ما اجتمعنا الآن من أجله، 200
أي إنني أردت إرضاء ضميري، وشفاءه من الألم
الذي أحسست به في مرضه الشديد، بل وما زلت أحس
أنه مريض، بأن أجمع كل آباء الكنيسة الأحبار
وعلماء الأرض معا، وقد بدأت على انفراد بالحديث
مع لورد لنكن، ولعلك تذكر كم كنت أتصبب عرقا 205
بسبب ما كنت أنوء بحمله من أثقال، عندما حادثتك أولا
في هذا الأمر.
لنكن :
بل أذكر ذلك جيدا يا سيدي.
الملك :
لقد أطلت الحديث، فأرجوك أن تتفضل بتبيان ما فعلته
لمساعدتي.
لنكن :
سمعا وطاعة يا صاحب السمو.
لقد أذهلني الأمر أولا وحيرني، 210
بسبب أهميته البالغة وعواقبه التي يرتعد لها القلب،
حتى أسديت لكم المشورة الجسورة بعقد المجلس الحالي،
وإن كنت غير واثق منها كل الثقة،
ورجوت من سموكم سلوك السبيل الذي تسلكونه الآن.
الملك :
وبعد ذلك استشرتك أنت أيضا يا لورد كانتربري، 215
فأذنت لي بعقد الاجتماع الحالي، حتى دون أن أطلب منك ذلك.
ولم أترك أحدا من السادة الأفاضل في هذه المحكمة،
إلا استشرته وحظيت بموافقته شخصيا، بخط يده وخاتمه الشخصي.
وإذن فلتشرعوا في المحاكمة؛ إذ لا يحفزني إلى هذا العمل 220
أي كراهية مهما تكن ضئيلة للملكة، بل الأشواك الحادة
التي تخز ضميري، كما سبق لي أن بينت عند طرح أسباب المحاكمة.
وقسما بحياتي وكرامتي الملكية، إنكم لو أثبتم
أن شرعية زواجنا لا غبار عليها، 225
فسوف أقضي معها بقية عمري حتى الموت،
ولن أوثر على كاثرين مليكتنا أفضل مخلوق على ظهر الأرض.
الفصل الثاني، المشهد الأول؛ حيث يوجه دوق بيكنجهام خطبة الوداع من السفينة التي أعدت لنقله إلى مكان تنفيذ حكم الإعدام.
وهذا العرض الذي أخرجه هيربرت بيربوم تري
Beerbohm Tree
عام 1910م، في مسرح هيز ماجستي
His Majesty’s Theatre
يحتفظ بمشاهد الإبهار وعناصر الثراء البصري الحافلة التي اتسم بها تقديم المسرحية في القرن التاسع عشر.
كامبيوس :
أرجو أن يأذن مولاي فيسمح بتأجيل المحاكمة
بسبب غياب الملكة؛ فهذا ما تقضي به الإجراءات، 230
كما أرجو أن نسعى جادين لإقناع الملكة
بالرجوع عما اعتزمته من التقدم بطلب
إلى قداسة البابا.
الملك (جانبا) :
يبدو أن هؤلاء الكرادلة يعبثون بي.
إني أكره هذا التباطؤ والتسويف وغيره من ألاعيب روما. 235 (إلى كرانمر) اسمع يا كرانمر، أرجوك أيها العالم الفاضل
المخلص في خدمتنا أن تعود؛ فإنني أجد راحتي في القرب منك.
ولتنفض المحكمة، ولنرجع جميعا إلى القصر. (يخرجون بنفس الترتيب السابق.)
الفصل الثالث
المشهد الأول (لندن - جناح في القصر.) (تدخل الملكة ووصيفاتها منهمكات في العمل.)
الملكة :
اعزفي العود يا ابنتي؛ فالهموم ترين على نفسي،
وتكسوها الأحزان. شتتي الأحزان بغنائك إن استطعت ... هيا.
الوصيفة (تغني) :
أنغام عود أورفيوس،
كم انحنت لها الرءوس،
انظر تر الأشجار قد مالت غصونها من الطرب، 5
كما هوت ذرا الجبال بالثلوج نحوه من العجب،
وإن شدت ألحانه على المزمار،
هبت من الأرض الزهور والثمار،
وانداح نور الشمس والغيث الندي
حتى كأنا في ربيع سرمدي
كل الخلائق حين تسمع عزفه تصغي وتنشد،
بل إن موج البحر يرفع رأسه طربا ويرقد، 10
فعذوبة الأنغام قادرة على قتل الهموم بفنها،
حتى ينام الحزن في القلب الكليم أو يموت بشدوها ورنينها! (يدخل أحد السادة.)
الملكة :
ماذا وراءك؟ 15
السيد :
إذا سمحت جلالتك. إن الكاردينالين العظيمين ينتظران في
غرفة الاستقبال.
الملكة :
هل يريدان الحديث معي؟
السيد :
لقد طلبا مني إبلاغك بذلك يا مولاتي.
الملكة :
اطلب من صاحبي السعادة أن يتفضلا بالدخول. (يخرج السيد.)
ماذا يريدان مني الآن، وقد أصبحت امرأة ضعيفة مسكينة 20
محرومة من الرضا والعطف؟ أنا غير مستبشرة بهذه الزيارة.
لكنني إذا تأملت الموقف زال الخوف! فهما من رجال الدين الأفاضل،
ولا بد أن يسعيا في الخير.
ولكن ما كل من لبس القلنسوة راهب.
1 (يدخل الكاردينالان وولزي وكامبيوس.)
وولزي :
السلام على جلالتكم.
الملكة :
يا صاحبي الغبطة! إنكما تريان أنني أصبحت نصف ربة منزل،
وأتمنى أن أصبح ربة منزل كاملة قبل أن يحل بي أسوأ 25
ما أتوقع! ماذا تريدان أيها الكاهنان؟
وولزي :
إذا سمحت يا سيدتي الكريمة أن نختلي بك في غرفتك الخاصة،
فسوف نطلعك على ما جئنا من أجله.
الملكة :
بل تحدثا هنا، فأنا لم أفعل حتى الآن 30
ما لا يرضاه ضميري ويتطلب الحديث سرا أو الكتمان،
وليت النساء جميعا يستطعن أن يقلن ما أقول الآن
وبالصراحة نفسها، يا أيها اللوردان.
إنني أسعد حالا من الكثيرين لأنني لا أكترث
إذا كانت ألسنة الناس قد حكمت على أفعالي 35
وشاهدتها كل عين، أو حتى إذا هاجمها الحساد
وأشاعوا سوء الظن بها، ما دمت واثقة من طهارتي ونقائي،
فإذا كان ما جئتما من أجله يتعلق بأخلاقي وشرفي
فأفصحا عنه دون خوف؛ فالحقيقة تحب الصراحة.
وولزي (باللاتينية) :
أيتها الملكة الفاضلة السامية
إن عقولنا لا أثر فيها إطلاقا لخبث أو حقد
2
40
الملكة :
أرجوك لا تتحدث باللاتينية، يا أيها اللورد الكريم؛
فلم أهمل في تعلم اللغة التي عشت في كنفها،
منذ أتيت إلى إنجلترا، فاستعمال لغة غريبة
يزيد من غموض قضيتي، ويضفي عليها الشك والريبة.
أرجوك أن تتحدث بالإنجليزية، والوصيفات من حولي 45
سيظهرن امتنانهن إذا قلت الحقيقة عن سيدتهن
إكراما وإقرارا لحقها المهضوم! وصدقني إذا قلت لك
إنني تعرضت لظلم شديد، أيها اللورد الكاردينال.
مهما يكن الذنب الذي يتهمونني باقترافه عامدة،
فإنني قادرة على إثبات براءتي بالإنجليزية.
وولزي :
سيدني الشريفة، يؤسفني أن أرى أن نزاهتي، 50
والتفاني الذي أظهرته في خدمة صاحب الجلالة
وفي خدمتكم، يؤديان إلى مثل هذه الريبة العميقة،
بينما لا أكن لكما إلا أصدق النوايا!
لم نأت إلى هنا لتوجيه اتهام أو لتلويث شرفكم
الذي يباركه كل لسان شريف، ولا لنفتح أمامكم 55
سبيلا من سبل الأحزان؛ فلديك منها ما يزيد عن الطوق!
لكننا أتينا لنعرف رأيك في الخلاف بينك وبين
صاحب الجلالة، فهو خلاف له عواقبه الوخيمة،
ولنقدم لك باعتبارنا أحرارا شرفاء،
آراءنا المنصفة لك وللقضية التي نسعى فيها. 60
كامبيوس :
مولاتي ذات الشرف السامي!
إن اللورد يورك،
3
بما طبع عليه من النبل والحمية والطاعة
التي ما يزال يكنها لجلالتكم، قد تناسى شأن الكرماء
إهانتك الأخيرة له، وطعنك في صدقه وفي شخصه،
طعنا فاق كل حدود، وأتى معي لتقديم خدماته 65
ومشورته، آية على صفاء النفوس!
الملكة (جانبا) :
يريدان إيقاعي والوشاية بي! (إليهما) شكرا لكما على صدق النية يا أيها السيدان!
فحديثكما حديث شرفاء، وأدعو الله أن تؤكدا صدق ذلك!
لكنني لا أعرف كيف أجيبكما على هذه المسألة التي قدمتماها
بهذه الفجاءة إلي، وهي مسألة تمس شرفي بل وتمس حياتي 70
أيضا، فأنا لا أتمتع بذكاء خارق، وكيف أقدر على ذلك
وأنتما رجلان يتمتعان بمنزلة سامية وعلم فياض؟
الحق أنني عاجزة عن الإجابة، خصوصا لأنني كنت منهمكة
في أعمالي المنزلية مع وصيفاتي، ويعلم الله أنني لم أكن
أتوقع وصولكما ولا أفكر في هذا الموضوع؛ 75
ولذا أرجوكما، إكراما لمنزلتي السابقة، أن تمهلاني.
إنني أشعر أن عظمة مكانتي في النزع الأخير،
وأرجو أن تمهلاني حتى أنظر في أمري وأطلب المشورة؛
فقد انصرف عني الأصدقاء وانقطع حبل الأمل!
وولزي :
مولاتي، إنك تظلمين حب الملك لك بهذه المخاوف؛ 80
فآمالك وأصدقاؤك لا حد لهم ولا نهاية!
الملكة :
ما أقل جدوى الأصدقاء لي في إنجلترا!
هل تظنان أن إنجليزيا كائنا من كان،
بجرؤ على تقديم المشورة لي؟
وهل تظنان أن أي صديق مهما بلغت جرأته، 85
ومهما تجاسر على قول الحق والتزام الأمانة،
يستطيع أن يقدم مشورة مخالفة لرأي جلالة الملك،
ثم يظل في قيد الحياة بين الرعية؟ لا يا أيها الصديقان!
إن الذين يقدرون آلامي وعذابي، والذين أثق بهم حقا،
لا يعيشون بيننا، بل إنهم (مع كل عزاء وسلوى لي) 90
بعيدون عنا. إنهم في وطني الأصلي أيها السيدان!
كامبيوس :
ليتك يا صاحبة الجلالة تطرحين عنك الهموم،
وليتك تتقبلين مشورتي.
الملكة :
وما هي يا سيدي؟
كامبيوس :
أن تضعي صلب قضيتك في أيدي الملك الرحيمة،
فقلبه ينبض بالحب وهو كريم بالغ الكرم.
وهذا أفضل كثيرا لشرفك ولقضيتك، 95
ويعفيك من العار الذي قد يلحق بك،
إذا أجريت المحاكمة ولم يحكم القضاة لصالحك.
وولزي :
لقد أصاب.
الملكة :
إنكما تشيران علي بما ترغبان فيه وهو هلاكي!
أهذه هي المشورة التي تقضي بها المسيحية؟
عار عليكما. ما تزال السماء فوق الجميع، 100
وبها قاض لا يستطيع ملك أن يؤثر في حكمه!
كامبيوس :
إنك تخطئين الحكم علينا بهذا الغضب.
الملكة :
بل المزيد من العار عليكما! كنت أحسب أنكما من رجال الدين،
وأنكما تتحليان بأعظم الفضائل، لكنني أقسم بحياتي
إنكما أقرب إلى التحلي بالكبائر
والقلب في جوفكما أجوف!
فليعالج كل منكما قلبه أولا! 105
أهذه هي السلوى التي تحملانها لي؟
أهذا هو الدواء الذي أتيتما به لامرأة تعسة؟
لامرأة ضاعت بينكم، وضحكتم منها واحتقرتموها؟
أنا أكثر رحمة منكم، فلن أدعو عليكما
بنصف ما أنا فيه من الشقاء! ولكنني قد حذرتكما!
فانتبها واحذرا كي لا تنقض على رءوسكما 110
أثقال أحزاني.
وولزي :
مولاتي، أنت مشتتة النفس وحسب،
تحيلين الخير الذي نقدمه لك إلى شر الحسد!
الملكة :
بل إنكما تحيلانني إلى عدم! الويل لكما،
والويل لكل الأدعياء الكاذبين! 115
فإذا كنتما حقا تتحليان بالإنصاف والشفقة،
وكنتما من رجال الدين حقا لا مجرد أردية كنسية،
فلم أشرتما علي بأن أسلم زمام قضيتي العليلة
لمن يكرهني؟ لقد هجرني في المضجع مثلما هجرني حبه
منذ أمد بعيد! لقد تقدم بي العمر أيها السيدان، 120
وكل ما يربطني به الآن هو الطاعة،
فما الذي يمكن أن يصيبني الآن
أكثر من هذا الشقاء؟ إنكم مهما فكرتم وتدبرتم
فلن تزيدوا شقائي عما هو عليه.
كامبيوس :
الواقع أهون مما تصوره مخاوفك.
الملكة :
فلأدافع عن نفسي ما دامت الفضيلة قد عدمت كل صديق! 125
ألم أكن طول حياتي زوجة مخلصة؟!
وأقول بلا فخر إنني ما مستني الشكوك يوما ما!
ألم أبادل الملك حبه بكل جوارحي؟ ألم أضعه في حبي
في منزلة تلي السماء؟ ألم أكن مطيعة له؟ 130
ألم أعامله بحب يقترب من التقديس؟
بل كدت أنسى صلواتي مرضاة له؟
أيكون ذلك جزائي بعد كل ما فعلت؟
هذا عين الخطأ يا أيها السيدان.
إذا وجدتما مثلي زوجة مخلصة لزوجها،
زوجة لم تحلم يوما بفرحة تجاوز فرحة إرضائه، 135
فسوف أضيف إلى قصارى جهودها شرفا آخر،
وهو الصبر الجميل!
وولزي :
إنك لا تدركين الخير الذي نرجوه لك.
الملكة :
سيدي، كيف أجرؤ على وصم نفسي بالذنب،
أو التنازل راضية عن اللقب السامي الذي اكتسبته، 140
عندما تزوجني مولاك؟ لن يحرمني من كرامتي وشرفي إلا الموت!
وولزي :
أرجو أن تنصتي إلى ما أقول.
الملكة :
ليتني ما وطئت أبدا أرض إنجلترا،
ولا شعرت بالملق الذي ينمو على سطحها.
إن وجوهكم مثل وجوه الملائكة،
أما قلوبكم فلا يعلم ما فيها إلا الله! 145
ترى ما سيكون من أمري الآن ؟ أنا التعسة!
إني أشقى امرأة تعيش على سطح الأرض!
وا أسفا عليكن أيتها المسكينات!
أين اختفت بسمات الحظ لكن؟
لقد تحطمت سفينتي على صخرة هذه المملكة
حيث انعدمت الشفقة، واختفى الأصدقاء،
وضاع الأمل، ولم يعد لي قريب يبكي حظي، 150
بل ولا أكاد أجد قبرا يضم رفاتي!
كنت مثل زهرة تزهو في الحقل، سيدة للزهور،
والآن أحني مثلها رأسي فأذوي وأموت!
وولزي :
لو عرفت يا صاحبة الجلالة مدى صدق ما نبغيه لك من خير،
لرضيت واسترحت. ما الذي يدعونا يا سيدتي الفاضلة، 155
إلى أن نظلمك في هذه القضية؟ إن منزلتنا الدينية
وعملنا بالدين لا يسمح لنا بذلك، فمهمتنا أن نشفي الآلام
لا أن نبذر بذورها! أرجوك أن تتأملي ما أنت بصدده
وكيف يمكن أن تسيئي إلى نفسك!
إنك بذلك سوف تجعلين الملك ينفر منك تماما؛ 160
فقلوب الأمراء تعشق الطاعة وتحتضنها وتقبلها!
ولكنها تقابل العناد بالغضب والثورة،
وبفورة كأنها فورات العواصف،
أنا أعلم أن طبعك رقيق نبيل، 165
ونفسك هادئة مطمئنة، فأرجو أن تثقي فينا
وفي عملنا باعتبارنا دعاة سلام وصلح،
فنحن أصدقاء وخدم!
كامبيوس :
لسوف يثبت لك ذلك يا مولاتي.
إنك تظلمين فضائلك بمخاوف المرأة الواهنة!
والنفس السامية التي من الله عليك بها، 170
لا بد أن تطرح عنها هذه الشكوك،
وأن تنبذها نبذ العملات المزيفة.
إن الملك يحبك فحذار أن يضيع ذلك الحب من يدك.
أما نحن، فإذا شئت أن تولينا ثقتك في هذه القضية،
فسوف نبذل قصارى جهدنا لخدمتكم.
الملكة :
افعلا ما تريدان أيها السيدان! وأرجو منكما العفو 175
إذا كنت قد أسأت إليكما!
تعرفان أنني امرأة تفتقر إلى الحكمة اللازمة
للإجابة اللائقة على أمثال معاليكما!
أرجوكما أن تعبرا عن شعوري إلى جلالته؛
فما يزال يملك ناصية فؤادي،
وسأظل أدعو له بالخير ما دمت في قيد الحياة.
تفضلا أيها الأبوان المحترمان وقدما مشورتكما لي.
إنها الآن امرأة تتوسل وتسأل الفضل!
وما كان يجول بخاطرها عندما وطئت قدماها هذا البلد،
أن تشتري كرامتها بذلك الثمن الباهظ! (يخرجون.)
المشهد الثاني (غرفة في القصر.) (يدخل دوق نورفوك ودوق سافوك، ولورد سري، وكبير الأمناء.)
نورفوك :
إذا توحدت كلمتكم وجمعتم شكاياتكم معا،
وثابرتم في تقديمها وإقامة الحجة عليها،
فلن يقوى الكاردينال على الصمود إزاءها.
أما إذا أضعتم هذه الفرصة السانحة،
فأؤكد لكم أنكم سوف تتعرضون للمزيد من المهانة والعار، 5
إلى جانب ما سبق أن لحقكم!
سري :
يسعدني أن أجد أدنى فرصة،
أتمكن فيها من الثأر لما أصاب صهري الدوق.
سافوك :
هل سلم أحد النبلاء من إهانته له،
أو على الأقل من إهماله الشديد له؟ 10
ومتى كان يعمل حسابا لأي نبل سوى نبل ذاته هو؟
كبير الأمناء :
أيها اللوردات، إنكم تقولون ما تريدون.
أما أنا فأعلم تماما ما يستحق أن يناله منكم ومني،
لكنني أخشى كثيرا ألا نستطيع أن تنال منه الآن
مع وجود الفرصة السانحة! فإذا لم تستطيعوا 15
أن توصدوا سبيل وصوله إلى الملك،
فلا تحاولوا أن تناولوا منه مطلقا؛
فإن له لسانا يسحر به لب الملك!
نورفوك :
لا تخش منه بعد اليوم. لقد بطل مفعول ذلك السحر؛
إذ إن الملك قد اكتشف أشياء تدينه، 20
ومن شأنها أن تفسد طعم العسل الذي كان يقطر من لسانه،
وتكسوه بالمرارة إلى الأبد. لقد اكتسب سخط الملك
الذي لن يزول.
الملك هنري الثامن والكاردينالان في العرض المسرحي الذي أخرجه تريفور نن
Trevor Nunn
عام 1969م، لفرقة شيكسبير الملكية عام 1969م، قام بدور الملك دونالد سندن
Sinden ، وبدور الكاردينال وولزي الفنان بروستر ميسون وبدور الكاردينال كامبيوس الفنان أنتوني بيدلي
.
الفصل الثاني، المشهد الرابع؛ صورة العرض المسرحي الذي أخرجه ج. ب. كيمبل
Kemble
في مسرح كوفنت جاردن
Govent Garden
عام 1816م، رسمها الرسام ج. ه. هارلو
G. H. Harlow
قامت الممثلة سارة سيدونز بدور الملكة كاثرين، ولعب المخرج نفسه دور الكاردينال وولزي (ويبدو في أقصى اليسار جالسا) ولعب تشارلز كيمبل دور كرومويل (في وسط الصورة).
سري :
سيدي، ما أحلى أن أسمع هذه الأنباء في كل ساعة!
نورفوك :
صدقني. إنها الحقيقة؛ 25
ففيما يتعلق بالطلاق، تكشفت كل تدابيره المعادية،
فظهر بمظهر لا أرجوه لغير عدوي.
سري :
كيف تكشفت أحابيله؟
سافوك :
بطريقة بالغة الغرابة !
سري :
وكيف كان ذلك؟
سافوك :
تصادف أن ضلت رسائله إلى البابا طريقها، 30
ووصلت إلى الملك، واطلع عليها،
وعلم منها أن الكاردينال توسل إلى قداسة البابا،
أن يؤجل إصدار حكمه في قضية الطلاق،
قائلا إن الطلاق لو حدث فلن يكون لائقا
لأن الملك، على حد تعبير الكاردينال، قد وقع في حب فتاة 35
من وصيفات الملكة، وهي الآنسة آن بولين.
سري :
وهل عرف الملك ذلك؟
سافوك :
صدقني.
سري :
وهل سيفضي ذلك إلى أي نتيجة؟
كبير الأمناء :
لقد تمكن الملك من إدراك سبل الكاردينال
في التسلل والتخفي لخدمة أغراضه الخاصة،
ولكن حيل الكاردينال لم تفلح في هذه المسألة؛ 40
لأنه أتى بالدواء بعد وفاة المريض؛
إذ إن الملك قد تزوج الحسناء بالفعل!
سري :
ليته يتزوجها حقا.
سافوك :
بل تزوجها فعلا. ولقد تحققت أمنيتك واسعد بها!
4
سري :
ما أسعدني حقا بهذا الزواج!
سافوك :
آمين آمين!
نورفوك :
وآمين من الجميع! 45
سافوك :
لقد أصدر الأمر بعقد حفل التتويج،
ولكن الأمر ما يزال حديث العهد،
ويجب ألا يصل إلى أسماع بعض الناس.
ولكنها أيها السادة فتاة رائعة كاملة العقل والجمال،
وأنا واثق أن البركة سوف تحل على البلد منها، 50
وأن ذكرها سوف يخلد.
سري :
ترى هل يتغاضى الملك عن رسالة الكاردينال؟
لا قدر الله!
نورفوك :
آمين آمين!
سافوك :
ولا يمكنه أن يتغاضى عنه؛ فكثير من الزنابير تطن في أنف الملك
ولن يتأخر موعد اللسعة! 56
لقد انسل الكاردينال كامبيوس عائدا إلى روما دون إذن،
وترك قضية الملك معلقة دون حسم!
بل إنه ذهب مندوبا عن الكاردينال
ليساعد في تنفيذ المؤامرة! وأؤكد لكم 60
أن الملك عندما سمع بذلك ثار غضبه.
كبير الأمناء :
أدعو الله أن يزيد غضبه ويثور ثورة أكبر!
نورفوك :
ولكن قل لي يا سيدي اللورد،
متى يعود كرانمر؟
سافوك :
لقد سبقته إلى إنجلترا آراؤه والآراء التي جمعها من الخارج،
5
والتي تبرر طلاق الملك، استنادا إلى فتاوى العلماء
6
65
في كل البلدان المسيحية تقريبا! وأعتقد أننا سنسمع قريبا
الإعلان عن زواجه الثاني، وعن حفل تتويج الملكة الجديدة.
أما كاترين فلن يطلق عليها لقب الملكة بعد الآن.
سوف تسمى الأميرة الأرملة، أرملة الأمير آرثر! 70
نورفوك :
إن كرانمر هذا رجل قدير،
وقد تجشم متاعب عديدة في قضية الملك الحالية.
سافوك :
هذا صحيح. وسوف يكافأ على ذلك بتعيينه
رئيسا للأساقفة.
7
نورفوك :
هذا ما سمعته.
سافوك :
بل هو الحق. (يدخل وولزي وكرومويل.)
ها هو الكاردينال!
نورفوك :
انظروا، انظروا. إنه حزين مهموم. 75
وولزى :
الرسائل يا كرومويل، هل سلمتها للملك؟
كرومويل :
إلى يده شخصيا وهو في غرفة نومه.
وولزي :
وهل اطلع على ما جاء في الرسائل؟
كرومويل :
فضها على الفور، وقرأ أول رسالة،
وقد ارتسمت على وجه سمات الجد والاهتمام، 80
ثم أصدر الأمر إليك بالمثول بين يديه هذا الصباح.
وولزي :
هل استعد للخروج من مخدعه؟
كرومويل :
أظنه الآن قد استعد للخروج. (يخرج كرومويل.)
وولزي :
اتركني قليلا الآن. (جانبا) لا بد أن يتزوج دوقة ألانسون 85
أخت ملك فرنسا، لا بد أن يتزوجها!
آن بولين؟ لا لا ! أنا لا أحبذ زواجه من أمثالها!
الزواج يقتضي ما هو أكثر من الحسن والجمال! بولين؟
لا لا، لن نصاهر آل بولين، أتوقع أن تصلني رسالة
على وجه السرعة من روما. مركيزة بمبروك؟ معقول؟ 90
نورفوك :
إنه مستاء ساخط.
سافوك :
ربما سمع أن الملك يشحذ سكين غضبه عليه!
سري :
أسأل الله أن يزيد من حدة سنها القاطع،
إحقاقا للحق والإنصاف.
وولزي (جانبا) :
إحدى وصيفات الملكة السابقة؟
هل تصبح بنت أحد الفرسان سيدة لسيدتها؟
ملكة على ملكتها؟ إن هذه الشمعة لا تبعث ضوءا وهاجا 95
لا بد أن أنظفها من السناج وبعدها ستنطفئ!
8
ماذا يهم لو علمت أنها فاضلة كريمة الخصال؟!
فالواقع الذي نعلمه أيضا هو أنها لوثرية حقود،
وليس من صالح قضيتنا أن تحتل مكانها
في قلب ملكنا وهو صعب المراس، 100
وإلى جانب ذلك يبرز لي مارق بل مارق أكبر
هو كرانمر! لقد تسلل حتى فاز بالحظوة لدى الملك وأصبح موضع ثقته العمياء!
نورفوك :
إن شيئا ما يقلقه قلقا شديدا! (يدخل الملك وهو يقرأ في قائمة بصحبة لافل.)
سري :
أرجو أن يكون أمرا يقرض ويقطع نياط قلبه! 105
سافوك :
الملك! الملك!
الملك :
ما هذه الأكوام من الثروة التي جمعها لنفسه؟!
وما هذه المبالغ الباهظة التي ينفقها كل ساعة؟!
كيف استطاع، مهما يكن دخله، أن يجمع هذه الأموال؟
أيها اللوردات، ألم تشاهدوا الكاردينال؟ 110
نورفوك :
مولاي، كنا واقفين هنا فلاحظنا أن ذهنه
يموج بقلق واضطراب غريب! كان يعض شفته
وكان ينتفض ويسير ثم يقف بغتة،
ويحملق في الأرض، ثم يضع أصبعه على فوده
ثم ينطلق بخطوات سريعة، ويقف من جديد،
ثم يضرب صدره بشدة، ويصوب بصره إلى القمر!
لقد شاهدناه في أوضاع بالغة الغرابة!
الملك :
محتمل، بل متوقع! فإن في عقله ثورة! 120
فقد أرسل هذا الصباح إلي بعض أوراق الدولة لأطلع عليها
بناء على طلبي، فهل تعرفون ما وجدت؟
لقد وضع بينها سهوا ولا شك قائمة بممتلكاته!
آنية فضية، وأموالا طائلة، ومتاعا باهظ الثمن، 125
ورياشا منزليا غاليا، تفوق قيمته ما يجوز أن يتوافر
لأحد من رعيتي !
نورفوك :
إنها إرادة الله! إن ملاكا وضع تلك القائمة
بين الرسائل حتى تمتع عينك بمرآها!
الملك :
لو كنا نظن أن تأملاته تتجاوز حطام الدنيا الزائلة، 130
وتتركز في الأمور الروحانية، لتركناه غارقا في تأملاته!
ولكن أفكاره للأسف تنحصر في كل ما ينتمي للأرض،
وما هو غير جدير بأي تأملات جادة! (يأخذ الملك مكانه ويتهامس مع لافل الذي يذهب إلى الكاردينال.)
وولزي :
فلتغفر السماء لي، وليبارك الله مولاي إلى الأبد! 135
الفصل الثالث، المشهد الثاني؛ الملك هنري الثامن يقدم وثيقة إدانة الكاردينال وولزي إليه. من طبعة الأعمال الكاملة لشيكسبير التي حررها رو
Rowe
عام 1714م، ويظهر رجال البلاط في الخلفية في أزياء رجال بلاط القرن الثامن عشر.
الملك :
يا سيدي الكريم، لقد حظيت بالكثير من نعم السماء،
وذهنك حافل بقائمة طويلة من الشمائل الكريمة،
ولا شك أنك كنت تتأملها الآن وتمعن الفكر فيها!
ولا تكاد تتوافر لك لحظة قصيرة تختلسها من وقت العبادة، 140
كيما تقضيها في مراجعة حساباتك الأرضية!
ولا شك أنك إذن مهمل في شئون الاقتصاد،
ويسعدني أنك تشاركني هذه الصفة.
وولزي :
سيدي، إني أخصص للواجبات الدينية ما يلزمها من الوقت، 145
وأخصص جانبا آخر من وقتي للمهام التي كلفت بها في الدولة،
كما تقتضي الطبيعة مني وقتا أقضي به حق البدن،
ولما كنت ابنا واهنا للطبيعة، أنتمي لإخوتي الفانين،
فلا مناص لي من تخصيص وقت لذلك!
الملك :
أحسنت القول!
وولزي :
وأتمنى أن يربط مولاي أقوالي الحسنة 150
بأفعالي الحسنة، على نحو ما سأثبت له!
الملك :
أحسنت القول ثانيا!
والقول الحسن لون من الفعل الحسن
ولو أن الأقوال ليست أفعالا!
كان والدي يحبك، وكان يقول إنه يحبك، 155
وأثبت صدق أقواله بأفعاله!
وكنت منذ جلوسي على العرش
أنزلك منزلة الحب في قلبي،
ولم أكتف بتوليتك منصبا تجني منه الأرباح الطائلة،
بل كنت أقتطع من ممتلكاتي لإسباغ النعم عليك!
وولزي (جانبا) :
ترى ماذا يعني ذلك؟ 160
سري (جانبا) :
ألهب يا رب هذه القضية!
الملك :
ألم أجعلك الرجل الأول في المملكة؟
وأرجو أن تقول لي إذا كنت صادقا فيما أقول ،
فإذا اعترفت بصدقي فقل لي إذا ما كنت مدينا لي
أم لا؟ ماذا تقول؟ 165
وولزي :
إني أعترف يا مليكي أن نعمك وأفضالك الملكية،
التي ما فتئت تمطرني بها وتغدقها علي في كل يوم،
كانت أكثر مما يمكن أن أحققه بجهودي مهما تكن،
وأكثر مما أستحق! كانت جهودي دائما تقصر عن تحقيق غاياتي
وإن كنت أبذل حقا كل ما أستطيع. 170
وإذا كانت جهودي قد عادت علي ببعض الخير،
فإن غاياتي كانت دائما ترمي إلى ما فيه الخير لشخصكم المقدس
ورفاهية الدولة وثرائها.
وليس في وسعي أن أقدم جزاء على هذه النعم العظيمة
التي تغدقونها علي، أنا الضعيف الذي لا أستحقها، 175
إلا آيات الشكر العامرة بالولاء،
والدعوات التي أرفعها إلى السماء من أجلكم،
والإخلاص الذي ما برح بنمو، وسيظل ينمو
حتى يذوي ويموت في برودة شتاء الموت!
الملك :
إجابة حسنة!
وهي تصور أحد الرعايا الذين يدينون لنا 180
بالولاء والطاعة، والذي يجد في شرف ما يفعل
خير جزاء على فعله، مثلما يجد الوضيع في سوء سمعته
عقابا كافيا على فعله! وأتصور أنني
إذا كنت قد أغدقت النعم عليك بهذه اليد المعطاءة،
وأسبغ قلبي الحب عليك، وأمطرت سلطتي عليك مراتب السمو
والشرف، أكثر مما أنعمت به على غيرك، 186
فكان ينبغي ليدك وقلبك وعقلك،
وكل طاقة لديك، أن تناصرني وتقف إلى جواري،
هذا ما يقضي به الواجب أولا ويمليه الحب ثانيا!
وولزي :
أعترف أنني كنت دائما أسعى لخير جلالتكم 190
أكثر من السعي لخدمة نفسي. كان هذا شأني وسيظل كذلك
وحتى لو أهمل العالم كله واجبه نحوكم،
وطرحها وراءه ظهريا، وحتى لو تكاثرت الأخطار
ففاقت كل ما يتصوره العقل ويرسمه الفكر 195
من صور بشعة فزعة منكرة،
فإن واجبي سوف يظل ثابتا كالصخرة الصامدة
يلاطم الموج الثائر! وإذا ثار البحر وفار
ظل واجبه لكم سدا منيعا لا يتزعزع!
الملك :
ما أنبل أقوالك! لاحظوا أيها اللوردات 200
أن له صدرا يعمره الإخلاص؛ فقد شاهدتموه
وهو يفضي بمكنون هذا الصدر لكم!
اقرأ إذن هذه الورقة، فإذا لم تتأثر شهيتك
بعد قراءتها، فتفضل وتناول إفطارك! (يعطي الملك ورقة للكاردينال ثم يعبس في وجهه، ثم يخرج، بينما يتجمع النبلاء حوله يتهامسون باسمين.)
وولزي :
ما معنى ذلك؟ ما هذا الغضب المفاجئ؟
ماذا فعلت حتى أستحق ذلك؟ لقد تركني 205
والعبوس في وجهه كأن الهلاك يتواثب من عينيه!
هكذا ينظر الأسد الغاضب إلى الصياد الجسور،
الذي أصابه بجرح قبل أن يفترسه ويمحقه!
لا بد أن أقرأ هذه الورقة،
أخشى أنها ستحكي قصة غضبه!
هذا صحيح! لقد أهلكتني هذه الورقة! 210
إنها قائمة بحساب الثروة الطائلة التي جمعتها
تحقيقا لأغراضي الخاصة، ومنها الوصول إلى كرسي البابوية،
ورشوة أصدقائي في روما! يا للإهمال الشديد!
إنه لا يتأتى إلا من أحمق مأفون!
أي شيطان رجيم جعلني أضع هذه الورقة 215
التي تحمل سري الأكبر في رزمة الأوراق التي أرسلتها للملك؟
ألا توجد وسيلة لعلاج الأمر؟
ألا توجد حيلة جديدة أستبعد بها هذا الموضوع من ذهنه؟
أعرف أنها سوف تثير ثائرته، ولكن أمامي سبيلا
إذا ولجته وأحكمت السير فيه، رغم تجهم القدر،
فقد يعيدني إلى سابق منزلتي! ولكن ما هذا؟ 220
رسالة إلى البابا؟ إنه الخطاب - قسما بحياتي -
الذي يتضمن كل ما كتبته إلى قداسته!
الآن ضاع الأمل، وداعا أيها المجد.
لقد وصلت إلى أعلى ذروة من ذرا العظمة
وطرت حتى بلغت سمت سماء المجد،
وها أنا ذا أهوي من حالق إلى أفق الأفول والغروب! 225
إنني سأهوي مثل النجم الثاقب حين يهوي في المساء،
ثم لن تبصرني عين إنسان! (يدخل دوق نورفوك، وسافوك، وسري وكبير الأمناء.)
نورفوك :
اسمع أيها الكاردينال ما أمر به الملك!
إنه يأمرك بتسليم خاتم الدولة إلينا على الفور،
وبتحديد إقامتك في «أشر هاوس»،
9
230
وهو منزل لورد ونشستر، حتى يبعث إليك
بأوامر جديدة!
وولزي :
مهلا مهلا! أين نص الأمر الملكي الذي تحملونه؟
ليس للكلمات من سلطة في مسألة بهذه الخطورة!
سافوك :
من ذا الذي يجرؤ على مخالفتها
وهي التي تعبر عن إرادة ملكية نطق بها صراحة؟ 235
وولزي :
بل أجرؤ على مخالفتها، بل وإنكار صحتها،
حتى أجد في يدي ما هو أصدق من الإرادة،
أو الكلمات التي تعبر عما هو أكثر، وأعني به الحقد.
أيها اللوردات الذين يتدخلون فيما لا يعنيهم!
أرى الآن بوضوح من أي معدن غليظ خلقتم،
من الحسد! إنكم تحرصون على متابعة عيوبي 240
كأنها تشبع نهمكم! وما أشد ما تفرحون وتسعدون
بكل ما من شأنه القضاء على مكانتي!
سيروا إذن في سبل الحقد والحسد يا رجال الخبث!
وقد وجدتم في الدين ما يبرر سلوك هذا المسلك،
ولا شك أنكم سوف تلقون الجزاء الوفاق آخر الأمر! 245
إن خاتم الدولة الذي تلحون في طلبه
كان الملك قد سلمني إياه بيديه، وهو سيدي وسيدكم،
وأمرني أن أتمتع بما يخوله لي من المكانة والشرف
طول حياتي، وأكد هذا الأمر الكريم بمراسيم رسمية،
فمن ذا الذي يستطيع انتزاعه مني؟ 250
سري :
الملك الذي أعطاك إياه!
وولزي :
يجب أن يأخذه بنفسه إذن!
سري :
إنك خائن متكبر أيها القس!
وولزي :
بل أنت كاذب أيها اللورد المتكبر!
منذ أربعين ساعة لا أكثر
لم يكن سري يجرؤ على التفوه بهذا،
ولو أحرق لسانه!
سري :
إن طمعك يا كتلة من الخطيئة القرمزية
10
255
قد حرم هذه البلد المنكوبة من دوق بكنجهام الشريف
وهو صهري العظيم! ولم تكن رءوس إخوانك الكرادلة،
حتى إذا أضيفت إلى رأسك وخير ما فيك،
تساوي شعرة واحدة من شعر رأسه!
لعن الله سياستك! لقد أرسلتني نائبا للملك في أيرلنده
11
فأبعدتني حتى لا أتمكن من إنقاذه،
أبعدتني عن الملك، وعن كل من كان بيده
أن يرحمه وينفي التهمة التي وجهتها إليه!
أما الخير العظيم في فؤادك فقد تجلى في شفقة ربانية؛
إذ محوتم خطيئته بسيف الجلاد!
وولزي :
هذا محض افتراء وكذب صريح! هذه هي إجابتي 265
على اتهامات ذلك اللورد الثرثار لشرفي!
لقد نال الدوق ما يستحقه بحكم القانون،
أما براءتي من الحقد عليه والتسبب في موته
فيشهد عليها المحلفون الأشراف،
وتشهد عليها جريمته الشنعاء!
أيها اللورد، لو كنت ممن يثرثرون مثلك 270
لقلت لك إن افتقارك إلى الصدق
لا يعدله إلا افتقارك إلى الشرف!
وإنني على استعداد لإثبات إخلاصي وولائي للملك،
وهو سيدي العظيم، في مواجهة مع شخص أعقل وأحكم من سري
وكل من يحبون حماقاته!
سري :
قسما بروحي إن ثوبك الطويل أيها القس 275
هو الذي يحميك مني! وإلا لشعرت بسيفي البتار
يريق دم حياتك. أيها اللوردات،
هل تقدرون على احتمال هذه الغطرسة؟
ومن فم هذا الشخص؟ إننا لو التزمنا الوداعة
وتحملنا إهانة هذه الكتلة القرمزية، 280
نكون قد ودعنا كرم المحتد إلى الأبد!
هيا! أبهرنا بقبعتك القرمزية وأوقع بنا في الفخ
مثلما نفعل عند اصطياد القبرة!
12
وولزي :
إن أحشاءك لا تقبل الخير كأنه سم زعاف!
سري :
تقصد الخير الذي يتجلى في ابتزاز أموال الأرض كلها،
وجمعها في قبضة رجل واحد هي قبضتك أيها الكاردينال؟
تقصد الخير الذي يتجلى في الرسائل التي اطلع عليها الملك قبل
إرسالها إلى البابا، والمناهضة لصاحب الجلالة؟
إنني سأعلن على الملأ خبر هذا الخير، ما دمت تستفزني!
اسمع يا لورد نورفوك!
13
بحق شرف محتدك
واحترامك للصالح العام، وما أصاب الأشراف من إهانة، 290
وبحق إعزازنا لأولادنا الذين لن يصبحوا من السادة أبدا،
إذا استمر هذا الرجل في قيد الحياة. حلفتك بحق ذاك كله
أن تقوم بإعداد قائمة شاملة بخطاياه،
وما ارتكبه من آثام في حياته! (إلى وولزي) لسوف أفزعك فزعا يزيد عن رهبة
ناقوس القداس، عندما أذيع على الملأ ما فعلت، 295
عندما كانت الغادة السمراء في أحضانك،
تلثمك وتلثمها أيها الكاردينال!
وولزي :
ما أشد ما يدفعني إلى كراهية هذا الرجل!
ولكن التزامي بحب الخير يحول بيني وبينه.
نورفوك :
إن قائمة الخطايا يا سيدي اللورد قد وقعت في يد الملك،
ولكنني أقول وحسب إنها جرائم شنيعة! 300
وولزي :
ستظهر براءتي ناصعة لا تشوبها شائبة عندما يدرك الملك صدقي.
سري :
لن ينجيك ذلك، وأنا أحمد الله على ذاكرتي القوية؛
إذ ما أزال أذكر بعضها، وسوف أذيعه على الملأ!
فإذا علت حمرة الخجل وجهك أيها الكاردينال،
واعترفت بأنك مذنب،
كنت تتمتع حقا ببعض الصدق مع النفس! 305
وولزي :
قل ما تشاء سيدي؛ فأنا قادر على دحض أبشع اتهاماتك!
أما إذا علت حمرة الخجل وجهي، فذاك لأنني أرى نبيلا
يفتقر إلى آداب السلوك.
سري :
أن أفتقر إلى آداب السلوك أفضل عندي
من الافتقار إلى الرشد! وهاك ما فعلته!
إنك أولا سعيت دون موافقة الملك ودون علمه
14
310
إلى أن تكون نائبا للبابا، وبالسلطة التي اكتسبتها بفضل ذلك المنصب
قطعت أطراف السلطة القضائية المخولة للأساقفة جميعا!
نورفوك :
ثم إنك كنت توقع دائما رسائلك إلى روما وإلى
الأمراء الأجانب بإمضاء مهين للملك هو: «أنا والملك»
وهو ما يوحي بأن الملك خادم لك! 315
سافوك :
ثم إنك عند نهوضك بمهمة السفير إلى الإمبراطور،
تجاسرت وحملت معك، دون علم الملك أو المجلس،
خاتم الدولة إلى منطقة فلاندرز!
سري :
كما أرسلت وفدا كبيرا إلى جريجوري دي كاسادو 320
ليبرم معاهدة بين جلالته وبين فيرارا،
دون أن يعرب الملك عن رغبته في ذلك،
ودون أن يأذن لك المجلس بها!
سافوك :
وكذلك دفعك الطموح إلى أن تأمر بطبع صورة قبعتك الكهنوتية على نقود الملك! 325
سري :
ثم إنك أرسلت إلى روما أموالا لا تحصى،
أترك لضميرك تأويل مصادرها،
حتى تمهد سبل الحصول على ألقاب المجد والمراتب الرفيعة
مما جر الخراب على المملكة جمعاء.
وتوجد في القائمة جرائم أخرى كثيرة، 330
ولكن ما دمت أنت الذي ارتكبتها،
وما دامت بهذه الفظاعة والبشاعة،
فلن أدنس فمي بذكرها!
كبير الأمناء :
أرجو يا سيدي اللورد أن ترحم رجلا
يهوي من قمة مجده؛ فالرحمة فضيلة مؤكدة.
ولقد أحيلت جرائمه الآن إلى ساحة العدالة،
فدع القانون يتولى إصلاحه بدلا منك.
إن قلبي يبكي عندما أنظر إليه وقد تضاءل وانكمش 335
بعد أن كان عملاقا شامخا!
سري :
إنني أعفو عنه.
سافوك :
سيدي الكاردينال، اسمع أيضا ما قضى به الملك:
لما كانت كل أفعالك في الفترة الأخيرة داخل هذه المملكة
تستند إلى سلطتك باعتبارك نائبا للبابا، 340
فهي تدخل إذن في نطاق التسلح بسلطة البابا،
والتعدي على سلطة الملك؛ ومن ثم فقد تقرر تطبيق القانون
في هذه الحالة، وهو يقضي بمصادرة جميع منقولاتك
وأراضيك وقصورك ورياشك، وكل ما تمتلكه،
وحرمانك من حماية الملك. وقد عهد الملك إلي بتنفيذ ذلك.
نورفوك :
وهكذا نتركك لتأمل حالك، 345
وتنظر كيف تعيش حياة أفضل!
أما عن العناد الذي أظهرته عندما رفضت إعادة
خاتم الدولة إلينا، فسوف يعرف به الملك
وسوف يكون بلا شك شاكرا لك!
وهكذا وداعا لك يا كاردينال يا قليل الخير! (يخرج الجميع ما عدا وولزي.)
وولزي :
وكذا وداعا للخير القليل الذي تكنونه لي! 350
وداع؟ بل وداع طويل لجميع أطراف العظمة!
هذا هو حال الإنسان! ينشر في يومه أوراق الأمل الغضة
على أغصان حياته، ويشهد في غده البراعم وهي تتفتح،
وزهرات المجد وهي تزهو بألوان المجد الكثيفة من حوله،
ولكن الصقيع القاتل ينقض عليها في اليوم الثالث! 355
وعندما يقول واثقا، وهو يتقلب في أعطاف النعيم،
إن ثمار عظمته أوشكت على النضج،
يرى الصقيع وقد نخر جذورها،
والشجرة تهوي ساقطة مثلما أسقط الآن!
لقد نزلت البحر سابحا مثل الصبية اللاهين،
بعوامات من القرب المنفوخة،
وظللت في بحر المجد صيفا من بعد صيف، 360
حتى ابتعدت عن شاطئ الأمان ووصلت لمنطقة أعمق من طاقتي!
وهنا انفجرت عوامة كبريائي المنتفخة، وتركتني خائر القوى،
منهكا من طول الخدمة، وتحت رحمة بحر هائج متلاطم،
لا بد أن يبتلعني آخر الأمر إلى الأبد.
أيتها الأبهة الزائفة! يا مجد الدنيا الخاوي! 365
لكم أبغضك الآن! أشعر أن قلبي يتفتح الآن من جديد!
ما أتعس حياة الإنسان المسكين الذي يعتمد على حظوة الأمراء!
وفيما بين الابتسامة التي نحاول أن نحظى
بها من الأمير ومخايل الرضا على محياه،
وبين إسقاطنا وإهلاكنا، ألوان من الألم والفزع،
لا تعرفها الحروب ولا النساء! وعندما يهوي الواحد منا 370
فإنه يسقط سقوط إبليس؛ إذ يفقد الأمل إلى الأبد! (يدخل كرومويل ويقف مشدوها.)
ماذا بك يا كرومويل؟
كرومويل :
لا أستطيع الكلام سيدي.
وولزي :
هل أدهشتك مصائبي؟ هل تعجب روحك من سقوط
رجل عظيم؟ ما دمت تبكي فقد سقطت حقا وصدقا!
كرومويل :
كيف حال غبطتكم؟
وولزي :
لا بأس يا كرومويل!
بل لم أشعر من قبل بمثل هذه السعادة الصادقة!
اسمع يا كرومويل الكريم ، إنني أعرف ذاتي الآن،
وأشعر في قرارة نفسي باطمئنان يفوق كل مراتب الرفعة الأرضية!
وضميري هادئ مطمئن!
ولقد أتى علاجي على أيدي الملك؛ 380
ولذا أقدم شكري بكل تواضع لجلالته!
لقد أشفق علي فرفع عن هذين الكاهلين، هذين العمودين المتهالكين،
عبئا لو حملته سفن أسطول كامل لغرقت!
إنه عبء الشرف الثقيل! إنه لعبء، يا كرومويل!
وهو أثقل من أن يحمله إنسان يرجو رحمة السماء!
15
385
كرومويل :
يسرني أنكم قد انتفعتم بما حل بكم
على الوجه الأكمل!
وولزي :
أرجو أن تكون على حق، بل وأظن أنني الآن
أقدر على تحمل المزيد من المصائب،
بما أحسه في نفسي من طاقة وجلد!
بل على تحمل مصائب أكبر وأصلب مما يستطيع أعدائي الجبناء
أن يهيئوه لي! ماذا لديك من الأنباء؟ 390
كرومويل :
أثقلها وأسوءها هو سخط الملك عليك.
وولزي :
فليباركه الله.
كرومويل :
وبعدها يأتي خبر تعيين سير توماس مور خلفا لك.
وولزي :
هذا مفاجئ إلى حد ما، ولكن السير توماس عالم فاضل
أطال الله حظوته لدى الملك، وجعله من الذين 395
يقيمون العدل مراعاة للحق والضمير.
وأدعو الله أن يواري عظامه عندما يوافيه الأجل
ويرقد في سلام وبركات، في قبر سقته دموع اليتامى.
ألديك أنباء أخرى؟
كرومويل :
نعم! أعاد الملك كرانمر إلى حظوته، 400
وعينه رئيسا لأساقفة كانتربري.
وولزي :
هذا هو الخبر الغريب حقا!
كرومويل :
وأخيرا فإن السيدة آن بولين التي كان الملك
قد تزوجها سرا منذ زمن بعيد، شاهدها الجمهور اليوم
وهي ذاهبة إلى الكنيسة باعتبارها الملكة الجديدة! 405
ولا تتحدث الألسنة اليوم إلا عن موعد تتويجها!
اللوحة الداخلية (في الدائرة) تمثل دوق بكنجهام وهو يحدق في وجه الكاردينال وولزي في المشهد الأول من الفصل الأول، وكان يلعب دور الأول الممثل فوربز-روبرتسون والثاني هنري إيرفنج
Irving
واللوحة الخارجية تمثل مشهد تتويج الملكة آن بولين التي قامت بدورها الممثلة فيوليت فانبره
Vanbrugh ، وأخرج هذا العرض إيرفنج نفسه في مسرح ليتيوم
Lyceum
عام 1892م. ويلاحظ تعدد المستويات في مشهد التتويج (الفصل الرابع، المشهد الأول).
وولزي :
هذا هو الثقل الذي لم أستطع حمله فوقعت!
أواه يا كرومويل! لقد نبذني الملك!
ولقد ضاع كل مجدي إلى الأبد بسبب هذه السيدة!
لن تشرق الشمس من جديد على مظاهر عظمتي، 410
ولن توشى بالذهب الأتباع من النبلاء الذين طالما
تلهفوا على ابتسامة من فمي! انصرف الآن يا كرومويل!
اترك رجلا مسكينا سقط من قمة مجده،
فلم أعد جديرا الآن بأن أكون مولاك وسيدك.
عليك بالملك؛ فهو الشمس التي أدعو الله ألا تغيب أبدا!
لقد أبلغته بلون إخلاصك ومدى ولائك، 415
وسوف يعلي مرتبتك. لسوف يتذكرني إلى حد ما؛
فأنا أعرف نبل طبعه، وسوف تدفعه الذكرى
إلى عدم إهمال خدماتك وإلى مكافأتك!
اسمع يا كرومويل الكريم، لا تهمل خدمة الملك،
واغتنم الفرصة السانحة الآن حتى تضمن سلامتك 420
في المستقبل!
كرومويل :
يا سيدي، ألا بد لي أن أتركك؟
ألا بد أن أترك سيدا يعمر قلبه الخير والنبل والإخلاص؟
فليشهد كل من لديه قلب لم يقد من حديد
على عمق الحزن الذي يكابده كرومويل وهو يترك سيده! 425
خدماتي ستكون للملك، ولكن دعواتي ستكون لك
إلى الأبد، وإلى أبد الآبدين!
وولزي :
الحق يا كرومويل أنني ما جال بخاطري أن أذرف دمعة واحدة
رغم هذه المصائب كلها! لكنك أرغمتني بصدق إخلاصك
على أن أذرف عبرات المرأة! كفكف دموعك ودموعي! 430
أنصت إلى ما سوف أقوله يا كرومويل:
غدا سيطويني النسيان، وأرقد في ضريح من الرخام البارد الصلد،
ولن يتردد اسمي على لسان أحد، بل ستمنع الألسنة من ذكره!
وعندها اذكر أنني علمتك درسا مفيدا! قل إن وولزي علمني!
ذاك الذي وطئت أقدامه سبل المجد، وسبر جميع الأغوار، 435
ورأى حيتان الشرف سابحة قبل أن تتحطم سفينته!
قل إنه رسم لك طريقا تبلغ به مراتب العلا
طريقا مؤكدا آمنا! وإن كان معلمك نفسه
لم يفلح في انتهاجه! ما عليك إلا أن تتأمل سقوطي
والأسباب التي هوت بي من حالق!
إني آمرك يا كرومويل أن تطرح الطموح والطمع! 440
فهذه هي الخطيئة التي أحالت بعض الملائكة إلى شياطين!
فكيف يستطيع الإنسان، الذي خلق في صورة بارئه،
أن يرجو الفلاح بفضلها ؟ ضع حب نفسك
في المرتبة الأخيرة، وأضمر الإعزاز للقلوب التي تكرهك!
ولا يفوز الخبيث بأكثر مما يفوز به الطيب.
واحمل في يدك اليمنى دوما غصن الزيتون الرقيق؛
فهو قادر على إخراس ألسنة الحساد.
كن منصفا ولا تخش أحدا. ولتكن جميع الغايات التي
ترمي إليها هي صالح بلادك وذكر ربك وإحقاق الحق.
فإذا هويت يا كرومويل هويت كما يهوي الشهداء الأبرار
16
أخلص الخدمة للملك، وأرجو أن تصحبني 450
إلى حيث أسلمك قائمة بجميع ما أملك حتى آخر بنس؛
فقد أصبحت من حق الملك. لم يعد لي غير ثوبي
وصفاء طويتي لله! هذا كل ما أجرؤ على ادعاء ملكيتي له!
أواه يا كرومويل! يا كرومويل العزيز!
لو أنني عبدت الله الذي خلقني بنصف الإخلاص والحماس
الذي خدمت به الملك، لما تخلى عني في شيخوختي، 456
دون درع يحميني من أعدائي.
كرومويل :
عليك بالصبر الجميل يا سيدي الكريم.
وولزي :
أنا صابر يا كرومويل، وداعا يا آمال القصر الملكي،
ومرحى يا رجاء السموات العلى! (يخرجان.)
الفصل الرابع
المشهد الأول (شارع في وستمنستر - يدخل سيدان ويلتقيان .)
الأول :
نعم اللقاء ثانيا!
الثاني :
نعم اللقاء بك!
الأول :
هل أتيت هنا لتشهد السيدة آن عائدة من حفل تتويجها؟
الثاني :
هذا ما أتيت من أجله. وعندما التقينا آخر مرة،
شاهدنا دوق بكنجهام عائدا من المحكمة! 5
الأول :
هذا صحيح، ولكن المشهد الأول جاء بالأحزان،
وهذا المشهد يبعث على سرور الجميع!
الثاني :
جميل! لقد أظهر المواطنون بالتأكيد إخلاصهم للملك
الذي منحهم حقوقهم، وها هم يشاركون في الاحتفال اليوم
بالزينات والاستعراضات ومظاهر التكريم! 10
الأول :
أؤكد لك أنني ما رأيت أجمل ولا أفخم منها!
الثاني :
هل لي أن أسألك عما كتب في الورقة التي تمسكها؟
الأول :
بكل سرور! إنها قائمة بأسماء الذين سيشتركون في حفل التتويج
بحكم مناصبهم! أولهم دوق سافوك، وسيكون بمثابة 15
الأمين الأول، ويتلوه دوق نورفوك،
الذين سيكون بمثابة رئيس الحرس ... خذها
واقرأ باقي الأسماء!
الثاني :
شكرا لك يا سيدي. إنني أعرف تقاليد التتويج 20
وإلا كنت انتفعت بالقائمة! ولكن قل لي أرجوك
ما الذي حدث للأميرة الأرملة كاثرين؟
ماذا صار من أمرها؟
الأول :
أستطيع أن أخبرك بذلك أيضا.
عقد رئيس أساقفة كانتربري، مع بعض العلماء 25
والآباء الأجلاء ممن هم في منزلته، محكمة في الآونة الأخيرة
في منطقة «دانستابل» التي تبعد عن «أمتهيل»
حيث تقيم الأميرة بستة أميال، وأعلنوها رسميا بالحضور عدة
مرات لكنها لم تحضر. وباختصار تسبب عدم حضورها، 30
والوساوس التي أقضت مضجع الملك، إلى أن أجمع
هؤلاء العلماء الأفاضل على إصدار قرار بطلاقها،
وباعتبار زواجها من الملك باطلا وكأن لم يكن!
وانتقلت «كاثرين»، بعد ذلك إلى «كيمولتون»
1
حيث تقيم الآن، وإن كانت ما تزال مريضة.
الثاني :
وا أسفا على السيدة الكريمة. 35
هل تسمع صوت الأبواق؟ فلنقترب.
الملكة قادمة. (أصوات المزامير.)
نظام حفل التتويج (1)
الأبواق تعزف موسيقى مرحة. (2)
يدخل اثنان من القضاة. (3)
يدخل رئيس المجلس الخاص وأمامه شخص يحمل حقيبة نقود وصولجانا. (4)
بعض المرتلين ينشدون الأغاني. (5)
عمدة لندن يحمل صولجانه، ثم كبير حجاب الملك يلبس درع النبالة وعلى رأسه تاج من النحاس الموشى بالذهب. (6)
المركيز دورسيت، يحمل صولجانا من الذهب، وعلى رأسه تاج نصفي من الذهب، ومعه لورد سري، يحمل القضيب الفضي والحمامة، وعلى رأسه تاج اللوردات، وحول رقاب الجميع باقات الشهداء التي أمر بها الملك. (7)
دوق سافوك، في ردائه الرسمي، وعلى رأسه التاج، ويمسك بعصا بيضاء طويلة، باعتباره الأمين الأول، ومعه دوق نورفوك يحمل عصا الماريشالية، وعلى رأسه تاج، باقات الشهداء. (8)
مظلة يحملها أربعة من حراس الثغور الخمسة، وتسير الملكة تحتها مرتدية ثوبها الملكي، والتاج فوق رأسها الذي ترصعه اللآلئ الكثيرة، وعلى جانبيها يسير أسقف لندن وأسقف ونشستر. (9)
دوقة نورفوك العجوز وفوق رأسها تاج ذهبي منقوش بالزهور، تحمل طرف ثوب الملكة. (10)
عدد من زوجات اللوردات أو الكونتيسات وحول رءوسهن أطواق ذهبية غير منقوشة وغير محلاة بالزهور. (يمر الموكب فوق السرح ويخرج، بنظام وفي هيئة رسمية، ثم نسمع دويا جبارا في الأبواق.)
الثاني :
يا له من موكب ملكي باهر! أعرف الجميع
فيما عدا حامل الصولجان - فمن يكون؟
الأول :
إنه المركيز دورسيت.
وذلك هو اللورد سري الذي يحمل القضيب.
الثاني :
سيد نبيل شجاع، لا بد أن يكون ذلك دوق سافوك. 40
الأول :
إنه هو، الأمين الأول!
الثاني :
وذلك هو لورد نورفوك؟
الأول :
نعم.
الثاني :
باركتك السماء أيها الملكة!
لم أر في حياتي وجها أجمل منه!
قسما بحياتي إنها ملاك!
لقد احتضن مليكنا الآن ثروات جزر الهند جميعا!
2
45
بل كنوزا أكبر وأغنى حين يضمها بين ذراعيه!
محال أن ألوم ضميره الآن!
الأول :
أما الذين يحملون مظلة الشرف فوقها فهم البارونات
حراس الثغور الخمسة.
الثاني :
إنها سعيدة! وكل القريبين منها سعداء! 50
أظن أن تلك التي ترفع ذيل ثوبها هي النبيلة دوقة نورفوك.
الأول :
هي بعينها، والأخريات جميعا كونتيسات!
الثاني :
وهذا ما تدل عليها التيجان الصغيرة. إنهن نجوم وشهب!
الأول :
ومثل الشهب يسقطن أحيانا من السماء!
الثاني :
لا تزد على ذلك. 55 (يدخل سيد ثالث.)
الأول :
حماك الله سيدي! أين كنت حتى بدا عليك هذا الإرهاق؟
الثالث :
مع أفراد الجمهور في الكنيسة! ولم يكن هناك موضع لقدم!
3
كدت أختنق من الزحام ورائحة أفراحهم!
الثاني :
شاهدت حفل التتويج؟
الثالث :
نعم.
الأول :
وكيف كان؟ 60
الثالث :
يستحق المشاهدة!
الثاني :
صف لنا ما حدث يا سيدي أرجوك.
الثالث :
سأبذل كل جهد ممكن!
وصل الحشد الحاشد من اللوردات والسيدات،
فأجلسوا الملكة في المكان المخصص لها في ساحة المنشدين، 65
ثم ابتعدوا عنها قليلا؛ ومن ثم جلست تستريح على العرش الفاخر
نحو نصف ساعة، وأنظار الجمهور تتطلع إلى جمالها!
صدقني يا سيدي. إنها أجمل امرأة يتزوجها رجل!
إذ عندما رآها الناس رأي العين،
ندت من أفواههم صيحات الإعجاب التي تصاعدت 70
في جلبة كأنها جلبة الأشرعة عندما تهب الريح العاصفة
على البحر! كانت أصواتهم عالية ومن نغمات متفاوتة!
بل إنهم جعلوا يقذفون بقبعاتهم في الهواء
بل وبعباءاتهم وصداراتهم أيضا فيما أظن!
ولو استطاعوا أن يقذفوا وجوههم كذلك في الهواء 75
لقذفوها وضاعوا هباء! لم أشاهد في حياتي مثل هذا السرور!
وكانت الحبالى اللائي لم يبق على موعد ولادتهن أسبوع
يقتحمن الجموع ببطونهن، مثل اقتحام المجانيق للأسوار،
في حروب العهود الغابرة! كن يدفعن الحشد
فيتهاوى الرجال أمامهن! لم يكن في طوق رجل أيا كان
أن يتعرف على زوجته من بينهن؛ إذ تشابك الجميع 80
في نسيج واحد ملتحم!
الثاني :
وماذا حدث بعد ذلك؟
الثالث :
وأخيرا نهضت الملكة وتقدمت بخطوات وقورة
إلى الهيكل، حيث ركعت، وتطلعت إلى السماء
بعينيها الجميلتين، مثل القديسات، وأدت صلاتها في خشوع
ثم نهضت وانحنت لتحية الجمهور. 85
وبعد ذلك قام رئيس أساقفة كانتربري باتخاذ
جميع الإجراءات الرسمية الخاصة بالتتويج للملكة،
ومسح رأسها بالزيت المقدس، ووضع تاج إدوارد
على رأسها، ووضع الصولجان في يدها، وحمامة السلام،
ومثل هذه الرموز المعروفة. وقد جرت هذه المراسم
بروح الوقار والجلال، وعندها أنشد المرتلون 90
أناشيد الشكر لله، وهم نخبة من أعظم منشدي البلاد.
وبعد ذلك غادرت المكان بنفس الخطوات الوقورة
عائدة إلى قصر يورك حيث أقيمت وليمة الزفاف.
الأول :
سيدي، يجب ألا تطلق على ذلك المكان اسم قصر يورك؛ 95
فقد تغير اسمه منذ سقوط الكاردينال؛
إذ عاد إلى يد الملك وأصبح اسمه «هوايت هول».
الثالث :
أعرف ذلك، ولكن التغيير لم يحدث
إلا منذ عهد قريب، وما زال الاسم القديم على لساني.
الثاني :
ومن كان الأسقفان اللذان سارا على جانبي الملكة؟ 100
الثالث :
ستوكسلي وجاردنر، الأول أسقف ونشستر
الذي رقاه الملك أخيرا وعينه في هذا المنصب،
4
بعد أن كان الأمين الخاص له، والثاني أسقف لندن.
الثاني :
يقال إن أسقف ونشستر لا يضمر حبا كبيرا
لرئيس الأساقفة كرانمر، ذلك الرجل الفاضل.
الثالث :
يعرف الجميع ذلك، ولكن شقة الخلاف ليست كبيرة! 105
فإذا اقتضت الضرورة فسيجد كرانمر إلى جانبه صديقا
لا يخذله، ولا يتأخر عن خدمته.
الثاني :
ومن ذاك الصديق من فضلك؟
الثالث :
توماس كرومريل! فهو رجل يقدره الملك كل التقدير
وصديق مخلص يعتمد عليه. وقد عينه الملك مشرفا 110
على فضيات القصر والجواهر، وهو عضو أيضا في مجلس الملك الخاص.
الثاني :
بل هو جدير بأكثر من ذلك.
الثالث :
وبلا أدنى شك. هيا معي أيها السيدان إلى القصر،
وتكرما بالنزول في ضيافتي حيث أستطيع الاحتفاء بكما، 115
وسوف أقص عليكما المزيد من الأنباء ونحن في الطريق.
الاثنان معا :
نحن طوع أمرك يا سيدي. (يخرجون.)
المشهد الثاني (كمبولتون.) (تدخل كاثرين الأرملة، وقد بدت عليها آثار المرض، وهي تستند إلى جريفيث المنادي الخاص بها، وإلى بيشنس وصيفتها.)
جريفيث :
كيف حال مولاتي؟
كاثرين :
في مرض الموت يا جريفيث!
ساقاي قد انحنتا إلى الأرض،
مثل الأغصان المحملة بالثمار الثقيلة،
والتي توشك أن تضع أحمالها! قرب ذلك المقعد مني! (تجلس) أظن أنني أشعر ببعض الراحة الآن.
ألم تخبرني يا جريفيث أثناء قدومنا
أن ربيب الشرف العظيم، الكاردينال وولزي، مات؟
جريفيث :
نعم يا مولاتي! ولو أنني ظننت أنك لم تسمعيني،
بسبب الآلام التي كنت تعانين منها!
كاثرين :
أرجو يا جريفيث الكريم أن تخبرني كيف قضى نحبه،
فإذا كانت روحه قد فاضت بسلام، فقد سبقني لحسن الحظ
5
10
إذ سأحذو حذوه الآن!
جريفيث :
يقولون إن خاتمته كانت طيبة يا سيدتي؛
فبعد أن قام لورد «نورثمبرلاند» القوي
بإلقاء القبض عليه في «يورك»، واستدعاه للمثول في المحكمة
لاستجوابه بشأن التهم الخطيرة الموجهة إليه،
أصابه المرض فجأة، وبلغ من ضعفه وإعيائه 15
أن عجز عن ركوب بغلته!
كاثرين :
وا أسفا على المسكين!
جريفيث :
وبعد التمهل في السير والركوب وصل إلى ليستر
وأقام في الكنيسة، حيث قابله رئيس الكنيسة والكهان جميعا
بحفاوة وترحيب، ورد عليهم قائلا: 20 «يا أبي الكاهن الأعظم! جاءكم اليوم شيخ مهدم
حطمته عواصف الدولة والسياسة، ليريح عظامه في رقدة
الأبد بينكم! فلتجودوا بإحسانكم عليه بحفنة من التراب.»
وهكذا أوى إلى فراشه، حيث لم يفارقه المرض،
بل إنه تفاقم حتى وافته المنية بعد ثلاث ليال،
في نحو الساعة الثامنة، وهي الساعة التي تنبأ بأنها ستكون
ساعته الأخيرة! كان الندم يعصره،
منهمكا في التأملات، يذرف العبرات، نهبا للأحزان.
وهكذا رد إلى الدنيا ما استعار من أمجادها،
وصعدت الروح المباركة إلى السماء، ورقد في سلام. 30
كاثرين :
فليرحمه الله، وليخفف من أثقال ذنوبه.
أرجو يا جريفيث أن تأذن لي بالحديث عنه
محسنة إليه لا مسيئة! لقد كان رجلا لا حدود لطموحه
6
ينزل نفسه دائما منزلة الأمراء. واستطاع بالتحايل والمكر 35
أن يستعبد المملكة كلها! كان يعتبر التجارة في أموال الكنيسة
حلالا له، وكان رأيه الشخصي هو القانون الذي يحكم به.
وكان يعمد إلى الكذب في حضرة الملك، ويضمر عكس ما يبديه
في ألفاظه ومعانيه. لم يكن يعرف الرحمة
إلا إذا كان يريد بها الهلاك! وكانت وعوده تحكي طبعه 40
في المغالاة والشطط! وكانت أفعاله تحكي ما أصبح عليه الآن
هباء منثورا! وكان في قلبه مرض،
فضرب لرجال الكهنوت أسوأ مثل يحتذى.
جريفيث :
سيدتي النبيلة، إننا ننقش مساوئ الناس على النحاس
ولكننا ننقش فضائلهم على الماء! هل تأذنين لي 45
يا صاحبة السمو أن أذكر الآن حسناته؟
كاثرين :
طبعا يا جريفيث الكريم،
وإلا كنت خبيثة الطوية.
جريفيث :
كان هذا الكاردينال، رغم أصله المتواضع،
ذا نفس عالية وهمة لاكتساب الشرف والمجد! 50
لقد كان منذ نعومة أظفاره حريصا على العلم،
فأصبح حبرا علامة فهامة! كان ثاقب الرأي،
حسن الكلام، مقنع الحجة! وكان من لا يحبونه
يرون فيه الكبر والصلف، ولكنه كان عذبا
عذوبة نسائم الصيف للذين يسعون إليه ويطلبون العون لديه!
وإذا كان يا مولاتي لا يشبع له نهم في اكتساب الثروة، 55
ولا شك أن تلك خطيئة، فلقد كان فياض الكرم كالأمراء!
وسيظل يشهد له إلى الأبد توءما العلم اللذان أنشاهما
معهد إيسويتش ومعهد أكسفورد، ولو أن الأول قد زال بزواله،
كأنما رفض أن يزيد عمره عن رجل الخير الذي أنشأه. 60
وأما الثاني فهو، رغم عدم استكماله، ذائع الصيت،
ممتاز في فنون العلم، وما زال بنيانه يعلو،
وستلهج ألسنة البلدان المسيحية إلى الأبد بفضله.
وقد أدى سقوطه إلى انهمار السعادة عليه
إذ لم يتيسر له أن يعرف نفسه إلا آنذاك، وآنذاك فحسب، 65
فتبين نعمة الإحساس بضالة الإنسان،
فاكتسب شرفا أعظم مما يستطيع أي إنسان أن يسبغه عليه،
إذ مات وهو يخشى الله حق خشيته.
كاثرين :
لا أريد أن ينعيني ناع عندما أموت،
ولا أن يتحدث عما فعلته في حياتي، 70
فيصون شرفي من ألسنة السوء سوى المؤرخ الأمين
جريفيث. لقد جعلتني أنظر بعين التبجيل
إلى ذلك الرجل الذي كرهته كرها شديدا في حياته.
إنني أبجله الآن، بما أفصحت عنه في ورع من صدق،
وما رويته عنه دون مبالغة، بعد أن صار ترابا،
رحمة الله عليه. 75
اقتربي مني يا «بيشنس» وأخفضي مقعدي؛
فلن يطول عمري وإرهاقي لك بالطلبات.
يا جريفيث الكريم، اطلب من الموسيقيين أن يعزفوا لي
ذلك اللحن الحزين الذي أسميه ناقوس النعي،
بينا أسرح خاطري في تأمل آيات التناغم السماوي،
التي سأرحل إليها.80 (موسيقى حزينة ورزينة.)
جريفيث :
لقد نامت. اجلسي يا فتاتي الطيبة في سكون حتى لا نوقظها.
بهدوء يا «بيشنس» الرقيقة.
الرؤيا (يدخل ستة أشخاص يسيرون بوقار خلف بعضهم البعض، يرتدون ثيابا بيضاء، ويضعون على رءوسهم أكاليل الغار، وعلى وجوهم أقنعة ذهبية، وفي أيديهم غصون الغار أو سعف النخيل. وبعد أن يردوا التحية لها يرقصون، وفي فواصل موسيقية معينة يضع الشخصان الأولان إكليل غار على رأسها، بينما ينحني له الآخرون بالتحية. وبعد ذلك يقوم الاثنان الأولان بتسليم الإكليل إلى الاثنين التاليين، اللذين يلتزمان بنفس النظام في فواصل الرقص والحركة، وعقد الإكليل فوق رأس الملكة النائمة. وبعد ذلك يسلمان نفس الإكليل إلى الاثنين الأخيرين، اللذين يلتزمان بنفس الحركة والنظام، وإذ ذاك تبدو على وجهها علامات الفرح والابتهاج، كأنما استلهمتها من وحي بعيد وهي نائمة، وترفع يديها إلى السماء. وتختفي الأرواح بعد ذلك وهي ما تزال ترقص، حاملة أكاليل الغار معها، بينما تستمر الموسيقى.)
كاثرين :
أين ذهبتم يا أرواح السلام؟ هل مضيتم جميعا؟
كيف تتركونني هنا وحدي في هذه التعاسة؟
جريفيث :
ما نزال هنا يا سيدتي.
كاثرين :
إنني لا أناديكم أنتم!
ألم تشاهدوا أحد يدخل الغرفة منذ أن غفوت؟
جريفيث :
لا أحد يا مولاتي.
كاثرين :
حقا؟ ألم تشاهدوا الآن لتوكم رهطا ملائكيا
يدعوني إلى وليمة، وتفيض وجوههم المشرقة
بآلاف الأشعة علي مثل الشمس؟
لقد وعدوني بالسعادة الأبدية، 90
وأحضروا لي يا جريفيث أكاليل غار،
أشعر أنني لست جديرة بها حتى الآن،
ولكنني لا شك سوف أتزين بها.
الفصل الرابع، المشهد الثاني ؛ الرؤيا التي رأتها الملكة كاثرين. كانت زوجة المخرج (تشارلز كين
Kean ) هي التي تقوم بدور الملكة في هذا العرض الذي قدم عام 1855م. وعندما أعيد العرض عام 1858م، لعبت إلين تيري
Ellen Terry
دور الملاك الأول الهابط من السلم الخلفي.
جريفيث :
ما أشد فرحي يا مولاتي وسعادتي بهذه الأحلام الجميلة،
التي ترتاد خيالك!
كاثرين :
اطلب من العارفين أن يكفوا؛
فموسيقاهم حادة ثقيلة الوطء. (تتوقف الموسيقى.)
بيشنس (جانبا) :
هل تلاحظ كيف تغيرت مولاتي فجأة؟
هل ترى كيف استطال وجهها وكيف علاها الشحوب
وما يشبه برد الموت؟ هل تلاحظ عينيها؟
جريفيث :
إنها تحتضر يا فتاتي. عليك بالدعاء لها.
بيشنس :
اللهم هبها الراحة. (يدخل رسول.)
الرسول :
لو سمحت مولاتي.
كاثرين :
أنت وقح يا هذا، ألم نعد جديرين بالتبجيل؟ 100
جريفيث :
لقد أخطأت يا هذا؛
فأنت تعرف أنها لم تفقد ما اعتادته من التعظيم،
حتى ترضى بهذا السلوك الوقح. تبا لك! اركع لها احتراما.
الرسول :
إنني أتوسل إلى سموكم بكل تواضع أن تصفحي عني؛
فإنني في عجلة أنستني السلوك الصائب.
إن بالباب سيدا أرسله الملك لمقابلتك. 105
كاثرين :
اسمح له بالدخول يا جريفيث، ولكن لا تدع عيني تقع
على هذا الشخص بعد الآن. (يخرج الرسول ويدخل لورد كابوشيوس.)
إن لم تخني عيناي فأنت اللورد كابوشيوس
سفير الإمبراطور، ابن أختي! 110
كابوشيوس :
إنه أنا يا سيدتي. خادمك المطيع.
كاثرين :
يا سيدي اللورد، لقد تبدل الزمان وتغيرت الأحوال تغيرا شديدا
عما كنت عليه عندما عرفتني أول مرة!
ولكن ترى ما سبب زيارتك لي؟
كابوشيوس :
سيدتي النبيلة، جئت أولا لأعرض خدماتي على معاليكم،
وجئت ثانيا بناء على طلب الملك، 115
الذي يعتصره الحزن على ما أصابكم من الوهن،
وقد حملني إليك تحياته الخالصة،
ويتوسل إليك أن تخلدي إلى الراحة والاستجمام.
كاثرين :
يا أيها اللورد الكريم، لقد فات موعد الراحة والجمام، 120
كأنه قرار بالعفو بعد تنفيذ حكم الإعدام!
كان يمكن لذلك الدواء الجميل أن يشفيني لو قدم لي
في الوقت المناسب، ولكني تجاوزت كل أمل في الراحة الآن،
عدا الراحة التي أجدها في الصلاة والدعاء.
كيف حال صاحب الجلالة؟
كابوشيوس :
في صحة جيدة يا مولاتي.
كاثرين :
أدامها الله عليه، ووهبه طول العمر، 125
حتى أقيم مع الديدان وينفى اسمي الحقير من المملكة.
تعالي يا بيشنس، هل أرسلت الخطاب الذي كلفتك بكتابته؟
بيشنس :
لا يا سيدتي.
كاثرين :
سيدي، أرجوك أن تتكرم بتسليم هذا الخطاب إلى مولاي الملك.
كابوشيوس :
بكل سرور يا مولاتي. 130
كاثرين :
إنني أوصيه فيه خيرا بالمثل الأعلى لحبنا الطاهر،
ألا وهو ابنته الصغرى.
7
أدعو الله أن تتساقط عليها
أنداء السماء الحافلة بالبركات،
وأتوسل إليه فيه أن ينشئها نشأة صالحة
فهي صغيرة السن، وذات نفس نبيلة متواضعة، 135
وأرجو أن تكون جديرة بما التمسته من مولاي،
كما أرجو أن يحبها، وإلى حد ما، من أجل أمها
التي أحبته، ويعلم الله بمدى إعزازها له.
أما مطلبي المتواضع التالي من جلالته،
فهو أن يعطف بما أثر عنه من قبل،
على وصيفاتي البائسات، اللائي وقفن إلى جانبي طويلا 140
في السراء والضراء، وبذلن لي كل الإخلاص.
إن كلا منهن (وما ينبغي لي أن أكذب الآن)
8
تتحلى بالفضيلة الحقة، وجمال النفس الصادق،
وبالشرف والاستقامة، مما يجعلها جديرة بزوج كريم صالح 145
وليته يكون من النبلاء، وأنا واثقة أن من يحظى بزوجة منهن
سيحظى بالهناء والسعادة.
أما آخر مطلب لي فهو خاص بالرجال الذين في خدمتي؛
فإنهم أفقر الرجال حقا، ولو أن فقرهم
لم يبعدهم يوما عني؛ ولذلك ألتمس من جلالته 150
ألا يقطع أجورهم، بل وأن يزيدها قليلا كيما يذكروني؛
فلو كانت السماء قد شاءت أن تهبني عمرا أطول
ومالا أوفر لما فارقتهم على هذا النحو.
هذا هو كل ما في الخطاب، وأستحلفك يا سيدي اللورد الكريم
بكل ما هو عزيز عليك، إن كنت تريد الله أن يرحم نفسا مؤمنة،
أن تقف إلى جانب هؤلاء الفقراء، وأن تحث الملك
على أن يهبني هذا الحق الأخير. 158
كابوشيوس :
قسما بالسماء سأفعل، وإلا فلن أكون رجلا حقا.
كاثرين :
أشكرك أيها اللورد الأمين. اذكرني عند مولاك بكل تواضع، 160
وقل له إن من سببت له قلقا طويلا
ترحل الآن من هذه الدنيا، وقل له إنني باركته
وأنا على شفا الموت، فهذا ما سأفعل.
إن غشاوة تهبط على عيني،
فالوداع سيدي، الوداع يا جريفيث. 165
أما أنت يا بيشنس فلا تتركيني الآن.
يجب أن آوي إلى الفراش وعليك أن تأتي
بوصيفات أخريات. وعندما أموت أيتها الفتاة الكريمة
فاعملي على تكريمي في الممات، وانثري فوق جسدي
زهورا نضرة بيضاء حتى يعرف العالم كله
أنني كنت زوجة طاهرة حتى دخلت القبر. 170
وبعد الحنوط أرجو أن يسجى جسدي،
حتى بعد فقد الملك، بما يدل على أنني كنت ملكة
وابنة ملك، وبعدها أدفن في قبري.
لم أعد أقوى على قول المزيد. (يخرج الجميع وهم يساندون كاثرين.)
الفصل الخامس
المشهد الأول (يدخل جاردنر أسقف ونشستر، ومعه خادم يتقدمه بشعلة، ويقابلان السير توماس لافل.)
جاردنر :
إنها الواحدة صباحا يا غلام!
الغلام :
لقد دقت الساعة.
جاردنر :
ينبغي أن يفرغ الإنسان في هذه الساعة لما يلزمه من نوم
لا للهو والمتعة. إنه وقت إصلاح عطب الجسد
بالرقاد الشافي، ولا ينبغي لنا التفريط في هذه الساعات. (يرى السير توماس لافل) طابت لك هذه الساعة من الليل، 5
يا سير توماس. أين تمضي في هذا الوقت المتأخر؟
لافل :
هل أتيت من عند الملك يا سيدي؟
جاردنر :
نعم يا سير توماس، وتركته يلعب الورق مع دوق سافوك.
لافل :
لا بد أن أمضي إليه أنا أيضا قبل أن آوي إلى الفراش.
دعني أودعك.
جاردنر :
بل اصبر قليلا يا سير توماس لافل، ماذا حدث؟ 10
يبدو لي أنك في عجلة، وإذا لم يكن في سؤالي
تطفل كبير، فأرجو أن تلمح لي عما كنت تفعل؛
فالأفعال التي تسير (مثل الأرواح كما يقال) بعد منتصف الليل
أغرب وأدعى للشطط مما يجري بالنهار! 15
لافل :
سيدي، إني أحبك؛ ولذلك أعهد بسر إلى أذنك،
وهو سر أهم وأثمن من أي عمل.
لقد حانت ساعة وضع الملكة، ويقولون إن وطأة المرض
قد اشتدت عليها، بل يخشى أن تموت أثناء الوضع.
جاردنر :
أدعو الله من كل قلبي أن ينقذ الثمرة في بطنها، 20
ويعينها على وضعها ، ويكتب لها السلامة.
أما جذع الشجرة يا سير توماس،
فليته يجتث الآن.
لافل :
يخيل لي أنني أستطيع أن أقول آمين،
ولكن ضميري يقول إنها إنسانة كريمة، 25
وامرأة رقيقة، جديرة بأمنياتنا الطيبة.
جاردنر :
مهلا مهلا يا سيدي، اسمعني يا سير توماس،
إنك سيد يشاركني آرائي الدينية،
وأنا واثق من حكمتك ومن تقواك وورعك!
لن تنصلح الأحوال مطلقا يا سير توماس لافل،
أقول مطلقا وصدقني، 30
حتى ترقد في قبرها هي وكرانمر وكرومويل؛
فهما بمثابة اليدين اللتين تعمل بهما!
لافل :
سيدي، إنك تتحدث الآن عن رجلين
من أبرز المرموقين في المملكة. أما كرومويل
فإلى جانب عمله في الإشراف على الفضيات والجواهر
فقد عين قاضيا في محكمة الاستئناف،
ومسئولا عن الوثائق والبراءات والمنح
1
35
وهو من أمناء الملك. وهو إلى جانب ذلك
ممن نتوقع لهم المزيد من المناصب العليا،
التي سوف يمطرها الزمان عليه!
ورئيس الأساقفة هو اليد اليمنى للملك،
وهو لسانه الذي ينطق به، فمن ذا الذي يجرؤ
على المساس به ولو بحرف واحد؟
جاردنر :
بل هناك من يجرؤ يا سير توماس!
ولقد خاطرت أنا نفسي بالإعراب عن رأيي فيه! 40
بل إنني فعلت ذلك اليوم (وسوف أبوح لك)
إذ أظن أنني أغضبت
2
اللوردات من أعضاء المجلس
بقولي إنه كبير المارقين، بل وباء تبتلى به البلاد،
وتنتشر عدواه فيها، فهذا ما أعلمه حق العلم، 45
وهذا ما يعلمونه أيضا. وقد استشاطوا غيظا
فأبلغوا الأمر للملك الذي أصغى لشكوانا.
وقد تكرم وأولى الموضوع عنايته السامية
لما رآه من عواقب وخيمة، وللأسباب التي عرضناها عليه؛
ومن ثم أصدر أمره بأن يمثل للمساءلة أمام المجلس 50
في صباح الغد. إنه من الأعشاب الضارة السامة
يا سير توماس، ولا بد من اقتلاعها!
لقد عطلتك كثيرا عن القيام بمهمتك. تصبح على خير
يا سير توماس. (يخرج جاردنر مع خادمه.)
لافل :
تصبح على ألف خير يا سيدي، وسأظل خادمك الوفي. 55 (يدخل الملك مع سافوك.)
الملك :
اسمع يا تشارلز، لن أستمر في اللعب الليلة،
لا أستطيع التركيز في اللعب، وأنت أمهر من أن يغلب !
سافوك :
لم يسبق لي يا مولاي أن كسبت جولة واحدة معك.
الملك :
لم تكسب إلا قليلا، بل ولن تكسب أبدا حين أريد اللعب حقا.
والآن يا لافل، قل لي ما أخبار الملكة؟ 61
لافل :
لم أستطع تسليم رسالتك بنفسي كما أمرتني،
بل أرسلتها عن طريق وصيفتها، والملكة تبلغك أسمى آيات الشكر
بأقصى التواضع، وتطلب من سموكم أن تدعو لها من قلبك.
الملك :
أدعو لها؟ ماذا تقول؟ أفصح. 66
أدعو من أجل أي شيء؟ هل بدأت آلام الوضع؟
لافل :
هذا ما تقوله الوصيفات. وتقول أيضا إن كل صرخة ألم
كأنها الموت من شدة المعاناة.
الملك :
مسكينة أيتها السيدة الكريمة. 70
سافوك :
فليخلصها الله بسلام من حملها، وليخفف عنها آلامها،
وليفرح قلب سموكم بوريث للعرش.
الملك :
لقد جاوزنا منتصف الليل يا تشارلز،
أرجو أن تمضي إلى فراشك، وأن تدعو في صلواتك
لهذه المرأة المسكينة. اتركني وحدي الآن؛ 75
فيجب ألا يرافقني أحد فيما لا بد أن أفكر فيه.
سافوك :
أرجو لسموكم ليلة هادئة، وسوف أدعو لسيدتي الكريمة
في صلواتي.
الملك :
تصبح على خير يا تشارلز. (يخرج سافوك.) (يدخل السير أنطوني ديني.)
ماذا وراءك يا سيد ... تكلم.
ديني :
لقد أحضرت سيدي رئيس الأساقفة كما أمرتني.
الملك :
رئيس أساقفة كانتربري؟ 80
ديني :
نعم يا مولاي الكريم.
الملك :
هذا صحيح. وأين هو الآن يا ديني؟
ديني :
حاضر. ينتظر أمر سموكم.
الملك :
فليمثل في حضرتنا. (يخرج ديني.)
لافل (جانبا) :
هذا هو ما كان الأسقف يتحدث عنه.
لقد حالفني التوفيق إذ حضرت الآن. 85 (يدخل كرانمر وديني.)
الملك :
لا تسلك طريق البهو. (يتلكأ لافل ويبدو أنه يريد المكوث.)
ألم تسمع ما قلت؟ انصرف. ماذا هناك؟ (يخرج لافل وديني.)
كرانمر (جانبا) :
أوجس خيفة منه. لماذا يعبس على هذا النحو؟
هذا هو تعبير عن الغضب. في الأمر شر.
الملك :
كيف حالك سيدي؟ لا شك أنك تريد أن تعرف
سبب استدعائي لك.
كرانمر (راكعا) :
واجبي أن أطيع ما تقضي به يا مولاي. 90
الملك :
انهض، أرجوك يا لورد كانتربري الطيب الصالح،
أقبل. علينا أن نقوم بجولة في البهو معا؛
فلدي أنباء سأفضي بها إليك. أقبل أقبل أعطني يدك.
واها لك أيها اللورد الكريم. إني ليحزنني أن أقول ما أقول، 91
ويؤسفني حقا أن أكرره على أسماعك.
لقد سمعت في الآونة الأخيرة، وليتني ما سمعت،
كثيرا من الشكاوى الجادة - وأكررها يا سيدي -
الشكاوى الجادة المرفوعة ضدكم!
وبعد أن أنعمنا النظر فيها قررنا وقرر المجلس 100
استدعاءك للمثول بين أيدينا هذا الصباح.
ولما كنت أعرف أنك لن تستطيع تبرئة ساحتك بسهولة
في هذا المجلس، ولا بد أن تنتظر حتى انعقاد محكمة أخرى
للنظر في التهم الموجهة إليك ولا بد لك من مواجهتها،
فإنني أدعوك للتمسك بأهداب الصبر، 105
وأن ترضى بالإقامة في البرج التابع لنا.
ومع أنك من إخوتنا أعضاء المجلس،
فقد رأينا أن هذا أفضل إجراء يمكن اتخاذه،
وإلا لأحجم الشهود عن الإدلاء بشهادتهم ضدك.
كرانمر (راكعا) :
أشكر سموكم بكل تواضع،
وما أسعدني أن أغتنم هذه الفرصة السانحة
لإبراز الحقيقة الناصعة، وفصل التين عن القمح تماما! 110
إذ أدرك أنه ما من إنسان يتعرض لألسنة السوء والافتراءات
أكثر مني - أنا الضعيف المسكين.
الملك :
انهض يا كانتربري الصالح.
إن جذور صدقك ونقاء معدنك ثابتة وعميقة
في نفس صديقك - فينا نحن الملك. أعطني يدك وانهض 115
أرجوك سر معي قليلا.
قسما بالبتول لتقولن لي أي ضرب من الرجال أنت؟
عجبا يا سيدي! كنت أتوقع أن تلتمس مني نظر حالتك،
وأن أعمل على المواجهة بينك وبين من يتهمونك، 120
وأن أستمع لوجهة نظرك فورا دون الحاجة إلى حبسك في البرج.
كرانمر :
يا مولاي المهاب. إن دعامة الخير التي أرتكن إليها
تقوم على صدقي وأمانتي، فإذا انهار أساس هذا البنيان
كان مصيري الهزيمة من أعدائي ومن نفسي،
وإذا خلا شخصي من هاتين الفضيلتين فلن تكون له قيمة 125
في نظري، ولا أخشى مطلقا ما يمكن أن يقال في حقي.
الملك :
ألا تعرف حقيقة موقفك في الدنيا وآراء هذا العالم كله؟
ما أكثر أعداءك وما أرفع مناصبهم! وأحابيلهم
تتناسب مع عددهم ورفعتهم! ولم يكتب يوما 130
لعدالة القضية أو صدقها أن تنصر صاحبها بحكم لصالحه!
وما أيسر أن تجد العقول الخبيثة أوغادا خبثاء
يشهدون ضدك ويقسمون على صدقهم!
لقد حدث مثل ذلك من قبل. إن أعداءك أقوياء
وأحقادهم بمثل قوتهم! هل تتخيل أنك ستكون أحسن حظا، 130
أقصد فيما يتعلق بشهود الزور، من سيدك الذي كنت مساعدا له،
إبان حياته على ظهر هذه الأرض الأثيمة؟
كلا كلا. إنك تقف على شفا حفرة
ولا ترى أنها مهلكة،
بل تعمل على إهلاك نفسك في الواقع!
كرانمر :
الله قادر، وأنتم يا صاحب الجلالة، 140
على إظهار براءتي، وإلا سقطت في الشرك الذي أعدوه ليز
الملك :
اطمئن! فلن ترجح كفتهم عليك إلا بالقدر الذي
نسمح نحن به. وليهدأ بالك واحرص على المثول
بين أيديهم هذا الصباح، فإذا حدث واتهموك 145
بتهم معينة وحكموا بسجنك في البرج،
فتوسل بشتى الحجج حتى تدحض اتهاماتهم،
وأظهر كل ما يستدعيه الموقف من ثقة وقوة،
فإذا عجز دفاعك عن تبرئة ساحتك،
فأظهر لهم هذا الخاتم (يعطيه خاتمه) 150
وقل لهم إنك تريد اللجوء إلي للحكم في القضية.
يا عجبا! الرجل الصالح يبكي! إنه لأمين قسما بشرفي.
أقسم بالبتول المباركة إنه لمخلص،
بل لا توجد في المملكة نفس أنقى وأطهر.
انصرف الآن وافعل ما طلبته منك. 155 (يخرج كرانمر.)
لقد خنقت العبرات ألفاظه! (تدخل امرأة عجوز.)
سيد (من خارج المسرح) :
عودي هنا. ما معنى هذا؟
العجوز :
بل لن أعود؛ فالأنباء التي أحملها
تجعل من جرأتي أخلاقا حميدة، فلترفرفي الآن يا ملائكة الخير
حول رأس الملك، ولتظلي رأسه بأجنحتك المباركة. 160
الملك :
أستطيع أن أحدس الرسالة من مظهرك.
هل وضعت الملكة؟ قولي، تكلمي. هل أنجبت غلاما؟
العجوز :
نعم نعم يا مولاي، وهو غلام جميل،
فليباركها رب السماء الآن وإلى الأبد.
إنها وضعت أنثى تبشر بالغلمان في قابل الزمن. 165
سيدي، الملكة ترجوك أن تزورها،
وأن ترى هذه القادمة الغريبة في هذه الدنيا.
إنها تشبهك تماما، مثلما تشبه الكرزة كرزة أخرى.
الملك :
لافل.
لافل :
سيدي.
الملك :
أعطها مائة مارك!
3
سأذهب إلى الملكة. 170 (يخرج الملك.)
العجوز :
مائة مارك؟ قسما بهذا النور لا بد أن أنال المزيد.
لا يتناول هذا المبلغ إلا خادم عادي.
لا بد أن أنال المزيد، حتى لو نهرته حتى يعطيني ما أريد.
هل هذا ثمن قولي «إنها تشبهك تماما»؟
لا بد أن أنال المزيد وإلا رجعت عما قلته، 175
وسوف أثير المسألة الآن قبل أن تبرد الأنباء. (تخرج.)
المشهد الثاني (غرفة داخلية وغرفة المجلس.) (يدخل كرانمر رئيس أساقفة كانتربري، متبوعا بالخدم، ولدى الباب خدم آخرون.)
كرانمر :
عسى ألا أكون قد تأخرت أكثر مما ينبغي؛
فالسيد الذي أرسله المجلس رجاني أن أسرع.
الأبواب مغلقة؟ ما معنى هذا؟ أنتم يا من هنا،
أين الحاجب؟ (يدخل الحاجب) أنت تعرفني بالتأكيد.
الحاجب :
نعم يا مولاي، لكني لن أفتح الباب لك.
كرانمر :
لماذا؟
الحاجب :
لا بد أن تنتظر يا مولاي حتى ينادوا عليك. 5 (يدخل الدكتور بتس.)
كرانمر :
فليكن.
بتس (جانبا) :
أحبولة خبيثة! يسرني أنني مررت من هنا،
ولحسن الحظ. لسوف أبلغ الملك بها على الفور. (يخرج بتس.)
كرانمر (جانبا) :
إنه بتس، طبيب الملك. 10
لقد رمقني بنظرة اهتمام بالغة أثناء مروره،
أدعو الله ألا يذيع أنباء هذا العار.
من المؤكد أنها إهانة متعمدة دبرها من يكرهونني لثلم شرفي (اللهم انزع الغل من قلوبهم؛ فما فعلت ما يستوجب أحقادهم)
عار عليهم أن يجعلوني أنتظر لدى الباب،
وأنا زميل لهم في المجلس، هنا مع الخدم والحشم والأتباع،
لكنني لا بد أن أنصاع لمشيئتهم، وأن أصبر الصبر الجميل. (يدخل الملك مع بتس ويطلان من نافذة على مستوى مرتفع.)
بتس :
سأجعلك يا مولاي ترى أغرب مشهد.
الملك :
وما ذاك يا بتس؟
بتس :
أظنك يا مولاي قد شاهدت ذلك مرات كثيرة. 20
الملك :
حلفتك أين تطلعني عليه، أين هو؟
بتس :
هناك يا مولاي. الترقية الكبيرة التي نالها معالي أسقف كانتربري،
الذي أصبح يزهو بكرامته لدى الباب بين الخدم والحشم والأتباع.
الملك :
حقا؟ إنه هو ولا شك.
أهكذا يكرم بعضهم بعضا؟ 25
الحمد لله أن فوقهم من يفوقهم في المكانة.
كنت أتصور أنهم يتقاسمون الشرف والأمانة فيما بينهم،
أو آداب السلوك على الأقل ، بحيث لا يقدمون
على جعل رجل في مثل مكانته، ويتمتع بحظوة كبيرة لدينا،
ينتظر ذليلا أن يأذنوا له بالدخول، 30
ولدى الباب أيضا مثل ساعي البريد الذي يحمل الطرود!
قسما بالبتول المقدسة يا بتس إنها نذالة مقيتة.
اتركهم ولنختبئ خلف الستار هنا،
وسوف نسمع المزيد حالا. (يدخل الخدم منضدة اجتماعات المجلس، وبعض الكراسي الوثيرة، والمقاعد الصغيرة، ويضعونها تحت كرسي العرش. يدخل رئيس المجلس ويجلس على رأس المنضدة إلى الجانب الأيسر، وبعده مقعد يظل خاليا، كأنما ليجلس فيه كانتربري، ويجلس دوق سافوك، ودوق نورفوك، وسري، وكبير الأمناء، وجاردنر، بنظام محكم على الجانبين. ويجلس كرومويل في الطرف الآخر باعتباره أمينا للمجلس.)
4
الرئيس :
اعرض الموضوع أيها الأمين. 35
ما سبب اجتماع المجلس؟
كرومويل :
اسمحوا لي يا أصحاب السعادة،
القضية الرئيسية تتعلق بصاحب المعالي أسقف كانتربري.
جاردنر :
هل أحيط علما بها؟
كرومويل :
نعم.
نورفوك :
وهل هو حاضر هنا؟
الحاجب :
بل في الخارج يا سادتي النبلاء.
جاردنر :
فليكن. 40
الحاجب :
سيدي رئيس الأساقفة. لقد قضى نصف ساعة في انتظار تعليماتكم.
الرئيس :
اطلب منه الدخول.
الحاجب (إلى كرانمر) :
تفضل سعادتك بالدخول الآن. (يقترب كرانمر من منضدة المجلس.)
الرئيس :
اسمعني يا رئيس الأساقفة، أيها اللورد الكريم،
يؤسفني كل الأسف أن أجلس هنا وأرى في هذه اللحظة
مقعدك خاليا! ولكننا جميعا بشر،
وفي طبائع البشر ضعف، ونستسلم لنوازع الجسد. 45
ما أقل الملائكة بيننا! وقد أدى هذا الضعف
والافتقار إلى الحكمة إلى ارتكابكم جرائم ليست هينة،
وكان عليكم أن تكونوا أفضل المعلمين.
إنها جرائم في حق الملك أولا، وضد قوانينه ثانيا.
إذ أفشيت في المملكة كلها دروسك ودروس القسس التابعين لك 50 (وفقا لما بلغنا من أنباء) وهي التي تتضمن آراء جديدة،
ومنحرفة
5
وخطرة! وهي تعتبر بدعا في الدين وهرطقة،
بل قد يكمن فيها الهلاك إذا تركناها دون إصلاح.
جاردنر :
ويجب أن يكون الإصلاح مباغتا وقويا يا سادتي؛
فالذين يروضون الخيول البرية لا يجعلونها تسير الهوينى أمامهم 55
حتى ترق طباعها، بل يضعون الشكيمة القوية في فم الفرس
وينخسونه بالمهماز حتى يطيع أوامرهم.
فإذا احتملنا التعرض لهذا الوباء المعدي،
بسبب تسامحنا وشفقتنا الصبيانية على شرف رجل ما،
كنا نقول وداعا للعلاج والدواء. وما الذي يعقب ذلك؟
قلاقل واضطرابات وانتشار العدوى في جسد الدولة كله،
كما يشهد على ذلك ما حدث في الآونة الأخيرة،
عند جيراننا في أواسط ألمانيا؛ إذ دفعوا لها ثمنا غاليا،
ولم ننس كيف أشفقنا عليهم ورثينا لحالهم. 65
كرانمر :
يا سادتي الأفاضل، كان ديدني وما يزال
في جميع مراحل حياتي ومهام منصبي،
أن أعمل بل وأبذل قصارى جهدي للوصول
بالدروس التي أعلمها، والسلطة الكبيرة المخولة لي،
إلى غاية واحدة آمنة ألا وهي فعل الخير. 70
ولا يوجد رجل في قيد الحياة يا سادتي - وأقول ذلك بقلب مخلص طاهر -
رجل يفوقني في كراهية ومناهضة الذين يعكرون صفو السلام
في الأمة، سواء في أعماق ضميره الشخصي،
أو في مهام منصبه. 75
وأدعو الله ألا يجد الملك أبدا قلبا
يقل ولاؤه عن ولائي. إن الذين يتغذون على الحسد
وأحابيل الخبث الملتوية، يجرءون على نهش أفضل الفضلاء.
أتوسل إليكم يا سادتي مراعاة العدالة في هذه القضية، 80
باستدعاء الذين رموني بالتهم، مهما يكونوا،
وأن يقفوا أمامي وجها لوجه، وأن يصارحوني
بالتهم الموجهة إلي.
سافوك :
لا يا سيدي، لا يجوز هذا أبدا؛
فأنت من أعضاء المجلس، وبهذه الصفة لا يجرؤ أحد
على توجيه الاتهام إليك. 84
جاردنر :
سيدي، لما كانت لدينا أعمال أهم، فسوف نختصر الإجراءات معك.
لقد قضت مشيئة صاحب الجلالة، التي وافقناه عليها،
أن تحبس منذ الآن في البرج، حتى تحاكم محاكمة أفضل؛
إذ تصبح من جديد فردا عاديا، وبهذه الصفة
ستجد الكثيرين الذين يجرءون على توجيه اتهاماتهم الجسورة إليك،
بل أخشى أن تجد منهم أكثر مما تستطيع أن تواجهه. 91
كرانمر :
يا لورد ونشستر الكريم، شكرا لك.
لقد كنت وما تزال صديقي الصدوق،
فإذا وافق المجلس على قرارك، فسوف تكون سيادتكم
خصما وحكما معا؛ فما أوفر ما تتصف به من الرحمة! 95
إنني أرى ما ترمي إليه وهو هلاكي.
ما أخلق رجل الدين يا سيدي بأن يتصف بالحب والوداعة
بدلا من الطموح! تسلح بالاعتدال سيدي
حتى تكسب النفوس الضالة من جديد،
ولا تنبذ أحدا أبدا. لسوف أبرئ ساحتي،
وأتحمل بصبر كل الأثقال التي سوف تلقونها على كاهلي. 100
ولا يخامرني الشك في أنكم لا تواجهون أي وازع من ضمير
في المظالم التي تقترفونها كل يوم. أستطيع أن أقول المزيد
ولكن احترامي لمهنتكم ورسالتكم يفرض علي التأدب.
جاردنر :
سيدي، أيها اللورد، أنت صاحب دعوة دينية مارقة،
وهذه هي الحقيقة الناصعة! وبريقك الزائف 105
يكشف لمن يفهمك حق الفهم عن كلمات جوفاء وضعف متأصل!
كرومويل :
سيدي لورد ونشستر، اسمح لي أن أقول إن قسوتك
زادت عن الحد قليلا؛ فالذين ارتقوا ذرا الشرف،
مهما يكن من أخطائهم، جديرون بالاحترام لقاء ما كانوا عليه،
ومن القسوة أن نثقل كاهل رجل أناخ الدهر عليه! 110
جاردنر :
سيدي أمين المجلس الفاضل، أرجو عفو سموكم.
أنت آخر من يحق له أن يقول هذا،
من الجالسين حول هذه المنضدة.
كرومويل :
ولماذا يا سيدي؟ 115
جاردنر :
لأنني أعلم أنك من أنصار هذه الدعوة الجديدة،
ولست صادق الإيمان.
كرومويل :
لست صادقا ؟
جاردنر :
لست صادقا أقول.
كرومويل :
ليتك كنت تتحلى بنصف ما عندي من الصدق.
ولو كنت كذلك لاكتسبت دعوات الناس لك،
بدلا من مخاوفهم.
جاردنر :
لن أنسى هذه العبارات الجارحة.
كرومويل :
بل اذكرها، واذكر حياتك الجارحة أيضا.
الرئيس :
لقد تماديتم كثيرا. كفوا عن هذه المهاترات المشينة.
جاردنر :
لن أزيد.
كرومويل :
وأنا كذلك. 120
الرئيس :
وهكذا فقد اتفق الجميع فيما يتعلق بقضيتك يا سيدي،
وبالإجماع فيما أظن، على حبسك في البرج،
وأن تظل فيه حتى نعرف مشيئة الملك في أمرك.
هل توافقون جميعا على ذلك يا سادتي؟ 125
الجميع :
موافقون.
كرانمر :
ألا يوجد سبيل آخر للرحمة يا سادتي،
ولا بد أن يلقى بي في البرج؟
جاردنر :
وما الذي تتوقعه سوى ذلك؟
ما أشد مناكفتك وأغربها!
فليستعد عدد من الحراس هناك. (يدخل الحراس.)
كرانمر :
هل جاءوا من أجلي؟
هل أمضي إلى البرج بصفتي خائنا؟
جاردنر :
اقبضوا عليه، وأوصلوه سالما إلى البرج. 130
كرانمر :
انتظروا يا سادتي الأفاضل، لدي كلمات قليلة.
انظروا أيها السادة. إنني بفضل هذا الخاتم
أنقذ قضيتي من مخالب قساة القلوب،
وأحيلها إلى قاض ذي نبل وافر،
هو مولاي الملك. 135
الرئيس :
إنه خاتم الملك.
سري :
إنه ليس زائفا.
سافوك :
إنه الخاتم الصحيح قسما بالله. لقد أخبرتكم جميعا
أننا إذا بدأنا ندحرج هذه الصخرة الخطرة،
فسوف تقع على رءوسنا.
نورفوك :
هل تظنون يا سادتي أن الملك يقبل إلحاق أي أذى
بهذا الرجل، ولو بأصبعه الخنصر؟ 140
الرئيس :
لقد اتضح هذا الآن بما لا يدع مجالا للشك.
ترى كم يقدر الملك حياة هذا الرجل؟!
ليتني لم أشارك في هذه الجلسة.
كرومويل :
كنت أوجس خيفة عندما بدأت تجميع الشائعات والشكاوى
ضد هذا الرجل، وهو الذي لا يحقد على أمانته وشرفه 145
إلا الشيطان ورهطه، وأخشى أنكم سوف توقدون نارا تحرقكم،
فاستعدوا الآن للثبور. (يدخل الملك متجهما في وجوههم ويجلس على العرش.)
جاردنر :
أيها الملك المهاب، كم نحمد الله ونشكره كل يوم
على أن وهبنا مثل هذا الأمير! إنه فاضل وحكيم،
بل وأكثر الناس تقوى وصلاحا. 150
لقد دفعته طاعة الله إلى أن جعل الكنيسة
الغاية الأولى لإعلاء شرفه، وإلى تدعيم الواجبات الدينية
احتراما وإعزازا لها. وها قد أتى بذاته الملكية
ليصدر الحكم وينظر في القضية القائمة بين الكنيسة
وذلك العاصي الأثيم. 155
الملك :
لطالما تميزت بالبراعة في صوغ عبارات الثناء،
دون إعداد سابق يا أسقف ونشستر! ولكن فلتعلم
أنني لم أحضر الآن لأسمع عبارات المديح والملق؛
فهي في حضرتي هزيلة منحطة لا تقوى على إخفاء الآثام،
ولن تستطيع النفاذ بها إلى نفسي. إنك تلعب دور الكلب، 160
وتظن أنك قادر على استمالتي إذا بصبصت بلسانك!
ولكن أيا كان ظنك بشخصي، فأنا واثق
أنك ذو طبع قاس ودموي. (إلى كرانمر) أيها الصالح، اجلس.
والآن دعوني أرى أشدكم كبرا وصلفا
وأكثركم جرأة وجسارة، من يستطيع أن يحرك أصبعا واحدا
نحوك. أقسم بكل المقدسات 165
سيكون الموت جزاء من يظن ولو للحظة
أنك لست أجدر بمكانته منه.
سري :
إذا كان جلالتكم يسمح ...
الملك :
لا يا سيدي لا أسمح!
كنت أظن أن لدي في المجلس رجالا يتمتعون بالقدرة على الفهم
وبالحكمة، ولكنني لم أجد أحدا بهذا الوصف. 170
هل كان من اللائق أيها السادة أن تتركوا هذا الرجل - هذا الرجل الصالح - وما أقل من يستحق منكم هذا الوصف!
بل هذا الرجل الصادق الأمين، ينتظر مثل خادم حقير لدى باب المجلس؟
إنه لا يقل عنكم في رفعة المكانة، لماذا؟
لماذا أنزلتم به هذه الإهانة؟ هل طلبت منكم 175
في الأمر الصادر إليكم أن تتمادوا حتى تنسوا أنفسكم؟
لقد خولتكم سلطة محاكمته باعتباره عضوا في المجلس
لا باعتباره خادما. أرى أن بعضكم يريد،
بدافع الحقد لا بدافع الشرف، أن يحاكمه ويصدر الحكم بإعدامه
لو توافرت لكم الوسيلة، لكني لن أتيح لكم هذه الوسيلة أبدا،
طالما ظللت في قيد الحياة. 181
الرئيس :
أرجوك يا صاحب الجلالة المرهوب الجانب،
أن تسمح للساني بأن يبرر ما قصدنا إليه جميعا.
أقسم بالإيمان الذي يعمر نفوس البشر،
كان القصد من حبسه هو إعداده للمحاكمة 185
بهدف تبرئة ساحته، عدلا وإنصافا، أمام العالم كله،
لا أي حقد كامن في نفسي.
الملك :
فليكن فليكن. عليكم إذن أيها السادة
إبداء الاحترام له، وضمه إلى صفوفكم، وإحسان معاملته؛
فهو جدير بذلك.
واسمحوا لي أن أقول كلمات لصالحه:
فإذا كان يمكن للأمير أن يشعر بالامتنان لأحد أبناء الرعية، 190
قلت إنني ممتن لما غمرني به من حب وما قدمه من خدمات.
لا أريد المزيد من الجلبة والضجيج، لكنكم سوف
تحتضنونه جميعا وتعودون إلى صداقتكم القديمة.
هيا أيها السادة. أما أنت يا لورد كانتربري،
فإن لي مطلبا أرجو أن تحققه لي،
ألا وهو أن طفلة جميلة ما تزال في حاجة إلى التعميد، 195
ولا بد أن تكون الإشبين والمسئول عنها.
كرانمر :
هذا شرف يعتز به أعظم ملك على ظهر الأرض،
فكيف أستحقه وأنا فرد فقير مسكين من أبناء رعيتكم؟
الملك :
لا، لا يا سيدي، لن أطالبك بتقديم هدية من الملاعق الفضية
6
وسوف ترافقك اثنتان من النبيلات؛ دوقة نورفوك العجوز،
ومركيزة دورسيت: هل يرضيك هذا؟ 202
إني آمركم مرة أخرى يا لورد ونشستر بأن تحتضنوا هذا الرجل،
وبأن تحبوه.
جاردنر :
وأنا أفعل ذلك بقلب مخلص وحب أخوي. 205
كرانمر :
ولتشهد السماء على اعتزازي البالغ بتأكيد الثقة في شخصي.
الملك :
أيها الرجل الصالح، إن دموع الفرح التي تذرفها
تشهد على إخلاص قلبك. وهكذا اتفق الجميع فيما أرى
بل وتأكد رأيهم فيك. وأصواتهم تقول مجتمعة ما يلي: «إذا أسأت إلى لورد كانتربري أصبح صديقك إلى الأبد!»
هيا أيها السادة. إننا نضيع الوقت هنا.
إني مشتاق إلى تعميد هذه الطفلة الصغيرة،
فما دمت قد وحدت كلمتكم أيها السادة فاذكروا التي تنتظر.
فسوف أزداد بها قوة، وتكسبون بها مزيدا من الشرف. 215 (يخرجون.)
المشهد الثالث (مدخل القصر الملكي.) (أصوات صخب وضجيج من خارج المسرح - يدخل البواب وخادمه.)
7
البواب :
كفوا عن الصخب فورا أيها الأوغاد. هل أصبح القصر الملكي حديقة باريش؟
8
أيها الحقراء الوقحاء، كفوا عن الصياح أقول.
صوت (يدخل من خارج المسرح) :
سيدي البواب، أنا من رجال مخزن الطعام.
البواب :
فلتكن من رجال المشنقة، ولتعلق فيها أيها الوغد. 5
هل من اللائق أن تصرخ في هذا المكان؟ (إلى خادمه) أحضر لي اثنتي عشرة عصا صلبة قوية
حتى أفرقهم بها.
أريدها من شجر التفاح القوي، فما هذه إلا أغصان نحيلة.
تستحقون الضرب على رءوسكم حقا.
ألا بد أن تشهدوا حفل التعميد؟
هل تتوقعون شرب الجعة وأكل الفطائر أيها الأوغاد السفلة؟
9
الخادم :
أرجوك يا مولاي صبرا. من المحال تفريق هؤلاء، 11
أو إخلاء البوابة إلا إذا ضربناهم بالمدافع
فطارت أجسامهم في الهواء.
وهل يستطيع أحد إجبارهم على أن يظلوا نائمين
في صبيحة عيد الربيع؟
10
إنه محال أي محال.
لن نزحزحهم ولو زحزحنا كنيسة القديس بولس! 15
البواب :
كيف دخلوا قاتلك الله؟
الخادم :
لا أعرف. كيف يدخل مد البحر؟
لقد حاولت تفريقهم بقدر ما استطاعت هذه الهراوة.
كان طولها أربعة أقدام - وهذا ما بقي منها.
لم أترك أحدا إلا ضربته.
البواب :
بل لم تفعل شيئا على الإطلاق. 20
الخادم :
أنا لست شمشون الجبار يا سيدي. لا ولا الفارس جاي
ولا العملاق كولبراند!
11
حتى أحصدهم حصدا، لكنني
أقسم إنني لم أترك أحدا إلا ضربته على رأسه، شابا كان أم
شيخا! ديوثا كان أم فاسقة. وإذا كنت قد أهملت واجبي
فأدعو الله ألا أحيا حتى أذوق اللحم مرة أخرى. 25
حاشا لله أن أكون مهملا، فليحفظ الله الأميرة.
12
صوت (من خارج المسرح) :
هل تسمعني يا سيدي البواب؟
البواب :
سألتفت إليك بعد لحظة يا سيدي الكلب المحترم.
اسمع يا غلام! حذار أن تفتح الباب لأحد.
الخادم :
ماذا تريدني أن أفعل؟ 30
البواب :
أن تفعل ما ينبغي لك أن تفعل. اقرعهم على رءوسهم بالعشرات.
هل هذه حقول «مورفيلدز» حتى يحتشدوا للنزهة فيها؟ هل وصل
إلينا بعض الهنود الحمر من أمريكا، بحرابهم الكبيرة، حتى يحاصرنا
النساء؟
13
فليباركني الله. ما هذا التزاحم الإباحي لدى الباب؟
لسوف نشهد نسلا كثيرا من هذا الجماع! 35
قسما بضميري المسيحي إن حفل التعميد
سوف ينجب لنا ألف طفل وألف أب وألف إشبين معا.
الخادم :
ستكون ملاعق التعميد أكبر يا سيدي. إن بالباب رجلا يدل وجهه
ومظهره على أنه من النحاسين. أقسم إن لفحات عشرين يوما من
أيام الصيف تزفر في أنفه! وكل ما فيه ينطق بخط الاستواء، بل 40
بالجحيم الذي يكفي للتكفير عن جميع ذنوبه! هذا التنين الذي
يزفر النار ضربته ثلاث مرات على رأسه فهب من أنفه اللهيب
ثلاث مرات نحوي. إنه يقف هناك مثل مدفع الهاون على أهبة
الانطلاق لينسفنا ويزيحنا من طريقه! وكانت تقف قريبا منه زوجة 45
خردواتي ضعيفة العقل! ظلت تسبني وتشتمني حتى سقطت قبعتها
الحمراء التي تشبه الطبق المقلوب من رأسها؛ وذلك لأنني في
زعمها تسببت في هذا الضجيج. تصور! وقد تفاديت الرجل
الذي كان كالشهاب الساقط فاصطدمت بالمرأة التي صاحت «أدركوني!» فإذا بي ألمح من بعيد نحو أربعين من شبان الحرفيين 50
يحملون الهراوات ويهرعون لنجدتها. كانوا زهرة شباب حي «ستراند» الذي تقيم فيه. وعندما هاجموني صمدت لهم أولا، ثم
بدءوا ينازلونني بمقابض المكانس فقاومت ما استطعت المقاومة، ولكن
صفا من الصبيان برز فجأة من خلفي كأنهم فريق من القناصين،
أمطروني بوابل من الحصى والحصباء، حتى حمدت الله أن استطعت 55
أن أطوي بردة كرامتي وأترك القلعة لهم. كان الشيطان لا شك
بينهم فيما أظن!
البواب :
هؤلاء هم الشبان الذين يبرقون ويرعدون في المسارح، ويتقاتلون
للحصول على التفاحات التي قضم بعضها
14
ولا يحتملون إلا الجمهور
الذي يشهد تنفيذ الإعدام في «تاور هيل» أو زعانف مدينة لايم 60
هاوس،
15
إخوانهم الأعزاء! لقد رأيت بعضهم في السجن،
ومن المحتمل أن يقضوا الأيام الثلاثة الحالية في الرقص، إلى جانب
تناول المرطبات مع قدوم مساعدي القس!
16
65 (يدخل كبير الأمناء.)
كبير الأمناء :
ألا فليرحمني الله. ما هذا الحشد الحاشد؟!
إن أعدادهم تزداد باطراد، وهم من كل حدب ينسلون،
كأنما نعقد سوقا هنا! أين البوابون؟ أين الأوغاد الكسالى؟ (يراهم) ما أروع ما قمتم به يا هؤلاء!
لقد سمحتم لأجمل الرعاع بالدخول! 70
هل هؤلاء جميعا من أصدقائكم المخلصين في الضواحي؟
لم يعد هناك مكان تمر منه السيدات عند العودة من حفل التعميد!
17
البواب :
لو سمحتم يا صاحب السعادة.
ما نحن إلا بشر، وقد فعلنا ما في استطاعتنا،
بأعدادنا المحدودة، دون أن يمزقوا أوصالنا.
لا يستطيع جيش كامل أن يتحكم فيهم. 75
كبير الأمناء :
أقسم إنني لو تعرضت للتأنيب على ذلك من الملك،
فسوف أضع أقدامكم في الحبس
18
على الفور،
وأفرض على رءوسكم غرامات كبيرة لهذا الإهمال.
أيها الأوغاد الكسالى، ها أنتم تواجهون القلق بأقداح الجعة 80
والواجب يقضي أن تنهضوا بأعمالكم! اسمعوا صوت الأبواق.
لقد عاد الجميع من حفل التعميد. هيا أذيعوا النبأ للجمهور،
وأفسحوا مكانا يمر منه الموكب بسلام.
هيا وإلا أفسحت لكم مكانا تلعبون فيه شهرين، 85
في سجن «مارشال سي»!
البواب (يصيح) :
أفسحوا مكانا للأميرة.
الخادم :
أنت يا ضخم الجثة، ابتعد والتصق بالآخرين،
وإلا قرعت رأسك.
البواب :
أنت يا من ترتدي معطفا من وبر الجمل،
قف إلى جوار السور وإلا قذفت بك من فوقه. (يخرجون.)
المشهد الرابع (القصر الملكي.) (يدخل اثنان من نافخي الأبواق، ينفخونها، ثم يدخل اثنان من أعضاء مجلس المدينة والعمدة، وكبير حجاب الملك، وكرانمر، ودوق نورفوك وهو يحمل عصا الماريشالية، ودوق سافوك، واثنان من النبلاء يحملان وعاءين كبيرين لهما أرجل يقفان عليها ومخصصان لهدايا التعميد، ثم أربعة من النبلاء يحملون مظلة تسير تحتها دوقة نورفوك (الإشبينة) وهي تحمل الطفلة التي ترتدي ملابس فاخرة ووشاحا وما إلى ذلك، وذيل ردائها تحمله إحدى السيدات. وتدخل بعد ذلك مركيزة دورسيت (الإشبينة الأخرى) مع بعض السيدات. ويمر الموكب على المسرح ثم يتكلم كبير الحجاب.)
كبير الحجاب :
يا رب السموات، من خيرك العميم الذي لا حد له،
أنعم بالحياة الهنيئة، والعمر المديد السعيد أبدا،
على أميرة إنجلترا السامية ذات العزة والمنعة - إليزابيث. (دوي الأبواق، ويدخل الملك مع الحرس الخاص به.)
كرانمر (راكعا) :
وأنا أدعو الله مع شريكتي،
أن يهب جلالتكم وجلالة الملكة الكريمة، 5
كل الهناء والفرح بهذه الآنسة الكريمة،
ولتمطر السماء قطرات السعادة في كل ساعة،
على الأبوين الكريمين.
الملك :
شكرا لك يا رئيس الأساقفة الأكرم.
ما اسمها؟
كرانمر :
إليزابيث.
الملك :
انهض يا سيدي. (الملك يقبل الطفلة.)
خذي البركة مني بهذه القبلة. 10
أدعو الله أن يحبك ويرعاك، وقد وضعت حياتك بين يديه.
كرانمر :
آمين.
الملك :
أيها الإشبين النبيل، لقد أفأت علينا كرما زائدا،
فشكرا لك من قلبي. وسوف تشكرك هذه الآنسة
عندما تتعلم الإنجليزية.
كرانمر :
دعني أتكلم الآن يا سيدي، فهو ما تأمرني به السماء. 15
ولا يظنن أحد أن ما أقوله من قبيل الرياء، بل هو الحق عينه.
إن هذه الأميرة الطفلة - كلأها الله بعين رعايته -
ولو أنها ما تزال في مهدها، تحمل البشرى للمملكة
بألف ألف بركة عندما تبلغ أشدها وتستوي. 20
ورغم أن ذلك الهناء لن يشهده إلا القليل من يعيشون الآن بيننا،
فسوف تصبح بالتأكيد قدوة لكل الأمراء المعاصرين لها،
وكل من سيخلفهم.
ستكون هذه الطاهرة أشد حدبا على الحكمة،
وعلى ناصع الفضيلة، من بلقيس ملكة سبأ. 25
إن شيم الأمراء الغراء، التي ستصوغ هذه الدرة
ذات القوة والمنعة، وكل ما يتحلى به الأخيار من الفضائل،
ستنهمر عليها أضعافا مضاعفة. سترضع در الحق،
وتهتدي بالقيم القدسية والسماوية على الدوام،
وسوف يحبها الناس ويخشون جانبها. 30
لسوف يباركها أصدقاؤها، أما أعداؤها
فسوف يرتعدون مثل سنابل القمح في أيدي الريح العاتية،
ويخفضون رءوسهم أسى وأسفا. الخير يترعرع معها؛
ففي زمانها سوف يطعم كل إنسان آمنا،
ثمار غرسه تحت كرمته، وينشد أهازيج السلم الهانئة 35
لجميع جيرانه. وسوف يتقي الناس ربهم حق تقاته،
ويتعلم من يخالطونها منها سبل الشرف والكمال،
ويقيمون دعوى مجدهم على شرف الفعال لا على كرم المحتد.
ولن يرقد هذا السلم عندما ترقد رقدة الأبد،
بل مثلما يهب الطائر الأعجوبة، العنقاء العذراء، 40
من رقدة الموت، فيتخلق من رفاتها وريث جديد،
أعجوبة مثلها تضارعها عظمة، سوف تخلف هذه الملكة (عندما تستدعيها السماء من سحابة الظلمة في هذه الدنيا)
خصالها المباركة لوريث عظيم، يهب من رفاتها المقدس الشريف،
ويسطع في السماء مثل النجم، ذائع الصيت مثلها،
ثابتا كالنجم لا يأفل. وعندها
سيصبح السلم والرخاء والحب والصدق ورهبة الجانب،
اللائي خدمن هذه الطفلة المصطفاة،
خدما له، وسوف تترعرع مثل الكرمة بين يديه. 50
وحيثما تسطع شمس السماء الوهاجة،
فسيسطع شرف اسمه وتسطع عظمته،
وتنشئ أمما جديدة. لسوف يزدهر ويزدهي
مثل شجرة الأرز فوق الجبل؛ إذ تمتد فروعها
إلى جميع السهول من حوله، ولسوف يشهد أحفادنا كل ذلك،
ويباركون السموات العلى. 55
الملك :
لقد تحدثت فأبدعت.
كرانمر :
لسوف يطول عمرها فتسعد بها إنجلترا.
وعلى كثرة الأيام التي ستشهدها
لن يمر يوم دون عمل صالح يكلله.
ليتني كنت أعرف المزيد، لكنها عندما تقضي نحبها،
شأن كل حي، فسوف تكون في زمرة القديسات؛ 60
إذ ستموت بكرا، كالزهرة الناصعة الطاهرة يطويها الثرى،
وسوف يبكيها العالم كله.
الملك :
سيدي رئيس الأساقفة، بفضلك أصبحت الرجل الكامل.
لم يكتب لي قبل هذه الطفلة الميمونة أن أنال شيئا. 65
لكم أسعدتني بهذه النبوءة الجميلة!
بل إنني عندما أمضي إلى السماء،
سأتمنى أن أرى ما تفعله هذه الطفلة،
وأحمد خالقي. شكرا لكم جميعا.
إنني ممتن لكم يا سيدي العمدة الكريم، 70
ولإخوانكم الأفاضل. لقد شرفتموني كثيرا بحضوركم،
وسوف تجدونني شاكرا لكم. تفضلوا بالسير أمامي
أيها السادة كي نقابل الملكة جميعا حتى تعرب لكم عن شكرها
وإلا غضبت وحزنت. فلينس الجميع أن لهم ما يشغلهم في منازلهم؛
إذ لا بد أن تمكثوا جميعا معنا؛ 75
فالطفلة الصغيرة ستجعل اليوم يوم عطلة مقدسا. (يخرجون.)
الختام
أراهن أن هذا العرض لن يرضي
جميع الحاضرين هنا،
رهانا قدره عشر لواحد؛
فإن البعض جاء ليستريحا،
ويغفو طول فصل أو فصول عندنا،
ولكنا أخفناه بأبواق رواعد؛ 5
لذلك لن يرى في العرض شيئا من مزايا.
وجاء البعض حتى يسمعوا سبا وقذفا،
ويمتع أذنه ويصيح «مرحى!»
وهذا ما تحاشيناه عمدا.
إذن سيكون أقصى ما ننال اليوم مدحا،
هو الكرم الذي تبديه بعض الحاضرات الطيبات،
بتفسير سيغفر ما ارتكبنا من خطايا، 10
فإن لاحت على الثغر ابتسامتهن عفوا أو قبولا،
فسوف يصفق الأزواج ترحيبا وفرحا؛
فحسن الحظ يقضي بانصياع الزوج حبا أو مثولا.
অজানা পৃষ্ঠা