المقدمة
1 - عصر هيجل وحياته
2 - تاريخ له غاية
3 - الحرية والمجتمع
4 - ملحمة العقل
5 - المنطق والمنهج الجدلي
6 - تأثير هيجل
قراءات إضافية
مصادر الصور
المقدمة
1 - عصر هيجل وحياته
2 - تاريخ له غاية
3 - الحرية والمجتمع
4 - ملحمة العقل
5 - المنطق والمنهج الجدلي
6 - تأثير هيجل
قراءات إضافية
مصادر الصور
هيجل
هيجل
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
بيتر سينجر
ترجمة
محمد إبراهيم السيد
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
إلى ذكرى أبي؛ إرنست سينجر.
المقدمة
لم يحدث أي من فلاسفة القرنين التاسع عشر والعشرين تأثيرا عظيما في العالم كالذي أحدثه هيجل، والاستثناء الوحيد المحتمل لهذا التعميم هو كارل ماركس، الذي تأثر هو نفسه تأثرا كبيرا بهيجل. ولولا هيجل، لم تكن أي من التطورات الفكرية أو السياسية التي حدثت على مدار المائة والخمسين عاما الأخيرة لتسلك المسار الذي اتخذته.
إن تأثير هيجل وحده يجعل من المهم فهم فلسفته؛ لكن فلسفته في جميع الأحوال تستحق الدراسة لذاتها؛ فقد أوصلته أفكاره العميقة إلى بعض الاستنتاجات التي تصدم القارئ المعاصر باعتبارها غريبة، بل عبثية. لكن مهما اختلفت الآراء حول تلك الاستنتاجات، تظل هناك أطروحات ورؤى في أعماله تحتفظ بأهميتها حتى يومنا هذا. وتلك الأطروحات والرؤى هي التي ستعوض القارئ عن الجهد الذي يبذله في محاولة فهم فلسفة هيجل، بالإضافة إلى حالة الرضا التي ستتولد لديه نتيجة نجاحه في التغلب على التحدي الذي يمثله هيجل لقدرتنا على الاستيعاب.
لا شك في أن فلسفة هيجل تمثل تحديا في فهمها؛ فالتعليقات على أعمال هيجل مليئة بإشارات إلى «الصعوبة البالغة» لكتاباته، و«مصطلحاته المنفرة»، و«الغموض الشديد» لأفكاره. ولتوضيح طبيعة المشكلة، قمت للتو بالتقاط نسختي من الكتاب الذي يعتبره الكثيرون أعظم أعمال هيجل؛ وهو «فينومينولوجيا العقل»، وقمت بفتحه على صفحة عشوائية، وكانت أول جملة كاملة في تلك الصفحة (ص596) تقول: «فهو ليس إلا التقالب الدائب لهذه اللحظات التي تكون الواحدة منها الكون الآيب إلى ذاته، لكن ككون لذاته وحسب؛ أي كلحظة مجردة، تنحو جانبا حيال اللحظات الأخرى.» ومع أنني أقر باقتطاع الجملة من سياقها، فهي مع ذلك توضح بعض الصعاب التي يواجهها المرء في فهم لغة هيجل. ويمكن العثور على جمل على الدرجة نفسها من صعوبة الفهم في كل صفحة من صفحات هذا الكتاب الواقع في 750 صفحة.
إن شرح أعمال فيلسوف مثل هيجل في كتاب قصير يخاطب جمهورا لا يملك معرفة مسبقة بأعماله ليس بمهمة سهلة. ولكي أجعل هذه المهمة أيسر قليلا، قمت بأمرين؛ الأمر الأول هو أنني قيدت نطاق موضوع الكتاب؛ إذ لم أحاول تقديم عرض شامل لجميع أفكار هيجل؛ لذا لن يجد القارئ في هذا الكتاب أي عرض لما قاله هيجل في كتاب «محاضرات في علم الجمال»، أو كتاب «محاضرات في تاريخ الفلسفة»، أو كتاب «محاضرات في فلسفة الدين»، أو أي شيء عن كتابه «موسوعة العلوم الفلسفية»، إلا عندما تتداخل هذه الأعمال مع الأعمال الأخرى التي سأناقشها (بالنسبة للكتاب الأخير، سيكون التداخل كبيرا؛ فبه الجزء المهم الذي يتناول فلسفة الطبيعة، والذي لم يتناوله في أي من أعماله الأخرى). إن هذه الكتب مهمة بالتأكيد، لكنني أعزي نفسي عندما أعتقد أن هيجل نفسه لم يكن ليعتبر تلك الكتب محورية على الإطلاق في نسقه الفلسفي. لكن الأكثر أهمية، هو عدم تقديم عرض تفصيلي لكتاب هيجل «علم المنطق» الذي أعتبره بالطبع أحد أعماله الرئيسية. لقد حاولت تقديم نبذة عن هدف الكتاب ومنهجه وبعض الأفكار التي جاءت فيه، لكن الكتاب طويل جدا، ولغته مجردة جدا، حتى إن أي عرض مناسب له - من وجهة نظري - يتجاوز نطاق أي مقدمة قصيرة عن هيجل.
أما الجزء الثاني من الاستراتيجية التي اتبعتها لأجعل أفكار هيجل الشديدة التعقيد في متناول القارئ غير المتخصص، فهو اختيار أيسر أسلوب ممكن في العرض؛ لذلك بدأت بأكثر أفكار هيجل مادية وأقلها تجريدا؛ ألا وهي فلسفته حول التاريخ. ومن هناك - مع التزام هذا المستوى الاجتماعي والسياسي - انتقلت إلى آرائه حول الحرية والتنظيم العقلاني للمجتمع. وحينئذ فقط شرعت في رحلة شاقة عبر الأفكار الأكثر تعقيدا التي يتضمنها كتاب «فينومينولوجيا العقل»، ومن بعده عرجت بقليل من الجهد الإضافي لتقديم نظرة سريعة على كتابه «علم المنطق».
قد يعترض الباحثون المتخصصون في فلسفة هيجل على مجموعة الأعمال التي اخترت مناقشتها في هذا الكتاب، أو على الترتيب الذي اتبعته عند تناولها. وقد أشرت بالفعل إلى أن الترتيب ليس المقصود منه الإيحاء بأي شيء يتعلق بالطريقة التي كان هيجل سيختارها لعرض أفكاره. وفيما يتعلق بمجموعة الأعمال التي اخترت عرضها، لا أزعم أن هيجل كان يرى أن كتاب «محاضرات في فلسفة التاريخ» أكثر أهمية - مثلا - من الجزء الذي يناقش فلسفة الطبيعة في «موسوعة العلوم الفلسفية»؛ فكل ما أعلمه هو أنني لا أملك مساحة لمناقشة الكتابين معا، وأنا على يقين من أن فلسفة هيجل حول التاريخ كانت أكثر أهمية لتطور الفكر الحديث، وتظل إلى يومنا هذا أكثر إمتاعا للقارئ غير المتخصص من فلسفته حول الطبيعة (لا تنخدع بالعنوان؛ إذ إن فلسفة هيجل حول الطبيعة لا تتضمن تأملاته حول أهمية الغابات والجبال وجمالها، بل هي محاولة من هيجل ليبرهن على أن اكتشافات العلوم الطبيعية - مثل الفيزياء والكيمياء والأحياء، وغيرها - تطابق تصنيفاته المنطقية. وقد ثبت أن كثيرا من تلك الأفكار في هذا المجال قد عفى عليها الزمن؛ فعلى سبيل المثال، دحضت معرفتنا بنظرية التطور وجهة نظره القائلة بأن الطبيعة لا يمكن أن تتطور). لذلك قد تأثرت اختياراتي بثلاثة عوامل منفصلة؛ وهي: ما يعد رئيسيا بالنسبة لفكر هيجل، وما يمكن للقارئ غير المتخصص أن يفهمه في حدود مساحة هذا الكتاب، وما لا يزال مشوقا ومهما للناس في العصر الحاضر.
أنا مدين لعدد كبير من الأشخاص برؤيتي حول فلسفة هيجل التي سأعرضها في الصفحات التالية؛ ففي جامعة أكسفورد، حالفني الحظ عندما تمكنت من حضور مجموعتين من المحاضرات المميزة التي قام بتقديمها جيه إل إتش توماس، الذي أجبر طلابه على التدقيق في كل جملة من بعض فقرات كتاب «فينومينولوجيا العقل» حتى يصلوا إلى معناها. وقد توجت محاضرات باتريك جاردينر الأكثر شمولا حول «المثالية الألمانية» العمل التفصيلي الذي قمنا به في تلك المحاضرات. كما أدين بالفضل لمؤلفي الكتب التي اقتبست منها أفضل أفكارهم - وهذا ما أتمناه - بحرية. ومن أبرز تلك الكتب كتاب ريتشارد نورمان «فينومينولوجيا هيجل»، وكتاب إيفان سول «مقدمة حول ميتافيزيقا هيجل»، بالإضافة إلى كتابين بعنوان «هيجل» كتب أحدهما تشارلز تايلور والآخر والتر كوفمان. وقد قام بوب سولومون بقراءة النسخة الأصلية للكتاب، المكتوبة على الآلة الكاتبة واقترح بعض التعديلات، وهكذا فعل هنري هاردي، وكيث توماس، ومصحح مطبعي لا أعرفه تابع لمطبعة جامعة أكسفورد.
ولا يتبقى سوى التوجه بالشكر إلى جان آرشر لكتابتها المتقنة لمحتوى الكتاب على جهاز الكمبيوتر، وروث وماريون وإستر لسماحهم لي بالعمل بعض الوقت خلال عطلاتهم الصيفية.
بيتر سينجر
الفصل الأول
عصر هيجل وحياته
عصر هيجل
ولد جورج فيلهلم فريدريش هيجل في مدينة شتوتجارت عام 1770، وكان والده موظفا صغيرا في بلاط دوقية فوتمبرج. وكان لديه أقارب يعملون مدرسين أو قساوسة في الكنيسة اللوثرية. في حقيقة الأمر، لا يوجد أي شيء استثنائي بوجه خاص فيما يتعلق بحياته، إلا أن العصر الذي عاش فيه كان شديد الأهمية على المستوى السياسي والثقافي والفلسفي.
في عام 1789، تواترت عبر أوروبا أخبار سقوط سجن الباستيل، وهذه هي اللحظة التي كتب فيها الشاعر وردزوورث:
أن تكون على قيد الحياة في فجر تلك الأحداث، فتلك نعمة،
أما أن تكون شابا فقد أدركت الفردوس بعينه!
كان هيجل حينها قد أوشك على إتمام عامه التاسع عشر، وقد أطلق هو أيضا على الثورة الفرنسية فيما بعد اسم «الفجر المجيد»، مضيفا أن: «كل الناس شاركوا في الاحتفال بهذا العهد.» وقد شارك فيها بنفسه في صباح يوم أحد في فصل الربيع حين ذهب مع مجموعة من زملائه الطلاب لغرس شجرة حرية كرمز لبذور الآمال التي نثرتها الثورة.
شكل : منزل شتوتجارت الذي كانت تعيش فيه عائلة هيجل وقت ميلاده.
وبحلول عيد ميلاد هيجل الحادي والعشرين، كانت «حروب الثورة الفرنسية» قد اندلعت، وسرعان ما تعرضت ألمانيا للغزو على أيدي جيوش الثورة الفرنسية. وكانت المنطقة التي نعرفها الآن بألمانيا تتكون حينئذ مما يزيد على 300 دولة ودوقية ومدينة حرة، والتي تترابط ترابطا واهنا معا فيما يسمى بالإمبراطورية الرومانية المقدسة تحت قيادة فرانسيس الأول ؛ ملك النمسا. وقد كتب نابليون نهاية هذه الإمبراطورية التي استمرت ألف عام عندما ألحق الهزيمة بالنمساويين في معركتي أولم وأوسترليتز، ثم سحق جيوش ثاني أقوى دولة ألمانية - بروسيا - في معركة ينا عام 1806. وكان هيجل مقيما في ينا في ذلك الوقت. وقد يتوقع البعض أنه كان متعاطفا مع الدولة الألمانية التي منيت بالهزيمة، لكن يتضح من خطاب كتبه في اليوم التالي لاحتلال الفرنسيين لمدينة ينا أنه لم يكن لنابليون سوى الإعجاب: «الإمبراطور - روح هذا العالم - رأيته يجول بفرسه أنحاء المدينة ليتفقد قواته. إنه لشعور رائع حقا أن ترى مثل هذا الفرد الذي يوجد هنا في مكان محدد، ممتطيا صهوة جواده، يحكم قبضته على العالم ويهيمن عليه.»
وقد استمر هذا الإعجاب طوال فترة حكم نابليون لأوروبا. وعند هزيمة نابليون في 1814، أشار هيجل إلى الهزيمة بوصفها حادثا مأساويا، ومشهدا يتم فيه تدمير عبقرية فائقة بواسطة أشخاص عاديين.
كانت فترة الحكم الفرنسي، بين عامي 1806 و1814، فترة إصلاح في ألمانيا؛ ففي بروسيا، تم تعيين الليبرالي فون شتاين في وظيفة كبير مستشاري الملك، وعلى الفور قام بإلغاء العبودية وأعاد تنظيم نظام الحكومة. ثم تبعه فون هاردينبرج الذي وعد بوضع دستور يمثل شعب بروسيا، إلا أن هزيمة نابليون حطمت هذه الآمال. وفقد ملك بروسيا، فريدريش فيلهلم الثالث، رغبته في الإصلاح، ثم في عام 1823 - بعد سنوات من التأخير - قام بتأسيس «مجالس» إقليمية فقط لا تقوم إلا بإبداء المشورة. وفي جميع الأحوال كانت تلك المجالس تخضع بالكامل لهيمنة ملاك الأراضي. علاوة على ذلك، وافقت جميع الدول الألمانية في اجتماع بمدينة كارلزباد عام 1819 على فرض رقابة على الصحف والمجلات، وتبني إجراءات قمعية ضد مؤيدي الأفكار الثورية.
ومن الناحية الثقافية، عاش هيجل في العصر الذهبي للأدب الألماني، وبالرغم من كونه أصغر من جوته بعشرين عاما، ومن شيلر بعشرة أعوام، فقد كان كبيرا بما يكفي ليدرك قيمة جميع أعمالهما الناضجة عند ظهورها. كان هيجل صديقا مقربا للشاعر هولدرلين، وعاصر رواد الحركة الرومانسية الألمانية، بما فيهم نوفاليس وهيردر وشلايرماخر والأخوان شليجل. كان لجوته وشيلر أثر عظيم على هيجل، وبالطبع تأثر ببعض أفكار الحركة الرومانسية على الرغم من أنه رفض معظم المبادئ التي كان ينادي بها أتباع تلك الحركة.
شكل : يوهان فولفجانج فون جوته (1749-1832).
كان أكثر التطورات أهمية في حياة هيجل هو وضع الفلسفة الألمانية خلال الفترة التي عمل بها. ولكي نعي خلفية أفكار هيجل، نحتاج أن نبدأ هذه القصة بالفيلسوف كانط ونوضح بإيجاز ما حدث بعد ذلك.
عام 1781 نشر إيمانويل كانط كتاب «نقد العقل المحض»، الذي يعد الآن أحد أعظم الأعمال الفلسفية على الإطلاق. وشرع كانط فيه بتحديد ما يمكن لعقلنا أو فكرنا تحقيقه من عدمه في طريق المعرفة. وقد استنتج أن عقولنا ليست مجرد مستقبل سلبي للمعلومات التي نستخلصها عن طريق أعيننا وآذاننا وغيرها من الحواس. إن المعرفة تكون ممكنة فقط لأن عقلنا يضطلع بدور فعال؛ حيث ينظم الأشياء التي نختبرها ويصنفها. نحن ندرك العالم في إطار المكان والزمان والمادة، لكن تلك الأشياء ليست حقائق موضوعية موجودة «في الخارج»، على نحو مستقل عنا؛ فهي نتاج حدسنا أو عقلنا، اللذين من دونهما لم نكن لندرك العالم. وعليه، قد يتساءل شخص ما بطبيعة الحال عن ماهية العالم في الحقيقة بصرف النظر عن الإطار الذي ندركه من خلاله. يرى كانط أن هذا التساؤل لا يمكن الإجابة عليه مطلقا؛ فالواقع المستقل - الذي يطلق عليه كانط عالم «الشيء في ذاته» - يتخطى دائما حدود معرفتنا.
لم يكن الفضل يرجع لكتاب «نقد العقل المحض» وحده في شهرة كانط الكبيرة في حياته؛ فقد كان له كتابان آخران في النقد؛ وهما كتاب «نقد العقل العملي» حول الأخلاق، وكتاب «نقد ملكة الحكم» الذي يتناول جزء كبير منه الجمال. وقد صور كانط الإنسان في كتابه «نقد العقل العملي» في هيئة كائن قادر على اتباع قانون أخلاقي عقلاني، لكنه أيضا عرضة لأن ينحرف عنه بسبب الرغبات غير العقلانية المتأصلة في طبيعتنا المادية. وهكذا، فإن التصرف بصورة أخلاقية دائما ما يشكل صراعا. ولتحقيق النصر في هذا الصراع، يجب كبح جماح جميع الرغبات، ما عدا احترام القانون الأخلاقي الذي يقودنا إلى القيام بواجبنا لذاته. وعلى عكس وجهة النظر هذه التي ترى أن الأخلاقيات تستند فقط إلى أوجه التفكير العقلاني في الطبيعة البشرية، يصور كانط التذوق الجمالي في كتابه «نقد ملكة الحكم» في هيئة اتحاد متناغم بين إدراكنا وخيالنا.
شكل : إيمانويل كانط (1724-1804).
في الكلمات الختامية من كتابه «نقد العقل المحض»، يعبر كانط عن أمله في أنه باتباع طريق الفلسفة النقدية الذي سلكه يمكن «قبل أن ينتهي القرن الحالي» أن يتحقق ما عجزت العديد من القرون السابقة عن تحقيقه؛ ألا وهو «منح العقل البشري رضا كاملا عما طالما أثار فضوله، لكن دون جدوى حتى الآن.» إن الإنجاز الذي حققه كانط كان عظيما لدرجة أنه في وقت ما بدا حقا - ليس من وجهة نظر كانط وحده، بل وقرائه أيضا - كما لو أن الأمر لا يحتاج سوى بعض التفاصيل لإتمام جميع جوانب الفلسفة. ومع ذلك، بدأت تظهر تدريجيا حالة من عدم الرضا تجاه كانط مع مرور الوقت.
كان مصدر عدم الرضا الأول هو فكرة كانط «الشيء في ذاته»؛ فوجود شيء ما مع عدم القدرة على إدراكه بالكامل، بدا كتحديد غير مقبول لقوى العقل البشري. ألم يكن كانط يناقض نفسه عندما قال إننا يمكن ألا نعرف شيئا عن شيء ما، ومع ذلك نزعم إدراكنا لوجوده وكونه «شيئا»؟ كان يوهان فيخته هو من اتخذ الخطوة الجريئة بإنكار وجود فكرة «الشيء في ذاته»، وبهذا يكون أكثر إخلاصا لفلسفة كانط - كما أكد - من كانط نفسه. فمن وجهة نظر فيخته، أن العالم بأكمله يجب أن يدرك بوصفه شيئا تشكله عقولنا النشطة. فما لا يدركه العقل هو شيء غير موجود.
أما المصدر الثاني لعدم الرضا عن أفكار كانط، فكان انقسام الطبيعة الإنسانية الذي تضمنته فلسفة كانط الأخلاقية. وهنا كان شيلر من بدأ الهجوم على كانط في كتابه «محاضرات عن التربية الجمالية للإنسان»؛ فهو أيضا رأى نفسه كمن يخلص لكانط أكثر من كانط نفسه؛ حيث استخلص من كتابه «نقد ملكة الحكم» نموذج الحكم الجمالي باعتباره اتحادا بين الإدراك والخيال. قطعا - كما أشار شيلر - ينبغي أن تكون حياتنا بأكملها متناغمة على نحو مماثل؛ فتصوير الطبيعة البشرية على أنها دائمة الانقسام بين العقل والعاطفة، وأن حياتنا الأخلاقية في صراع سرمدي بين كليهما، هو أمر مهين وانهزامي. كما أشار شيلر إلى أن كانط ربما كان يصف بدقة الحالة المؤسفة للحياة البشرية اليوم، لكن الحياة لم تكن دوما هكذا، ولا داعي لأن تستمر على هذا النحو للأبد. ففي اليونان القديمة - التي ينظر إليها بإعجاب شديد لنقاء أشكالها الفنية - كان هناك اتحاد متناغم بين العقل والعاطفة. ولوضع أساس لاستعادة هذا التناغم الذي طال غيابه عن الطبيعة البشرية، شجع شيلر على إحياء الحس الجمالي في أوجه الحياة كافة.
كتب هيجل لاحقا أن فلسفة كانط «تشكل أساسا ونقطة انطلاق للفلسفة الألمانية الحديثة.» ويمكننا إضافة أن فيخته وشيلر - كل بطريقته الخاصة - أوضحا الاتجاهات التي يجب أن تتخذها هذه الانطلاقات. فمن وجهة نظر الفلاسفة الذين جاءوا بعد كانط، كان مفهوم الشيء في ذاته الذي لا يمكن إدراكه، وتصور أن الطبيعة البشرية منقسمة على نفسها، مشكلتين تحتاجان إلى حلول.
وقد عبر هيجل في مقال سابق عن إعجابه باعتراضات شيلر على وجهة نظر كانط فيما يتعلق بالطبيعة البشرية، ولا سيما فكرة أن هذا التنافر لم يكن حقيقة سرمدية في الطبيعة البشرية، بل مشكلة تحتاج إلى حل. ومع ذلك، لم يقبل فكرة أن التربية الجمالية هي الوسيلة الصحيحة للتغلب على هذه المشكلة، بل كان يرى أنها مهمة الفلسفة.
حياة هيجل
بعد أن أنهى هيجل دراسته الثانوية بنجاح غير معتاد، حصل على منحة دراسية في كلية لاهوتية شهيرة بمدينة توبينجن؛ حيث درس الفلسفة وعلم اللاهوت. وهناك أصبح صديقا للشاعر هولدرلين وطالب آخر أصغر منه سنا ويتمتع بموهبة كبيرة يحمل اسم فريدريش شيلنج. وقد حقق شيلنج شهرة وطنية بوصفه فيلسوفا قبل أن يسمع أي أحد عن هيجل. وعندما تراجعت شهرته أمام شهرة هيجل، اتهم صديقه القديم بسرقة أفكاره. وعلى الرغم من أنه قليلا ما تقرأ أعمال شيلنج هذه الأيام، فإن التشابه بين آرائه وآراء هيجل يضفي بعض المصداقية على هذا الاتهام، شريطة أن نتغاضى عن الكم الهائل من الأفكار الذي أضافه هيجل على النقاط المشتركة بينهما.
شكل : فريدريش شيلر (1759-1805).
عقب إنهاء دراساته في توبينجن، قبل هيجل وظيفة معلم خاص لدى أسرة غنية في سويسرا، ثم قبل وظيفة مماثلة في فرانكفورت. وفي أثناء هذه الفترة، واصل هيجل قراءاته وتأملاته حول المسائل الفلسفية. كما كتب مقالات، ليس بغرض النشر، بل لتوضيح أفكاره. وتظهر تلك المقالات أنه كان يتجه نحو أفكار متطرفة. فقارن المسيح بسقراط، وأدت به المقارنة على نحو قاطع إلى أن المسيح معلم أقل من سقراط فيما يتعلق بالأخلاق. ويرى هيجل أن الأرثوذكسية عائق أمام استعادة الإنسان لحالة التناغم؛ إذ تجعل الإنسان يخضع قواه الفكرية إلى سلطة خارجية. وظل هيجل بقية حياته محافظا على بعض من موقفه من الأرثوذكسية، إلا أن أفكاره المتطرفة انحسرت لدرجة أنه في وقت لاحق اعتبر نفسه مسيحيا لوثريا، وأخذ يحضر الطقوس الدينية الخاصة بالكنيسة اللوثرية بانتظام.
وعند وفاة والده في عام 1799، وجد هيجل أن والده قد ترك له ميراثا متواضعا. فتخلى عن وظيفة المعلم الخاص، وانضم إلى صديقه شيلنج في جامعة ينا بمدينة فايمار الصغيرة. كان شيلر وفيخته موجودين في جامعة ينا، وكان شيلنج قد أصبح مشهورا في ذلك الوقت، أما هيجل فلم يكن قد نشر فعليا أي شيء، وكان قانعا بتقديم محاضرات خاصة، بحيث يزيد دخله فقط من المقابل الزهيد الذي كان يحصل عليه من المجموعة الصغيرة من الطلاب - أحد عشر طالبا في عام 1801، وثلاثين طالبا في 1804 - التي كانت تأتي للاستماع له.
نشر هيجل أثناء وجوده في جامعة ينا كتيبا طويلا حول الاختلافات بين فلسفة فيخته وفلسفة شيلنج، وكان في كل حالة يفضل رأي شيلنج على رأي فيخته. في تلك الأثناء، أسس هو وشيلنج مجلة «كريتيكال جورنال أوف فيلوسوفي»، التي كتب بها عدة مقالات، ثم ترك شيلنج جامعة ينا في عام 1803، وبدأ هيجل في إعداد أول أعماله الرئيسية؛ ألا وهو كتاب «فينومينولوجيا العقل». ونظرا لأن ميراثه كان قد استنزف في ذلك الوقت، كان هيجل بحاجة ماسة إلى المال، فقبل بعقد لناشر قدم له دفعة مسبقة من مستحقاته، لكن العقد تضمن شروطا جزائية صارمة في حال عجزه عن إرسال نسخة الكتاب قبل موعد التسليم الذي كان في 13 أكتوبر 1806. وقد كان هذا هو اليوم الذي احتل فيه الفرنسيون مدينة ينا عقب انتصارهم على القوات البروسية. كان على هيجل أن يسرع في إنهاء الأجزاء الختامية من الكتاب حتى يتمكن من تسليمه في الموعد المحدد، ثم كانت الصدمة عندما اكتشف أنه لا بديل أمامه سوى إرسال نسخة الكتاب، التي كانت النسخة الوحيدة التي يمتلكها، وسط حالة الارتباك التي خلفها وصول الجيوش المتحاربة خارج ينا. ولحسن حظه وصلت نسخة الكتاب دون مشاكل، وظهر الكتاب في أوائل عام 1807.
اتسم رد الفعل المبدئي تجاه الكتاب بالاحترام، وإن لم يكن حماسيا. انزعج شيلنج - على نحو مفهوم - عندما وجد أن مقدمة الكتاب تضمنت هجوما جدليا على ما بدت أنها أفكاره. أوضح هيجل في خطاب له أنه لم يكن يقصد نقد شيلنج، وإنما قصد فقط نقد مقلديه عديمي الكفاءة. فرد عليه شيلنج بأن هذا التمييز لم يظهر في المقدمة، ورفض أن يهدأ. وهكذا انتهت صداقتهما.
عكر الاحتلال الفرنسي صفو الحياة في مدينة ينا. ونتيجة إغلاق جامعة ينا لأبوابها، عمل هيجل لمدة عام محررا صحفيا، ثم قبل وظيفة مدير للمدرسة الثانوية الأكاديمية بمدينة نورنبرج. وظل في هذه الوظيفة لمدة تسع سنوات، وكان ناجحا بها. وبالإضافة للمواد الدراسية المتعارف عليها بصورة أكبر، قام هيجل بتدريس مادة الفلسفة لطلابه، إلا أن أثر محاضراته على طلابه غير معلوم.
أصبحت حياة هيجل الأسرية مستقرة في نورنبرج؛ ففي ينا، أصبح أبا لابن غير شرعي، وكانت الأم هي صاحبة المكان الذي كان يعيش فيه، والمعروف عنها أن لديها طفلين غير شرعيين سابقين من عشاق آخرين. وفي عام 1811، تزوج هيجل، وهو في سن الحادية والأربعين، من سيدة من أسرة عريقة في نورنبرج. وكانت زوجته في نصف عمره بالكاد، لكن زواجهما - بحسب معرفتنا - كان سعيدا؛ فقد رزقا بولدين. وعقب وفاة والدة ابن هيجل الأول، كانت زوجته متسامحة بدرجة كافية لتحتضن ابنه غير الشرعي داخل أسرتها.
في أثناء هذه السنوات، نشر هيجل كتابه المطول «علم المنطق»، الذي ظهر في ثلاثة مجلدات في أعوام 1812 و1813 و1816، وأصبحت أعماله في ذلك الوقت تحظى بتقدير أوسع. وتمت دعوته في عام 1816 لتقلد وظيفة أستاذ الفلسفة بجامعة هايدلبرج، وهناك قام بكتابة «موسوعة العلوم الفلسفية» التي تعد عرضا موجزا نسبيا لنسقه الفلسفي بأكمله. وكثير من المادة التي تحتويها الموسوعة متضمن في أعماله الأخرى، لكن بصورة أوسع.
بلغ هيجل من الشهرة مبلغا عظيما، حتى إن وزير التعليم البروسي طلب منه تولي منصب مرموق، وهو أستاذ الفلسفة بجامعة برلين. كان نظام التعليم في بروسيا قد استفاد من الإصلاحات التي أجراها كل من فون شتاين وفون هاردينبرج، وكانت برلين في طريقها لتصبح مركزا فكريا لجميع الدول الألمانية. قبل هيجل العرض بسرعة، وقام بالتدريس في جامعة برلين من عام 1818 وحتى وفاته في عام 1831.
وكانت هذه الفترة الأخيرة هي ذروة حياة هيجل من جميع الجوانب؛ فقام بتأليف كتاب «فلسفة الحق» ونشره، وقدم محاضرات في فلسفة التاريخ وفلسفة الدين وعلم الجمال وتاريخ الفلسفة. لم يكن هيجل محاضرا جيدا بالمعنى المتعارف عليه، لكنه بلا شك أسر عقول طلابه. وفيما يلي وصف لإحدى تلك المحاضرات على لسان أحد طلابه:
في بادئ الأمر عجزت عن استيعاب طريقته في إلقاء المحاضرة أو حتى نمط تفكيره. كان يجلس هناك منهكا وعابسا ومطأطئ الرأس، كأنما انطوى على نفسه. وخلال حديثه، أخذ يقلب الصفحات ويبحث في دفاتر مفكراته، يمينا ويسارا ومن أعلى لأسفل. وكان تنحنحه وسعاله المتواصلان يقاطعان أي انسياب للحديث. فكانت كل جملة قائمة بذاتها، وتخرج بمشقة، مقطعة إلى أجزاء ومشوشة ... وكانت البلاغة المتدفقة منه بسلاسة تقتضي أن يكون المتحدث قد ألم بالموضوع إلماما شاملا ووعاه عن ظهر قلبه ... لكن كان على هذا الرجل إثارة أقوى الأفكار من قاع أكثر الأشياء غموضا ... إن تقديم تصوير أكثر حيوية لهذه الصعاب وهذه المشقة الهائلة مما تم تقديمه من خلال طريقة عرضه كان سيصبح مستحيلا.
أصبح هيجل في ذلك الوقت مصدرا لجذب عدد كبير من الحضور، فأتى الناس ممن يتحدثون باللغة الألمانية من مختلف أنحاء العالم ليستمعوا له، وبات العديد من أذكى العقول تلاميذه. وبعد موته، قاموا بتحرير دفاتر محاضراته ونشرها، مصحوبة بملاحظاتهم الخاصة على ما قاله في تلك المحاضرات. وكانت هذه هي الطريقة التي وصل بها إلينا العديد من أعمال هيجل: «محاضرات في فلسفة التاريخ»، و«محاضرات في علم الجمال»، و«محاضرات في فلسفة الدين»، و«محاضرات في تاريخ الفلسفة».
وتقديرا لمكانة هيجل، تم انتخابه في عام 1830 رئيسا لجامعة برلين. وفي العام التالي، أصابه المرض فجأة ومات في اليوم التالي أثناء نومه عن عمر يناهز الحادية والستين. وكتب أحد زملائه معلقا على هذا: «يا له من فراغ مروع! لقد كان حجر الزاوية في جامعتنا.»
الفصل الثاني
تاريخ له غاية
أخذ هيجل التاريخ على محمل الجد؛ فعلى النقيض من كانط، الذي كان يعتقد أنه من الممكن أن يجزم على أسس فلسفية محضة بماهية الطبيعة البشرية وما يجب أن تكون عليه دائما، قبل هيجل برأي شيلر القائل بأن أسس الحالة البشرية يمكن أن تتغير من حقبة تاريخية لأخرى، كما أن مفهوم التغير - أي التطور على مدار التاريخ - عامل أساسي في وجهة نظر هيجل بشأن العالم. كتب فريدريك إنجلز متأملا أهمية هيجل بالنسبة له ولزميله كارل ماركس:
إن الأمر الذي ميز طريقة تفكير هيجل عن غيره من الفلاسفة هو حسه التاريخي الاستثنائي. ومهما كان الشكل المستخدم مجردا أو مثاليا، كان تطور أفكاره متوازيا دائما مع تطور التاريخ العالمي. ومن المفترض أن يكون التطور الأخير بالتأكيد دليلا على التطور الأول.
لسنا بحاجة الآن لأن نقلق بشأن معنى عبارة إنجلز الأخيرة - الإشارة إلى أن تطور التاريخ العالمي هو «دليل» على النسق الفكري لهيجل - نظرا لأن التوازي القاطع بين تطور أفكار هيجل وتطور التاريخ العالمي الذي يشير إليه إنجلز هو مبرر كاف لاستخدام فهم هيجل للتاريخ العالمي كطريق نحو نسقه الفكري .
النقطة الأخرى التي نستنتجها مما كتبه إنجلز هي - ببساطة - أنه في تقييم أهمية تأثير هيجل على ماركس وعلى نفسه، منح الحس التاريخي لدى هيجل المرتبة الأولى؛ ولذلك فإننا في بداية تقديمنا لكتاب هيجل «فلسفة التاريخ»، نبدأ بموضوع محوري، ليس فقط لنسق هيجل الفكري، بل أيضا للأثر المستمر لأفكاره.
ما هي فلسفة التاريخ؟
من الضروري أولا أن نفهم المقصود بمصطلح «فلسفة التاريخ»، من وجهة نظر هيجل. يتضمن كتاب هيجل «فلسفة التاريخ» كمية كبيرة من المعلومات التاريخية، ويمكن أن يجده القارئ موجزا للتاريخ العالمي؛ من الحضارات القديمة في الصين والهند وبلاد فارس، مرورا باليونان القديمة، وصولا إلى العصور الرومانية، ثم تتبع مسار التاريخ الأوروبي من النظام الإقطاعي إلى حركة الإصلاح الديني، ثم إلى عصر التنوير والثورة الفرنسية. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن هيجل لم يكن ينظر إلى كتابه هذا بوصفه مجرد سرد للأحداث التاريخية؛ فعمله عمل فلسفي؛ لأنه يأخذ الحقائق التاريخية المجردة باعتبارها مادة خاما ويحاول أن يتجاوزها لما هو أبعد منها. حتى إن هيجل نفسه قال إن «فلسفة التاريخ تعني فقط التأمل العميق فيه.» ومع أن هذا قد يكون تعريفه الخاص لفلسفة التاريخ، فإنه يعطي فكرة غير كافية عما كان هيجل بصدده في كتابه «فلسفة التاريخ». إن ما غفله هيجل في تعريفه هو مقصده الذي يتمثل في أن «التأمل العميق» للتاريخ ينبغي أن يسعى لتقديم مادته الخام باعتبارها جزءا من عملية تطور عقلانية، وهكذا يكشف معنى تاريخ العالم ودلالته.
وهنا يتضح أحد آراء هيجل المحورية؛ ألا وهو إيمانه بأن التاريخ يحمل بعض المعاني والدلالات. فلو أن هيجل استعرض التاريخ وفقا لرؤية ماكبث البائسة للحياة بوصفه «قصة يرويها معتوه، مليئة بالضجة والغضب، ولا تعني شيئا»؛ لما حاول مطلقا تأليف كتابه «فلسفة التاريخ»، ولكان أهم عمل في حياته مختلفا تماما. بالطبع تتشابه وجهة النظر العلمية الحديثة كثيرا مع رؤية ماكبث؛ فهي تخبرنا بأن كوكبنا مجرد نقطة صغيرة في كون بحجم لا يمكن تخيله، وأن الحياة على هذا الكوكب بدأت من اندماج عرضي للغازات، ثم تطورت بواسطة قوى الانتخاب الطبيعي الجامدة. وتماشيا مع هذه الرؤية لنشأة نوعنا، يرفض معظم الفكر الحديث افتراض أن للتاريخ أي غاية أبعد من الغايات الفردية الهائلة المتنوعة للبشر الذين لا حصر لهم؛ الذين يصنعون التاريخ. في عصر هيجل، لم يكن هناك أي شيء غير مألوف بشأن اعتقاده الراسخ بأن التاريخ البشري ليس مجرد مجموعة غير منظمة من الأحداث؛ بالتأكيد هذا الاعتقاد في الواقع ليس غريبا حتى في وقتنا الحالي؛ نظرا لأن الفكر الديني كان يرى على نحو تقليدي أن هناك معنى ودلالة في مسار التاريخ البشري، حتى وإن لم يكن له دلالة إلا كمقدمة لعالم أفضل لم يأت بعد.
هناك العديد من الطرق المختلفة التي يمكن بواسطتها استيعاب الادعاء الذي يرى أن التاريخ له مغزى؛ فيمكن اعتباره ادعاء يشير إلى أن التاريخ هو من تدابير إله قام بإيجاد هذه العملية بالكامل؛ أو بطريقة أكثر غموضا، يمكن اعتبار أن الغرض منه هو الإشارة إلى أن الكون ذاته قد تكون له غايات على نحو ما. إن التأكيد على أن التاريخ ذو مغزى يمكن استنباطه من جميع الدلالات الدينية أو الروحانية، ويمكن فهمه ببساطة من خلال الزعم الأكثر تقييدا بأن التأمل في ماضينا يمكننا من إدراك مسار التاريخ، والغاية التي سيصل إليها في النهاية. وهذه الغاية، لحسن الحظ، هي غاية مرجوة؛ ومن ثم يمكننا تقبلها باعتبارها هدفا لمساعينا.
يمكن فهم كتاب هيجل «فلسفة التاريخ» بطرق شتى، تتشابه مع هذه الطرق المختلفة لاستيعاب الزعم بأن هناك مغزى للتاريخ. ووفقا لاستراتيجيتنا العامة في تناول أفكار هيجل، سنبدأ بالعناصر الموجودة في الكتاب، والتي تؤكد على أن للتاريخ مغزى، وذلك من خلال الطريقة الثالثة، الأقل غموضا، من الطرق المتعددة لاستيعاب وجهة النظر هذه.
في مقدمة كتابه «فلسفة التاريخ»، يوضح هيجل صراحة وجهة نظره حول مسار التاريخ البشري كله ووجهته، فيقول: «تاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية.» تحدد هذه الجملة الفكرة الرئيسية للكتاب بالكامل (بل ويمكن القول بأنها أيضا تلخص الفكرة الرئيسية في فكر هيجل ؛ لكن المزيد عن ذلك سيأتي لاحقا). والآن يجب أن نرى كيف قام هيجل بتوضيح فكرته الرئيسية هذه.
يبدأ هيجل بوصف ما أسماه «العالم الشرقي»، الذي يقصد به الصين والهند والإمبراطورية الفارسية القديمة. ويعتبر هيجل حضارتي الصين والهند القديمتين «جامدتين»؛ أي مجتمعات وصلت لنقطة معينة من التطور، ثم بطريقة ما سرعان ما تجمدت في مكانها. ويصفهما هيجل بأنهما «خارج نطاق تاريخ العالم»؛ أي ليستا جزءا من عملية التطور الشاملة التي هي أساس فلسفته التاريخية. يبدأ التاريخ الحقيقي بالإمبراطورية الفارسية، التي يقول عنها هيجل إنها «الإمبراطورية الأولى التي زالت».
إن حديث هيجل عن العالم الشرقي يتضمن العديد من التفاصيل، تتعلق كلها بفكرة أنه في المجتمع الشرقي يوجد شخص واحد فقط يتمتع بحريته؛ ألا وهو الحاكم، أما بقية المجتمع، فجميعهم يفتقرون إلى الحرية؛ لأنهم يجب أن يخضعوا إرادتهم للبطريرك أو اللاما أو الإمبراطور أو الفرعون أو أيا كان اللقب الذي قد يطلق على الحاكم المطلق المستبد. ويمتد الافتقار إلى الحرية هذا إلى مستوى عميق للغاية؛ فلا يعني هذا فقط أن رعايا الحاكم المطلق يعلمون أنه بإمكان الحاكم معاقبتهم بقسوة لعصيانهم رغبته؛ فذلك قد يوحي بأن لديهم إرادة مستقلة، وأن بإمكانهم التفكير - ويفكرون بالفعل - فيما إذا كان من الحكمة أو الصواب طاعة الحاكم المطلق. يشير هيجل إلى أن الحقيقة هي عدم امتلاك الرعايا الشرقيين إرادة مستقلة بالمعنى الحديث؛ ففي بلاد الشرق، فإن القانون، وحتى الأخلاق ذاتها، يخضعان لتشريع خارجي. فلا يوجد لديهم مفهومنا عن الضمير الفردي؛ ولذلك لا توجد إمكانية لتشكيل الأفراد لأحكامهم الأخلاقية بأنفسهم بشأن الصواب والخطأ. في وجهة نظر سكان الشرق - ما عدا الحاكم - تأتي الآراء المتعلقة بهذه المسائل من الخارج؛ فهي حقائق خاصة بالعالم، ولا يمكن التشكيك فيها مثلها مثل وجود الجبال والبحار.
شكل : سيدارتا جوتاما، المعروف باسم بوذا (حوالي 563-483 قبل الميلاد).
وفقا لهيجل، تأخذ حالة انعدام الاستقلالية الشخصية هذه أشكالا مختلفة في الثقافات الشرقية المختلفة، لكن النتيجة دائما ما تكون واحدة. يخبرنا هيجل أن الدولة الصينية كانت مؤسسة على حكم الأسرة؛ فالحكومة قائمة على الحكم الأبوي للإمبراطور، وينظر الآخرون لأنفسهم على أنهم أبناء الدولة. وهذا هو السبب الذي يجعل المجتمع الصيني يشدد بقوة على الاحترام والطاعة اللذين يدين بهما الشخص لوالديه. وفي الهند - على النقيض - لا يوجد مفهوم الحرية الفردية؛ لأن النظام الأساسي للمجتمع - نظام الطبقات الاجتماعية الذي يحدد لكل شخص من ذكر أو أنثى وظيفته في الحياة - لا يعد نظاما سياسيا، بل أمرا طبيعيا؛ ومن ثم غير قابل للتغيير. وهكذا لا تكون السلطة الحاكمة في الهند حاكما بشريا مطلقا مستبدا، وإنما الاستبداد هنا هو استبداد الطبيعة.
أما في بلاد فارس فالأمر مختلف؛ فعلى الرغم من أن الإمبراطور الفارسي يبدو للوهلة الأولى حاكما مطلقا يتشابه في كثير من الأمور مع إمبراطور الصين، فإن أساس الإمبراطورية الفارسية ليس قائما على مبدأ الطاعة الأسرية الطبيعية الذي يمتد إلى جميع أرجاء الدولة فحسب، بل على مبدأ عام يطبق فيه القانون على الحاكم كما يطبق على رعاياه. فبلاد فارس كانت ملكية ثيوقراطية قائمة على ديانة زرادشت، التي كانت تتضمن عبادة «النور». يبدي هيجل اهتماما كبيرا بفكرة النور بوصفه شيئا نقيا وكونيا، مثل الشمس التي تضيء بنورها للجميع وتنفع الجميع على حد سواء. لا يعني هذا بالطبع أن بلاد فارس كانت تؤيد المساواة بين البشر؛ فالإمبراطور ظل هو الحاكم المطلق؛ ومن ثم الشخص الحر الوحيد في الإمبراطورية. لكن حقيقة أن حكمه كان قائما على مبدأ عام ولا ينظر إليه بوصفه حقيقة طبيعية، كانت تعني وجود احتمالية حدوث تطور. إن فكرة الحكم استنادا على مبدأ فكري أو روحي تدل على بداية نمو الوعي بالحرية الذي كان هيجل معنيا بتتبعه؛ وعليه كانت هذه هي بداية «التاريخ الحقيقي».
العالم اليوناني
كانت إمكانية نمو الوعي بالحرية موجودة في الإمبراطورية الفارسية، لكن هذه الإمكانية لم تكن لتتحقق في ظل هيكل الإمبراطورية. لكن في إطار سعي الإمبراطورية للتوسع، تواصلت مع أثينا وأسبرطة وغيرهما من مدن اليونان المستقلة القديمة. فطلب الإمبراطور الفارسي من اليونانيين الإقرار بسيادته، لكنهم رفضوا، فقام الإمبراطور بتعبئة جيش جرار وأسطول ضخم من السفن، والتقى الأسطول الفارسي والأسطول اليوناني عند جزيرة سالاميس. ويشير هيجل إلى أن هذه المعركة الملحمة كانت صراعا بين حاكم مطلق شرقي كان يسعى إلى عالم موحد تحت راية إمبراطور واحد وسيادة واحدة، ودول منفصلة كانت تدرك مبدأ «الحرية الفردية». كان انتصار اليونانيين يعني أن منعطف تاريخ العالم انتقل من العالم الشرقي ذي الحاكم المطلق إلى عالم المدن اليونانية المستقلة.
ومع أن هيجل يرى العالم اليوناني كعالم تحركه فكرة الحرية الفردية، فإنه يرى تلك الحرية لم تتطور أبدا بصورة كاملة في هذه المرحلة من التاريخ. يحتج هيجل بسببين مختلفين لاعتبار الرؤية اليونانية للحرية محدودة. ويتسم أحد هذين السببين بالوضوح، والآخر يشوبه بعض التعقيد.
أما السبب الواضح، فهو أن فكرة الحرية عند اليونانيين تسمح بوجود العبودية. إن استخدام الكلمة «تسمح» بلا شك ضعيف جدا؛ لأن هيجل يرى أن الشكل الديمقراطي لدى اليونانيين كان يتطلب بالتأكيد وجود العبيد كي يؤدي دوره. فإذا كان كل مواطن، كما كان الحال في أثينا، يتمتع بحق وواجب المشاركة في الإكليزيا - وهي الجهة العليا المعنية باتخاذ القرار في المدينة - فمن تبقى لأداء المهام اليومية الخاصة بتوفير ضروريات الحياة؟ يجب أن تكون هناك فئة من العمال الذين يفتقرون لحقوقهم وواجباتهم بوصفهم مواطنين. بعبارة أخرى: يجب أن يكون هناك عبيد.
في العالم الشرقي، هناك شخص واحد فقط حر، وهو الحاكم. ومعنى وجود عبيد أن العالم اليوناني قد تقدم لمرحلة أصبح فيها البعض - لا الكل - أحرارا. لكن هيجل يرى أنه حتى أولئك المواطنين الأحرار في إحدى المدن اليونانية ليسوا أحرارا بالكامل. والسبب الذي يدفعه لهذا الرأي ليس من السهل استيعابه؛ فهو يزعم أن اليونانيين ليس لديهم مفهوم الضمير الفردي. فكما رأينا، كان هيجل يعتقد بانعدام هذا المفهوم في العالم الشرقي أيضا، لكن في حين كانت الشعوب الشرقية تطيع ببساطة ودون تفكير قانونا أخلاقيا فرض عليها من سلطة عليا، كان دافع اليونانيين ينبع من داخلهم. ويوضح هيجل أنهم كانوا يتمتعون بعادة الحياة من أجل بلدهم دون أي تفكير. ولم تكن هذه العادة نابعة من قبول مبدأ مجرد ما، مثل فكرة أن على الجميع العمل من أجل صالح بلدهم. فاليونانيون بفطرتهم آمنوا بأنهم مرتبطون بدولتهم بقوة لا يمكن زعزعتها، بحيث لم يميزوا بين مصالحهم الشخصية ومصالح المجتمع الذي كانوا يعيشون فيه، فلم يتصوروا حياتهم بعيدا عن هذا المجتمع - أو ضده - بشتى عاداته وصور الحياة الاجتماعية به.
كل هذا يعني أن استعداد اليونانيين للقيام بما يخدم مصلحة المجتمع ككل ينبع من داخلهم، وهذا يدل على أن اليونانيين كانوا أحرارا بطريقة لم يتمتع بها الشرقيون؛ فقد كانوا يقومون بما تمليه عليهم أنفسهم، لا ما تمليه عليهم بعض القوانين الخارجية. ومع ذلك، يقول هيجل إن هذا الشكل من الحرية ليس كاملا لمجرد أن الدافع إليه يأتي بصورة طبيعية جدا؛ فنتاج العادات والأعراف التي نتربى عليها ليس نتيجة لاستخدام عقولنا. فإذا أقدمت على فعل شيء نتيجة لعادة، فأنا لم أختر أن أقوم به عن عمد. فيمكن القول بأن أفعالي ما زالت تخضع لقوى خارجة عن إرادتي - القوى الاجتماعية التي منحتني عاداتي - حتى وإن لم يكن هناك حاكم مطلق يخبرني بما علي فعله، وإن بدا أن الدافع وراء الفعل ينبع من داخلي.
وكأحد أعراض هذا الاعتماد على القوى الخارجية، يشير هيجل إلى ميل اليونانيين لاستشارة وسيط روحاني لإرشادهم قبل أن يقدموا على أي مجازفة مهمة. قد تكون مشورة الوسيط الروحاني قائمة على حالة أمعاء حيوان تم ذبحه قربانا، أو على حدث طبيعي آخر ليس له أي علاقة بفكر الشخص. فالأحرار بحق لم يكونوا ليسمحوا بأن تتحدد أهم قراراتهم استنادا إلى مثل هذه الأحداث، بل كانوا يتخذون قراراتهم بأنفسهم مستخدمين قدرتهم على التفكير. فالعقل يرتقي بالأحرار فوق الأحداث الطبيعية العرضية، ويمكنهم من التفكير بصورة انتقادية في موقفهم والقوى التي تؤثر فيهم. وهكذا لا يمكن أن تتحقق الحرية بالكامل دون التأمل أو التفكير النقدي.
لذا فإن التأمل أو التفكير النقدي هو المفتاح الرئيسي لإحراز أي تقدم في عملية تطور الحرية. إن أمر الإله أبولو عند اليونانيين كان يدفعهم نحو هذا الطريق: «أيها الإنسان، اعرف نفسك.» هذه الدعوة للبحث الحر وغير المقيد بالمعتقدات العرفية تبناها الفلاسفة اليونانيون، ولا سيما سقراط. يعبر سقراط عن وجهة نظره بطريقة نموذجية في شكل حوار مع شخص بارز من أهل أثينا يعتقد أنه يعرف جيدا ما هو صالح أو عادل. لكن يتضح أن هذه «المعرفة» ليست سوى قدرته على ترديد بعض الأقوال المأثورة عن الصلاح أو العدالة، ولا يجد سقراط أي صعوبة في أن يبرهن على أن هذا المفهوم العرفي للأخلاق لا يمكن أن يكون شاملا؛ فعلى سبيل المثال، على عكس الفكرة السائدة أن العدالة تكمن في إعطاء كل ذي حق حقه، يطرح سقراط مثالا يقوم فيه أحد أصدقائك بإعارتك سلاحا، ثم يصير صديقك هذا مختلا. ربما في هذه الحالة تكون مدينا له بالسلاح، لكن هل من العدل حقا أن ترد له سلاحه؟ وبهذه الطريقة يقود سقراط قراءه للتأمل النقدي في الأخلاق العرفية التي طالما قبلوها. فهذا التأمل النقدي يجعل من العقل، لا الأعراف الاجتماعية، الحكم الفصل في تحديد ما هو صواب وما هو خطأ.
يرى هيجل المبدأ الذي أوضحه سقراط باعتباره قوة ثورية ضد أثينا؛ ولذلك يعتبر الحكم بالإعدام الصادر ضد سقراط ملائما بلا شك؛ فاليونانيون كانوا يدينون العدو الأكثر فتكا بالأخلاق العرفية التي كانت حياتهم المجتمعية تقوم عليها. ومع ذلك كان مبدأ التفكير المستقل راسخا بقوة في أثينا بحيث لا يمكن استئصاله بموت شخص واحد؛ ولذلك جاء اليوم الذي أدين فيه متهمو سقراط، وتمت فيه تبرئة ساحة سقراط نفسه بعد وفاته. وكان مبدأ التفكير المستقل هذا، مع ذلك، هو السبب الرئيسي في سقوط أثينا، ويشير إلى بداية النهاية للدور التاريخي العالمي الذي اضطلعت به الحضارة اليونانية.
العالم الروماني
على عكس التوحد القائم على اتباع العرف والتقاليد غير الخاضعة للتفكير التي شكلت أساس المدن اليونانية القديمة، يصور هيجل الإمبراطورية الرومانية على أنها تكونت من مجموعة متنوعة من الشعوب، تفتقر لجميع الروابط الأبوية الطبيعية أو غيرها من الروابط العرفية؛ ولذلك كانت تتطلب أكثر الأنظمة صرامة ، مدعوما بالقوة؛ وذلك للحفاظ على ترابطها. وهذا يجعل هيمنة روما في المرحلة التالية من تاريخ العالم تبدو كعودة للنموذج الشرقي للحاكم المطلق كما في الإمبراطورية الفارسية. لكن حتى وإن كان مسار تاريخ العالم - كما يعرضه هيجل - لا يتقدم على نحو سلس وثابت، فإنه بالتأكيد لا يعود للخلف أيضا؛ فالمكاسب التي حققت في عصر مضى لا يمكن أبدا خسارتها بالكلية؛ لذلك يميز هيجل بدقة بين المبادئ الأساسية التي قامت عليها كل من الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية. ففكرة الحرية الفردية والقدرة الشخصية على الحكم على الأشياء، التي ولدت في العصر اليوناني، لم تتلاش؛ فقد قامت الدولة الرومانية في واقع الأمر على دستور سياسي ونظام قانوني يتضمن الحقوق الفردية باعتبارها أحد مفاهيمه الأساسية. هذا يوضح أن الدولة الرومانية تقر بحرية الفرد بطريقة لم تتمكن الإمبراطورية الفارسية مطلقا من إقرارها؛ الفكرة هي بالطبع أن هذا الإقرار بحرية الفرد مسألة قانونية أو رسمية خالصة؛ يطلق عليها هيجل «الحرية الفردية المجردة». إن الحرية الحقيقية التي تسمح للأفراد بتطوير مجموعة متنوعة من الأفكار وطرق العيش، التي يطلق عليها هيجل «الحرية الفردية المادية»، تتحطم بقسوة على صخرة القوة الغاشمة لروما.
إذن فالاختلاف الحقيقي بين الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية يتمثل في أن مبدأ الحكم المطلق الشرقي مهيمن تماما في الإمبراطورية الفارسية، في حين أنه في الإمبراطورية الرومانية يوجد صراع دائم بين السلطة المطلقة للدولة وفكرة الحرية الفردية. كان هذا الصراع منعدما في الإمبراطورية الفارسية؛ لأن فكرة الحرية الفردية كانت لا تزال في طور التطور؛ وكانت منعدمة في العالم اليوناني؛ لأنه على الرغم من بزوغ فكرة الحرية الفردية هناك، فإن السلطة السياسية لم تحتشد بقوة لمقاومتها.
إن العالم الروماني - كما يصوره هيجل - ليس عالما سعيدا؛ حيث تحطمت روح العالم اليوناني الحرة والعفوية التي تتسم بالبهجة. ففي مواجهة مطالبات الدولة بالامتثال الخارجي، لا يمكن العثور على الحرية إلا في الانطواء على النفس واللجوء إلى مذهب فلسفي مثل مذهب الشك أو مذهب الأبيقوريين أو مذهب الرواقيين. لا يعنينا هنا تفاصيل هذه المذاهب الفلسفية المتعارضة، لكن المهم هنا هو الميل المشترك بينها لازدراء كل ما يقدمه العالم الواقعي - الثراء والسلطة السياسية والمجد الدنيوي - في مقابل نموذج للحياة يجعل تابع هذا المذهب غير مبال بأي شيء يمكن للعالم الخارجي أن يحدثه.
يرى هيجل أن انتشار هذه المذاهب الفلسفية كان نتيجة للعجز الذي يشعر به الفرد، الذي يؤمن بأنه كائن حر، في مواجهة السلطة المستبدة التي لا يقدر على تغييرها. إن اللجوء للفلسفة، مع ذلك، هو استجابة سلبية لهذا الموقف؛ فهو شكل من أشكال اليأس أمام عالم عدائي. كانت هناك حاجة لإيجاد حل أكثر إيجابية، وهو الحل الذي قدمته المسيحية.
للتعرف على سبب نظر هيجل للمسيحية على هذا النحو، علينا إدراك أن البشر من وجهة نظر هيجل ليسوا مجرد حيوانات شديدة الذكاء؛ فالبشر يحيون في العالم الطبيعي، مثلهم مثل الحيوانات، لكنهم أيضا يتميزون بأنهم كائنات روحية. وحتى يدرك البشر أنهم كائنات روحية، يظل البشر أسرى في شرك العالم الطبيعي؛ عالم القوى المادية. وعندما يقاوم العالم الطبيعي تطلعهم للحرية معاندا، مثلما فعل العالم الروماني، لا يوجد مفر «داخل» العالم الطبيعي، ما عدا ما سبق وأن ذكرناه من اللجوء إلى فلسفة قائمة على موقف سلبي تماما تجاه العالم الطبيعي. ومع ذلك، ما إن يدرك البشر أنهم كائنات روحية، حتى تنتهي أهمية عدائية العالم الطبيعي، ويكون بالإمكان تجاوزها بطريقة إيجابية لوجود شيء إيجابي يتجاوز العالم الطبيعي.
في نظر هيجل، المسيحية ديانة مميزة؛ لأن المسيح كان إنسانا وفي الوقت نفسه «ابن الإله». وتلقن هذه الحالة البشر درسا مفاده أنه على الرغم من أن لديهم قصورا في بعض النواحي، فإنهم في الوقت ذاته خلقوا على صورة الإله، وبداخلهم قيمة غير محدودة ومصير خالد. وكانت النتيجة تطور ما يطلق عليه هيجل «الوعي الذاتي الديني»؛ الإقرار بأن العالم الروحي، لا العالم الطبيعي، هو موطننا الحقيقي. لتحقيق هذا الوعي، يتعين على البشر كسر قبضة الرغبات الطبيعية، وبالطبع الوجود الطبيعي بأكمله، التي تسيطر عليهم.
إن مهمة الديانة المسيحية هي تحقيق هذا الوعي بأن الطبيعة الروحية للبشر هي الطبيعة المهمة لهم. ومع ذلك، لا يحدث كل ذلك على الفور؛ لأنه لا يتطلب تقوى داخلية فحسب؛ فالتغير الذي يحدث في القلب التقي للمؤمن بالمسيحية يجب أن يحول العالم الخارجي الحقيقي إلى شيء يلبي متطلبات البشر بوصفهم كائنات روحية. وكما سنرى، استغرقت البشرية التاريخ المسيحي بأكمله حتى عصر هيجل كي تصبح قادرة على تحقيق هذا.
ما حدث سريعا، إلى حد ما، هو إلغاء القيود المفروضة على الحرية التي اتسم بها العصر اليوناني. أولا: تعارض المسيحية العبودية لأن كل شخص من البشر يتمتع بنفس القيمة غير المحدودة والأساسية. ثانيا: انتهى الاعتماد على الوسطاء الروحانيين؛ نظرا لأن الوسطاء الروحانيين يمثلون هيمنة الأحداث الطبيعية العرضية على الاختيار الحر للكائنات الروحية. ثالثا: ولنفس السبب، حلت الأخلاق القائمة على الفكرة الروحية للحب محل الأخلاق العرفية للمجتمع اليوناني.
بزغت الديانة المسيحية في عهد الإمبراطورية الرومانية، وأصبحت الديانة الرسمية للإمبراطورية في عهد الإمبراطور قسطنطين. وعلى الرغم من سقوط النصف الغربي من الإمبراطورية تحت وطأة غزوات البربر، فإن الإمبراطورية البيزنطية ظلت مسيحية لأكثر من ألف سنة. ومع ذلك، يرى هيجل أن هذه المسيحية جامدة وفاسدة نتيجة لأنها كانت محاولة لوضع مظهر مسيحي زائف فوق أنظمة فاسدة بالفعل حتى النخاع. وقد استلزم الأمر أشخاصا جددا لإيصال العقيدة المسيحية إلى مصيرها المحتوم.
العالم الجرماني
قد يبدو غريبا أن يشير هيجل إلى الفترة التاريخية الممتدة من سقوط الإمبراطورية الرومانية إلى العصور الحديثة بأكملها بوصفها «العالم الجرماني». ويستخدم هيجل المصطلح
Germanische ، الذي يعني «جرماني» بدلا من «ألماني»، ولا يتحدث عن ألمانيا فقط، بل أيضا عن إسكندينافيا وهولندا وحتى بريطانيا. ولم يتغاض أيضا - كما سنرى - عن التطورات التي حدثت في إيطاليا وفرنسا، مع أنه لم يجد روابط لغوية أو عرقية لتبرير استخدام المصطلح «جرماني» على نطاق أوسع ليتضمن هذه الدول. قد يشك البعض في أن إطلاق هيجل اسم «العالم الجرماني» على هذا العصر يتسم بقدر من التعصب العرقي، لكن السبب الرئيسي الذي دفعه للقيام بذلك هو أنه يعتبر حركة الإصلاح الديني هي الحدث التاريخي الرئيسي الأوحد منذ العصر الروماني.
يرسم هيجل صورة مقبضة لأوروبا خلال الألف سنة التي مرت عقب سقوط روما؛ ففي أثناء هذه الفترة يرى هيجل أن الكنيسة أفسدت الروح الدينية الحقيقية، بحيث أقحمت نفسها بين الإنسان والعالم الروحي، وأصرت على الطاعة العمياء لها من أتباعها. ويصف هيجل العصور الوسطى بأنها «ليلة طويلة وطارئة ومفزعة»، ليلة انتهت ببزوغ عصر النهضة الذي يعد «وميض الفجر الذي يبشر بعودة يوم ساطع ومجيد بعد هبوب عواصف لفترة طويلة.» ومع ذلك، يصف هيجل حركة الإصلاح الديني - وليس عصر النهضة - بأنها «الشمس المنيرة» التي أشرقت على يومنا الساطع؛ ألا وهو العصر الحديث.
لقد ظهرت حركة الإصلاح الديني نتيجة لفساد الكنيسة، الذي لم يكن ينظر إليه هيجل كتطور عرضي، بل كنتيجة حتمية لحقيقة أن الكنيسة لا تتعامل مع الألوهية بوصفها شيئا روحيا محضا، بل بدلا من ذلك قامت بتجسيدها في العالم المادي. فالتقيد بالشعائر والطقوس الدينية، وغيرها من المظاهر الخارجية، هو أساسها، ولا يتطلب الأمر سوى الالتزام بها باعتبارها جوهرا للحياة الدينية. وهكذا تم قصر العنصر الروحي في البشر على أشياء مادية مجردة. إن التعبير المطلق عن هذا الفساد المتغلغل هو بيع شيء يمس طبيعة الإنسان الدفينة والأكثر عمقا؛ السلام الروحي الذي يصاحب غفران الخطايا، مقابل أكثر الأشياء دنيوية؛ ألا وهو المال. يشير هيجل بالطبع إلى عملية بيع «صكوك الغفران» التي تسببت في بدء احتجاج لوثر.
ويعتقد هيجل أن الإصلاح الديني كان إنجازا للشعب الجرماني، نبع من «صدق وإخلاص قلبه». يعتبر هيجل «الإخلاص» و«القلب» العنصرين الرئيسيين للإصلاح الديني، الذي بدأه راهب ألماني بسيط، هو لوثر، وترسخ في الشعوب الجرمانية فقط. وكانت نتيجته التخلص من أبهة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ووضعها، وإحلال فكرة أن كل إنسان تربطه، في قلبه، علاقة مباشرة بالمسيح.
إن تقديم حركة الإصلاح الديني بوصفها حدثا داخل جزء معزول من الحياة يسمى «الدين»، مع ذلك، قد يكون مناقضا تماما لوجهة نظر هيجل؛ أولا: طالما أكد هيجل على ترابط الجوانب المختلفة لتطورنا التاريخي. ثانيا : كما رأينا بالفعل، لكي يحقق البشر طبيعتهم الروحية لا يكفي أن يرتقوا بحياتهم الدينية، بل يجب أن يجعلوا من العالم الذي يعيشون فيه مكانا مناسبا لحياة الكائنات الروحية الحرة. وهكذا يرى هيجل حركة الإصلاح الديني أكثر من مجرد هجوم على الكنيسة القديمة واستبدال البروتستانتية بالكاثوليكية الرومانية. تنادي حركة الإصلاح الديني بأنه يمكن لكل إنسان التعرف على حقيقة طبيعته الروحية، ويمكنه تحقيق خلاصه؛ فلا حاجة لوجود سلطة خارجية لتفسير النصوص المقدسة أو لأداء الشعائر. فالضمير الفردي هو الحكم النهائي في تحديد الحقيقة والصلاح. وتأكيدا لهذا، رفعت حركة الإصلاح الديني «راية الروح الحرة» وجعلت مبدأها الرئيسي: «الإنسان بطبيعته خلق ليكون حرا.»
شكل : مارتن لوثر (1483-1546).
منذ حركة الإصلاح الديني، أصبح دور التاريخ يقتصر على تغيير شكل العالم وفقا للمبدأ الرئيسي للحركة. وهي مهمة غير سهلة؛ فلو أن كل إنسان قادر بحرية على استخدام قواه الفكرية للحكم على ما هو حقيقي وصالح، لما أمكن العالم أن يلقى قبولا كونيا إلا عندما يطابق المعايير العقلانية؛ ولذا يجب على جميع المؤسسات الاجتماعية - بما في ذلك القانون والتملك والأخلاق الاجتماعية والحكومة والدساتير وغيرها - أن توضع وفقا للمبادئ العامة للعقل، وحينها فقط سيختار الأفراد بحرية قبول ودعم هذه المؤسسات. وحينها فقط سيتوقف كل من القانون والأخلاق والحكومة عن كونها قواعد وقوى قسرية يجب على الإنسان الحر الامتثال لها، وحينها فقط سيكون البشر أحرارا، وفي الوقت نفسه متصالحين بالكامل مع العالم الذي يعيشون فيه.
إن فكرة امتثال جميع المؤسسات الاجتماعية للمبادئ العامة للعقل تحمل في طياتها طابع حركة التنوير؛ فإخضاع كل شيء لضوء العقل البارد والواضح، مع رفض كل ما تأسس على الخرافة أو الامتيازات الموروثة، كان مذهب المفكرين الفرنسيين في القرن الثامن عشر؛ مثل فولتير وديدرو. إن حركة التنوير وما أعقبها من اندلاع الثورة الفرنسية هما بالتأكيد الحدثان التاليان - وتقريبا الأخيران - في حديث هيجل عن تاريخ العالم. ومع ذلك، نجد أن موقف هيجل نحوهما ليس تماما ما يمكن أن يتوقعه المرء من ملاحظاته حول جوهر حركة الإصلاح الديني .
يقبل هيجل وجهة النظر التي تقول بأن الثورة الفرنسية كانت نتيجة الانتقادات الموجهة للنظام الذي كان موجودا في فرنسا من قبل الفلاسفة الفرنسيين. ففرنسا قبل الثورة كانت لديها طبقة نبلاء لا تتمتع بقوة حقيقة، وإنما كانت تتمتع بمجموعة من الامتيازات المضطربة غير القائمة على أي أساس عقلاني. وفي مواجهة هذا الوضع غير العقلاني تماما، تجلى مفهوم الفلاسفة عن حقوق الإنسان وانتصر. ولا يدعنا هيجل نحتار فيما يتعلق بوجهة نظره بشأن أهمية هذا الحدث، فيعلن عنها قائلا:
لم يحدث منذ ظهور الشمس في السماء ودوران الكواكب حولها أن تم إدراك أن وجود الإنسان يكمن في رأسه؛ أي فكره، الذي يلهمه لبناء عالم الواقع ... لم يستطع الإنسان إلا الآن إدراك مبدأ أن الفكر يجب أن يحكم الواقع الروحي. كان هذا إذن فجرا فكريا مجيدا. وجميع البشر شاركوا في الاحتفال بهذا الحدث.
إلا أن النتيجة المباشرة لهذا «الفجر الفكري المجيد» كانت «الإرهاب الثوري»، وهو شكل من أشكال الاستبداد الذي مارس سلطاته دون أي إجراءات قانونية، وكان عقابه يتمثل في الإعدام بالمقصلة. ما الخطأ الذي حدث؟ كان الخطأ هو محاولة تطبيق مبادئ فلسفية مجردة تماما دون النظر إلى طبيعة البشر. فهذه المحاولة كانت تستند إلى سوء فهم لدور الفكر، الذي لا يمكن أن يطبق بمعزل عن المجتمع الحالي والأشخاص الذين يشكلونه.
وهكذا كانت الثورة الفرنسية في ذاتها فاشلة، إلا أن أهميتها التاريخية العالمية تكمن في المبادئ التي نقلتها للشعوب الأخرى، ولا سيما ألمانيا؛ فقد كانت الانتصارات القصيرة الأجل التي حققها نابليون كافية لوضع قانون للحقوق داخل ألمانيا لترسيخ حرية الإنسان وحرية التملك، ولفتح هيئات الدولة أمام أكثر المواطنين كفاءة للعمل فيها، ولإلغاء الالتزامات الإقطاعية. يبقى الملك هو رأس الحكومة، وقراره الشخصي هو القرار النهائي، إلا أنه في ظل القوانين الراسخة والنظام المستقر للدولة لم يتبق للقرار الشخصي للملك - كما يقول هيجل - «في الحقيقة، سوى القليل.»
يصل هيجل بحديثه عن تاريخ العالم إلى نهايته بوصوله إلى العصر الذي عاش فيه. ويختتم هيجل الكتاب بتكرار - وإن بكلمات مختلفة قليلا - الفكرة الرئيسية التي قدمها في البداية: «تاريخ العالم ليس إلا تطور فكرة الحرية»، مقترحا أن تقدم فكرة الحرية قد بلغ الآن مداه. كان المطلوب أمرين: أن يحكم الأفراد أنفسهم وفقا لضمائرهم وقناعاتهم، وأن يتم تنظيم العالم الموضوعي - العالم الواقعي بكل ما فيه من مؤسسات اجتماعية وسياسية - بصورة عقلانية. فلا يكفي أن يحكم الأفراد أنفسهم وفقا لضمائرهم وقناعاتهم؛ لأنها ستكون مجرد «حرية ذاتية»؛ فما دام العالم الموضوعي لم يتم تنظيمه بصورة عقلانية، سيتصارع الأفراد الذين يتصرفون وفقا لضمائرهم الشخصية مع القانون والأخلاق، وسيصبح القانون المطبق والأخلاق القائمة شيئين مناوئين لهم وقيدين على حريتهم. من جهة أخرى، ما إن يتم تنظيم العالم الموضوعي بصورة عقلانية، فسيختار الأفراد الذين يتبعون ضمائرهم بحرية التصرف وفقا لقانون وأخلاقيات العالم الموضوعي. وهكذا ستتحقق الحرية على كل من المستويين الذاتي والموضوعي، ولن تكون هناك قيود على الحرية؛ نظرا لوجود تناغم تام بين الاختيارات الحرة للأفراد واحتياجات المجتمع ككل، وستتحول فكرة الحرية إلى واقع؛ ومن ثم يكون تاريخ العالم قد حقق هدفه.
شكل : كان سقوط سجن الباستيل في 1789 شرارة بدء الثورة الفرنسية.
هذه خاتمة رائعة بالفعل، لكنها تترك سؤالا واضحا معلقا: ما الشكل الذي ينبغي أن يكون عليه التنظيم العقلاني للأخلاق والقانون والمؤسسات الاجتماعية الأخرى؟ ما الدولة العقلانية حقا؟ لم يذكر هيجل في كتابه «فلسفة التاريخ» إلا القليل جدا عن ذلك. فوصفه الوردي لألمانيا في عصره، بالإضافة إلى حديثه عن أن تقدم فكرة الحرية قد بلغ الآن مداه، لا يمكن أن نستشف منه سوى إيمانه بأن بلاده - في عصره - قد وصلت لوضع المجتمع المنظم بعقلانية. ومع ذلك، يمتنع هيجل عن قول ذلك صراحة، ويتسم وصفه لألمانيا الحديثة بالإيجاز الشديد لدرجة لا تسمح لنا باكتشاف سبب اعتباره للتدابير الخاصة التي يصفها أنها أكثر عقلانية من الأشكال السابقة للحكم.
السبب وراء هذا الإيجاز قد يكمن ببساطة في أن كتاب «فلسفة التاريخ» تم تحريره كمجموعة من المحاضرات. والمحاضرات الجامعية - كما نعلم جميعا - كثيرا ما يفتقر فيها المحاضر إلى الوقت قرب نهايتها. لكن يمكن أيضا أن يكون هيجل قد تعمد التحدث بإيجاز عن هذا الموضوع في كتابه «فلسفة التاريخ»؛ لأنه سيكون محور كتابه «فلسفة الحق»، وهو الكتاب الذي يجب أن نقرأه للحصول على صورة أكثر شمولا لما يعتبره هيجل مجتمعا منظما بصورة عقلانية، ومن ثم حرا بحق.
الفصل الثالث
الحرية والمجتمع
لغز
رأينا أن هيجل يؤمن بأن أحداث الماضي كلها كانت تتجه نحو تحقيق هدف الحرية. في ختام كتاب «فلسفة التاريخ»، كانت هناك إشارة إلى أن هذا الهدف قد يكون قد تحقق، لكن هيجل قدم بعض الإشارات إلى السبب الذي ينبغي بناء عليه اعتبار بروسيا - أو أي دولة ألمانية أخرى موجودة في ذلك الوقت - النتيجة العظيمة لثلاثة آلاف عام من النضال في تاريخ العالم. عندما ألقى هيجل محاضراته حول فلسفة التاريخ، كان عهد الإصلاح الليبرالي في بروسيا على يد فون شتاين وهاردينبرج قد انتهى. كان الملك ومجموعة صغيرة من العائلات ذوات النفوذ يهيمنون على بروسيا، وافتقرت بروسيا إلى وجود برلمان ذي شأن، حيث حرمت الأغلبية العظمى من مواطنيها من إبداء رأيهم في تصريف شئون الدولة، وفرضت رقابة صارمة. كيف استطاع هيجل أن يعتبر مثل هذا المجتمع قمة الحرية الإنسانية؟ هل لنا أن نستغرب إذن قول الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، وفي ذهنه هيجل: «الحكومات تحول الفلسفة إلى وسيلة لخدمة مصالح الدولة، والعلماء يحولونها إلى تجارة»؟ أو اعتقاد كارل بوبر أن هيجل كان لديه هدف واحد وهو «محاربة المجتمع المنفتح؛ وذلك ليخدم سيده، فريدريش فيلهلم ملك بروسيا»؟
في هذا الفصل سأحاول شرح مفهوم هيجل للحرية، وفي حال نجاحي في هذه المهمة، سأكون قد أظهرت أنه بصرف النظر عن دافعه، يجب أخذ فكر هيجل حول هذا الموضوع على محمل الجد؛ لأنه يتعمق بشدة في دراسة افتراضات كثيرا ما نطرحها عندما نقول إن مجتمعا ما حر وآخر غير حر.
لقد شاهدنا أن هيجل في مقدمة كتاب «فلسفة التاريخ» يقول إن تاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية، ويضيف هيجل - بعد بضعة أسطر - أن مصطلح «الحرية» هو «مصطلح غير محدد وغامض بصورة هائلة ... وعرضة لوقوع حالات لا حصر لها من سوء الفهم والالتباس والأخطاء.» للأسف، يمتنع هيجل عن تقديم تعريف أوضح من ذلك، قائلا بدلا من ذلك إن الطبيعة الأساسية للحرية «ستظهر» في عملية تفسير تاريخ العالم. لكن هذا لا يكفي تماما. قد تكون دراستنا لكتاب «فلسفة التاريخ» أعطتنا لمحة عن رؤية هيجل للحرية، لكن إن صح هذا، فهي لمحة تستلزم على نحو سريع شرحا إضافيا لتعليقات هيجل الأكثر وضوحا عن الأمر في كتابه «فلسفة الحق».
أولا: سأتحدث عن العنوان. يوحي العنوان: «فلسفة الحق» للقارئ العادي بأن الكتاب يتناول موضوع الصواب والخطأ؛ أي دراسة حول الأخلاق. بالفعل تبرز الأخلاق في الكتاب، لكن موضوعه أقرب للفلسفة السياسية. الكلمة الألمانية في عنوان كتاب هيجل المترجمة إلى «الحق» هي
Recht . قد تعني هذه الكلمة «الحق»، لكن لها دلالات أوسع، بما في ذلك «القانون»، حين نشير إلى «القانون» كمفهوم لا إلى قانون بعينه. وهكذا يعبر كتاب «فلسفة الحق» عن أفكار هيجل الفلسفية حول الأخلاق وعلم القانون والمجتمع والدولة. ونظرا لأن الحرية دائما ما تكون محورية لدى هيجل، يتضمن هذا الكتاب أكثر معالجة تفصيلية للحرية على المستويين الاجتماعي والسياسي. بالطبع يتضمن معالجات لموضوعات أخرى أيضا، لكنني سأتغاضى عنها من أجل السعي وراء مفهوم الحرية المهم.
الحرية المجردة
من الأفضل أن نبدأ بشيء مألوف. تأمل ما يمكن أن نطلق عليه المفهوم الليبرالي الكلاسيكي للحرية. يرى الليبراليون عامة الحرية بوصفها غياب القيود؛ فأنا حر إذا لم يتدخل الآخرون في شئوني ولم يجبروني على فعل شيء لا أرغب في القيام به؛ أنا حر عندما أقوم بما يحلو لي. أنا حر عندما يدعني الآخرون وشأني. هذا هو مفهوم الحرية الذي أطلق عليه أشعيا برلين «الحرية السلبية» في مقاله الشهير «مفهومان للحرية».
كان هيجل على دراية بهذا المفهوم للحرية، لكنه، على عكس برلين وكثير غيره من الليبراليين والمؤمنين بحرية الإرادة المعاصرين الذين يرون أن هذا هو أفضل شكل للحرية، يشير إليه بالحرية الشكلية أو المجردة ؛ أي إنه يتسم بمظهر الحرية لكن دون جوهرها. يقول هيجل: «إذا سمعنا من يقول إن تعريف الحرية هو القدرة على فعل ما يحلو لنا، فإن هذه الفكرة لا تعكس سوى عدم نضوج فكري تام؛ لأنها لا تتضمن حتى تلميحا إلى الإرادة الحرة كليا والحق والحياة الأخلاقية وغيرها.» إن اعتراض هيجل على هذا المفهوم للحرية يرجع إلى أنه يجعل اختيارات الفرد الأساس الذي يجب أن تبدأ منه الحرية؛ أما كيف ولماذا يتم اتخاذ هذه الاختيارات، فهو السؤال الذي لا يطرحه أصحاب هذا المفهوم بشأن الحرية. لكن هيجل يطرح هذا السؤال، وإجابته هي أن اختيار الفرد، بمعزل عن أي شيء آخر، هو نتاج ظروف قسرية؛ لذا فهو اختيار غير حر حقا.
يبدو هذا غطرسة؛ فكيف يجرؤ هيجل على إخبارنا بأن اختياراتنا قسرية، بينما اختياراته - كما هو مفترض - حرة بحق؟ أليست هذه محاولة سافرة لفرض قيمه علينا؟
ربما، لكن قد نصبح أكثر تعاطفا مع ما يحاول هيجل قوله إذا ما تأملنا جدالا معاصرا مشابها. يعتقد بعض علماء الاقتصاد أن الاختبار الحقيقي لقياس سلامة أي نظام اقتصادي هو مدى تمكينه للناس من تلبية تفضيلاتهم. يتخذ علماء الاقتصاد هؤلاء من التفضيلات الفردية أساسا يجب أن تبدأ منه عملية التقييم. هم لا يسألون عن كيفية تشكل هذه التفضيلات. يقول علماء الاقتصاد هؤلاء إن الاختيار من بين التفضيلات، وإعطاء بعض التفضيلات أهمية أكثر من الأخرى - دون النظر إلى مستويات الأهمية المختلفة التي وضعها الأفراد أنفسهم لتفضيلاتهم - قد تكون محاولة سافرة لفرض قيمنا الشخصية على الآخرين عبر إنكار قدرتهم على تحديد ما يرغبون فيه حقا من حياتهم.
شكل : أشعيا برلين (1909-1997).
سأطلق على علماء الاقتصاد هؤلاء «الاقتصاديين الليبراليين»، وهناك أيضا نقاد لهؤلاء الاقتصاديين، سأطلق عليهم «الاقتصاديين الراديكاليين». يطرح الاقتصاديون الراديكاليون بعض الأسئلة حول كيفية تشكل التفضيلات الفردية قبل أن يوافقوا على اعتبار هذه التفضيلات الأساس الأوحد لحكمهم على سلامة أي نظام اقتصادي. ويضربون أمثلة مشابهة لما يلي: افترض أن في وقت ما تقبل الناس في مجتمعنا رائحة الجسد البشري الطبيعية كأمر مسلم به، وأن عرق الإنسان وإمكانية أن تفوح رائحة منه هما من الأشياء التي لا يلاحظونها إلا بالكاد؛ وبقدر عدم ملاحظتهم لها، هم لا يعتبرون تلك الرائحة كريهة. ثم يكتشف شخص ما منتجا يمنع العرق والرائحة التي تنتج عنه. هذا اكتشاف رائع، لكن في المجتمع الذي وصفناه، سيكون الاهتمام بهذا المنتج محدودا للغاية. ومع ذلك، لا يستسلم صاحب المنتج بسهولة، ويطرح حملة دعائية ذكية تم تصميمها لتثير قلق الناس بشأن ما إذا كانوا يتصببون عرقا أكثر من الآخرين، وما إذا كان أصدقاؤهم قد يجدون رائحة جسدهم كريهة. تنجح حملته الدعائية، ويتشكل لدى الناس تفضيل لاستخدام المنتج الجديد. ونظرا لتوافر المنتج على نطاق واسع وبسعر في متناولهم، يمكنهم تلبية هذا التفضيل. من وجهة نظر الاقتصاديين الليبراليين، كل هذا رائع؛ فعمل الاقتصاد بهذه الطريقة لا يعطيهم أي سبب لمنحه تصنيفا أقل إيجابية مما كان من الممكن أن يمنحوه إياه بخلاف ذلك. أما الاقتصاديون الراديكاليون، فيرون أن هذا عبث واضح. ولتجنب مثل هذا العبث - في رأيهم - يجب على الاقتصاديين التصدي للمهمة الصعبة المتمثلة في التدقيق في أساس تكوين هذه التفضيلات والحكم على الأنظمة الاقتصادية وفقا لقدرتها على تلبية - ليس فقط أي تفضيلات، ولكن - التفضيلات القائمة على احتياجات إنسانية حقيقية أو التي تسهم في تحقيق منفعة إنسانية فعلية. يقول الاقتصاديون الراديكاليون بأننا إذا اتبعنا طريقتهم، فلا يمكننا الزعم بأن تقييمنا سيكون متجردا من القيمة، لكنهم يضيفون أنه لا توجد أي طريقة لتقييم أي نظام اقتصادي يمكن أن تكون متجردة من القيمة. فطريقة التقييم التي يستخدمها الاقتصاديون الليبراليون اعتمدت ببساطة على قيمة تلبية التفضيلات الحالية فقط. وهكذا يكون الحكم القيمي مضمنا في استخدام هذه الطريقة، على الرغم من كونه متخفيا تحت عباءة الموضوعية. فالاقتصاديون الليبراليون يباركون في الواقع أي ظروف تصادف تأثيرها على تفضيلات الناس.
هناك تشابه واضح بين هذا الجدال وجدال هيجل مع من يعرفون الحرية بأنها القدرة على فعل ما يحلو لنا. فهذا المفهوم السلبي للحرية يشبه مفهوم الاقتصاديين الليبراليين عن النظام الاقتصادي الجيد؛ فهو يرفض طرح أسئلة حول المؤثرات التي تشكل «المتع» التي نستمتع بها عندما نكون أحرارا في فعل ما يحلو لنا. يؤكد أصحاب هذا المفهوم عن الحرية أن طرح مثل هذا السؤال واستخدام الإجابات عنه كأساس لفرز الاختيارات الحرة الحقيقية عن الاختيارات الحرة في ظاهرها فقط وليس في جوهرها، سيكون كمن يسجل قيمه الشخصية في مفهوم الحرية. ويأتي رد هيجل، مثل رد الاقتصاديين الراديكاليين، أن المفهوم السلبي للحرية يستند بالفعل إلى قيمة، قيمة الفعل التي تستند إلى الاختيار، بصرف النظر عن كيفية الوصول إلى هذا الاختيار أو مدى كونه قسريا. بكلمات أخرى، يبارك مفهوم الحرية السلبي أي ظروف تصادف تأثيرها على طريقة اختيار الناس.
إذا كنت موافقا على أنه من العبث عدم رؤية أي وجه اعتراض على نظام اقتصادي يقوم بإنشاء تفضيلات جديدة على نحو زائف، حتى يتربح البعض من تلبية تلك التفضيلات، فيجب حينها أن تقر بأن الاقتصاديين الراديكاليين على حق. بالطبع سيكون من الصعب فرز التفضيلات التي تسهم في تحقيق منفعة إنسانية حقيقية عن التفضيلات التي لا تفعل ذلك. وقد يكون من المستحيل الوصول إلى اتفاق بهذا الشأن. ومع ذلك، يجب ألا تكون صعوبة المهمة سببا لتقبل جميع التفضيلات كمقياس لسلامة أي نظام اقتصادي.
إذا كنت موافقا على أن الاقتصاديين الراديكاليين على حق، فلا ينقصك إلا خطوة واحدة صغيرة كي توافق على أن هيجل على حق. في الواقع، هي ليست خطوة على الإطلاق؛ فقد استبق هيجل النقطة الرئيسية لموقف الاقتصاديين الراديكاليين، وهي النقطة التي أصبحت شائعة في العصور الحديثة على يد جيه كيه جالبريث وفانس باكارد ومجموعة كبيرة من النقاد الآخرين للاقتصاد الصناعي. فنجد هيجل يكتب في مستهل أيام المجتمع الاستهلاكي، لكن بإدراك كاف للتعرف على الطريق الذي كان يسلكه:
إن ما يطلق عليه الإنجليز «الراحة» هو شيء لامتناه ولا حد له. ويمكن أن يكشف لك آخرون أن ما تعتبره راحة في مرحلة ما هو مشقة، ومثل هذه الاكتشافات لا تنتهي أبدا . ولذلك فإن الحاجة إلى مقدار أكبر من الراحة لا تنبع تحديدا من داخلك مباشرة، بل يوحي إليك بها أولئك الذين يأملون في التربح منها.
يأتي هذا التعليق في جزء من كتاب «فلسفة الحق» يتناول ما يطلق عليه هيجل «نسق الحاجات»، ويأتي على إثر إشارة إلى شخصيات بارزة في النظرية الاقتصادية الليبرالية الكلاسيكية، وهم آدم سميث وجيه بي ساي وديفيد ريكاردو. يوضح نقد هيجل لنسق الحاجات هذا أن سبب معارضته للرؤية الاقتصادية الليبرالية للمجتمع هو في جوهره السبب نفسه الذي يبديه الاقتصاديون الراديكاليون اليوم. وخلف هذا يكمن منظور هيجل التاريخي الثابت. فلا تغيب عن ناظره مطلقا حقيقة أن احتياجاتنا ورغباتنا يشكلها المجتمع الذي نحيا فيه، وأن هذا المجتمع في المقابل هو مرحلة في عملية تاريخية. وهكذا تكون الحرية المجردة - أي حرية أن نفعل ما يحلو لنا - هي الحرية في أن تقودنا القوى الاجتماعية والتاريخية لعصورنا.
ينبغي أن تكون وجهة نظر هيجل الآن قد بدت منطقية بما يكفي بوصفها نقدا للمفهوم السلبي للحرية. ومع ذلك، ماذا ينوي أن يضع مكانه؟ فجميعنا يجب أن يحيا في مجتمع محدد وفترة محددة من التاريخ. وسنتشكل جميعا بواسطة المجتمع والعصور التي نحيا فيها. فكيف يمكن إذن للحرية أن تكون أي شيء بخلاف حرية أن نفعل ما تسوقنا القوى الاجتماعية والتاريخية إلى فعله؟
الحرية والواجب
بعض رغباتنا هي نتيجة لطبيعتنا، مثل الرغبة في الأكل التي ولدنا بها، أو الرغبات الجنسية التي ولدنا بإمكانية تنميتها. وتشكلت معظم رغباتنا الأخرى نتيجة لنشأتنا وتعليمنا والمجتمع الذي نحيا فيه والبيئة المحيطة بنا عموما. وسواء أكان أصل هذه الرغبات بيولوجيا أو اجتماعيا، ففي كلتا الحالتين نحن لم نخترها. ونظرا لأننا لم نختر رغباتنا، فنحن لسنا أحرارا عندما نتصرف وفقا لرغباتنا.
هذه الحجة تذكرنا بكانط أكثر مما تذكرنا بهيجل، لكن هيجل يتفق معها حتى حد معين. لنتتبع هذه الحجة لأبعد من ذلك قليلا. إذا لم نكن أحرارا عندما نتصرف وفقا لرغباتنا، فحينها يبدو أن الطريق الوحيد الممكن نحو الحرية هو تطهير أنفسنا من كل الرغبات. لكن ماذا سيتبقى لنا حينئذ؟ يجيب كانط عن هذا السؤال بقوله: العقل. إن الدافع للعمل يمكن أن يأتي من الرغبات أو من العقل. تخلصوا من الرغبات، وسيتبقى لنا عقل عملي خالص.
إن فكرة كون الأفعال تستند إلى العقل وحده ليس من السهل استيعابها. يمكننا التحدث بسهولة عن كون أفعال شخص ما عقلانية أو غير عقلانية، لكننا عادة ما نفعل ذلك في معرض الغايات أو الأهداف النهائية لهذا الشخص، وهذه الغايات ستكون قائمة على الرغبات. فعلى سبيل المثال، إن معرفة أن هيلين، وهي ممثلة شابة وموهوبة، ترغب في اقتحام عالم السينما يمكن أن تجعلني أقول إنه سيكون تصرفا غير عقلاني منها أن تأكل الكثير من الحلوى لدرجة تصبح معها بدينة، لكن في حال سئلت إذا ما كنت أعتبر رغبة هيلين في أن تصبح نجمة سينمائية هو تصرف عقلاني، فماذا يمكن أن أقول؟ يمكن فقط أن أقول إن هذا النوع من الرغبات أساسي للغاية بحيث لا يمكن أن يكون عقلانيا أو غير عقلاني: إنه مجرد شيء لا يمكن تفسيره عن المرأة. هل من الممكن أن يكون هناك أحكام تتعلق بالعقلانية أو عدم العقلانية لا تستند إلى رغبات أساسية من هذا النوع؟
يقول كانط إن ذلك ممكن. فعندما نتخلص من جميع الرغبات الخاصة، حتى أكثرها أساسية، لا يتبقى لنا سوى عامل العقلانية المجرد والأساسي؛ وهذا العامل المجرد والأساسي هو الشكل الكوني العام للقانون الأخلاقي ذاته. هذا هو مبدأ كانط الشهير «الأمر المطلق» الذي يصيغه كما يلي: «تصرف دائما بحيث يمكن لمبدأ فعلك أن يكون قانونا كونيا للطبيعة.»
إن الخطوة الأكثر إرباكا في هذا هي الانتقال من العقلانية المجردة والأساسية إلى فكرة شيء كوني. يعتقد كانط - ويوافقه هيجل على نحو واضح - أن العقل كوني ضمنيا. فإذا علمنا أن جميع البشر فانون وأن سقراط كان إنسانا، فإذن تخبرنا قاعدة عقلية أن سقراط فان. إن القاعدة العقلية التي تخبرنا بهذا هي قاعدة كونية؛ فهي لا تقتصر على اليونانيين أو الفلاسفة أو حتى سكان كوكب الأرض فقط، بل تمتد لتشمل جميع الكائنات العاقلة. في التفكير العملي - أي التفكير بشأن ما تفعل - كثيرا ما يتم حجب هذا العامل الكوني من خلال حقيقة أننا نبدأ من رغبات خاصة غير كونية على الإطلاق. تأمل هذا النموذج من التفكير العملي: «أريد أن أصبح غنيا، ويمكنني الاحتيال على صاحب العمل في مبلغ مليون دولار دون أن يكتشف أمري؛ لذا ينبغي أن أحتال على صاحب العمل.» هنا يبدأ التفكير من منطلق رغبتي في أن أصبح غنيا. لا يوجد أي شيء كوني بشأن هذه الرغبة. «لا تنخدع بحقيقة أن كثيرا من الناس يرغبون في أن يصبحوا أغنياء؛ الرغبة التي بدأت منها هذا التفكير هي رغبتي أنا، بيتر سينجر، في أن أصبح غنيا. القليل جدا جدا من الناس يشتركون معي في هذه الرغبة.» ونظرا لعدم وجود أي شيء كوني بشأن نقطة انطلاق هذا النموذج من التفكير، فلا يوجد أي شيء كوني بشأن نتيجته، التي لا تنطبق بالتأكيد على جميع الكائنات العاقلة. ومع ذلك، فإن كنا نفكر بشأن ما نفعله دون الانطلاق من أي رغبة خاصة، فليس هناك ما يمنع تفكيرنا من أن ينطبق على جميع الكائنات العاقلة. التفكير العملي المحض، بعيدا عن الرغبات الخاصة، يمكن فقط أن يجسد العامل الكوني في التفكير. ويؤكد كانط أنه هكذا يأخذ الشكل الذي يقتضيه الأمر المطلق.
إذا كان كانط على حق، فشكل التصرف الوحيد الذي لا ينتج عن رغباتنا الفطرية أو الاجتماعية هو التصرف وفقا للأمر المطلق. إذن فالتصرف يكون حرا فقط إذا كان وفقا للأمر المطلق. ونظرا لأن التصرف الحر فقط هو الذي يمكن أن يكون ذا قيمة أخلاقية حقيقية، يجب ألا يقتصر الأمر المطلق على كونه الأمر الأعلى للعقل، بل أن يكون أيضا القانون الأعلى للأخلاق.
هناك نقطة أخيرة ضرورية لإكمال الصورة. إذا كان تصرفي حرا، فلا يمكن أن يكون دافعي للتصرف وفقا للأمر المطلق هو أي رغبة خاصة يمكن أن تكون لدي؛ لذلك لا يمكن أن تكون رغبتي أن أدخل الجنة أو أن أحظى باحترام أصدقائي، ولا رغبتي الخيرية في فعل الخير للآخرين. يجب أن يكون دافعي ببساطة هو التصرف وفقا للقانون الكوني للعقل والأخلاق لذاته، ويجب أن أقوم بواجبي لأنه واجبي. إن الدافع الأعلى للعمل الأخلاقي عند كانط أحيانا ما تلخص في الشعار التالي: «الواجب من أجل الواجب.» إنه ينبع بالتأكيد مما قاله كانط بأننا أحرار عندما نقوم بواجبنا لذاته وليس خلاف ذلك.
وهكذا وصلنا إلى استنتاج أن الحرية تكمن في القيام بواجبنا. سيجد القارئ المعاصر هذا الاستنتاج متناقضا؛ فمصطلح «الواجب» أصبح مرتبطا بطاعة قوانين المؤسسات التقليدية، مثل الجيش والأسرة. وعندما نتحدث عن القيام بواجبنا، كثيرا ما نقصد أننا نقوم بما لا نفضل القيام به، لكن نشعر بأننا مجبرون على القيام به وفقا للقوانين العرفية التي لا نرغب في تحديها. إن «الواجب» بهذا المعنى هو مضاد الحرية.
إذا كان هذا هو أساس اعتبار هذا الاستنتاج - أن الحرية تكمن في القيام بواجبنا - متناقضا، فإذن ينبغي أن ننحيه جانبا. فاستنتاج كانط كان أن الحرية تكمن في القيام بما نراه واجبنا حقا بالمعنى الأوسع للمصطلح. ولصياغة وجهة نظره بطريقة قد يكون القارئ المعاصر أكثر استعدادا لقبولها نقول: الحرية تكمن في اتباع الضمير الشخصي. هذا يعبر بدقة عما قصده كانط، ما دمنا نتذكر أن «الضمير» هنا لا يعني «الصوت الداخلي» المشروط بظروف اجتماعية الذي قد أسمعه، بل يعني الضمير الذي يستند إلى قبول عقلاني للأمر المطلق بوصفه القانون الأخلاقي الأعلى. وبهذه الصياغة، قد لا يزال الاستنتاج الذي توصلنا له حتى الآن صعب التصديق، لكن ينبغي ألا يبدو متناقضا بعد الآن. فحرية الضمير، على أي حال، معروفة على نطاق واسع بأنها جزء محوري مما نؤمن بأنه الحرية، حتى وإن لم تكن الحرية بأكملها.
حان وقت العودة إلى هيجل. الكثير مما كنت أصفه على أنه رأي كانط، هو أيضا رأي هيجل. فنحن لسنا أحرارا عندما نتصرف انطلاقا من رغبات فطرية أو اجتماعية معينة، والعقل كوني بصورة أساسية، كما أن الحرية يمكن العثور عليها في ما هو كوني؛ كل هذه الآراء يستقيها هيجل من كانط ويتبناها. علاوة على ذلك، في كتاب «فلسفة التاريخ» - كما رأينا - يعتبر هيجل حركة الإصلاح الديني فجر العصر الجديد للحرية؛ لأنها تنادي بحقوق الضمير الفردي. وهكذا يرى هيجل - مثله مثل كانط - علاقة بين الحرية وتطور الضمير الفردي. كما لا يعارض هيجل فكرة أن الحرية تكمن في القيام بواجبنا. الواجب - يقول هيجل - يظهر كقيد على رغباتنا الطبيعية أو القسرية، لكن الحقيقة هي أن «في الواجب، يجد الفرد تحرره ... من دافع طبيعي خالص ... في الواجب يكتسب الفرد حريته الحقيقية.» قال هيجل معلقا بشكل مباشر على ما قاله كانط: «عند القيام بواجبي، أنا مستقل وحر. إن التأكيد على هذا المعنى للواجب يشكل أهم ما يميز فلسفة كانط وشموخ رؤيتها.»
إذن يرى هيجل أن القيام بواجبنا لذاته هو تقدم بارز عن الفكرة السلبية للحرية بوصفها فعل ما يحلو لنا. ومع ذلك، نجد أن هيجل غير راض عن رؤية كانط. نعم هو يرى العوامل الإيجابية فيه، لكنه في الوقت ذاته من أشد النقاد اللاذعين له. فالجزء الثاني من كتاب «فلسفة الحق»، الذي يحمل عنوان «الأخلاق»، هو في معظمه هجوم على نظرية كانط الأخلاقية.
لهيجل وجها اعتراض؛ يتمثل أولهما في أن نظرية كانط لا تتعمق مطلقا إلى تفاصيل ما يجب أن نفعله. وذلك ليس نتيجة لعدم اهتمام كانط نفسه بمثل هذه المسائل العملية، لكن نتيجة لأن نظريته بالكامل تؤكد بشدة أن الأخلاق يجب أن تستند إلى التفكير العقلي العملي المحض، مجردة من أي دوافع خاصة. ونتيجة لذلك، لا يمكن أن تقدم النظرية سوى الشكل المجرد والكوني للقانون الأخلاقي؛ فهي لا تستطيع أن تخبرنا بماهية واجباتنا المحددة. يقول هيجل إن هذا الشكل الكوني هو ببساطة مبدأ الاتساق أو عدم التناقض. فإن لم تكن لدينا نقطة لننطلق منها، فلن نصل إلى أي مكان. على سبيل المثال، إن قبلنا بصحة التملك، تكون السرقة غير متسقة؛ لكن يمكننا إنكار أن التملك يولد أي حقوق، ونكون لصوصا متسقين تماما. فإذا كان التوجيه «تصرف بما لا يناقض ذاتك !» هو المحرك الوحيد لتصرفاتنا ، فقد نجد أنفسنا لا نفعل شيئا على الإطلاق.
شكل : هيجل أثناء إلقاء محاضرة.
سيكون هذا الاعتراض على مبدأ الأمر المطلق الخاص بكانط مألوفا ليس فقط لتلاميذ كانط، بل أيضا للمهتمين بالفلسفة الأخلاقية المعاصرة. لا يزال هناك إصرار واسع النطاق على أهمية مطلب كون المبادئ الأخلاقية كونية في شكلها - على سبيل المثال، من قبل آر إم هير، مؤلف كتابي «الحرية والعقل» و«التفكير الأخلاقي» - كما أن الاعتراض على أن هذا المطلب هو نوع من الشكليات الفارغة التي لا تخبرنا بشيء لا يزال يطرح على نحو متكرر. ودفاعا عن كانط، قد تم اقتراح تفسير نظريته بوصفها تسمح لنا بالانطلاق من رغباتنا، لكنها تتطلب منا التصرف حيالها فقط في حال قدرتنا على وضعها في شكل كوني؛ أي أن نقبلها كأساس ملائم للتصرف لأي شخص في موقف مماثل. يستبق هيجل هذا التفسير زاعما أن أي رغبة يمكن أن توضع في شكل كوني؛ ولذا ما إن يسمح بأن نتخذ رغبات خاصة كنقطة انطلاق لتصرفاتنا، فلا يمكن لمطلب الشكل الكوني منعنا من تبرير أي تصرف غير أخلاقي يخطر ببالنا.
أما اعتراض هيجل الثاني على كانط، فهو أن رؤية كانط تجعل الإنسان منقسما على نفسه، وتضع العقل في صراع أبدي مع الرغبة، وتحرم الجانب الطبيعي للإنسان من أي حق للإشباع. فرغباتنا الطبيعية هي شيء يجب كبته، ويكلف كانط العقل بمهمة كبتها الشاقة، إن لم تكن المستحيلة. في هذا الاعتراض - كما رأينا - كان هيجل يتفق مع طرح شيلر في كتابه «محاضرات في التربية الجمالية للإنسان»، إلا أن هيجل استغل نقد شيلر بطريقته الخاصة.
يمكننا وضع هذه النقطة في سياق مشكلة أخرى مألوفة متعلقة بالأخلاق الحديثة. إن اعتراض هيجل الرئيسي الثاني على نظرية كانط الأخلاقية هو أنها لا تقدم حلا للتعارض بين الأخلاق والمصلحة الشخصية؛ فكانط ترك السؤال التالي دون إجابة ودون إمكانية الإجابة عنه أبدا: «لماذا ينبغي أن نكون على خلق؟» لقد أخبرنا أنه ينبغي علينا القيام بواجبنا لذاته، وأن البحث عن أي سبب آخر هو بعد عن الدافع الحر والخالص الذي تتطلبه الأخلاق؛ لكن هذه ليست إجابة بأي حال من الأحوال، بل مجرد رفض للسماح للسؤال بأن يطرح.
في كتابه «محاضرات في التربية الجمالية للإنسان»، أشار شيلر إلى وقت مضى لم يكن فيه هذا السؤال ببساطة قد طرح، ولم تكن فيه الأخلاق قد انفصلت عن المثل العرفية للحياة الجيدة، ولم يكن فيه هناك مفهوم كانط عن الواجب. رأى هيجل أنه بمجرد أن طرح السؤال، أصبح من المستحيل عودة الأخلاق العرفية. على أي حال، اعتبر هيجل مفهوم كانط عن الواجب تقدما يجب عدم الندم عليه؛ لأنه يساعد الإنسان الحديث في أن يصبح حرا بطريقة لم يتمكن اليونانيون - وهم مكبلون في آفاقهم العرفية الضيقة - مطلقا من تحقيقها. إن ما سعى هيجل لفعله هو أن يجيب عن السؤال على نحو يجمع بين الإشباع الطبيعي لأسلوب حياة اليونانيين والضمير الحر لفكرة كانط عن الأخلاق. وكانت إجابته في الوقت ذاته تقدم علاجا للخلل الرئيسي الآخر في نظرية كانط؛ ألا وهو الافتقار التام للمضمون.
المجتمع العضوي
يجد هيجل أن الجمع بين الإشباع الفردي والحرية يتوافق مع الطبيعة الاجتماعية للمجتمع العضوي. السؤال الآن: ما شكل المجتمع الذي كان يجول في خاطره؟
قرب نهاية القرن التاسع عشر، تبنى الفيلسوف البريطاني إف إتش برادلي - الذي قد لا يكون على نفس مستوى هيجل بوصفه مفكرا أصيلا، لكنه بالتأكيد يتفوق عليه في أسلوب الكتابة - فكرة هيجل عن المجتمع العضوي؛ لذلك سأجعل عرض برادلي لأساس التناغم بين المصلحة الشخصية والقيم المجتمعية يتحدث نيابة عن هيجل. يصف برادلي تطور الطفل الذي ينشأ في مجتمع كالتالي:
يولد ... الطفل ... في عالم حي ... هو لا يفكر حتى في ذاته المستقلة؛ ينمو مع عالمه، عقله يملأ نفسه ويأمرها؛ وعندما يستطيع فصل ذاته عن ذلك العالم والتعرف عليها بعيدا عنه، تكون نفسه - المسئولة عن وعيه بذاته - حينئذ قد تم اختراقها وإفسادها، ويجد بها آخرين. ويظهر مضمونها في كل جانب منها الارتباط بالمجتمع. فهو يتعلم، أو ربما يكون قد تعلم بالفعل، أن يتحدث، وهنا يستغل الإرث المشترك لبني جنسه، اللغة التي يعتبرها خاصة به هي لغة بلاده، فهي ... نفسها التي يتحدث بها الآخرون وتحمل إلى عقله أفكار بني جنسه وعواطفهم ... وتميزها بسمة لا يمكن محوها. يكبر في إطار القدوة والتقاليد العامة ... وروحه التي بداخله تشبعت، وامتلأت، وتميزت، وتكيفت، وتوصلت إلى جوهرها، وأنشأت نفسها، هي ذاتها الحياة في الحياة الكونية، وإذا ما انقلب عليها، فهو ينقلب على نفسه.
شكل : إف إتش برادلي (1846-1924).
إن وجهة نظر برادلي، وهيجل، هي أنه نظرا لأن احتياجاتنا ورغباتنا يشكلها المجتمع، يقوم المجتمع العضوي بتشجيع الرغبات التي تفيده أكثر، كما يرسخ في أذهان أعضائه أن هويتهم تكمن في كونهم جزءا منه حتى لا يفكروا مطلقا في الخروج عليه سعيا وراء مصالحهم الشخصية، وهذا يشبه تفكير أحد أعضاء الجسم البشري، كأن تفكر الذراع اليسرى في الانفصال عن الكتف سعيا لإيجاد شيء أفضل للقيام به بدلا من إدخال الطعام في فم الإنسان. وينبغي أيضا ألا ننسى أن العلاقة بين الكائن الحي وأعضائه هي علاقة تبادلية؛ فأنا بحاجة إلى ذراعي اليسرى وذراعي اليسرى بحاجة إلي. لن يتجاهل المجتمع العضوي مصالح أعضائه مثلما لا يمكنني تجاهل حدوث إصابة في ذراعي اليسرى.
إذا أمكننا قبول هذا النموذج العضوي للمجتمع، فيمكننا ضمان أنه سينهي الصراع القديم بين مصالح الفرد ومصالح المجتمع. لكن كيف يحافظ هذا النموذج على الحرية؟ ألا يظهر مجرد امتثال ضيق الأفق للعادات والتقاليد؟ وفيم يختلف عن المجتمعات اليونانية التي يعتبرها هيجل مفتقرة للمبدأ الرئيسي للحرية الإنسانية الذي قدمته حركة الإصلاح الديني، والذي عبر عنه - ولو من جانب واحد - مفهوم كانط عن الواجب؟
يختلف مواطنو مجتمع هيجل عن مواطني العالم اليوناني؛ لأنهم بالتأكيد ينتمون إلى عصر تاريخي مختلف، ولديهم الإنجازات التي حققتها روما، والمسيحية، وحركة الإصلاح الديني باعتبارها جزءا من تراثهم الفكري. وهم على دراية بقدرتهم على تحقيق الحرية وقدرتهم على اتخاذ قراراتهم الشخصية وفقا لضمائرهم. فالأخلاق العرفية، التي تتطلب الامتثال لقوانينها لأن العرف ببساطة يقضي بالامتثال لها، لا يمكن أن تتحكم في طاعة الأشخاص ذوي التفكير الحر (لقد رأينا كيف كان تشكيك سقراط تهديدا خطيرا لأساس المجتمع في أثينا). لا يمكن أن يمتثل الأشخاص ذوو التفكير الحر إلا للمؤسسات التي يؤمنون أنها تعمل وفقا للمبادئ العقلانية؛ لذا فإن المجتمع العضوي الحديث، على عكس المجتمعات القديمة، يجب أن يقوم على مبادئ العقل.
رأينا في كتاب «فلسفة التاريخ» ما حدث عندما تجرأ الناس للمرة الأولى على إسقاط المؤسسات غير العقلانية وتأسيس دولة جديدة تستند إلى المبادئ العقلانية الخالصة. لقد أدرك قادة الثورة الفرنسية العقل بمعناه المجرد والكوني الخالص، الذي لم يكن ليتسامح مع النزعات الطبيعية للمجتمع. كانت الثورة هي التجسيد السياسي للخطأ الذي وقع فيه كانط فيما يتعلق بمفهومه المجرد والكوني الخالص عن الواجب، الذي لم يكن ليتسامح مع الجانب الطبيعي للبشر. وامتثالا لهذه العقلانية الخالصة، تم إلغاء الملكية، وجميع طبقات النبلاء الأخرى، وتم إحلال ديانة «عبادة العقل» محل الديانة المسيحية، وتم إلغاء نظام الموازين والمقاييس القديم لإفساح المجال للنظام المتري الأكثر عقلانية، حتى التقويم تم إصلاحه؛ وكانت النتيجة الإرهاب، الذي يتصارع فيه ما هو كوني خالص مع الفرد ويتخلص منه. أو لنصيغه بكلمات مختلفة عن لغة هيجل: ترى الدولة الأفراد بوصفهم أعداءها وتقتلهم.
وعلى الرغم من فجاعة فشل الثورة الفرنسية بالنسبة لأولئك الذين عانوا منها، هناك درس مهم يجب تعلمه؛ وهو أنه لبناء دولة على أساس عقلاني بحق يجب ألا ندمر كل شيء ونحاول البدء من نقطة الصفر تماما، بل يجب أن نبحث عما هو عقلاني في العالم الحالي ونسمح لهذا العامل العقلاني بالانطلاق لأقصى مدى. وبهذه الطريقة، يمكننا أن نضيف إلى العقل والفضيلة الموجودين بالفعل في المجتمع.
فيما يلي قصة رمزية حديثة يمكن أن توضح سبب نظرة هيجل إلى الثورة الفرنسية باعتبارها فشلا مجيدا، وما قد نتعلمه منها: عندما بدأ الناس الحياة في المدن، لم يفكر أحد في تخطيط المدن، بل قاموا فقط بإنشاء منازلهم ومتاجرهم ومصانعهم في أي مكان بدا لهم أكثر ملاءمة، ونمت المدن بطريقة فوضوية تماما. ثم أتى شخص ما وقال: «هذا أمر سيئ! نحن لا نفكر بشأن المظهر الذي نرغب في أن تبدو عليه مدننا. حياتنا تحكمها المصادفة! نحتاج شخصا ما لتخطيط مدننا، ليجعلها تتماشى مع تصورنا للجمال والحياة الجيدة.» وهكذا ظهر مخططو المدن، الذين أزالوا الأحياء القديمة وأنشئوا مباني سكنية عالية عصرية، يحيط بها طوق من المروج الخضراء. وتم توسيع الطرق وتسويتها، ووضع مراكز التسوق في منتصف مساحات شاسعة لانتظار السيارات، وعزل المصانع بعناية بعيدا عن المناطق السكنية. ثم جلس مخططو المدن في انتظار أن يشكرهم الناس، لكن الناس تذمروا؛ لأنهم عندما ينظرون من شققهم المرتفعة لا يتمكنون من رؤية أطفالهم وهم يلعبون في المروج التي تبعد مسافة عشرة أدوار عنهم؛ تذمروا لافتقادهم المتاجر الصغيرة المحلية، ولأن المسافة كانت بعيدة ليعبروا كل هذه المروج الخضراء وأماكن انتظار السيارات ليصلوا إلى مراكز التسوق؛ تذمروا لأنه نتيجة لاضطرار كل شخص الآن أن يقود سيارته إلى العمل، أصبحت تلك الطرق المستوية والواسعة الجديدة تعاني من اختناق مروري. وأسوأ من كل ذلك، أنهم تذمروا لأن أحدا لم يعد يسير في الشوارع؛ مما جعل الشوارع غير آمنة، وأصبح السير عبر هذه المروج الخضراء الفاتنة بعد أن يحل الظلام أمرا خطيرا. ولذلك تم الاستغناء عن مخططي المدن القدامى وظهر جيل جديد من مخططي المدن، كان قد تعلم من أخطاء سابقيهم. وأول ما قام به مخططو المدن الجدد هو وقف هدم الأحياء القديمة. وبدلا من هذا، بدءوا ملاحظة السمات الإيجابية في المدن القديمة غير المخططة، وراقتهم الآفاق المتعددة للشوارع الضيقة غير المستوية، ولاحظوا كيف كان ملائما وجود متاجر ومساكن وحتى مصانع صغيرة بعضها بجانب بعض، كما لاحظوا كيف حدت هذه الشوارع من حركة المرور، وشجعت الناس على السير، وجعلت مركز المدينة نشطا وآمنا. وهذا لا يعني أن إعجابهم بالمدن القديمة غير المخططة كان بلا تحفظات؛ فكان هناك بعض الأشياء التي تحتاج إلى تنظيم، فتم نقل بعض الصناعات المزعجة على وجه الخصوص من المناطق السكنية، وتم ترميم العديد من المباني القديمة أو إحلال مبان بدلا منها تتماشى مع البيئة المحيطة. ومع ذلك، فإن ما اكتشفه مخططو المدن الجدد هو أن المدن القديمة كانت جيدة، وهذا هو العامل الذي كان يجب الحفاظ عليه، بصرف النظر عن الإصلاحات التي قد تظل مرجوة.
إن المدن القديمة غير المخططة تشبه المجتمعات القديمة التي نشأت على أساس التقاليد، ويشبه مخططو المدن الأوائل الثوار الفرنسيين في حماستهم لفرض العقلانية على الواقعية، بينما يمثل الجيل الثاني من مخططي المدن أتباع هيجل الحقيقيين، الذين أصبحوا أكثر حكمة لتعلمهم من الماضي وأصبحوا مستعدين للعثور على العقلانية في عالم يعد ناتجا للتكيف العملي أكثر من التخطيط المدروس.
يمكننا الآن رؤية سبب امتثال المواطنين الأحرار في العصر الحديث للمجتمع الذي - للوهلة الأولى - لا يختلف بدرجة كبيرة عن مجتمعات العالم القديم القائمة على التقاليد. يدرك هؤلاء المواطنون الأحرار المبادئ العقلانية التي يقوم عليها مجتمعهم؛ لذلك يختارون الالتزام بها بحرية.
هناك بالطبع بعض الاختلافات بين المجتمع العقلاني الحديث ومجتمعات اليونان القديمة. فنظرا لأن العصر الحديث يعلم أن جميع البشر أحرار، فقد تم إلغاء العبودية. يؤمن هيجل أنه بدون العبودية لا يستطيع الشكل الديمقراطي المستنزف للوقت المتبع في أثينا أن ينجح. أيضا لا يؤمن هيجل بالديمقراطية النيابية التي تتضمن الانتخاب العام، ويرجع ذلك من جهة إلى اعتقاده بأن الأفراد لا يمكن تمثيلهم (يقول إن «المجالات المحورية في المجتمع ومصالحها العامة» هي فقط التي يمكن تمثيلها). ومن جهة أخرى لأنه في الانتخاب العام يكون لكل صوت فردي أهمية قليلة؛ مما ينتج عنه لامبالاة واسعة الانتشار، وتصبح السلطة في يد مجمع حزبي صغير ذي مصالح خاصة.
شكل : مجتمع مخطط.
يقول هيجل إن المجتمع العقلاني هو عبارة عن ملكية دستورية. فالملكية مطلوبة لضرورة وجود سلطة القرار النهائي في مكان ما في منظومة الحكم، وفي المجتمع الحر ينبغي التعبير عن هذه السلطة بواسطة القرار الحر لشخص ما (قارن بالمجتمعات اليونانية التي كثيرا ما كانت تلجأ إلى استشارة وسيط روحي - قوة خارج المجتمع - لإرشادهم إلى القرار النهائي في المسائل العسيرة). من ناحية أخرى، يقول هيجل إنه في حال كان الدستور مستقرا، كثيرا ما لا يتبقى للملك سوى التوقيع باسمه. وهكذا يكون تكوينه الشخصي غير مهم، وسلطته غير مطلقة مثل الحاكم المطلق الشرقي. أما العناصر الأخرى للحكم في الملكية الدستورية، فهي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. تتكون السلطة التنفيذية من الموظفين العموميين. والمعيار الموضوعي الوحيد لتقلد تلك الوظائف هو الكفاءة، لكن عندما يكون هناك العديد من المرشحين المؤهلين للوظيفة، وقدراتهم النسبية لا يمكن تحديدها بدقة، يتم إدخال شرط ذاتي، ويكون تحديده هو مهمة الملك. لذلك يحتفظ الملك بحق تعيين أعضاء السلطة التنفيذية، أما السلطة التشريعية - اتساقا مع أفكار هيجل بشأن التمثيل النيابي - فتتضمن مجلسين تشريعيين، يتكون الأعلى منهما من طبقة الأعيان، أما الأدنى فيتكون من الطبقة العاملة. ومع ذلك، يتم تمثيل أصحاب «المصالح العامة»، مثل المجالس والنقابات المهنية، في المجلس التشريعي الأدنى، وليس المواطنين كأفراد.
شكل : مجتمع غير مخطط.
تناولت سريعا هذه التفاصيل المتعلقة برؤية هيجل بشأن المجتمع العقلاني؛ لأن من وجهة نظر القارئ الذي يعيش في القرن الحادي والعشرين قد تبدو تفضيلات هيجل غريبة، وقد ظهر كثيرا - وإن لم يكن دائما - عبر التجارب اللاحقة أن براهينه عليها خاطئة. وفيما يتعلق بمفهوم هيجل عن الحرية، فإن التنظيم المؤسسي الذي يفضله ليس مهما. فينبغي أن يتضح الآن أن هيجل لا يتحدث عن الحرية بالمعنى السياسي حيث تكون السيادة للشعب العامل الأساسي للمجتمع الحر، بل هو مهتم بالحرية بمعنى أعمق وأكثر تجريدا. هيجل يرى الحرية بمعنى أننا أحرار عندما نكون قادرين على الاختيار دون إجبار من أشخاص آخرين أو رغباتنا الطبيعية أو الظروف الاجتماعية. كما رأينا، يؤمن هيجل بأن مثل هذه الحرية يمكن أن تتحقق فقط عندما نختار بعقلانية، ونحن نختار على نحو عقلاني فقط عندما نختار وفقا للمبادئ الكونية. وإذا كانت هذه الاختيارات قادرة على تحقيق الإشباع الذي نستحقه، فيجب تجسيد المبادئ الكونية في مجتمع عضوي منظم على أسس عقلانية. في مثل هذا المجتمع، تتناغم مصالح الفرد ومصالح المجتمع ككل. فعند اختيار القيام بواجبي، فأنا أختار بحرية لأنني أختار بعقلانية، وأحقق إنجازي الخاص في خدمة الشكل الموضوعي لما هو كوني؛ أي الدولة. علاوة على ذلك - وهنا نجد علاج الخلل الثاني الرئيسي في نظرية كانط عن الأخلاق - ونظرا لأن القانون الكوني يتجسد في المؤسسات المادية للدولة، فقد توقف عن كونه مجردا وفارغا. فهو يصف لي الواجبات المحددة لمكاني ودوري في المجتمع.
يمكننا أن نرفض تماما وصف هيجل للمجتمع المنظم بعقلانية، ولن يؤثر رفضنا هذا على صحة مفهومه عن الحرية. كان هيجل يسعى لوصف مجتمع تكون فيه مصالح الفرد ومصالح المجتمع ككل متناغمة، وإن كان قد فشل في ذلك، فيمكن لآخرين أن يواصلوا البحث. وإن لم ينجح أحد في هذه المهمة، وإن قبلنا أنه لن ينجح أحد أبدا في ذلك، فيجب علينا أن نقر بأن الحرية - بالمعنى الذي يقصده هيجل - لا يمكن أن تتحقق. وحتى هذا لن يبطل زعم هيجل بأنه وصف الشكل الحقيقي الأوحد للحرية، ويمكن أن يظل هذا الشكل من الحرية نموذجا مثاليا.
هل هيجل ليبرالي أم محافظ أم شمولي؟
بدأنا هذا الفصل بلغز؛ كيف أمكن لهيجل، الذي يؤكد على أهمية الحرية لدرجة أنه جعل منها غاية التاريخ، القول بأن الحرية قد تحققت في المجتمع الألماني الاستبدادي في عصره؟ أكان متملقا ذليلا أراد أن يتقرب لحكامه عن طريق تحريف معنى المصطلح إلى المعنى المضاد له تماما؟ وأسوأ من ذلك، أكان هو الأب الروحي الفكري لنوع الدولة الشمولية التي ظهرت في ألمانيا بعد مائة عام من موته؟
إن الخطوة الأولى لتوضيح هذا اللغز هي أن نطرح سؤالا واقعيا: هل الدولة العقلانية على نحو مثالي، التي يصفها هيجل، هي مجرد وصف لدولة بروسيا في الوقت الذي كان يكتب فيه؟ لا ليس الأمر كذلك. هناك تشابهات قوية، لكن هناك أيضا اختلافات جوهرية. سأذكر منها أربعة اختلافات. ربما أهم اختلاف هو أن الملك الدستوري عند هيجل لديه - بصورة مثالية - القليل ليقوم به عدا التوقيع باسمه، بينما كان فريدريش فيلهلم الثالث ملك بروسيا أقرب للملك المطلق المستبد. الاختلاف الثاني هو عدم وجود برلمان عامل نهائيا في بروسيا، بينما السلطة التشريعية عند هيجل - على الرغم من كونها عديمة السلطة نسبيا - تقدم متنفسا للتعبير عن الرأي العام. الاختلاف الثالث يكمن في أن هيجل كان - ولو في حدود محدودة للغاية - مؤيدا لحرية الرأي. بمعايير اليوم بالطبع يبدو ضيق الأفق جدا فيما يتعلق بهذه القضية؛ لأنه استثنى من هذه الحرية أي شيء من شأنه تشويه سمعة الحكومة ووزرائها، أو الإساءة إليهم، أو عمل «رسوم ساخرة مقززة» ضدهم. نحن لا نسعى الآن إلى الحكم عليه وفقا لمعايير اليوم، ولكن لمقارنة أفكاره بالوضع القائم في بروسيا في وقت كتابته. ونظرا لأن كتاب «فلسفة الحق» ظهر بعد ثمانية عشر شهرا فقط من فرض الرقابة الصارمة بموجب مراسيم كارلزباد لعام 1819، كان هيجل بلا شك يدافع عن مساحة من حرية التعبير أكبر مما كان مسموحا بها في عصره. الاختلاف الرابع يتمثل في أن هيجل كان يؤيد المحاكمة بواسطة هيئة المحلفين باعتبارها طريقة لإشراك المواطنين في العملية القانونية، ومع ذلك لم يكن هناك حق للمحاكمة بواسطة هيئة محلفين في بروسيا في ذلك الوقت.
هذه الاختلافات كافية لتبرئة هيجل من تهمة أنه قد وضع فلسفته بالكامل بهدف إرضاء حكام بروسيا. ومع ذلك، لا تجعل هذه الاختلافات من هيجل ليبراليا بالمعنى الحديث. ويكفي لإظهار ذلك رفضه لحق الاقتراع والقيود التي فرضها على حرية التعبير. لقد تمادى في كرهه لأي شيء يتعلق بالتمثيل الشعبي، لدرجة أنه كتب مقالا يعارض فيه قانون إصلاح النظام الانتخابي الإنجليزي، الذي عند إقراره أخيرا في عام 1832 أنهى تحيزات ومساوئ في عملية انتخاب أعضاء مجلس العموم البريطاني (على الرغم من أنه كان لا يزال يستبعد غالبية الذكور البالغين - فضلا عن الإناث - من لائحة الناخبين).
وعلى الرغم من ذلك، ينبغي ألا يفاجئنا هذا بعد ما رأيناه من أفكار هيجل عن الحرية؛ فقد كان هيجل يعتقد أن الانتخاب العام سينتهي إلى إدلاء الناس بأصواتهم وفقا لمصالحهم المادية، أو وفقا لتفضيلات يهيمن عليها التقلب، بل وحتى الهوى، قد تتكون لديهم بشأن أحد المرشحين دون آخر. ولو أنه أتيحت له مشاهدة عملية انتخابية في دولة ديمقراطية حديثة، لما كان سيغير رأيه بهذا الشأن. إن أولئك الذين يدافعون عن الديمقراطية اليوم لن يختلفوا كثيرا مع هيجل حول الطريقة التي يقرر بها معظم الناخبين تأييد المرشحين، لكنهم سيختلفون معه تماما في كون الانتخابات عاملا أساسيا في المجتمع الحر، بصرف النظر عما يمكن أن يكون عليه معظم الناخبين من اندفاع أو عدم عقلانية. كان هيجل يرفض هذا بالتأكيد بحجة أن الاختيار المندفع أو غير العقلاني ليس تصرفا حرا. فنحن أحرار فقط عندما يستند اختيارنا إلى العقل. إن جعل اتجاه الدولة بالكامل يستند إلى مثل هذه الاختيارات غير العقلانية - في رأيه - يساوي ترك مصير المجتمع للمصادفة.
هل يعني هذا أن هيجل بالفعل مدافع عن الدولة الشمولية؟ هذا هو رأي كارل بوبر في كتابه الشهير «المجتمع المنفتح وأعداؤه»، ويدعم رأيه باقتباسات لهيجل تثير سخط أي قارئ ليبرالي حديث. وفيما يلي بعض الأمثلة:
الدولة هي الفكرة الإلهية كما توجد على الأرض ... علينا إذن أن نعبد الدولة كتجل للرب على الأرض ... إن الدولة هي مسيرة الإله في العالم ... إن الدولة ... قائمة لذاتها.
يرى كارل بوبر أن هذه الاقتباسات كافية لإظهار إصرار هيجل على «السلطة الأخلاقية المطلقة للدولة التي تهيمن على كل الأخلاق الشخصية وكل الضمائر»، ولتوضيح دور هيجل المهم في تطور الشمولية الحديثة.
إن تأكيد هيجل على العقلانية باعتبارها عاملا أساسيا في الحرية يعطي هذا التفسير المزيد من المصداقية. فمن الذي سيحدد ما هو عقلاني؟ فأي حاكم مدعوم بالاعتقاد بأن الاختيارات العقلانية فقط هي الاختيارات الحرة يمكنه تبرير قمع كل من يعارض خططه العقلانية الخاصة بمستقبل الدولة. فإذا كانت خططه عقلانية، فدافع من يعارضوه ليس العقل، وإنما رغباتهم الأنانية أو أهواؤهم غير العقلانية. ونظرا لأن اختياراتهم لا تستند إلى العقل، فلا يمكن أن تكون حرة؛ وعليه فإن حجب صحفهم ومنشوراتهم ليس قمعا لحرية الرأي، واعتقال قادتهم ليس اعتداء على حريتهم في التصرف، وغلق كنائسهم وتأسيس أشكال جديدة وأكثر عقلانية من العبادة ليس اعتداء على حريتهم الدينية . ولن يصبح هؤلاء الأشخاص المضللون المثيرون للشفقة أحرارا حقا حتى يقدروا - نتيجة لهذه الأساليب - عقلانية خطط قائدهم! فإذا كان هذا هو مفهوم هيجل عن الحرية، فهل قام فيلسوف مطلقا بإعطاء مثال أفضل لازدواجية الخطاب الأورويلي - نسبة لإحدى روايات جورج أورويل - التي استخدمها هتلر وستالين بفاعلية كبيرة لتطبيق مخططاتهما الشمولية؟
إن حجة كارل بوبر ليست بالقوة التي تبدو عليها. أولا: تقريبا جميع الاقتباسات التي استشهد بها ليست من كتابات هيجل نفسه، لكن من الملاحظات التي كتبها طلابه على محاضراته ونشرها بعد مماته محرر ذكر في مقدمته أنه قام بقدر ما من إعادة الصياغة. ثانيا: واحدة على الأقل من هذه الاقتباسات الرنانة ترجمت خطأ؛ فالعبارة التي اقتبسها كارل بوبر «إن الدولة هي مسيرة الإله في العالم»، قد تكون الترجمة الأكثر دقة لها هي: «إن نهج الإله في العالم، أن توجد الدولة.» وهذا لا يعني أكثر من رأيه القائل بأن وجود الدول هو جزء من الخطة الإلهية على نحو ما. ثالثا: من وجهة نظر هيجل، «الدولة» لا تعني ببساطة «الحكومة»، بل تشير إلى الحياة الاجتماعية بأكملها. وهكذا لا يمجد هيجل الحكومة ضد الشعب، لكنه يشير إلى المجتمع ككل. رابعا: تحتاج هذه الاقتباسات إلى موازنتها باقتباسات أخرى؛ فكثيرا ما يقدم هيجل جانبا من موضوع في شكل متطرف قبل أن يوازنه مقابل جانب آخر؛ لذا تأتي تعليقات هيجل على الدولة في أثر فقرات سابقة يقول فيها: «إن الحق في الحرية الذاتية هو محور ومركز الاختلاف بين العصور القديمة والعصور الحديثة.» ويواصل كلامه قائلا إن هذا الحق «في عدم محدوديته» قد أصبح «المبدأ الفعال الكوني» لشكل الحضارة الجديد. وفيما بعد، نجده يقول: «أهم شيء أن قانون العقل ينبغي أن يكون ممزوجا بقانون الحرية الخاصة ...» بالإضافة إلى ذلك، يصر هيجل على أنه «نتيجة لحق الوعي الذاتي»، لا يمكن للقوانين أن تتمتع بقوة ملزمة إلا إذا كانت معروفة للناس. فليس من العدل أن تعلق القوانين عاليا حتى لا يستطيع أي مواطن قراءتها - بالطريقة التي يقال إن ديونيسيس الطاغية قد قام بها - أو أن تدفنها في مجلدات لغتها صعبة لا يمكن لمواطن عادي قراءتها. وعلى نحو مماثل، جاء هجوم هيجل اللاذع على الكاتب الرجعي فون هالر، الذي دافع عن مبدأ: «القوة تصنع الحق» الذي كان يناسب هتلر تماما، ويقول هيجل عن هذا الكاتب: «إن كراهية القانون وأن يصبح الحق مقررا في القانون، هما الأساس الذي يظهر من خلاله بكل وضوح التعصب والحماقة ونفاق النوايا الحسنة، بغض النظر عن الصور التي قد تظهر بها.» إن مثل هذا الدفاع الشديد القوة عن سيادة القانون هو أساس غير ملائم لبناء دولة شمولية بما تتضمنه من شرطة سرية وسلطة استبدادية.
لا شك في أن كلا من اللغة المفرطة التي استخدمها هيجل لوصف الدولة وفكرته أن الحرية الحقيقية تكمن في الاختيارات العقلانية، يمكن إساءة استخدامه وتحريفه تماما لخدمة الدولة الشمولية؛ لكن لا شك أيضا في كونها مجرد إساءة استخدام وتحريف. لقد رأينا ما يكفي من آراء هيجل بشأن الملكية الدستورية وحرية التعبير وسيادة القانون والمحاكمة بواسطة هيئة محلفين لتوضيح هذا. المشكلة هي أن هيجل كان جادا فيما يتعلق بالعقل لدرجة قليل منا قد يصل إليها الآن. فعندما يخبرنا شخص ما بكيفية إدارة شئون الدولة بأكثر الطرق عقلانية، ننظر إليه على أنه يعبر عن تفضيلاته الشخصية، ونفترض أن آخرين سيكون لديهم تفضيلات أخرى؛ وفيما يتعلق بأكثر الطرق «عقلانية»، حسنا، نظرا لأنه لا يوجد منا من يستطيع أن يجزم بهذا الشأن، فيمكننا أيضا أن نتغاضى عن هذا ونقبل بما نفضله أكثر. لذلك عندما يكتب هيجل عن «عبادة» الدولة أو عن تحقيق الحرية في دولة عقلانية، نميل إلى تطبيق هذه التعليقات على أي نوع من أنواع الدول التي تخطر ببالنا؛ وهو تفسير مخالف تماما لما قصده هيجل. إن هيجل قصد بمصطلح «الدولة العقلانية» شيئا موضوعيا ومحددا تماما؛ فيجب أن تكون دولة يختار فيها الأفراد حقا الامتثال لها وتأييدها؛ لأنهم توافقوا بصدق مع مبادئها، ووجدوا بالفعل إشباعهم الفردي في كونهم جزءا منها. يرى هيجل أنه لا يمكن أبدا لأي دولة عقلانية أن تتعامل مع مواطنيها بالطريقة التي تعاملت بها كل من الدولة النازية ودولة ستالين مع مواطنيها. فالفكرة ذاتها تبدو متناقضة. وبالمثل، يزول خطر حدوث صراع بين مصالح الدولة وحقوق الفرد وسحقها لها بقسوة، عندما ندرك أنه في دولة هيجل العقلانية تتناغم مصالح الفرد والمجتمع.
على الأرجح سيكون رد فعل القارئ المعاصر على كل هذا هو «نعم، ولكن ...» «نعم» للإشارة إلى أن هيجل نفسه لم يكن مؤيدا للشمولية، و«لكن» لإظهار أنه في هذا التفسير كان هيجل متفائلا على نحو مفرط بشأن إمكانية حدوث تناغم بين البشر، وكان على خلاف مع الواقع على نحو غريب إذا ما آمن أن التناغم يمكن أن يتحقق في نوع الدولة التي وصفها.
أعتقد أن النقد الأخير لا يمكن الرد عليه. إذا كانت تعليقات هيجل بشأن الدولة يمكن الدفاع عنها، فيجب اعتبار الدولة العقلانية التي كانت في ذهنه مختلفة للغاية عن أي دولة كانت قائمة في عصره (أو قد كانت قائمة منذ ذلك الحين في واقع الأمر). ومع ذلك، لم تختلف الدولة التي وصفها بالتأكيد جذريا - وإن اختلفت بدرجة كبيرة - عن الدول القائمة في عصره. إن التفسير الأرجح هو أن هيجل كان محافظا جدا، أو حذرا جدا، بشأن تأييد حدوث تحول جذري عن النظام السياسي الذي عاش ودرس في ظله. من الواضح خطأ القول بأن هيجل كان «يهدف لإرضاء ملك بروسيا»، لكن قد يكون من العدل القول بأنه لتجنب إثارة غضب ملك بروسيا (وكل الحكام الألمانيين الآخرين) خفف هيجل من حدة نظرته الفلسفية الأساسية.
مع ذلك، هناك شيء آخر يجب أن نذكره بشأن رؤية هيجل حول التناغم بين البشر؛ ففلسفته السياسية هي مجرد جزء من نسق فلسفي أكبر بكثير، تتمتع فيه الوحدة بين البشر كأفراد بأساس ميتافيزيقي. في الفصل السابق وهذا الفصل، أفردنا للجوانب التاريخية والسياسية لفكر هيجل مساحة أكبر مما تستحق، عند النظر لمكانتها في أعمال هيجل ككل؛ لذلك حان وقت الانتقال إلى النسق الفلسفي الأكبر. وسيتضح قريبا أن الانتقال إلى الجانب الآخر من فكر هيجل هو أمر جدير بالاهتمام لفهم كل من فلسفته التاريخية وفلسفته السياسية بدرجة أعمق.
الفصل الرابع
ملحمة العقل
العقل أم الروح؟
حان الوقت كي أعترف: لقد كنت مخادعا. إن وصفي لفلسفة هيجل حتى الآن قد أغفل بعناية ذكر أي شيء عن موضوع يشير إليه هيجل نفسه مرارا وتكرارا ويعتبره موضوعا مهما للغاية؛ ألا وهو فكرة
Geist . هذا الموضوع مهم جدا لدرجة أن هيجل يقول فعلا إن الغاية من كتاب «فلسفة التاريخ» هي التعرف على
Geist
ودورها الإرشادي في التاريخ. لذا فإنه دون امتلاك بعض المعلومات حول هذه الفكرة، لن يصل القارئ إلا إلى إدراك جزئي لوجهة نظر هيجل عن التاريخ. وفي كتاب «فلسفة الحق» أيضا، لم تكن فكرة
Geist
بعيدة قط. فيشير هيجل إلى الدولة، على سبيل المثال، بوصفها
Geist
مجسدا. لذلك كان الفصلان السابقان خادعين عن قصد، وعذري الوحيد هو أنني قمت بهذا من أجل سبب وجيه؛ ألا وهو الأخذ بيد القارئ بلطف إلى عالم أفكار هيجل الغريب والمبهم غالبا.
إن صعوبات إدراك مفهوم هيجل عن
Geist
تبدأ لدى القارئ غير المتحدث باللغة الألمانية من ترجمة الكلمة ذاتها؛ ففي اللغة الألمانية نجد أن الكلمة شائعة بصورة كافية، لكنها تشير إلى معنيين مختلفين وإن كانا مرتبطين. إنها الكلمة الأساسية التي تستخدم لتشير إلى «العقل»، بالمعنى الذي يتميز فيه عقلنا عن جسدنا. فعلى سبيل المثال، «المرض العقلي» يعني
Geisteskrankheit ؛ وهي كلمة تترجم حرفيا إلى «مرض العقل». ومع ذلك، يمكن أن يقصد بكلمة
Geist
أيضا «الروح» بما تحمله الكلمة من معان متعددة. وهكذا تكون «روح العصر» هي
der ZeitGeist ، بينما يكون العنصر الثالث في ثالوث المسيحية «الأب والابن والروح القدس» هو
der Heilige Geist . وقد ضاعف من صعوبة مهمة المترجم حقيقة أنه في بعض الفقرات يبدو أن هيجل يستخدم الكلمة أكثر بمعنى «العقل»، إلا أنه في فقرات أخرى يستخدمها بمعنى «الروح»، ومع ذلك نجد استخدامه للكلمة في فقرات أخرى يحمل جزءا من كلا المعنيين.
في هذا الموقف غير المحتمل، يكون المترجم أمام ثلاثة خيارات: إما استخدام كلمة «العقل» طوال الوقت، أو استخدام كلمة «الروح» طوال الوقت، أو استخدام المعنى الأكثر ملاءمة في سياق الكلام. أرفض الخيار الثالث؛ نظرا لأن من الواضح أن هيجل يرى من المهم أن يكون ما يطلق عليه
Geist
شيئا واحدا، على الرغم من الجوانب المختلفة له التي تظهر في كتاباته المتنوعة. عندما بدأت العمل على هذا الكتاب، كنت سأستخدم كلمة «الروح»؛ لأنها كانت فعليا اختيار جميع المترجمين المحدثين لأعمال هيجل. لكن عندما بدأت أتعمق في محاولة تقديم هيجل في شكل يمكن فهمه للقراء غير المتخصصين في فلسفة هيجل، أصبحت مقتنعا بأن استخدام «الروح» هو حكم مسبق بالنسبة للقارئ على مسألة حقيقة معنى فكرة
Geist
عند هيجل بأكملها. فكلمة روح - بعيدا عن الاستخدامات الأخرى الخاصة لها، مثل «روح العصر» و«روح الفريق» - تتسم بصبغة دينية وروحية لا مفر منها. إن الروح تبعث بالرسالة على لوح «الويجا» أو تسكن القصر القوطي المهجور. إن الروح هي كائن طيفي غير مجسد، الشيء الذي يمكن أن تؤمن به إذا كنت تؤمن بالخرافات بدرجة ما، لا إن كنت تمتلك رؤية علمية واضحة ومحددة عن العالم.
الآن نستطيع القول إننا في مرحلة ما من دراستنا لفلسفة هيجل سيكون علينا أن نشير إلى أن فلسفته تستند إلى هذه الرؤية الخرافية بعض الشيء عن العالم، وأن مفهومه عن
Geist
يقصد به الإشارة فقط إلى ذلك الكائن الطيفي غير المجسد. ومع ذلك، يجب ألا نفترض هذا من البداية؛ فهيجل فيلسوف يعمل في إطار التقاليد الفلسفية الغربية، ولطالما كان الفلاسفة المتبعون لتلك التقاليد أكثر اهتماما بطبيعة العقل أو الوعي، وعلاقته بالعالم المادي. بدأ ديكارت العصر الفلسفي الحديث بطرح سؤال عما يمكنه معرفته بيقين تام، وأجاب بقوله إنه بينما قد يكون يحلم أو منخدعا بروح شريرة، وعليه يكون مخطئا في كل معتقداته تقريبا، فإن هناك شيئا واحدا يمكنه معرفته يقينا: «أنا أفكر؛ إذن أنا موجود.» لا يمكن أن أنخدع بهذا الشأن؛ لأنه كي يتم خداعي يجب أن أكون موجودا. ومع ذلك ما هو هذا ال «أنا»؟ إنه ليس جسدي المادي؛ فقد أنخدع بهذا الشأن. إن ال «أنا» الذي أعرفه يقينا هو ببساطة شيء يفكر؛ أي العقل. من هذه الحجة نشأت الأفكار المحورية التي شغلت بال فلاسفة الفلسفة الغربية الذين جاءوا بعد ديكارت. كيف ترتبط أفكاري ومشاعري بجسدي؟ هل توجد معا أشياء عقلية، مثل الأفكار، وأشياء مادية، مثل الجسد؟ إذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن لمثل هذين النوعين المختلفين من الأشياء أن يتفاعلا؟ إن مخي هو شيء مادي، فكيف يمكن للمادة أن تكون واعية؟ وتعرف هذه المجموعة من المسائل بين الفلاسفة باسم «مشكلة العقل-الجسد». وهناك مجموعة أخرى من المسائل، يمكن إرجاع أصلها لديكارت أيضا، تركز على مشاكل المعرفة: كيف يمكننا معرفة ما يبدو عليه العالم؟ هل يمكننا التأكد من أن أفكارنا هي بأي طريقة انعكاس لعالم «واقعي» ما «موجود في الخارج»، كما نفترض؟ إذا كانت كل خبراتي الواعية - بما في ذلك الإحساس باللون والشكل والملمس - التي أعتمد عليها لتكوين المعتقدات البسيطة مثل وجود الورقة التي أمامي الآن هي دائما في عقلي، فكيف يمكن إذن أن أعرف أي شيء عن العالم الموجود خارج وعيي؟
إن سبب هذا الاستطراد في مشاكل التقاليد الفلسفية الغربية هو ببساطة أنه من المتوقع تماما أن يكتب فيلسوف مثل هيجل عن العقل. وكونه يكتب عن العقل لا ينبغي أن يوحي بأنه يؤمن بوجود أرواح غير مجسدة أو أي شيء آخر لا تؤمن به أنت ولا أنا ممن يلتزمون بالتفكير الواضح والمحدد فيما يتعلق بالرؤية العلمية للعالم؛ لذلك ينبغي علينا على الأقل أن نبدأ مناقشة ما يقصده هيجل عند الإشارة لفكرة
Geist
ليس كحديث عن كائن روحي مميز، لكن كمساهمة في الجدل الفلسفي الطويل حول طبيعة العقل. وبناء على ذلك، قمت في هذا الكتاب بالعودة إلى ممارسة الجيل الأول من مترجمي أعمال هيجل وترجمت
Geist
على أنها «العقل». وسنرى ونحن نتقدم في الكتاب المعنى الذي يجب إدراك مفهوم هيجل من خلاله.
مهمة كتاب «فينومينولوجيا العقل»
إن كون عرضي لآراء هيجل حتى الآن غير كامل على نحو كبير هو أمر يمكن إدراكه عن طريق العودة إلى سؤال تجاهلته في بداية مناقشة فلسفة هيجل بشأن التاريخ، وهو: لماذا تاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية؟ يبحث هذا السؤال عن إجابة. ينكر هيجل صراحة - وقد يبدو على أي حال خارج نمط أفكاره ككل - أن يكون مسار التاريخ نوعا من المصادفة السعيدة. ويؤكد هيجل أن ما يحدث في التاريخ يحدث بالضرورة. ماذا يعني هذا؟ كيف يمكن أن يكون حقيقيا؟ يجيب هيجل عن ذلك بقوله إن التاريخ ليس إلا تقدم الوعي بالحرية؛ لأن التاريخ هو تطور العقل. في كتاب «فلسفة التاريخ»، لم يشرع هيجل في شرح هذا المفهوم؛ لأنه كان قد نشر بالفعل مجلدا كبيرا وكثيفا للغاية بغرض توضيح ضرورة تطور العقل على النحو الذي يتطور به بالفعل؛ ذلك المجلد هو كتاب «فينومينولوجيا العقل»، وأطلق عليه كارل ماركس «أصل وسر فلسفة هيجل الحقيقي». وقد كان آخرون، الذين أحبطهم الكتاب بصفحاته السبعمائة والخمسين من النثر المحير والملتوي، قانعين بترك الأسرار التي يحتويها هذا الكتاب أيا كانت كما هي دون أن تكون هناك محاولة لكشفها. ومع ذلك، لا يوجد أي حديث عن هيجل يمكن أن يتغاضى عنه ويكون الأمر مقبولا.
إن نقطة الانطلاق البديهية التي يمكن أن نبدأ منها هي عنوان الكتاب. يخبرنا «قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية» أن كلمة
phenomenology ؛ أي «فينومينولوجيا»، تعني «علم الظواهر، متميزا عن ذلك الخاص بالوجود.» كل هذا جيد جدا إذا كنا على دراية بالفارق بين «الظواهر» و«الوجود». أما أولئك الذين ليسوا على دراية بهذا الفارق، فيخبرنا القاموس ذاته بكرم أن كلمة
phenomenon ؛ أي «الظاهرة»، تعني في استخدامها الفلسفي «الشيء الذي تلاحظه الحواس أو العقل مباشرة؛ أي شيء يدرك مباشرة (مميزا عن المادة أو شيء في ذاته).» يمكن توضيح الفارق الذي حددناه هنا عن طريق تأمل الفارق بين القمر كما يبدو لناظري والقمر كما هو في الواقع. في ناظري، بدا القمر ليلة أمس كهلال فضي لا يتجاوز حجمه حجم كرة التنس، أما في الواقع فهو بالطبع جسم صخري يصل قطره إلى آلاف الكيلومترات. فالهلال الفضي هو الظاهرة. إذن فالفينومينولوجيا هو دراسة الطريقة التي تبدو لنا عليها الأشياء.
إذا كان الفينومينولوجيا هو علم يعنى بدراسة الطريقة التي تبدو لنا عليها الأشياء؛ فإذن يمكننا أن نخمن أن «فينومينولوجيا العقل» ستكون دراسة الطريقة التي يبدو لنا عليها العقل. قد يكون مثل هذا التخمين صحيحا، لكن هناك حيلة هيجلية نموذجية يجب إضافتها. عندما ندرس كيف يبدو لنا عقلنا، يمكننا فقط دراسة كيف يبدو لعقولنا. إذن ففينومينولوجيا العقل في حقيقة الأمر هي دراسة كيف يبدو العقل لذاته. وعلى ذلك، يتتبع كتاب هيجل «فينومينولوجيا العقل» أشكالا مختلفة من الوعي، مستعرضا كلا منها من الداخل - إذا جاز التعبير - وموضحا كيف تطورت أشكال أكثر تقييدا من الوعي بالضرورة إلى أشكال أكثر ملاءمة. هيجل نفسه يصف مشروعه بأنه «عرض المعرفة بوصفها ظاهرة»؛ لأنه يرى أن تطور الوعي هو تطور نحو أشكال من الوعي يمكنها إدراك الواقع بصورة أكثر شمولا حتى بلوغ الذروة بتحقيق «المعرفة المطلقة».
في مقدمة كتابه «فينومينولوجيا العقل»، يشرح هيجل السبب وراء إيمانه بأن من الضروري إجراء هذا النوع من الدراسة؛ فيبدأ بمشكلة المعرفة، حيث يقول هيجل إن الهدف من الفلسفة هو «المعرفة الحقيقية لواقع الأمور»، أو كما يصفه هو على نحو غامض بعض الشيء ب «المطلق». ومع ذلك، أليس من الأفضل قبل أن نشرع في التعليق على «واقع الأمور»، أن نتوقف قليلا لنفكر في المعرفة ذاتها؛ أي كيف نصل إلى معرفة الواقع؟ خلال مساعينا لاكتساب المعرفة، نحاول إدراك الواقع؛ ولذلك فالمعرفة - كما يقول هيجل - كثيرا ما يتم تشبيهها بأداة ندرك من خلالها الحقيقة. فإذا كانت أداتنا معيبة، فقد ينتهي بنا الحال ونحن لا نملك سوى الخطأ.
لذا نبدأ بدراسة المعرفة؛ وعلى الفور نجد أننا محاصرون بمخاوف تشككية. إذا كانت محاولة التعرف على الواقع مثلها مثل استخدام نوع ما من الأدوات لإدراك الواقع، فألا يوجد خطر في أن استخدام أداتنا مع الواقع قد يغيره، ونتيجة لذلك ندرك شيئا مختلفا كثيرا عن الواقع الخالص؟ (قارن ذلك بالطريقة التي يجد بها الفيزيائيون المعاصرون أنه من المستحيل تحديد سرعة الجسيمات دون الذرية وموقعها؛ نظرا لأنه مهما كانت الأداة التي سيستخدمونها لمشاهدتها، فإنها ستتداخل معها أيضا.) يقول هيجل إننا حتى وإن تخلينا عن استعارة «الأداة»، واعتبرنا المعرفة وسيلة أكثر سلبية نشاهد من خلالها الواقع، فإننا نظل نشاهد «الواقع من خلال الوسيلة»، لا الواقع ذاته.
إذا كانت الأداة أو الوسيلة التي ننظر من خلالها لها أثر مشوه، فإن إحدى طرق التعرف على الوضع الحقيقي للأمور هو اكتشاف طبيعة التشوه واستبعاد الاختلاف الذي تسببه. فعلى سبيل المثال، إذا نظرت إلى عصا نصفها في الماء والنصف الآخر خارجها، فسيبدو الجزء الذي في الماء منثنيا. فهل العصا منثنية حقا؟ يمكنني حساب هذا إذا كنت أعرف قانون الانكسار؛ ومن ثم حساب الاختلاف الذي يحدثه النظر إليها عبر المياه. وباستبعاد هذا الاختلاف، سوف أكتشف حقيقة شكل العصا. هل يمكننا أن نقوم بالمثل مع التأثير المشوه لأداة أو وسيلة المعرفة؛ ومن ثم يمكننا معرفة الواقع كما هو؟
لا، يقول هيجل، هذا الهروب من لغزنا ليس متاحا لنا؛ فالمعرفة ليست كالمشاهدة. ففي حال المعرفة، ما الشيء الذي سيتم استبعاده؟ سيكون الأمر أشبه ليس باستبعاد الاختلاف الذي تسببه المياه للشعاع الضوئي، وإنما استبعاد الشعاع الضوئي نفسه. فبدون المعرفة لم نكن لنعرف العصا قط. وهكذا يتركنا استبعاد فعل المعرفة دون أي معرفة.
إذن فأداتنا لا يمكنها أن تضمن لنا تقديم صورة لواقع خالص، ولا يمكننا أن نقترب من الواقع بتقدير حجم التشويش الذي تسببه أداتنا. أينبغي لنا إذن أن نعتنق الموقف التشككي القائل بأنه لا يوجد أي شيء يمكننا معرفته في الواقع؟ لكن مثل هذا التشكك - يقول هيجل - يدحض نفسه بنفسه. إذا كنا سنشكك في كل شيء، فلماذا لا نشكك في الادعاء بأننا لا يمكننا معرفة شيء؟ علاوة على ذلك، الحجة التشككية التي كنا نتناولها لديها افتراضاتها المسبقة، التي تزعم معرفتها؛ فهي تبدأ بفكرة أن هناك هذا الشيء الذي يسمى الواقع، وأن المعرفة هي نوع من الأداة أو الوسيلة التي ندرك الواقع من خلالها. وبهذا، افترضت مسبقا وجود تمييز بيننا وبين الواقع، أو المطلق. لكن أسوأ من ذلك هو أنها تسلم جدلا بأن معرفتنا والواقع مقطوعان أحدهما عن الآخر، لكن في الوقت ذاته لا تزال تتعامل مع معرفتنا بوصفها شيئا واقعيا؛ أي: جزءا من الواقع. إذن فالتشكك لن يقوم بأي منهما.
أسس هيجل بدقة وجهة نظر محددة عن المعرفة، ثم برهن أنها تؤدي إلى حفرة لا يمكننا أن نهرب منها، ولا أن نبقى فيها. يقول هيجل الآن إنه يجب علينا أن نهجر جميع هذه «الأفكار والتعبيرات عديمة الجدوى» حول المعرفة بوصفها أداة أو وسيلة؛ حيث إنها جميعا تفصل المعرفة عن الواقع في حقيقته.
طوال هذه المناقشة لا يوجد ذكر لأي فيلسوف تبنى وجهة نظر بشأن المعرفة تماثل وجهة النظر التي يقول هيجل الآن إنه يجب علينا رفضها. إلى حد ما، ينتقد هيجل افتراضات شائعة لدى فلاسفة المذهب التجريبي مثل لوك وباركلي وهيوم وكثير غيرهم. ومع ذلك، يبدو أنه قد كان من الواضح لجميع قرائه أن هدفه الرئيسي هو كانط. فكانط كان يحاول أن يبرهن أنه لا يمكننا أبدا أن نرى الواقع في حقيقته؛ لأننا لا يمكننا سوى إدراك خبراتنا في إطار المكان والزمان والسببية. والمكان والزمان والسببية ليست جزءا من الواقع، لكنها الأشكال الضرورية لإدراكه. وعليه لا يمكننا أبدا أن نعرف الأشياء على حقيقتها بعيدا عن معرفتنا.
وفي أحد أعماله الأخرى، كتاب «المنطق الصغير»، يحدد هيجل اسم خصمه ويشن هجوما مماثلا ضده (كما لو أنه يعرض خصوبته الفكرية، يوضح وجهة نظره بحجة مختلفة قليلا). إن تلك الفقرة تستحق الاقتباس؛ لأنها تنتهي بتشبيه يقترح الطريق الذي يجب أن نسير فيه:
يقول كانط إنه علينا أن نصبح على دراية بالأداة قبل أن نشرع في العمل الذي سنستخدمها فيه؛ لأنه إذا كانت الأداة لا تفي بالغرض، فستذهب كل معاناتنا أدراج الرياح ... لكن استقصاء المعرفة لا يمكن أن يتم إلا من خلال فعل خاص بالمعرفة. إن استقصاء هذا الشيء المسمى أداة هو نفس الشيء كمعرفته. لكن التماس المعرفة قبل أن نعرف هو عبثية مماثلة لعبثية القرار الحكيم الذي اتخذه سكولاستيكس بعدم المغامرة بالنزول في المياه حتى يتعلم السباحة.
إن الدرس المستفاد من حماقة سكولاستيكس واضح؛ فلكي نتعلم السباحة يجب أن نقفز بجرأة في جدول المياه؛ ولاكتساب المعرفة بالواقع، يجب أن نقفز بجرأة في جدول الوعي الذي هو نقطة الانطلاق لكل ما نعرفه. إن المدخل الوحيد الممكن إلى المعرفة هو استقصاء الوعي من الداخل على النحو الذي تبدو عليه لذاتها؛ أي فينومينولوجيا العقل. لن نبدأ بشكوك معقدة، بل بشكل بسيط من الوعي يرى في نفسه معرفة حقيقية. ومع ذلك، سيثبت هذا الشكل البسيط من الوعي أنه دون المعرفة الحقيقية، وعليه سيتطور إلى شكل آخر من أشكال الوعي، الذي سيثبت بدوره أيضا أنه غير كفء أو ملائم وسيتطور إلى شيء آخر، وهكذا ستستمر العملية حتى نصل إلى المعرفة الحقيقية.
شكل : هيجل في زيه الأكاديمي.
يتتبع كتاب «فينومينولوجيا العقل» هذه العملية بالتفصيل؛ فيصفه هيجل بأنه: «التسلسل المفصل لعملية تدريب الوعي ذاته وتعليمه حتى مستوى العلم.» جزء من هذا التدريب والتعليم هو في حقيقة الأمر تطور الأفكار الذي طرأ على مر التاريخ. وهكذا يكون كتاب هيجل هذا هو بدرجة ما استباقا للمادة التي تناولها كتاب «فلسفة التاريخ». ومع ذلك، هذه المرة يتم التعامل مع الأحداث ذاتها بطريقة مختلفة؛ فهدف هيجل هو إبراز ضرورة عملية تطور الوعي. يقودنا كل شكل من أشكال الوعي، عندما يكشف أنه دون المعرفة الحقيقية، إلى ما يطلق عليه هيجل «النفي المحدد». إنه ليس التشكك الفارغ الذي يدافع عنه الفلاسفة الذين ينتقدون أساليبنا العادية للمعرفة، فمثل هذا التشكك الفارغ لا يجعلنا نصل إلى شيء. أما النفي المحدد، على الجانب الآخر، فهو شيء ما في ذاته (تأمل إشارة السالب في علم الرياضيات؛ فإنها لا تنتج صفرا وإنما رقما سالبا محددا). و«الشيء» الناتج عن اكتشاف أن شكلا من أشكال الوعي غير كفء هو في ذاته شكل جديد من أشكال الوعي، فهو وعي على دراية بالقصور الموجود في الشكل السابق للوعي ومجبر على تبني نهج جديد للتغلب على ذلك القصور. ولذلك علينا الانتقال من شكل من أشكال الوعي إلى الذي يليه في سعي حثيث خلف المعرفة الحقيقية.
إذن سيقدم كتاب «فينومينولوجيا العقل» إجابة عن السؤال الذي طرح من قبل المتعلق بالسبب وراء أن تاريخ العالم ليس إلا تطور الوعي بفكرة الحرية، وأن ما يحدث في التاريخ يحدث بالضرورة. ومع ذلك، وعلى نحو لا يصدق، كانت الإجابة عن هذا السؤال المهم مجرد نتاج ثانوي للهدف الأساسي للعمل؛ ألا وهو إثبات إمكانية المعرفة الحقيقية؛ ومن ثم العمل كأساس لغاية الفلسفة المتمثلة في تقديم «المعرفة الحقيقية لواقع الأمور» - كما يصيغها هيجل.
إن الهدف من العملية التي يتم تتبعها في كتاب «فينومينولوجيا العقل» هو المعرفة الحقيقية أو «المطلق». كيف سنعرف أننا توصلنا إليها؟ ألن تظل هناك احتمالية وجود شكوك؟ يرد هيجل على هذا بالسلب؛ لأن «المحطة النهائية هي المرحلة التي لا تعد المعرفة عندها مجبرة على التطور إلى أبعد من ذلك ...» بمعنى آخر: حين كان الوعي في السابق مجبرا على الإقرار بأن معرفته غير ملائمة، والسعي للتوصل إلى معرفة أكثر ملاءمة تتجاوزه - السعي لمعرفة «الشيء في ذاته» - فإنه في نهاية العملية لن يعد الواقع «شيئا أبعد» غير معروف. سيتعرف الوعي على الواقع مباشرة ويتحد معه. ولن يكون هناك أي شيء آخر ليحاول الوصول إليه، وسينتهي الإلزام بالسعي المتواصل وراء معرفة أكثر ملاءمة.
لقد حدد هيجل لنفسه مهمة استثنائية. من خلال البدء بنقد لاذع لرؤية كانط للمعرفة (وليس كانط فقط، بل جميع الفلاسفة الذين يبدءون بافتراض وجود انفصال بين الشخص الذي يعرف والشيء المعروف؛ أي فعليا كل الفلاسفة بداية من أفلاطون) يشرع هيجل في تطوير منهج جديد. إن منهج هيجل هو تتبع تطور جميع أشكال الوعي حتى غايتها النهائية بالتوصل إلى المعرفة الحقيقية، التي يجب ألا تكون معرفة بظاهر الواقع وإنما بالواقع ذاته. دعونا نتعرف الآن على كيفية قيام هيجل بهذه المهمة.
معرفة بدون مفاهيم
يبدأ هيجل بأكثر أشكال الوعي بدائية، الذي يطلق عليه «اليقين على مستوى الخبرة الحسية » أو بإيجاز أكبر «اليقين الحسي». كان هيجل يفكر في شكل من أشكال الوعي لا يفعل شيئا سوى إدراك ما يوجد أمامه في أي وقت. يسجل اليقين الحسي ببساطة البيانات التي يتلقاها من الحواس. إنها المعرفة بالشيء المحدد الظاهر لحواسنا. لا يقوم اليقين الحسي بأي محاولة لترتيب المعلومات الأولية التي جمعتها الحواس أو تصنيفها. إذن عندما يكون أمام هذا الشكل من أشكال الوعي ما يمكن أن نصفه بحبة طماطم ناضجة، لا يمكنه وصف خبرته بأنها حبة طماطم؛ لأنه بهذه الطريقة سيكون قد قام بتصنيف ما يراه. حتى إنه لن يستطيع أن يصف الخبرة بأنها رؤية شيء ما مستدير وأحمر اللون؛ لأن هذه المصطلحات أيضا تستلزم شكلا ما من أشكال التصنيف. فاليقين الحسي على وعي بما أمامه الآن فقط؛ أو كما يقول هيجل، هو اليقين بال «هذا»، أو بال «هنا» و«الآن».
يبدو أن اليقين الحسي لديه زعم قوي بأنه المعرفة الحقيقية؛ لأنه على وعي مباشر بال «هذا»، دون أن يفرض عليه المرشحات المشوهة ذات النظام المفاهيمي، بما في ذلك المكان أو الزمان أو أي فئات أخرى. إن اليقين الحسي هو وعي بسيط بالشيء كما هو بالضبط. ومع ذلك - كما يوضح هيجل - فإن الزعم بأن اليقين الحسي هو المعرفة لا يصمد أمام المزيد من الاستقصاء؛ ففور محاولة اليقين الحسي أن ينطق بمعرفته، يصبح غير مترابط. ما هو ال «هذا»؟ يمكن تقسيمه إلى ال «هنا» و«الآن»، لكن هذه المصطلحات لا يمكن أن توصل الحقيقة. فإذا ما سئلنا، في وقت متأخر من الليل، ما هو «الآن»؟ يمكن أن نجيب: «الآن وقت الليل.» لنفترض أننا كتبنا ذلك، والحقيقة - كما يقول هيجل - لا يمكنها أن تفقد أي شيء عند كتابتها ولا عند حفظها. وهكذا في اليوم التالي عند وقت الظهيرة، نخرج الحقيقة التي قد قمنا بكتابتها لنكتشف - كما يقول هيجل - «أنها أصبحت قديمة.» وبالمثل، أقول: «هنا شجرة.» لكن يمكن ليقين حسي آخر ببساطة أن يقول أيضا: «هنا منزل.»
يبدو أن حجة هيجل تستند إلى سوء فهم شديد للغة المستخدمة لنقل معرفة اليقين الحسي. بالطبع من الممكن إعادة التعبير عن معرفة اليقين الحسي بطريقة محصنة ضد مثل هذه الخدع عديمة القيمة، أليس كذلك؟ إلا أن الخدعة لا يمكن تجنبها بسهولة كما يمكن أن نتخيل. من وجهة نظر اليقين الحسي، لا يمكن قول - على سبيل المثال: «في منتصف الليل يكون الليل»، أو: «هناك شجرة في المتنزه.» هذه التعبيرات تفترض مقدما وجود ترتيب عام للأشياء، بما في ذلك مفاهيمنا عن الزمان والمكان.
كيف يمكن إذن التعبير عن معرفة اليقين الذاتي؟ ما يقصده هيجل هو أنه لا يمكن التعبير عنها باستخدام اللغة نهائيا؛ لأن اليقين الحسي هو معرفة الشيء المحدد الخالص، أما اللغة فدائما ما تتضمن وضع شيء ما تحت مسمى أكثر عمومية أو كونية. «الطماطم» مصطلح عام يميز فئة كاملة من الأشياء، وليس شيئا محددا مفردا، وينطبق هذا على أي مصطلح آخر. إن الغرض من هجوم هيجل على مصداقية «الآن وقت الليل» هو إثبات أن استخدام مصطلحات مثل «الآن» و«هنا» و«هذا» ليست طريقة للتعبير عن معرفة بشيء محدد خالص. هذه المصطلحات أيضا كونية؛ فهناك أكثر من واحدة من «الآن» أو «هنا». إذن فقد علق اليقين الحسي، خلال مسعاه للتعبير عن معرفته بشأن الشيء المحدد الخالص، بحتمية المصطلح الكوني.
يؤمن هيجل بأنه قد أثبت استحالة المعرفة دون مفاهيم كونية. لكن هناك نقطتان لدحض حجته يجدر ذكرهما بإيجاز. تشير النقطة الأولى إلى استثناء واضح لقاعدة أن كل مصطلح يميز مجموعة من الأشياء وليس شيئا محددا؛ ألا وهو أسماء الأعلام. فالأسماء «جون دي روكفيلر» و«روزا لوكسمبورج» و«دار أوبرا سيدني» وغيرها من أسماء الأعلام، تميز أشياء محددة. أليس من الممكن أن يصف اليقين الحسي خبرته عن طريق منح كل «هذا» اسم علم؟
يتجاهل هيجل في كتاب «فينومينولوجيا العقل» حقيقة أن أسماء الأعلام هي استثناء لوجهة نظره بشأن اللغة، لكن يمكننا إعطاء تخمين عادل للرد الذي كان سيقدمه؛ ففي كتابه «علم المنطق»، أكد هيجل أن أسماء الأعلام خالية من المعنى، على وجه التحديد لأنها تفتقر إلى الإشارة إلى أي شيء أبعد من الاسم ذاته؛ أي إلى أي شيء كوني. يمكننا أن نتخيل هيجل يقول إن التعبير عن المعرفة المحددة لليقين الحسي باستخدام أسماء الأعلام هو مجرد وضع لمسميات خالية من المعنى لكل «هذا» كان الشخص على وعي به. وتلك المسميات لن تعكس أي شيء.
هذا يقودنا للنقطة الثانية لدحض حجته، التي تسلم بأن معرفة اليقين الحسي قد يستحيل صياغتها باستخدام اللغة ونقلها للآخرين، لكنها تؤكد على الرغم من ذلك أنها معرفة. لماذا ينبغي علينا افتراض أن جميع المعارف يمكن أن يعبر عنها عن طريق الكلمات؟ كثيرا ما أكد المتصوفون استحالة صياغة حقائق الخبرات الروحانية في كلمات، مع أنها أعمق الحقائق على الإطلاق. «لا يمكن أن تفقد الحقيقة أي شيء عند كتابتها.» هكذا قال هيجل، لكن ربما كان هذا الزعم البسيط هو الخطوة الأولى على طريق البعد عن الحقيقة. ألم يكن علينا أن نوقف هيجل ها هنا، ونصر على صحة القول بأن المعرفة نقية للغاية ولا يمكن صياغتها في كلمات؟
يجب أن يرد هيجل على هذه النقطة؛ لأنها تهدد جوهر مشروعه. هو لا ينكر أن هناك شيئا ما لا يمكن الوصول إليه باستخدام اللغة، لكنه يؤكد أن هذا «ليس إلا شيئا غير حقيقي وغير عقلاني، شيئا يعتقد فيه بالكاد وببساطة.» قد أظن تماما أنني أعرف ما أقصد، حتى لو لم أستطع أن أصيغه في كلمات، لكن في الحقيقية هذه ليست معرفة، بل هي رأي ذاتي وشخصي محض. والرأي ليس معرفة، ولا يصبح معرفة إلا عندما يتم الإفصاح عنه.
يوضح هيجل وجهة نظره عن طريق استغلال المعاني المتعددة للكلمة الألمانية
meinen ؛ أي: يعتقد أو يقصد، والاسم المرتبط بها
Meinung ، الذي يعني «رأي». فإذا ما تجاهلنا هذه الطريقة في وضع الفلسفة باستخدام التورية، فلن يتبقى سوى زعم وليس حجة. ومع ذلك، يستحق هذا الزعم - أن الشيء الذي لا يمكن نقله للآخرين من حيث المبدأ لا يمكن أن يكون معرفة - التصديق إلى حد معقول.
يمكننا الآن النظر لتحليلنا للزعم القائل بأن هذا الشكل البدائي من أشكال الوعي يمثل المعرفة الحقيقية. حاولنا تحديد نوع المعرفة التي يمكن امتلاكها باستخدام وعي لا يفعل شيئا سوى إدراك الشيء الذي أمامه في أي وقت. لكن المحاولة باءت بالفشل؛ لأن الحقائق التي توصل إليها هذا الشكل من أشكال الوعي ثبت أنها إما أكاذيب واضحة أو شيء شخصي محض لا يمكن التعبير عنه مطلقا. في كلتا الحالتين لا يمكن قبول هذه الحقائق المزعومة على أنها معرفة.
وهكذا برهن اليقين الحسي أنه غير كفء. تحققت النتيجة من الداخل، كما وعدنا هيجل في مقدمته؛ أي كل ما لزم لإظهار عدم كفاءة اليقين الحسي هو أخذ مزاعمه على عواهنها ومحاولة جعلها أكثر دقة. لم يستسلم اليقين الحسي إلى شكل منافس من أشكال الوعي، بل انهار نتيجة عدم ترابطه الذاتي. في الوقت نفسه، ومرة أخرى كما وعدنا هيجل في المقدمة، لم تكن هذه النتيجة مجرد نتيجة سلبية؛ فقد قادتنا إلى إدراك استحالة معرفة الأشياء المحددة الخالصة، ومن ثم ضرورة وضع الخبرات الحسية المحددة في شكل من أشكال النظم المفاهيمية بحيث يصنف ما نختبره وفقا لجانب كوني، وهكذا يصبح من الممكن نقل خبرتنا عبر اللغة. إذا كنا نسعى للتوصل إلى المعرفة، فلا يمكننا أن نختبر الأشياء على نحو سلبي، بل يجب أن نسمح لعقولنا بأن تضطلع بدور أكثر فاعلية في ترتيب المعلومات التي نتلقاها من حواسنا. وهكذا فإن الشكل التالي من أشكال الوعي الذي يتناوله هيجل هو شكل يحاول من خلاله الوعي بفاعلية أن ينشئ نوعا من الوحدة والترابط من البيانات الأولية التي يتلقاها عبر تجربته الحسية.
ظهور الوعي الذاتي
انطلاقا من شكل الوعي الأولي الذي ناقشناه في الجزء السابق، يتتبع هيجل تطور الوعي عبر مرحلتين لاحقتين يطلق عليهما «الإدراك» و«الفهم». وفي كل مرحلة منهما يضطلع الوعي بدور أكثر فاعلية مما كان عليه في المرحلة السابقة. ففي مرحلة الإدراك، يصنف الوعي الأشياء وفقا لخصائصها الكونية، لكن هذا يثبت عدم كفاءته؛ لذا في مرحلة الفهم يفرض الوعي قوانينه الخاصة على الواقع. إن القوانين التي كان يقصدها هيجل هي قوانين نيوتن الفيزيائية، والرؤية التي تشكلت بشأن الكون بناء عليها. وعلى الرغم من أن هذه القوانين تعتبر بصورة عامة جزءا من الواقع الذي اكتشفه نيوتن وغيره من العلماء، فإن هيجل يرى أنها لا تتعدى كونها امتدادا للتصنيف الذي يقوم به الوعي للبيانات الأولية التي يتلقاها عبر تجربته الحسية. وكما أن وضع هذه البيانات في فئات كونية خاصة باللغة جعل من الممكن نقلها، فإن قوانين الفيزياء هي طريقة لجعل البيانات أكثر ترابطا ويمكن التنبؤ بها. إن المفاهيم المستخدمة في هذه العملية - مفاهيم مثل «الجاذبية» و«القوة» - ليست أشياء نراها موجودة في الواقع، لكنها مفاهيم شكلها فهمنا لمساعدتنا على إدراك الواقع.
لا يرى الوعي في مرحلة الفهم هذه المفاهيم كما هي في حقيقتها، بل يعتبرها أشياء موجودة لفهمها. يمكننا نحن، الذين نتتبع عملية تطور الوعي، أن نرى أن الوعي في الحقيقة يحاول فهم ما صنعه بنفسه. فقد وصل الوعي إلى مرحلة يمكنه فيها تأمل ذاته. إنه الوعي الذاتي الكامن. بهذا الاستنتاج يختتم هيجل الجزء الأول من كتاب «فينومينولوجيا العقل» (الجزء المعنون «الوعي»). في الجزء التالي، تحت العنوان العام «الوعي الذاتي»، يتخلى هيجل عن الاستقصاء المباشر لمشكلة المعرفة التي كانت محور الجزء الأول، ويحول تركيزه إلى تطور الوعي الذاتي الكامن إلى الوعي الذاتي الجلي تماما (يظل هذا بالطبع جزءا من تطور العقل نحو مرحلة المعرفة المطلقة).
العقل الراغب
إن مفهوم هيجل عن الوعي الذاتي مهم؛ وقد أثر بطرق مختلفة على كل من المفكرين الماركسيين والوجوديين. يؤكد هيجل أن الوعي الذاتي لا يمكن أن يوجد بشكل منفصل؛ فلتكوين صورة صحيحة عن ذاته، يحتاج الوعي بعض التباين. يتطلب الوعي شيئا يستطيع أن يميز نفسه عنه. فلا يمكنني أن أصبح على وعي بذاتي إلا إذا كنت على وعي بشيء ما ليس ذاتيا. فالوعي الذاتي ليس مجرد وعي يتأمل ذاته.
شكل : وعي ذاتي يتعرف على وعي ذاتي آخر.
على الرغم من أن الوعي الذاتي يحتاج إلى شيء خارج ذاته، فإن هذا الشيء الخارجي هو أيضا شيء غريب عنه ومناقض له. إذن يوجد علاقة حب وكراهية مميزة بين الوعي الذاتي والشيء الخارجي. تظهر هذه العلاقة، في أفضل تقاليد علاقات الحب والكراهية، في شكل رغبة. فالرغبة في شيء هي أن تتمنى امتلاكه، وهكذا لن تدمره بالكلية، لكن أيضا أن تحوله إلى شيء خاص بك، وهكذا تتخلص من كونه غريبا عنك.
إن تقديم هذا المفهوم عن الرغبة يشير إلى تحول في اهتمام هيجل من المشاكل النظرية المتعلقة باكتشاف الحقيقة إلى المشاكل العملية المتعلقة بتغيير العالم. لدينا هنا تنبؤ بفكرة «وحدة النظرية والممارسة» التي يوليها الماركسيون اهتماما عظيما. لا يتم التوصل للحقيقة عن طريق التأمل وحده، وإنما عن طريق التأثير في العالم وتغييره. يحمل شاهد القبر الخاص بماركس كلمات من أطروحته الحادية عشرة الشهيرة حول فويرباخ: «لقد اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم بعدة طرق، إلا أن تغييره هو الأهم.» كان ماركس بالتأكيد يفكر في هيجل كأحد «الفلاسفة»، ولا شك أن ماركس تمنى تغيير العالم بصورة جذرية أكثر من هيجل؛ ومع ذلك، كان من الممكن أن يشير هيجل إلى أن الفكرة الضمنية التي تحملها كلمات ماركس يمكن العثور عليها في كتاب «فينومينولوجيا العقل»؛ وذلك عندما يكتشف الكائن الواعي بذاته أنه لكي يكون لديه إدراك تام لذاته، عليه أن يشرع في تغيير العالم الخارجي، وأن يجعله ملكه.
تظهر الرغبة كتعبير عن حقيقة أن الوعي الذاتي في حاجة لشيء خارجي؛ ومع ذلك يجد نفسه مقيدا بأي شيء خارج ذاته. لكن الرغبة في شيء تعني عدم الرضا؛ لذا فالرغبة - بتلاعب هيجلي نموذجي بالألفاظ - هي حالة عدم رضا لدى الوعي الذاتي. والأدهى من ذلك، يبدو أن الوعي الذاتي مقدرا له أن يظل غير راض إلى الأبد، فإذا ما تم التخلص من الشيء المرغوب فيه كشيء مستقل، فسيكون الوعي قد دمر الشيء الذي يحتاجه لوجوده.
إن الحل الذي يقدمه هيجل لهذا المأزق هو تحويل ذلك الشيء إلى وعي ذاتي آخر. وبهذه الطريقة سيكون لدى كل كائن واع بذاته شيء آخر يمكنه مقارنة نفسه به، لكن يتضح أن «الشيء» الآخر ليس مجرد شيء بسيط يجب تملكه، ونتيجة لذلك «نفيه» بوصفه شيئا خارجيا، بل هو وعي ذاتي آخر يمكنه امتلاك ذاته؛ ومن ثم يمكنه التخلص من ذاته كشيء خارجي.
إذا كان هذا الكلام يبدو مبهما، فلا تقلق، فالكلام أكثر إبهاما في نص هيجل. يبرز إيفان سول - أحد المعلقين - «الغموض المفرط» في حجة هيجل في هذه النقطة. كما يتناول معلق آخر، وهو ريتشارد نورمان، هذا الجزء بإيجاز، قائلا: «نظرا لأنني أجد أجزاء كبيرة منه غير مفهومة، فسأتحدث بإيجاز عنه.» إن النقطة المحورية عند هيجل هي أن الوعي الذاتي يتطلب وعيا ذاتيا آخر، وليس مجرد أي شيء خارجي. إحدى الطرق التي يمكن أن نشرح بها هذه النقطة هي القول بأنه ليرى المرء ذاته، يحتاج إلى مرآة. ليكون المرء على وعي بذاته ككائن واع بذاته، يحتاج المرء أن يكون قادرا على مشاهدة كائن آخر واع بذاته ليرى كيف يبدو الوعي الذاتي. وهناك طريقة بديلة لشرح هذه النقطة؛ وهي أنه لا يمكن للوعي الذاتي أن يتطور إلا في سياق تفاعل اجتماعي. فالطفل الذي ينشأ في عزلة تامة عن جميع الكائنات الأخرى التي لديها وعي بذاتها، لن يتطور ذهنيا لأبعد من مجرد مستوى الوعي؛ نظرا لأن الوعي الذاتي ينمو من خلال الحياة الاجتماعية. كل من طريقتي الشرح هاتين مقبولتان، لكن للأسف، من الصعب ربط أي منهما بالكلمات التي يستخدمها هيجل؛ ومع ذلك، قد تشبه إحداهما أو كلتاهما ما كان يجول في خاطر هيجل.
السيد والعبد
ننتقل الآن إلى الجزء الأكثر إثارة للاهتمام في كتاب «فينومينولوجيا العقل» بأكمله، حيث يعتلي الكائنان الواعيان بذاتيهما خشبة المسرح. لتيسير شرح الفكرة، سنشير لهذين الكائنين بوصفهما شخصين (فهيجل بالطبع لا يتلطف ويجعل الشرح أيسر). إذن كل شخص يحتاج إلى الآخر ليثبت وعيه بذاته. فما الذي يحتاجه كل شخص من الآخر بالتحديد؟ يقول هيجل إنه يحتاج إلى الإقرار أو الاعتراف به. لفهم هذه النقطة، نحتاج إلى ملاحظة أن الكلمة الألمانية المرادفة للوعي الذاتي
Selbstbewusstsein ، تحمل أيضا معنى «الثقة بالنفس». هذا المعنى للكلمة الألمانية هو ما يدعم فكرة هيجل أن وعيي الذاتي مهدد بوجود شخص آخر يعجز عن الاعتراف بي كشخص. وكما أشار ريتشارد نورمان، يمكننا أن نتخذ من عمل أطباء النفس الوجوديين، مثل آر دي لينج، سبيلا لتوضيح هذه الفكرة. فإذا ما حرم شخص ما من الاعتراف بقيمته بصورة منتظمة من قبل جميع من يعتمد عليهم - كما يمكن أن يحدث داخل أسرة حيث يكون أحد أفراد الأسرة هو كبش الفداء المسئول عن مشاكل الجميع - يمكن أن يتدمر إحساس ذلك الشخص بالهوية تماما (تتمثل نتيجة هذا الافتقار للاعتراف به، وفقا للينج، في الإصابة بمرض الفصام).
إذا كان هذا المفهوم للحاجة للإقرار والاعتراف به لا يزال غامضا، فتأمل التشبيه الخاص بدولة تحصل على الاعتراف الدبلوماسي بها. فأهمية الاعتراف الدبلوماسي للدول تتضح من خلال الجهود التي تبذلها بعض الدول، مثل الصين، للحصول عليه، وأيضا من خلال الجهود التي تبذلها دول أخرى حتى تحرمها من الحصول عليه. وحتى تحصل الدولة على اعتراف الدول الأخرى بها، لا تكون دولة كاملة الحقوق. إن الاعتراف الدبلوماسي مهم؛ لكونه من جهة لا يقوم ظاهريا إلا بالاعتراف بشيء موجود بالفعل، ومع ذلك من جهة أخرى يجعل شيئا ما أقل من دولة يصبح دولة كاملة. الأهمية نفسها يتسم بها مفهوم هيجل عن الاعتراف بالذات.
إن الحاجة للاعتراف متبادلة. إذن قد يتصور المرء أن الناس يمكنهم الاعتراف بعضهم ببعض بسلام وينتهي الأمر. بدلا من ذلك، يخبرنا هيجل أن الوعي الذاتي يسعى ليصبح خالصا، وليحقق هذا المسعى يجب عليه إثبات أنه غير متعلق بأشياء مادية. وفي الحقيقة، يتعلق الوعي الذاتي بالأشياء المادية على نحو مزدوج؛ فهو متعلق بجسده الحي وبالجسد الحي للشخص الآخر الذي يتطلب منه الإقرار بوجوده. إن طريقة إثبات أن الوعي الذاتي غير متعلق بأي من هذين الشيئين الماديين هي خوض صراع حياة أو موت ضد الشخص الآخر. فالسعي لقتل الآخر يثبت أنه لا يعتمد على جسد الآخر، ومخاطرة الشخص بحياته تثبت أنه غير متعلق بجسده الشخصي أيضا. إذن تكون العلاقة الأولية بين الفردين ليست مجرد اعتراف متبادل وسلمي، بل صراع.
من الصعب معرفة ما يمكن أن نستشفه من هذا. يبدو أن هيجل يخبرنا بأن الصراع العنيف ليس حدثا عارضا في العلاقات الإنسانية، بل هو عنصر ضروري في عملية إثبات المرء لذاته. مع ذلك، هل من الممكن أنه يقصد حقا أن الأشخاص الذين لم يخاطروا بحياتهم ليسوا أشخاصا بحق، أو على نحو كامل؟ ربما يكون من الأفضل - وبالتأكيد أكثر تلطفا - اعتبار عملية «الإثبات» مجرد عملية للإعلان عن شيء موجود بالفعل (على سبيل المثال، عندما نقوم بإثبات نظرية ما، فإن إثباتنا لا يحولها إلى حقيقة، بل يثبت أنها كانت حقيقية طوال الوقت). وفقا لهذا التأويل، يمكن لشخص ما لم يخاطر بحياته أبدا أن يظل شخصا، على الرغم من أن وجوده بوصفه شخصا لم يثبت. وعلى نحو أكثر تلطفا، قد يمكننا تفسير قول هيجل بأنه يعتقد فقط أنه من الضروري في مرحلة ما أن يخاطر بعض الأشخاص بحياتهم لإثبات استقلاليتهم عن أجسادهم، ولا داعي لتكرار هذا الإثبات مع كل شخص.
وبالعودة إلى الصراع، كانت الفكرة الأصلية هي أن كل فرد كان عازما على قتل الآخر؛ ومع ذلك، فإن تأمل الفكرة للحظة يظهر أن هذه النتيجة لا تناسب أي شخص؛ لا الشخص المهزوم الذي سيكون ميتا، ولا المنتصر الذي سيكون قد دمر مصدر الاعتراف به الذي يحتاجه لتأكيد إحساسه بذاته بوصفه شخصا. وهكذا يدرك الشخص المنتصر أن الشخص الآخر مهم لوجوده؛ ولذا يبقي على حياته، إلا أن المساواة الأصيلة بين شخصين مستقلين حل محلها وضع غير متساو يكون فيه المنتصر مستقلا والخاسر تابعا؛ يكون الأول السيد والثاني العبد.
بهذه الطريقة يفسر هيجل الانقسام بين الحاكم والمحكوم. ومن جديد - مع ذلك - فإن هذا الوضع غير مستقر. والسبب الذي يبديه هيجل وراء عدم استقراره هو سبب مبتكر على نحو مدهش.
شكل : عبد يطلب الاعتراف به.
للوهلة الأولى يبدو أن السيد لديه كل شيء؛ فهو يرسل العبد للعمل في العالم المادي ويستلقي للاستمتاع بخنوع العبد وثمار عمل العبد. لكن تأمل الآن حاجة السيد إلى الاعتراف به. بالطبع يحظى السيد باعتراف العبد به، لكن العبد في نظر السيد ما هو إلا شيء، وليس وعيا مستقلا على الإطلاق. ففي نهاية المطاف لا يمنحه السيد الاعتراف الذي يطلبه.
كذلك وضع العبد ليس كما بدا للوهلة الأولى. بالطبع يفتقر العبد إلى اعتراف كاف به، فهو مجرد شيء في نظر السيد. من ناحية أخرى، يعمل العبد في العالم الخارجي. وعلى عكس سيده، الذي يحقق شعورا مؤقتا بالرضا ناتجا عن الاستهلاك، يشكل العبد الأشياء المادية التي يعمل عليها ويصنعها؛ وبهذا يحول أفكاره الشخصية إلى شيء دائم، وخارجي (فعلى سبيل المثال، إذا ما صنع العبد من لوح خشب كرسيا، يبقى تصوره عن الكرسي وتصميمه والجهد الذي بذله في صنعه جزءا من العالم). ومن خلال هذه العملية يصبح العبد أكثر دراية بوعيه الشخصي؛ نظرا لأنه يراه أمامه كشيء ملموس. عند العمل، حتى وإن كان العمل تحت إمرة عقل عدائي آخر، يكتشف العبد أن لديه عقلا خاصا به.
بعد مرور ما يقرب من أربعين عاما، طور كارل ماركس مفهومه عن «العمل المغترب». اعتبر ماركس - مثله مثل هيجل - أن العمل هو عملية يضع بها العامل أفكاره ومجهوداته الشخصية - في الواقع أفضل ما لديه - في الشيء الذي يعمل عليه. وهكذا يجسد العامل ذاته، أو يشخصها. ثم أثبت ماركس إلى حد كبير نقطة ضمنية فيما يقوله هيجل: لو أن الشيء الناتج عن العمل هو ملك لآخر، وبخاصة شخص آخر غريب وعدائي، لفقد العامل ذاته المجسدة. هذا ما يحدث لعمل العبد، لكنه يحدث أيضا، كما يصر ماركس، في ظل الرأسمالية. فالكرسي أو الحذاء أو الأقمشة أو غيرها من الأشياء التي قد أنتجها العامل تخص صاحب رأس المال. وهي تمكن الشخص الرأسمالي من التربح؛ ومن ثم زيادة رأس ماله وتعزيز هيمنته على العمال. إذن فالعامل لم يفقد ذاته المجسدة فحسب، بل تحولت إلى قوة عدائية تستبد به. هذا هو العمل المغترب، الفكرة الرئيسية لكتابات ماركس الأولى، ومقدمة مفهوم فائض القيمة الذي كان الأساس الذي استند إليه النقد الماركسي للنظم الاقتصادية الرأسمالية.
الفلسفة والدين
يرى ماركس أن حل مشكلة العمل المغترب هذه كان إلغاء الملكية الخاصة وتقسيم البشر إلى حكام ومحكومين. أما هيجل، على الجانب الآخر، فكان يرى نفسه يتبع مسارا سبق أن سلكه الوعي بالفعل. لذا لم يكن هناك إمكانية للقفز في هذه المرحلة نحو مجتمع مستقبلي ما بلا طبقات. في واقع الأمر، في هذه المرحلة بالضبط أصبح كتاب «فينومينولوجيا العقل» تاريخيا بصورة أكبر، مقتربا من المادة التي تناولها هيجل لاحقا على نحو أكثر تحديدا في كتابه «فلسفة التاريخ». إن الجزء الخاص بالسيد والعبد تليه مناقشة حول «الرواقية»، وهو مذهب فلسفي أصبح ذا أهمية في ظل الإمبراطورية الرومانية، ومن أبرز كتابه ماركوس أوريليوس الإمبراطور، وإبيكتيتوس العبد. إذن الرواقية ترأب الصدع بين السيد والعبد؛ ففي الرواقية، يمكن أن يجد العبد المقموع، الذي وصل إلى وعي ذاتي كامل من خلال عمله، نوعا من الحرية. فمن تعاليم الرواقية أن ينسحب الشخص من العالم الخارجي - حيث يبقى العبد عبدا - ويختلي بذاته. كذلك يقول هيجل: «عندما أفكر فأنا حر؛ لأنني لست متصلا بآخر، لكن أبقى ببساطة على اتصال بذاتي فحسب؛ والشيء الذي أرى أنه واقعي الحقيقي هو ... وجودي الشخصي.» ثم يقول من جديد: «إن جوهر هذا الوعي هو أن تصبح حرا؛ سواء أكنت معتليا العرش أم مقرنا في الأصفاد ...» يظل الرواقي المقرن في الأصفاد حرا؛ لأنه لا يلقي للأصفاد بالا؛ فهو يحرر نفسه من جسده ويلوذ بعقله؛ حيث لا يمكن أن يمسه أي طاغية.
إن نقطة الضعف الموجودة في مذهب الرواقية هي أن الفكرة - مجردة عن العالم الواقعي - تفتقر إلى أي مضمون محدد. وأفكاره التنويرية خالية من الجوهر، وسرعان ما تصبح مملة. ثم يلي الرواقية اتجاه فلسفي آخر، هو التشككية. ومن التشككية نتقدم إلى ما يطلق عليه هيجل «الوعي الشقي»، وهو مفهوم سأتطرق إليه بإيجاز نظرا لأهميته لدى بعض من أتوا بعد هيجل.
شكل : ماركوس أوريليوس (121-180).
من الواضح أن «الوعي الشقي» هو شكل من أشكال الوعي وجد في ظل المسيحية، ويشير إليه هيجل أيضا باسم «الروح المغتربة»، الذي يقدم فكرة أفضل عما يجول في خاطر هيجل في هذا الشأن. في الروح المغتربة، تتركز ثنائية السيد والعبد في وعي واحد، إلا أن العنصرين لا يتوحدان؛ فالوعي الشقي يتطلع إلى الاستقلال عن العالم المادي، والتشبه بالإله، والخلود والروحانية الخالصة، إلا أنه في الوقت ذاته يقر بأنه جزء من العالم المادي، وأن رغباته المادية وآلامه وملذاته حقيقية ولا مفر منها. نتيجة لذلك ينقسم الوعي الشقي على نفسه. ينبغي أن يكون هذا المفهوم مألوفا من خلال موقف هيجل تجاه نظرية كانط عن الأخلاق، الذي تناولناه في الفصل السابق؛ وفي هذه النقطة، كان هيجل يقصد المسيحية وليس كانط. تذكر قول القديس بولس الرسول: «فأنا لا أعمل الصلاح الذي أريده؛ وإنما الشر الذي لا أريده فإياه أمارس.» وتضرع القديس أوجستين: «امنحني العفة والطهارة، لكن ليس الآن.»
إن ما يقصده هيجل هو أي ديانة تقسم الطبيعة البشرية على نفسها، وأكد أن هذا هو نتيجة أي ديانة تفصل الإنسان عن الإله، بوضع الإله في «عالم بعيد» خارج عالم البشر. إن مفهومه هذا عن الإله هو في الحقيقة يصور أحد جوانب الطبيعة البشرية. ما لا يدركه الوعي الشقي هو أن الصفات الروحية التي يقدسها في الإله هي في حقيقة الأمر صفات يتمتع بها هو ذاته. وهذا هو المقصود بأن الوعي الشقي هو روح مغتربة؛ فقد تجلت طبيعته الحقيقية في مكان سيظل بعيدا عنه إلى الأبد، مكان يجعل العالم الواقعي الذي يعيش فيه يبدو بائسا وعديم الأهمية مقارنة به.
من يقرأ تناول هيجل لمفهوم الوعي الشقي بمعزل عن كتاباته الأخرى، قد يحسبه يهاجم جميع الديانات، أو على الأقل الديانتين اليهودية والمسيحية وغيرهما من الديانات التي تستند إلى مفهوم أن الإله كائن منفصل عن عالم البشر. يبدو أن هيجل ينكر وجود أي إله بهذا الشكل، ويفسر إيماننا بالإله كتجل لصفاتنا الأساسية. ولم ينج من هجومه سوى مذهب وحدة الوجود، أو مذهب إنساني يقدس الجنس البشري. ومع ذلك، كان هيجل - كما رأينا - عضوا في الكنيسة اللوثرية، وتناول المسيحية البروتستانتية على نحو إيجابي في كثير من كتاباته الأخرى، بما فيها كتاب «فلسفة التاريخ»، بل وفي جزء لاحق من كتاب «فينومينولوجيا العقل» نفسه. هل وازن هيجل في كتاباته اللاحقة وفي تصرفاته الشخصية آراءه المتطرفة بشأن الدين، كما فعل فيما يتعلق بآرائه المتطرفة بشأن الدولة؟ بعد وفاة هيجل، قام مجموعة من الشباب المتطرف بتبني وجهة النظر هذه من فلسفة هيجل، وظنوا أنهم يتبعون الجوهر الحقيقي والسليم لفكرته، وأولوا اهتماما خاصا لمناقشته للوعي الشقي. وسوف نتعرض لهذا في الفصل الأخير من هذا الكتاب.
غاية العقل
سوف نتغاضى الآن عن جزء ضخم من كتاب «فينومينولوجيا العقل». بعض الأجزاء التي تغاضينا عنها مملة ومبهمة، والبعض الآخر على نفس القدر تقريبا من أهمية وتأثير الأجزاء التي قد تناولناها. وفي بعض الأحيان تكون الموضوعات هي بالضبط ما قد يتوقع المرء أن يجده في عمل فلسفي؛ فهناك مناقشات بشأن الأفكار الميتافيزيقية لكل من فيخته وكانط، وهناك نقد لمذهب المتعة، أو السعي وراء اللذة، وهناك مناقشة لنظرية كانط عن الأخلاق؛ حيث يبدي اعتراضات مشابهة للاعتراضات التي تناولناها بالفعل عند مناقشة كتاب «فلسفة الحق». كذلك يتناول العاطفية الأخلاقية التي انتشرت في عصره من خلال الحركة الرومانسية بتحليل نقدي.
أما الموضوعات الأخرى فهي فريدة من نوعها؛ فهناك - على سبيل المثال - جزء طويل عن علم الفراسة وعلم فراسة الدماغ، وهما من العلوم الزائفة التي تستند إلى فكرة أن المرء يستطيع أن يتعرف على شخصية الشخص - في حالة علم الفراسة - من شكل الوجه، أو - وفقا لعلم فراسة الدماغ - من نتوءات الجمجمة. يعارض هيجل هذه الأفكار، ليس لأنه يمتلك دليلا على عدم دقتها، وليس لأي سبب دنيوي آخر، لكن نتيجة للحجة الفلسفية التي تقضي بأنه يجب ألا يربط العقل بأي شيء مادي مثل الوجه والجمجمة.
هناك جزء آخر فريد، وهو تحليل لمجتمع قائم على النظرية الاقتصادية لآدم سميث ومدرسته التي تقوم على مبدأ «عدم التدخل»، التي تقول بأن كل شخص يعمل ليجمع ثروة لنفسه لكنه في الحقيقة يسهم بعمله في تحقيق الرخاء للجميع. يكمن اعتراض هيجل هنا - وهي نقطة تبناها لاحقا كل من النقاد الماركسيين وغير الماركسيين للاقتصاد الحر وأولوها اهتماما كبيرا - في أنه نتيجة لتشجيع الأفراد على السعي وراء مصالحهم الشخصية، يؤدي هذا النظام الاقتصادي إلى حرمان الأفراد من اعتبار أنفسهم جزءا من مجتمع أكبر.
إن هذه الموضوعات المتنوعة، بالإضافة إلى كثير من الموضوعات الأخرى، تمتزج بعضها مع بعض لتشكل تصور هيجل عن المسار الذي يجب أن يسلكه العقل كي يصل إلى المعرفة المطلقة. وقد رأينا كيف أكد أنه لا يمكن وجود معرفة كافية دون عقل واع بذاته، وكيف تطور الوعي الذاتي من خلال التأثير في العالم وتغييره. انطلاقا من هذا، يرى هيجل التاريخ البشري بأكمله كعملية لتطور العقل. إن العصور التاريخية، مثل أيام اليونان القديمة والإمبراطورية الرومانية وعصر التنوير والثورة الفرنسية، جميعها لها الدلالة نفسها، كما في كتاب «فلسفة التاريخ»؛ فهي مراحل في عملية تقدم العقل نحو الحرية. وهكذا الحال بالنسبة للكثير من عناصر المجتمع العضوي التي وصفها هيجل في كتاب «فلسفة الحق». ورغم أوجه التشابه الكبيرة هذه، فإن هناك بعض الاختلافات بين طريقة هيجل في تناول هذه المادة في كتاب «فينومينولوجيا العقل» وطريقة تناوله لها لاحقا في كتابيه «فلسفة التاريخ» و«فلسفة الحق». وسأذكر منها ثلاثة اختلافات.
إن الاختلاف الذي يصدم القارئ على الفور هو أن كتاب «فينومينولوجيا العقل» لا يتضمن أي بلدان أو عصور أو تواريخ أو أحداث أو أشخاص محددة. وعلى الرغم من أن الإشارات لعصور وأحداث محددة تكون عادة واضحة بما يكفي - خاصة للقارئ الملم بكتاب «فلسفة التاريخ» - تم تناول كل شيء كما لو أنه حديث عن عملية عامة يجبر العقل على خوضها نتيجة للحاجة الداخلية التي تدفعه لتحقيق الذات. يبدو الأمر كما لو أن الإشارات إلى أشخاص أو أوقات أو أماكن محددة، قد يوحي بطريقة ما بأن الأشياء كان من الممكن أن تصبح مختلفة إذا اختلف الأشخاص أو اختلفت الظروف. ينجح هيجل في إعطاء انطباع بأن العملية التي يصفها كان من شأنها أن تتم حتى لو جرى تطور العقل على كوكب المريخ. وبالفعل، يتسم كتاب «فينومينولوجيا العقل» بأسلوب مجرد وبخلوه من أي إحساس بالزمان أو المكان، لدرجة أنه في حال كان العقل قد تطور على كوكب المريخ بالفعل، لم يكن هيجل ليضطر لتغيير أي شيء.
أما الاختلاف الثاني، فهو أن كتابي «فلسفة التاريخ» و«فلسفة الحق» ينتهيان بالوصول إلى دولة تشبه الشكل الملكي لدولة بروسيا، أما في كتاب «فينومينولوجيا العقل» فلا يوجد أي ذكر لمثل هذه الدولة. فالأجزاء الموازية لكتاب «فلسفة التاريخ» تنتهي بالثورة الفرنسية. إن الثورة الفرنسية هي ذروة التاريخ من حيث إنها تمثل العقل في حالة حرية مطلقة، والذي يكون على دراية بقدرته على تغيير العالم وتشكيل الحياة السياسية والاجتماعية وفقا لإرادته. نتيجة لأسباب مماثلة للأسباب التي أبداها في كتاب «فلسفة التاريخ»، يصور هيجل الحرية المجردة للثورة الفرنسية بأنها تقود حتما إلى نقيضها؛ ألا وهو نفي الذات الحرة؛ أي الإرهاب والموت. لكن لا يوجد أي تطور سياسي آخر في كتاب «فينومينولوجيا العقل». بدلا من ذلك ينتقل مسار العقل إلى مستويات أرقى، بداية من الرؤية الأخلاقية للعالم التي طورها كانط وفيخته والرومانسيون، ثم ينتقل إلى الرؤية الدينية، وأخيرا يصل إلى المعرفة المطلقة ذاتها التي تتحقق عن طريق الفلسفة.
هناك تفسير واضح لعدم وجود إشارات إلى دولة بروسيا في كتاب «فينومينولوجيا العقل»؛ فعندما كتب هيجل هذا الكتاب، لم يكن في بروسيا وإنما في مدينة ينا، ذلك فضلا عن أنه كتبه خلال فترة الحروب النابليونية، وهو الوقت الذي كانت فيه فرنسا القوة المهيمنة في أوروبا، وكان مستقبل الدول الألمانية في علم الغيب. إذن كان يجب أن يكون هيجل متبصرا على نحو كبير كي يتنبأ بنهضة دولة بروسيا، ويجعلها ذروة التاريخ السياسي بالنسبة له. إن الغياب المفهوم لإشارات إلى دول ما جعل كتاب «فينومينولوجيا العقل» رائجا بطبيعة الحال وسط من يؤمنون بأن هيجل في أعماله اللاحقة قد خفف من حدة آرائه كي يرضي أسياده السياسيين.
ننتقل إلى الاختلاف الرئيسي الثالث بين كتاب «فينومينولوجيا العقل» والأعمال التالية له؛ ففي كتاب «فلسفة التاريخ»، يصف هيجل مسار التاريخ بأنه ليس إلا تقدم الوعي بفكرة الحرية، في حين يركز في كتاب «فينومينولوجيا العقل» - كما سبق وأن رأينا - على التطور نحو المعرفة المطلقة. بالنظر إلى هذه الكلمات بمعناها العادي، قد يبدو أن هيجل يتبنى وجهات نظر مختلفة وغير متطابقة في الكتابين. بالطبع قد يكون المرء مثقفا بينما هو قابع في زنزانة طاغية، وقد يكون آخر يعيش بحرية تامة على جزيرة استوائية وهو جاهل على نحو تام بكل العلوم والسياسة والفلسفة. لكن ينبغي علينا الآن أن نكون قد تعرفنا على هيجل بما يكفي لنحترس من أن نفهم كلماته بمعناها العادي. فهيجل يرى أن المعرفة المطلقة والحرية الحقيقية متلازمتان. وستكون مهمتنا الأخيرة، فيما يتعلق بكتاب «فينومينولوجيا العقل»، هي فهم ما يقصده هيجل بالمعرفة المطلقة. وللقيام بذلك نحتاج أولا لفهم سبب أن تقدم الوعي بفكرة الحرية هو أيضا تقدم العقل نحو المعرفة المطلقة.
كشف الاستعراض الذي قمنا به في وقت سابق لمفهوم هيجل عن الحرية أنه يرى أننا نكون أحرارا عندما نكون قادرين على الاختيار دون إجبار من أشخاص آخرين أو الظروف الاجتماعية أو رغباتنا الطبيعية، وقد اختتمنا هذا الاستعراض بوعد بأننا سنتوصل لفهم أفضل لوجهة النظر هذه فور أن نعرف القليل عن نسقه الفكري ككل. لقد علمنا الآن من كتاب «فينومينولوجيا العقل» أن هيجل يرى التاريخ البشري بأكمله مسارا ضروريا لتطور العقل، وتشير حقيقة أنه يتخذ من العقل القوة المحركة للتاريخ إلى سبب إصراره على أن رغباتنا، سواء أكانت فطرية أم اجتماعية، هي قيد على الحرية. فالحرية من وجهة نظر هيجل ليست الحرية في أن نفعل ما يحلو لنا، وإنما تكمن في أن يكون لدينا عقل حر. فالعقل يجب أن يتحكم في كل شيء آخر، ويجب أن يدرك أنه هو المسيطر. لا يعني هذا - كما عنى عند كانط - أن الجانب غير العقلاني للطبيعة البشرية ينبغي ببساطة كبته. يعطي هيجل مساحة لرغباتنا الفطرية والاجتماعية كما يعطي مساحة للمؤسسات السياسية التقليدية، لكنه دائما ما يضعها في تسلسل هرمي ينظمه العقل ويتحكم فيه.
إن الحرية التي يؤمن هيجل بأنها الحرية الحقيقية يمكن العثور عليها - كما رأينا - في الاختيار العقلاني. إن التفكير العقلاني هو الطبيعة الأساسية للعقل؛ فالعقل الحر، الذي لا يعوقه أي إجبار من أي نوع، سيتبع التفكير العقلاني بسهولة كما يتدفق النهر الذي لا تعوقه جبال أو تلال مباشرة نحو البحر. وأي شيء يعيق التفكير العقلاني هو قيد على حرية العقل. فالعقل يسيطر على كل شيء عندما يكون كل شيء منظما بعقلانية.
كما أننا رأينا كيف يعتبر هيجل التفكير العقلاني كونيا بالفطرة. وإذا كان التفكير العقلاني هو الأداة الأساسية للعقل، فالعقل كوني بالفطرة. إن عقول البشر الخاصة كأفراد مرتبطة بعضها ببعض؛ لأن لديها تفكيرا عقلانيا كونيا مشتركا. وكان هيجل يصيغ هذه الفكرة على نحو أقوى، قائلا إن عقول البشر الخاصة كأفراد هي أوجه لشيء ما كوني بالفطرة؛ ألا وهو العقل ذاته. إن العقبة الأكبر التي تعوق التنظيم العقلاني للعالم هي ببساطة أن البشر لا يدركون أن عقولهم هي جزء من هذا العقل الكوني. يتقدم العقل نحو الحرية عن طريق إزالة هذه العقبة من طريقه. تذكر في بداية كتاب «فينومينولوجيا العقل» كيف كان الوعي محدودا بمعرفة الشيء المحدد الخالص «هذا»، وأجبر على قبول المصطلحات الكونية الضمنية في اللغة. انطلاقا من هذه النقطة، كانت كل خطوة هي خطوة عبر طريق ملتو يؤدي إلى عقل أقرب إلى تصور ذاته كشيء عقلاني وكوني في الوقت ذاته. هذا هو الطريق نحو الحرية؛ لأن العقول البشرية المفردة لا يمكنها أن تجد الحرية في الاختيار العقلاني عندما تكون منغلقة داخل تصورات لذاتها لا تقر بقوة التفكير العقلاني أو طبيعته الكونية الفطرية.
ما إن نعي ذلك، فلن يكون من الصعب رؤية العلاقة بين الحرية والمعرفة. كل ما نحتاج إلى قوله هو أنه كي يكون البشر أحرارا يجب أن يكونوا على دراية كاملة بطبيعة عقولهم العقلانية، والتي هي بدورها طبيعة كونية. هذا الوعي الذاتي هو المعرفة المطلقة. كذلك كتب هيجل في «فلسفة التاريخ»:
كون أن العقل عند المصريين قد تمثل لوعيهم في شكل «مشكلة» هو أمر جلي في النقش الشهير في معبد الإلهة نيث: «أنا ما هو كائن، وما قد كان، وما سوف يكون؛ لم يمط عني اللثام أحد» ... عند نيث المصرية، الحقيقة لا تزال مشكلة. والإله أبولو هو حلها؛ فهو يقول: «أيها الإنسان، اعرف نفسك.» لا يقصد بهذا القول معرفة الذات للجوانب الجزئية لضعفها وأخطائها: فالمقصود ليس هو الإنسان الجزئي الذي ينبغي أن يعرف خصائصه، وإنما المقصود هو الإنسان بصفة عامة، والذي ينبغي عليه أن يعرف نفسه.
إن البشرية بصورة عامة - كما كان من الممكن أن يضيف هيجل - مدعوة في الوقت ذاته إلى الحرية.
المعرفة المطلقة
لقد رأينا أن غاية كتاب «فينومينولوجيا العقل» هي المعرفة المطلقة، وأنها مرتبطة بغاية التاريخ؛ وهي الوعي بالحرية. فمعرفة الذات هي شكل من أشكال المعرفة، وأيضا هي أساس مفهوم هيجل عن الحرية. لماذا - على الرغم من ذلك - يصف هيجل معرفة الذات بمصطلح «المعرفة المطلقة»؟ ألا ينبغي أن نقول إن معرفة الذات هي جزء من المعرفة، لكنها بالتأكيد ليست المعرفة كلها؟ فعلم النفس في نهاية الأمر ما هو إلا أحد العلوم المتعددة، وحتى إذا أضفنا إليه علم الأنثروبولوجيا وعلم الأحياء والتاريخ ونظرية التطور وعلم الاجتماع وجميع العلوم الأخرى التي يمكن أن تسهم في معرفتنا بأنفسنا، فسيكون هناك العديد من مجالات المعرفة خارج هذه الفئة بالكامل أو في أفضل الأحوال ستكون على صلة بعيدة للغاية بها: علم الجيولوجيا، وعلم الفيزياء، وعلم الفلك، وغيرها. أليست هذه العلوم أيضا جزءا من المعرفة المطلقة؟
هناك فكرتان خاطئتان في هذا الاعتراض، إحداهما يسهل توضيحها، وهي أن هيجل لا يقصد بمصطلح «المعرفة المطلقة» معرفة كل شيء؛ فالمعرفة المطلقة هي معرفة العالم في حقيقته، مقارنة بمعرفة المظاهر فقط. لاكتساب المعرفة المطلقة لا يتعين علينا معرفة جميع الحقائق التي من الممكن معرفتها؛ فوظيفة العلماء هي معرفة المزيد والمزيد عن الكون. وكان هدف هيجل هو الهدف الفلسفي الذي يكمن في إثبات مدى إمكانية أن تكون المعرفة حقيقية، ولم يكن هدفه هو هدف العلماء الذين يسعون إلى زيادة المعرفة التي لدينا.
أما الفكرة الخاطئة الثانية، فيمكن الرد عليها فقط عن طريق توضيح موقف هيجل من طبيعة الواقع المطلق. فهيجل كان يصف نفسه بمصطلح «المثالي المطلق». و«المثالية» في الفلسفة لا تعني المعنى الدارج لها في اللغة العادية؛ فلا علاقة لها بتبني مثل عليا أو السعي إلى الكمال الأخلاقي. فالمصطلح الفلسفي كان ينبغي حقا أن يكون «الفكرية» لا «المثالية»؛ فمعناه أن الأفكار - أو على نحو أوسع: عقولنا وأفكارنا ووعينا - هي التي تشكل الواقع المطلق. أما وجهة النظر المناقضة، فتتمثل في المذهب المادي الذي يؤكد أن الواقع المطلق هو شيء مادي، وليس عقليا (يؤمن أنصار مذهب الثنائية بأن كلا من العقل والمادة يشكل الواقع).
يؤمن هيجل إذن بأن الواقع المطلق هو العقل، لا المادة، كذلك يؤمن بأن كتاب «فينومينولوجيا العقل» هو الذي قاده إلى هذا الاستنتاج. فبداية من مرحلة اليقين الحسي، فشلت كل محاولات اكتساب المعرفة بشأن واقع موضوعي مستقل عن العقل. وثبت خلو المعلومات الأولية التي نتلقاها عبر الحواس من أي معنى إلى أن نضعها في نظام مفاهيمي ينتجه الوعي. كان على الوعي أن يشكل العالم على نحو عقلاني، وأن يرتبه ويصنفه، قبل أن تكون المعرفة ممكنة. واتضح أن ما يطلق عليه «الأشياء المادية» ليست أشياء توجد بصورة مستقلة تماما عن الوعي، لكنها مفاهيم متعلقة بالوعي، بما في ذلك مفاهيم مثل «التملك» و«المادة». وعلى مستوى الوعي الذاتي، أصبح الوعي على دراية بقوانين العلوم بوصفها قوانينه الخاصة؛ وعليه وللمرة الأولى وجد العقل نفسه موضع الاستقصاء من جانبه. وفي هذه المرحلة أيضا بدأ الوعي في تشكيل العالم على نحو عملي وعقلاني عن طريق تقبل الأشياء المادية والتأثير فيها، وتصميمها وفقا لتصوراته الشخصية لما ينبغي أن تكون عليه. ثم بدأ الوعي في تشكيل عالمه الاجتماعي أيضا، وهي عملية تصل في ذروتها إلى اكتشاف أن العقل مسيطر على كل شيء. بعبارة أخرى: على الرغم من أن هدفنا في البداية كان فقط تتبع مسار العقل وهو في طريقه لمعرفة الواقع، فسنكتشف في نهاية الطريق أننا كنا نشاهد العقل وهو يشكل الواقع.
وفقا لهذا المفهوم عن الواقع بوصفه من صنع العقل وحده، يمكن لهيجل أن يفي بالوعد الذي قطعه على نفسه في مقدمة كتاب «فينومينولوجيا العقل» بأن يثبت أن بإمكاننا الوصول إلى معرفة حقيقية بالواقع. تذكر كيف صب جام سخريته على كل الرؤى التي ترى أن المعرفة أداة لإدراك الواقع، أو وسيلة نشاهد من خلالها الواقع؛ فقد قال إن جميع هذه الرؤى تفصل المعرفة عن الواقع. كان كانط، بمفهومه «الشيء في ذاته» الخاص بالواقع بوصفه شيئا يتخطى دائما حدود معرفتنا، أحد الذين أصابتهم سهام هذا النقد. وفي المقابل، قطع هيجل على نفسه وعدا بأن كتاب «فينومينولوجيا العقل» سيصل إلى مرحلة «لا تعد المعرفة عندها مجبرة على التطور إلى أبعد من نفسها»، ولن يعد الواقع عندها «شيئا أبعد» يتخطى حدود المعرفة، بل سيعرف الوعي الواقع مباشرة ويتحد معه. الآن يمكننا فهم ما كان يعني بكل ذلك: يتم التوصل للمعرفة المطلقة عندما يدرك العقل أن «ما يسعى لمعرفته هو ذاته.»
هذا هو مفتاح فهم كتاب «فينومينولوجيا العقل» ككل. وهذه النقطة هي على الأرجح أعمق أفكار هيجل التي أحاول أن أوصلها في هذا الكتاب؛ لذا دعونا نستعرضها مرة أخرى.
الواقع يشكله العقل، لكن العقل لا يدرك ذلك في بادئ الأمر؛ فهو يرى الواقع كشيء ما مستقل عنه، بل وكشيء عدائي وغريب عنه. في هذه الفترة، يكون العقل منفصلا أو مغتربا عما صنعه بنفسه. يحاول العقل أن يكتسب المعرفة بالواقع، لكن هذه المعرفة ليست حقيقية لأن العقل لا يدرك الواقع في حقيقته؛ ولذا يعتبره شيئا غامضا يتجاوز حدود إدراكه. وعندما ينتبه العقل لحقيقة أن الواقع هو من صنعه، حينها فقط يتخلى عن السعي وراء هذا «الشيء الأبعد» المتجاوز لحدوده، ثم يفهم أنه لا يوجد ما هو أبعد من ذاته، ثم يعرف الواقع على نحو مباشر وفوري كما يعرف ذاته. إنه يتحد معه. وكما يصيغها هيجل في الجزء الختامي من كتاب «فينومينولوجيا العقل»: المعرفة المطلقة هي «عقل يعرف ذاته في شكل عقل.»
وهكذا قد وصل هيجل بعمله المهم إلى استنتاج جريء وعبقري. لقد توصل لحل مذهل للمشكلة الأساسية للفلسفة، وفي الوقت نفسه أوضح سبب أن التاريخ وجب أن يتحرك في المسارات التي سلكها في الحقيقة. إن مدى ثبات هذا الصرح الفكري الضخم الذي بناه هيجل من عدمه هو مسألة أخرى، لكن حتى إذا انهار أمام أعيننا، فلا يمكننا سوى الإعجاب بروعة التصميم وأصالته.
هناك سمة واحدة في التصميم لن يستطيع مرشدك أن يقاوم رغبته في أن يلفت نظرك إليها. سل نفسك متى تتحقق المعرفة المطلقة. الإجابة هي بالطبع أنها تتحقق فور أن يفهم العقل أن الواقع هو من صنعه، وأنه لا يوجد «شيء أبعد» ليعرفه. ومتى يحدث هذا؟ حسنا، نظرا لأن هذا المفهوم عن الواقع هو نتيجة كتاب هيجل «فينومينولوجيا العقل»، يجب أن يحدث عندما يدرك عقل هيجل نفسه طبيعة الكون. من وجهة نظر هيجل، يصل العقل إلى محطة راحته النهائية عندما يفهم هيجل نفسه طبيعة الواقع. نادرا ما يوجد استنتاج أكثر أهمية من هذا لعمل فلسفي. إن الصفحات الختامية لكتاب «فينومينولوجيا العقل» ليست مجرد «وصف» لذروة التاريخ البشري كله، وإنما «هي» ذروة التاريخ البشري ذاتها.
تعليقان أخيران
إن عظمة أفكار هيجل الفلسفية كبيرة لدرجة أن التعليق عليها قد يبدو أمرا سخيفا؛ ومع ذلك، هناك العديد من التعليقات التي تطرح نفسها فعليا. سأتناول بإيجاز تعليقين جوهريين منها.
التعليق الأول يتعلق بمثالية هيجل. قد نعترف أنه من غير الممكن أن يكون هناك معرفة دون عقل ينظم المعلومات الأولية التي يتلقاها من الحواس. قد نسلم بأن البشر يشكلون عالمهم بصورة عملية، كما يشكلونه بصورة نظرية، عن طريق التأثير فيه. لكن حتى مع أخذ كل هذا وأكثر في الاعتبار، يظل الاعتقاد الراسخ بأنه لا بد من وجود شيء ما «خارج العقل» مستقلا عن خبرتنا به. فقولنا إن العقل يفرض تصنيفاته على المعلومات الأولية التي يتلقاها من الحواس - بشأن ال «هذا» الموجود مباشرة أمام الوعي في مستوى اليقين الحسي - يعني أننا نفترض مسبقا ورود تلك المعلومات من مكان ما. يمكن أن ينكر هيجل أن هذه المعلومات ترقى لمستوى المعرفة، لكنه لن يستطيع إنكار أنها تشير لوجود شيء ما خارج العقل ذاته. الفكرة ذاتها تنطبق على نحو أكثر وضوحا على وجهة النظر التي تقول بأن العقل يشكل العالم بصورة عملية من خلال التأثير فيه. قد يكون مايكل أنجلو قد واتته فكرة صنع تمثال للنبي داود، فحمل قطعة من الرخام وحولها إلى تمثال يتفق مع أفكاره، لكنه لم يكن ليحقق أي شيء لو لم يكن لديه رخام في المقام الأول.
نمط التفكير هذا - من الناحية النظرية لا العملية - وصل بكانط إلى طرح فكرته عن «الشيء في ذاته» الذي لا سبيل لمعرفته. وجه هيجل انتقادات حادة لهذه الفكرة، لكن هل أوضح حقا أننا يمكننا الاستغناء عنها؟
التعليق الثاني أيضا ينبع من مثالية هيجل. بعض المثاليين ينتمون لمذهب الذاتية، ويؤكدون على أن الشيء الواقعي في النهاية هو أفكار الشخص وأحاسيسه. والعقول المختلفة قد تكون لديها أفكار وأحاسيس مختلفة، وفي هذه الحالة، لا توجد أي طريقة ممكنة للحكم على مضمون أحد العقول بأنه حقيقي، ومضمون عقل آخر بأنه زائف، وبالتأكيد في وجهة النظر هذه لا معنى لتلك التصنيفات؛ لأنها تفترض مسبقا على نحو خاطئ وجود واقع موضوعي خارج نطاق أفكار وأحاسيس العقول المفردة. يرفض هيجل وجهة النظر القائلة بأن هناك صورا مختلفة لا حصر لها من الواقع تقابل العقول المختلفة التي لا حصر لها. ويطلق هيجل على نموذج المثالية الخاص به اسم «المثالية المطلقة» ليميزها عن المثالية الذاتية. فمن وجهة نظر هيجل، هناك واقع واحد فقط؛ لأنه في نهاية الأمر لا يوجد سوى عقل واحد.
الآن نعود إلى السؤال الذي بدأ به استعراضنا لكتاب «فينومينولوجيا العقل». إذا كان هيجل يؤمن بوجود عقل واحد فقط، فماذا يقصد بمصطلح «العقل»؟ لا بد أنه يقصد نوعا ما من العقل الجمعي أو الكوني. وفي هذه الحالة، ألم يكن من الأفضل استخدام «الروح»، بما تحمله من دلالات دينية، كترجمة أفضل من البداية؟ أليست فكرة العقل الجمعي هي بالأساس فكرة دينية؟ ألا ينبغي أن نعتبره تصور هيجل عن الإله؟
ربما، لكن إذا أجبرنا في نهاية الأمر على تقبل وجهة النظر هذه، فسنتقبلها بعد فهم أفضل لغموض موقف هيجل وتشككه مما لو قمنا بتبني هذه الترجمة من البداية.
لا شك أنه ما زال هناك العديد من الشكوك حول مفهوم هيجل عن العقل. فمن جهة، يحتاج هيجل إلى مفهوم عقل جمعي أو كوني، ليس فقط لتجنب النموذج الذاتي للمثالية، بل أيضا كي يثبت رؤيته التي تشير إلى أن العقل يتوصل إلى رؤية الواقع كله بوصفه من صنعه. فإذا كانت هناك ملايين العقول الفردية المتمايزة، فلن يتمكن عقل منفرد من رؤية الكثير من الواقع بوصفه من صنعه عمليا؛ لأن جزءا كبيرا من الواقع سيكون عمليا من صنع عقول أخرى. كثيرا ما ستثبت الطريقة التي يدرك العقل بها العالم قبل وصوله للمعرفة المطلقة - كشيء مستقل عنه بل وعدائي تجاهه - أنها ليست خدعة، لكنها الحقيقة المجردة. يبدو كما لو أن هذا كله يفرض علينا تفسيرا لفهم مصطلح هيجل «العقل» بوصفه نوعا من الوعي الكوني؛ ليس بالطبع المفهوم التقليدي للإله بوصفه منفصلا عن الكون، لكن كشيء ما أقرب للفلسفات الشرقية التي تصر على أن «الكل واحد».
من ناحية أخرى، يعتبر هيجل نفسه مدافعا أساسيا عن العقل. فهل نستطيع أن نوفق بين هذا وبين ما يقوله، ويحتاج لقوله، بشأن العقل؟ قد تكون إحدى الطرق التي يمكن أن نقوم من خلالها بذلك هي أن نتأمل بجدية مدى إيمان هيجل بأن الوعي يجب أن يكون اجتماعيا. يصر هيجل، بداية من الجزء الأول في كتاب «فينومينولوجيا العقل»، على أن المعرفة تصبح معرفة فقط إذا كان من الممكن نقلها عن طريق اللغة. إن حتمية استخدام اللغة تلغي فكرة وجود وعي مستقل تماما. يجب أن يتفاعل الوعي مع نماذج أخرى من الوعي كي يتطور ليصبح وعيا ذاتيا. وفي النهاية، لا يمكن أن يجد العقل الحرية وفهم الذات إلا في مجتمع منظم بعقلانية. إذن فالعقول ليست ذرات منفصلة، تربطها مصادفات. فإما أن توجد العقول الفردية معا، أو لا توجد على الإطلاق.
إن نظرية هيجل الاجتماعية مهمة؛ خاصة لتأثيرها على الفكر لاحقا، لكنها قد لا تكون كافية لتسمح لنا بفهم فكرته عن المعرفة كعقل متحد مع ذاته. لكن يظل هناك عنصر ثان يمكن طرحه؛ ألا وهو فكرته عن الطبيعة الكونية للتفكير العقلاني. لقد سبق وأن رأينا كيف يعتبر هيجل التفكير العقلاني هو المبدأ الرئيسي للعقل، ويرى أن هذا التفكير كوني بصورة أساسية. كان يمكنه إذن أن يقول: بقدر ما أن العقول الفردية هي عقل في الواقع - وليست رغبة أنانية أو متقلبة - بقدر ما ستفكر وتتصرف حقا بتناغم بعضها مع بعض، وستعرف حقا أنها جميعا تملك الطبيعة الأساسية نفسها. هذه الطبيعة الأساسية - هذا «العقل الكوني» - ليست عقلا فرديا أو عقلا جمعيا، وإنما هي ببساطة وعي عقلاني.
قد تكون وجهة النظر هذه متطرفة وأحادية بشأن طبيعة التفكير العقلاني والعقل. وقد تستند - كما أشرت فيما يتعلق بفلسفة هيجل السياسية - إلى تفاؤل مضلل بشأن إمكانية وجود تناغم بين العقول البشرية. ومع ذلك، لا يعد هذا ارتدادا إلى الوحدة الروحية لوعي كوني. أما كونها تفسيرا دقيقا للرسالة الرئيسية التي يحملها كتاب «فينومينولوجيا العقل» أم لا، فهي مسألة أخرى.
الفصل الخامس
المنطق والمنهج الجدلي
كما ذكرت في مقدمة الكتاب، أنا لا أنوي تقديم عرض تفصيلي لكتاب هيجل «علم المنطق»، لكنني من جهة أخرى لا أرغب في أن أترك انطباعا خاطئا لدى القارئ بأن كتاب «علم المنطق» عمل غير مهم أو سطحي بالنسبة لنسق هيجل الفلسفي ككل؛ لذلك سأذكر بعض ما أراد هيجل تحقيقه في هذا الكتاب، وفي أثناء ذلك، سأستغل الفرصة لشرح رؤيته بشأن المنطق التي كثيرا ما ينظر إليها بوصفها أعظم اكتشافات هيجل، والتي تعرف بالمنهج الجدلي.
مفهوم هيجل عن المنطق
يخبرنا هيجل في مقدمة كتابه «علم المنطق» أن غاية المنطق هي الحقيقة. هذا أمر طيب، لكن أي نوع من الحقيقة؟ يبدأ هيجل بالإشارة إلى وجهة النظر التقليدية بشأن الموضوع، التي تبدأ بالفصل بين الشكل والمضمون، وتعتبر أن المنطق هو دراسة شكل الفكر الحقيقي أو الصحيح، بصرف النظر عن مضمونه. فالمنطق، على النحو الذي يفهم به عادة، يدرس أشكالا من الحجج المنطقية، مثل:
كل ما هو «أ» هو «ب»
و«س» هو «أ»
إذن «س» هو «ب»
هنا لدينا شكل دون مضمون. يمكننا أن نكتب: «إنسان» و«فاني» و«سقراط» بدلا من: «أ» و«ب» و«س» على التوالي. أو يمكننا كتابة: «حيوان من ذوات الأربع» و«مكسو بالفراء» و«سلحفاتي الأليفة». الحجة صحيحة في كلتا الحالتين، على الرغم من أن وجود مقدمة منطقية خاطئة قد يؤدي أيضا إلى استنتاج خاطئ. صحة الحجة هي مسألة شكل لا مضمون؛ فعالم المنطق لا يعنيه المضمون.
نتيجة لهذا الفصل بين الشكل والمضمون، لا يخبرنا المنطق بأي شيء بخصوص العالم الواقعي. إن أشكال الحجج التي يصفها المنطق ستظل كما هي بالضبط إذا كان البشر غير فانين أو كانت السلاحف فعلا مكسوة بالفرو، ولن تتغير إذا لم يكن هناك بشر أو سلاحف على الإطلاق.
إذا تذكرنا كيف بدأ هيجل في كتاب «فينومينولوجيا العقل» تناول مشكلة المعرفة من خلال الاعتراض على التمييز الشائع المفترض بين العالم والمعلوم، فلا ينبغي أن نتفاجأ إذا ما علمنا أن هيجل يذكر هذا التمييز التقليدي بين الشكل والمضمون حتى يعترض عليه. فالمنطق، كما يقول هيجل، هو دراسة الفكر، لكن هيجل في كتابه «فينومينولوجيا العقل» أوضح بالفعل أنه لا يوجد واقع موضوعي مستقل عن الفكر. فالفكر هو واقع موضوعي، والواقع الموضوعي هو الفكر. وهكذا عندما يدرس المنطق الفكر، لا بد أن يدرس الواقع أيضا. يقول هيجل إننا «إذا كنا لا نزال نرغب في استخدام كلمة «المادة»، فيجب أن يكون مضمون المنطق هو «المادة الحقيقية الواقعية».» ثم يقدم لنا هيجل بعض الصور عن موضوع المنطق. فيقول هو «الحقيقة كما هي، دون قناع، في ذاتها ولذاتها.» أو بكلمات أخرى: «يعلن هذا المضمون عن وجود الإله كما هو في جوهره الخالد قبل خلق الطبيعة والعقل المحدود.»
يطلق فالتر كوفمان على هذا «ربما أكثر الصور جنونا في كتابات هيجل كافة»، لكن ما يشير إليه هو أمر لا يتعلق نهائيا بوجهة النظر التقليدية بشأن أن المنطق لا يخبرنا بأي شيء عن العالم. إن القول بأن المنطق لا يتعلق بعالم الطبيعة والعقول المحدودة، يعني أن هيجل يقبل جزءا من وجهة النظر التقليدية. إن الجزء الذي يتحمس بشدة لرفضه هو فكرة أن الواقع - أو الحقيقة - يوجد «فقط» في عالم الطبيعة والأشخاص. على العكس من ذلك، فمثاليته المطلقة تظهر أن الواقع المطلق يوجد فيما هو عقلي وفكري، وليس فيما هو مادي. فهو يوجد، على وجه التحديد، في الفكر العقلاني. إذن المنطق هو دراسة الواقع المطلق في شكله الخالص، مجردا من الأشكال المحددة التي يتخذها في العقول المحدودة للبشر أو في العالم الطبيعي.
هناك أثر آخر لوجهة نظر هيجل عن العقل بوصفه الواقع المطلق على أهمية المنطق؛ فبما أن العقل يشكل العالم، فستكشف دراسة الفكر العقلاني المبادئ التي شكل هذا العالم على أساسها. لنصغها بمصطلحات هيجل الخاصة: إن فهم جوهر الإله الخالد قبل خلق العالم هو فهم الأساس الذي خلق العالم بناء عليه.
المنهج الجدلي لهيجل
في أثناء كتابته لمسودة كتاب «رأس المال»، كتب ماركس إلى إنجلز يقول:
من حيث «منهج» التناول، ساعدني كثيرا أنني بالمصادفة البحتة تصفحت مجددا كتاب هيجل «علم المنطق» ... لو أن لدي الوقت للقيام بمثل هذا العمل، لوددت بدرجة كبيرة أن أجعل في متناول الذكاء البشري العادي، في صفحتين أو ثلاث صفحات مطبوعة، ما هو «عقلاني» في المنهج الذي اكتشفه هيجل لكن في الوقت نفسه المغلف بغطاء روحي ...
إن المنهج الذي يشير إليه ماركس هو بالطبع المنهج الجدلي، الذي يصفه هيجل بأنه «المنهج الحقيقي الوحيد» للعرض الفكري والعلمي. إنه الطريقة التي يستخدمها هيجل في «علم المنطق» للكشف عن شكل الفكر الخالص.
لم يجد ماركس الوقت أبدا ليكتب تفسيره لما هو عقلاني في المنهج الجدلي. ومع ذلك، استطاع الكثير غيره الكتابة في هذا الموضوع، إلا أنهم بالتأكيد لم يكونوا بالإيجاز الذي نواه ماركس. يطور بعض هؤلاء المعلقين المنهج الجدلي كي يكون بديلا لكل أشكال المنطق السابقة؛ كي يكون شيئا يحل محل التفكير العقلاني العادي الذي يشبه الشكل المنطقي القياسي البسيط الوارد في الصفحة الأولى من هذا الفصل. لا يوجد لدى هيجل ما يبرر مثل هذه المزاعم المبالغ فيها فيما يتعلق بالمنهج الجدلي. ولا توجد أي حاجة للتعامل مع هذا المنهج بوصفه شيئا عميقا وغامضا. فكما يقول هيجل، هو طريقة ذات «إيقاع بسيط» ولا تحتاج لمهارة كبيرة للرقص على أنغامها.
في عرضنا لكتاب «فينومينولوجيا العقل»، كنا في حقيقة الأمر نمارس المنهج الجدلي لهيجل؛ فذلك العمل هو - كما يخبرنا هيجل - «مثال على تطبيق هذا المنهج على شيء أكثر مادية؛ ألا وهو الوعي.» لا يمكن لأي شخص آخر أن يفكر في الوعي بالصورة التي يصفها في كتاب «فينومينولوجيا العقل» كشيء مادي نسبيا. لكن هناك أمثلة مادية أكثر للمنهج الجدلي في أعمال هيجل اللاحقة؛ لذا ولسهولة العرض، لنبدأ بمثال من كتابه «فلسفة التاريخ».
في كتاب «فلسفة التاريخ»، تهيمن حركة جدلية هائلة على تاريخ العالم، بدءا من العالم اليوناني وحتى الآن. كانت اليونان مجتمعا يقوم على الأخلاق العرفية، مجتمعا متناغما يتوحد فيه المواطن مع المجتمع ولا يفكر في معارضته. يشكل المجتمع العرفي هذا نقطة انطلاق الحركة الجدلية، التي تسمى اصطلاحا «الأطروحة».
المرحلة التالية هي أن تثبت هذه الأطروحة أنها غير ملائمة أو متناقضة. في حالة المجتمع في اليونان القديمة، تتكشف عدم ملاءمة الأطروحة عبر تشكيك سقراط. لم يكن اليونانيون ليستمروا دون فكر مستقل، لكن المفكر المستقل هو الخصم اللدود للأخلاق العرفية. هكذا ينهار مثل هذا المجتمع القائم على العرف أمام مبدأ الفكر المستقل. حان الآن دور هذا المبدأ ليتطور، وهو ما حدث في ظل المسيحية. تؤدي حركة الإصلاح الديني إلى قبول الحق الأسمى للضمير الفردي. لقد فقد تناغم المجتمع اليوناني، لكن الحرية انتصرت. هذه هي المرحلة الثانية للحركة الجدلية. إنها نقيض أو مضاد المرحلة الأولى؛ لذلك تعرف باسم «الأطروحة المضادة».
شكل : كارل ماركس (1818-1883) وهو طالب.
ثم تثبت المرحلة الثانية أيضا أنها غير ملائمة. فالحرية، وحدها، يتضح أنها مجردة بدرجة أكبر من المطلوب ولا يمكنها أن تكون أساسا يقوم عليه المجتمع. وعند التطبيق، يتحول مبدأ الحرية المطلقة إلى الإرهاب الثوري في الثورة الفرنسية. وهكذا يمكننا رؤية أن كلا من التناغم العرفي والحرية المجردة للفرد نموذج أحادي الجانب. فيجب الجمع بينهما وتوحيدهما بطريقة تحافظ على كل منهما، وتتجنب الأشكال المختلفة لأحاديتهما. يقودنا هذا إلى المرحلة الثالثة الأكثر ملاءمة؛ وهي مرحلة «الأطروحة المركبة». في كتاب «فلسفة التاريخ»، نجد أن تلك الأطروحة في الحركة الجدلية ككل هي المجتمع الألماني في عصر هيجل، الذي اعتبره متناغما لأنه مجتمع عضوي، ومع ذلك يحافظ على الحرية الفردية لأنه منظم على أسس عقلانية.
تنتهي كل حركة جدلية بأطروحة مركبة، لكن لا تنهي كل أطروحة مركبة العملية الجدلية بالطريقة التي ظن هيجل أن المجتمع العضوي في عصره أنهى بها الحركة الجدلية للتاريخ. فكثيرا ما يتضح أن الأطروحة المركبة - على الرغم من أنها توفق بين الأطروحة والأطروحة المضادة على نحو ملائم - أحادية من جانب آخر؛ ومن ثم تصبح أطروحة لحركة جدلية جديدة، وهكذا تستمر العملية. وقد رأينا ذلك يحدث أكثر من مرة في كتاب «فينومينولوجيا العقل». على سبيل المثال، انتهى الجزء الخاص بالوعي بظهور الوعي الذاتي. وباعتبار هذا أطروحة، رأينا أن الوعي الذاتي كان في حاجة إلى شيء ما يستطيع أن يميز نفسه من خلاله. يمكن اعتبار الشيء الخارجي هو الأطروحة المضادة. لم يكن هذا مرضيا؛ لأن الشيء الخارجي هو شيء غريب عن الوعي الذاتي أو عدائي تجاهه. وكانت الأطروحة المركبة هي الرغبة، التي يحتفظ فيها الوعي الذاتي بالشيء الخارجي، لكن يجعله خاصا به. ثم ثبت أن حالة الرغبة بدورها غير مرضية، وهكذا انتقلنا إلى شيء خارجي كان هو ذاته وعيا ذاتيا. يمكن اعتبار الوعي الذاتي الثاني هو الأطروحة المضادة للوعي الذاتي الأول، وكانت الأطروحة المركبة هي موقفا يهيمن فيه السيد على العبد، وبذلك يحصل على الاعتراف به. لم تصمد تلك الأطروحة الجديدة أكثر من سوابقها؛ حيث انتهى الحال بأن أصبح العبد أكثر استقلالية وأكثر وعيا بذاته من السيد. وقد وجدت الأطروحة المضادة هذه أطروحتها في مذهب الرواقية، الفلسفة التي تجمع بين السيد والعبد ... وهكذا.
تم تطبيق هذا المنهج نفسه في كتاب «علم المنطق» على الفئات المجردة التي نفكر من خلالها. يبدأ هيجل بأكثر المفاهيم غير المحددة والخالية من المضمون على الإطلاق: الوجود، أو الوجود الخالص. إن الوجود الخالص - يقول هيجل - هو شيء غير محدد وفارغ تماما. لا يتضمن هذا الوجود أي شيء كي يدركه الفكر. هو فارغ تماما. في حقيقة الأمر، هو لا شيء أو عدم.
انطلاقا من هذه البداية المثيرة، تتقدم العملية الجدلية في كتاب «علم المنطق». الأطروحة الأولى، وهي «الوجود»، تحولت إلى أطروحة مضادة، وهي «العدم». الوجود والعدم متناقضان ومتماثلان؛ إذن فحقيقتهما هي هذه الحركة؛ كل منهما باتجاه الآخر أو بعيدا عنه؛ أي «الصيرورة».
وهكذا تستمر العملية الجدلية، لكننا لن نتتبعها؛ فقد رأينا ما يكفي لندرك فكرة المنهج الجدلي. فمن وجهة نظر هيجل، هي طريقة للعرض، لكنها أيضا طريقة يقول عنها هيجل «إنها لا تختلف بأي حال عن الشيء الخاص بها ومضمونها؛ لأن المضمون في ذاته، والجدلية التي تتضمنها في ذاتها، هما اللذان يحركانها.» في فئات فكرنا وفي تطور الوعي وفي تقدم التاريخ، هناك عناصر متناقضة تؤدي إلى تفكك ما بدا أنه مستقر، وإلى ظهور شيء جديد يوفق بين العناصر التي كانت متناقضة في السابق لكنه بدوره يطور توترات داخلية خاصة به. هذه العملية ضرورية؛ لأنه لا الفكر ولا الوعي يمكنهما البروز في الوجود في شكل ملائم. ولا يمكنهما تحقيق الملاءمة إلا عبر عملية التطور الجدلي. ووفقا لهيجل، تعمل العملية الجدلية كطريقة عرض؛ لأن العالم يعمل على نحو جدلي.
الفكرة المطلقة
إن غاية هيجل الرئيسية من كتاب «علم المنطق» غاية واضحة : إثبات ضرورة المثالية المطلقة . وهو يسعى إلى القيام بهذا عن طريق البدء - كما رأينا - من المفهوم الخالص للوجود، وإثبات أن هذا المفهوم يقود - نتيجة للضرورة الجدلية - إلى مفاهيم أخرى تعبر عن طبيعة الواقع على نحو أكثر دقة وصدقا، وهذه المفاهيم بدورها تثبت عدم ملاءمتها وتتطلب مفاهيم أخرى حتى نصل في النهاية إلى «الفكرة المطلقة»، التي يقول عنها هيجل: «عداها كل شيء آخر هو خطأ، وظلام، ورأي، واجتهاد، وهوى، وفان؛ فالفكرة المطلقة وحدها هي الوجود، والحياة الخالدة، والحقيقة المعروفة بذاتها، والحقيقة كلها.» إذن يشبه كتاب «علم المنطق» كتاب «فينومينولوجيا العقل»، فيما عدا أنه يتنقل في عالم المفاهيم بدلا من عالم الوعي. وهكذا لا تكون غايته المعرفة المطلقة وإنما الفكرة المطلقة ذاتها. وسواء نجح في إثبات ضرورة المثالية المطلقة أم لا، فهذا شيء لن أتطرق إليه هنا، لكن سيكون من الصعب على المرء أن يجد فيلسوفا معاصرا يؤمن بأن هيجل قد نجح في ذلك.
إذن ما «الفكرة المطلقة»؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة. ربما تكون أفضل إجابة هي: كل شيء. إلا أن هذه الإجابة غير واضحة أو محددة؛ لذلك سأحاول أن أكون أكثر تحديدا.
يقول هيجل إن الفكرة المطلقة «تتضمن كل شيء محدد.» يقصد بذلك أنها تتضمن بداخلها كل شيء محدد ومميز: كل إنسان وكل شجرة وكل نجم وكل جبل وكل حبة رمل. يقول هيجل إن الطبيعة والعقل هما طريقتان مختلفتان يتجلى فيهما وجود الفكرة المطلقة؛ فهما شكلان مختلفان لتلك الفكرة. والفن والدين طريقتان مختلفتان لإدراك الفكرة المطلقة، أو كما يصيغها هيجل، الفن والدين هما طريقتان مختلفتان تدرك بهما الفكرة المطلقة ذاتها (تنبع فكرة الإدراك الذاتي هنا من حقيقة أن البشر هم جزء من الفكرة المطلقة). وحتى الفلسفة هي طريقة لإدراك الفكرة المطلقة، لكنها شكل أعلى من الفن أو الدين؛ لأنها تدركها على نحو مفاهيمي، وبناء على ذلك فهي تفهمها من الجانبين الجمالي والديني بجانب إدراكها لذاتها.
إن من طبيعة الفكرة المطلقة أن تتجلى في أشكال متميزة ومحدودة، ثم تعود إلى ذاتها. وإدراك الذات هو الشكل الذي تعود فيه إلى ذاتها. هذه هي العملية التي شاهدناها في كتاب «فلسفة التاريخ» وكتاب «فينومينولوجيا العقل»، ونشاهدها الآن في كتاب «علم المنطق». يصبح إدراك الذات نموذجا اجتماعيا موضوعيا في الحالة المثالية الموصوفة في كتاب «فلسفة الحق». ويقيم هيجل في كتابيه «محاضرات في علم الجمال» و«محاضرات في فلسفة الدين» كفاءة وملاءمة العديد من أشكال الفن والدين بوصفها أنماطا لإدراك الفكرة المطلقة. سواء أكانت ظاهرة بوضوح أو مستترة ضمنيا، نجد أن فكرة الإدراك الذاتي للمطلق هي الفكرة الرئيسية المهيمنة على فلسفة هيجل بأكملها.
لقد ذكرت أن هيجل يرى أن المطلق هو كل شيء. كما قلت إن المطلق يسعى لإدراك ذاته؛ لذا نعود مجددا إلى السؤال الذي تركناه دون إجابة في ختام مناقشتنا لكتاب «فينومينولوجيا العقل»: هل يؤمن هيجل حقا بأن الكون بأكمله، وكل ما فيه، يشكل كيانا مدركا من نوع ما؟ هل الفكرة المطلقة هي الإله؟
من الواضح أن هيجل، على الرغم من كونه أحد أتباع المذهب اللوثري، لم يكن مسيحيا أرثوذكسيا مؤمنا بوجود إله منفصل عن العالم؛ فالرسالة التي يحملها الجزء الخاص ب «الوعي الشقي» في كتاب «فينومينولوجيا العقل» تتكرر كثيرا في أماكن أخرى من أعماله. إن النظر إلى الإله باعتباره شيئا منفصلا عن العالم هو اغتراب لروح الإنسان. فإذا كان الإله موجودا، فهو في العالم، والبشر يشاركونه بعض صفاته.
إذن هل يؤمن هيجل بوحدة الوجود؛ أي يجزم بأن الإله ببساطة هو العالم؟ قد يكون هذا التفسير متماشيا مع بعض الأشياء التي قالها، لكنه في كتاب «محاضرات في فلسفة الدين» يرفض هذا صراحة، بل وينكر أن أي أحد قد زعم من قبل أن «الكل هو الإله». بالطبع لا يعتقد هيجل أن الأشياء المحددة والبشر المحدودين هم الإله.
هل من الممكن أن يكون هيجل ملحدا؟ لقد رأينا أنه يضع الفلسفة في مرتبة أعلى من الدين كوسيلة لإدراك الفكرة المطلقة. ويصف الفيلسوف الإيطالي بنديتو كروتشي فلسفة هيجل بأنها «مخالفة للدين بصورة جذرية؛ لأنها لا ترضى بأن تضع ذاتها في مقابل الدين أو أن تصنفه بجانب ذاتها، بل تحول الدين إلى ذاتها وتحل محله.» كان كروتشي على حق في الإشارة إلى هذا المعنى في فلسفة هيجل؛ فرفض أن يحتل الدين مكان الصدارة هو أمر مخالف للدين بشدة. ومع ذلك، هناك الكثير من أفكار هيجل التي لا يمكن إدراكها إلا في قالب ديني. فهناك صوره وتعبيراته المجازية، مثل التي استخدمها لوصف طبيعة كتابه «علم المنطق». وهناك فلسفته التاريخية، التي تهدف لتوضيح كيفية عمل التاريخ لتحقيق غايته بتوجيه من العقل. وهناك أيضا وجهة نظره عن الواقع المطلق بوصفه يستطيع إدراك ذاته، مما يوحي بأن الواقع المطلق شخصي. فوصف هيجل بأنه ملحد سيكون معارضا لبعض أهم أفكاره الرئيسية.
شكل : جورج فيلهلم فريدريش هيجل (1770-1831).
إذن هيجل ليس مسيحيا أرثوذكسيا مؤمنا بوجود إله منفصل عن العالم، ولا هو مؤمن بوحدة الوجود، ولا هو ملحد، فماذا تبقى؟ منذ بضعة أعوام، حاول أحد الباحثين في فلسفة هيجل، يدعى روبرت فيتمور، أن يثبت أن هيجل كان مؤمنا بوحدة الموجود. والمقابل الإنجليزي لمصطلح وحدة الموجود يأتي من كلمات يونانية تعني «الكل في الإله». ويصف هذا المصطلح وجهة النظر القائلة بأن كل شيء في الكون هو جزء من الإله، لكن - وهنا يختلف عن وحدة الوجود - الإله أكبر من الكون؛ لأنه هو الكل، والكل أكبر من مجموع أجزائه. تماما مثل أن الإنسان أكبر من مجموع كل الخلايا التي تكون جسده، على الرغم من أن الإنسان ليس شيئا منفصلا عن الجسد. إذن وجهة النظر هذه تقول بأن الإله أكبر من كل أجزاء الكون، لكنه ليس منفصلا عنه. وكما أنه لا توجد خلايا منفردة ترقى لتكون إنسانا، فلا توجد أيضا أجزاء منفردة من الكون ترقى لتكون الإله.
إن تفسير ويتمور مقبول، ليس فقط لأنه يتسق مع ما يقوله هيجل عن الإله تحديدا، لكن أيضا لأنه يجعل من الفكرة الرئيسية المهيمنة في فلسفة هيجل منطقية. فإذا كان الإله هو الفكرة المطلقة، والواقع المطلق للكون، والكل بالنسبة لأجزائه، فيمكن أن نفهم السبب وراء ضرورة تجلي الفكرة المطلقة لذاتها في العالم، وتقدمها هناك نحو إدراكها لذاتها. فالإله يحتاج الكون على النحو الذي يحتاج فيه الإنسان الجسد.
إن فكرة أن الإله يفتقر إلى أي شيء مستهجنة من قبل أغلبية المؤمنين المتدينين. وكون هيجل يشير لهذه الفكرة، في نظرهم، سبب لوصف فلسفته بأنها مخالفة للدين، لكنني أعتقد أن هذا خطأ؛ فهيجل يرى الإله، ليس بوصفه خالدا وغير متغير، لكن كروح تحتاج لأن تتجلى في العالم، وما إن تتجلى، فإنها تجعل العالم كاملا كي تجعل ذاتها كاملة. إنها رؤية غريبة، لكنها رؤية قوية. إنها رؤية تضفي أهمية هائلة على ضرورة التقدم: إن حركة تقدم التاريخ هي المسار الذي يجب أن يسلكه الإله لتحقيق الكمال. وهناك قد يكمن سر التأثير الهائل لهيجل، على الرغم من كونه محافظا ظاهريا، على المفكرين الراديكاليين والثوريين.
الفصل السادس
تأثير هيجل
بعد وفاة هيجل، انقسم من كانوا يعتبرون أنفسهم أتباعه إلى معسكرين؛ اتبع الهيجليون التقليديون أو «اليمينيون» الأسلوب الذي اتبعه هيجل في سنواته الأخيرة، ووفقوا بين آرائه الدينية والمسيحية البروتستانتية، وقبلوا وجهة النظر الإيجابية عموما عن دولة بروسيا التي عبر عنها هيجل في كتابه «فلسفة الحق». لم يتمخض عن هذه المدرسة الهيجلية المحافظة أي مفكرين كبار، وبعد أن ظلت فلسفة هيجل لبضع سنوات الفلسفة شبه الرسمية في برلين، تدهورت بشدة حتى تم هجرها في ألمانيا في ستينيات القرن التاسع عشر.
أما المعسكر الآخر فكان مختلفا تماما. وكان يتكون من مجموعة من الشباب ذوي الميول الراديكالية، وكان موقفهم من هيجل مثل موقف هيجل من كانط. فكما رأى هيجل مبدأ كانط بشأن الشيء في ذاته بوصفه عجزا عن استكمال الدلالات الراديكالية لفلسفته، كذلك رأى تلاميذ هيجل هؤلاء قبول هيجل للمسيحية ودولة بروسيا والأحوال العامة لعصرهم بوصفه عجزا عن استكمال الدلالات الراديكالية لفلسفته. أصبحت هذه المجموعة معروفة باسم «الهيجليون الشباب» أو «الهيجليون اليساريون». وشكل هؤلاء مستقبل الحركة الهيجلية.
شكل : الهيجليون الشباب يتجادلون، كما رسمهم فريدريك إنجلز (1820-1895).
رأى الهيجليون الشباب فلسفة هيجل بوصفها سعيا من أجل عالم أفضل، عالم يتم فيه التغلب على التعارض بين مصلحة الفرد والمجتمع، وهو منظم بعقلانية وبه حرية حقيقية؛ أي - باختصار - عالم مصمم ليعكس السيادة المطلقة للعقل البشري وقواه الفكرية. ولم يكن هذا العالم الأفضل، من وجهة نظر الهيجليين الشباب، مجرد نموذج خيالي تم رسمه في لحظة توهم، بل كان ذروة الحجج التاريخية والفلسفية في النسق الهيجلي. لقد كان ضرورة جدلية، كان أطروحة مركبة يجب أن تظهر للتوفيق بين العناصر المتصارعة في العالم الذي يعيشون فيه.
انطلاقا من احتقارهم لفكرة أن ألمانيا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر يمكن أن تكون هي الإنجاز الذي وعدت به فلسفة هيجل، شرع الهيجليون الشباب في إيجاد طرق لتحقيق رؤيتهم الراديكالية. في بادئ الأمر، انقضوا على الدين بوصفه العقبة الأساسية في طريق تحقيق مجتمع يسمح لقوى الإنسان بأن تصل إلى كامل طاقتها. وبعد تطويرهم للتلميحات الواردة في الجزء الذي يتناول «الوعي الشقي» في كتاب «فينومينولوجيا العقل»، زعموا بأن الدين هو شكل من أشكال الاغتراب. فالإنسان يصنع إلها، ثم يتخيل أن ذلك الإله قد خلقه. يضع الإنسان في تصوره عن الإله أفضل الصفات التي في ذاته: المعرفة والصلاح والقوة، ثم يركع الإنسان أمام الصورة التي صنعها بنفسه، ويرى ذاته، مقارنة بها، كشخص جاهل وآثم وضعيف. وكي يستعيد البشر كامل قواهم، كل ما يحتاجونه هو إدراك أن البشر أنفسهم هم أسمى أشكال القدسية بحق.
لهذا الغرض، كتب اثنان من الهيجليين الشباب كتبا كان لها أثر ضخم على فكر القرن التاسع عشر فيما يتعلق بالدين؛ فكتب ديفيد فريدريش شتراوس كتابه العبقري «حياة المسيح»، والذي أعطى نموذجا - بمعاملة الأناجيل كنصوص عرضة للنقد التاريخي - لجميع الدراسات التاريخية التالية عن المسيح. وصور كتاب لودفيج فويرباخ «جوهر المسيحية» الدين التقليدي كله كإسقاط من الإنسان لصفاته الشخصية على عالم آخر. هكذا كانت المحاولة الحديثة الأولى لعمل دراسة نفسية لمعتقد ديني. ونتيجة لترجمة الكتاب إلى الإنجليزية بواسطة ماريان إيفانز (التي ساعدت أيضا في ترجمة أعمال شتراوس، والتي تشتهر باسمها المستعار جورج إليوت)، كان للكتاب أثر عالمي في الوقت الذي كانت فيه كتابات هيجل معروفة على نطاق محدود خارج ألمانيا.
شكل : لودفيج فويرباخ (1804-1872).
ثم انتقل الهيجليون الشباب إلى ما هو أبعد من الدين. فبطريقة أكثر راديكالية، جعل فويرباخ أفكار هيجل ترتد عليه؛ فاتهم هيجل بأنه يقدم حقائق بشأن العالم على نحو غامض. انطلاقا من إيمانه بأن العقل هو واقعي بصورة مطلقة، رأى هيجل أن مشكلة التنافر في العالم كمشكلة في عالم الفكر، وهكذا آمن بأن الفلسفة يمكنها حلها. الآن فويرباخ يرتد على هيجل؛ فالوجود لا يشتق من الفكر، لكن الفكر يشتق من الوجود. والإنسان لا يمتلك أساسه الحقيقي في عقله، لكن العقل يمتلك أساسه الحقيقي في الإنسان. فلسفة هيجل في ذاتها شكل من أشكال الاغتراب؛ لأنها تعتبر جوهر الأشخاص الحقيقيين والأحياء شيئا - «العقل ذاته» - خارجيا عنهم. وقد قال فويرباخ إننا لسنا في حاجة لعلم لاهوت ولا لفلسفة، لكننا في حاجة لعلم يدرس الأشخاص الحقيقيين في حياتهم الواقعية.
لم يتبق الكثير من هنا لنصل إلى أحد الهيجليين الشباب، الذي كان لعمله الفضل في تحقيق فكر هيجل لأثر دائم على تاريخ العالم. أتى كارل ماركس إلى جامعة برلين بعد ما يقرب من ست سنوات من وفاة هيجل، وسرعان ما التحق بالهيجليين الشباب، وشارك في النقد السائد للدين. عندما نادى فويرباخ إلى الحاجة للذهاب إلى ما هو أبعد من عالم الفكر، استجاب له ماركس بحماسة. في كتابه «مخطوطات عام 1844 الاقتصادية والفلسفية»، امتدح ماركس كتاب هيجل «فينومينولوجيا العقل» لحديثه عن الاغتراب وأهمية العمل، ثم طور وجهة نظره الشخصية عن العمل في ظل النظام الرأسمالي بوصفه شكلا رئيسيا للاغتراب. فلتحرير البشرية يجب إلغاء العمل المغترب، ولإلغاء العمل المغترب - يقول ماركس - كان من الضروري إلغاء الملكية الخاصة ونظام الأجور المرتبط بها؛ أي تأسيس الشيوعية.
في هذه «المخطوطات» المفعمة بالقوة والشباب، يصف ماركس الشيوعية باستخدام مصطلحات سيجدها جميع الهيجليين مألوفة:
الشيوعية ... هي الحل الحقيقي للنزاع بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والإنسان؛ إنها الحل الحقيقي للصراع بين الوجود والماهية، بين التجسيد وتأكيد الذات، بين الحرية والضرورة، بين الفرد والنوع. إنها حل للغز التاريخ، وتعرف نفسها باعتبارها هذا الحل.
ومع تقدمه في السن، استخدم ماركس مصطلحات هيجلية أقل، لكن لم يتخل قط عن رؤيته عن الشيوعية التي توصل إليها عبر تحويره لفلسفة هيجل.
من الممتع - مع أنه غير مثمر - أن تتأمل ما قد يقوله المفكرون الذين رحلوا منذ زمان طويل إذا ما استطاعوا العودة إلى الحياة ورؤية ما حدث لأفكارهم. سيكون القليل منهم مذهولا مثلما كان من الممكن أن يكون هيجل إذا ما رأى أن ذروة التاريخ في فلسفته لم تكن إدراك الفكرة المطلقة، وإنما رؤية لمجتمع شيوعي ألهم الحركات الثورية حول العالم لما يزيد على مائة عام.
قراءات إضافية
أعمال هيجل
The standard German edition of Hegel’s collected works is the twenty-volume Jubilee Edition, edited by H. Glockner and published in Stuttgart from 1927 to 1930. For the English-speaking reader wondering where to begin reading Hegel’s own works, I would recommend following the order of the works discussed in this book. English translations of these works are:
Lectures on the Philosophy of History,
tr. J. Sibree (Dover, New York, 1956). The introduction to these lectures is available separately, as
Reason in History: A General Introduction to the Philosophy of History , tr. R. S. Hartman (Library of Liberal Arts, New York, 1953), and as
Lectures on the Philosophy of World History. Introduction: Reason in History , tr. H. B. Nisbet (Cambridge University
scholarly material.
Hegel’s Philosophy of Right,
tr. T. M. Knox (Oxford University Press, London, 1967).
The Phenomenology of Mind,
tr. J. B. Baillie (Harper & Row, New York, 1967). There is also a more recent and, in the view of many, more reliable translation by A. V. Miller, entitled
Hegel’s Phenomenology of Spirit (Oxford University Press, Oxford, 1977).
Hegel’s Science of Logic,
tr. W. H. Johnston and L. G. Struthers in two volumes (Allen & Unwin, London, 1929); also more recently translated by A. V. Miller (Allen & Unwin, London, 1969).
Encyclopedia of the Philosophical Sciences . This work has been published in English in its separate components. The section on logic, sometimes called the 'Lesser Logic’, was translated by W. Wallace and published under the confusing title
The Logic of Hegel (Clarendon Press, Oxford, 1874). There is another edition, with a foreword by J. N. Findlay (Clarendon Press, Oxford, 1975). The second part is available as
Hegel’s Philosophy of Nature , tr. A. V. Miller (Clarendon Press, Oxford, 1970) and also in a translation by M. J. Petry (Allen & Unwin, London, 1970). Wallace’s original translation of
Hegel’s Philosophy of Mind (Clarendon Press, Oxford, 1894) has been republished, together with additional material translated by A. V. Miller (Clarendon Press, Oxford, 1971).
English translations of Hegel’s other writings are:
Early Theological Writings,
tr. T. M. Knox (University of Chicago
surviving works.
Hegel’s Political Writings,
tr. T. M. Knox (Clarendon Press, Oxford, 1964). Hegel’s occasional political essays, such as that on the English Reform Bill, are collected here.
Lectures on the Philosophy of Religion,
tr. E. B. Speirs and J. B. Sanderson, in three volumes (Routledge & Kegan Paul, London, 1968).
Hegel’s Aesthetics,
tr. T. M. Knox, in two volumes (Clarendon Press, Oxford, 1975).
Lectures on the History of
tr. E. S. Haldane and F. H. Simson, in three volumes (Routledge & Kegan Paul, London, 1955).
For a convenient selection of Hegel’s writings, with an extensive bibliography, see
The Hegel Reader
by Georg Wilhelm Friedrich Hegel, edited by Stephen Houlgate (Blackwell, Oxford, 1998).
مؤلفات عن هيجل
For readers wishing for further guidance, I would recommend Richard Norman’s slim and stimulating volume,
Hegel’s
(Sussex University
An Introduction to Hegel’s Metaphysics (University of Chicago Press, Chicago, 1969). After that one might move on to the shorter of Charles Taylor’s two books on Hegel,
Hegel and Modern Society (Cambridge University Press, Cambridge, 1979), or, if one is ready for it, to the much longer and more difficult
Hegel (Cambridge University Press, Cambridge, 1975). For a detailed study of Hegel’s
, see Robert Solomon,
In the Spirit of Hegel: A Study of Hegel’s
(Oxford University Press, New York, 1983); H. S. Harris,
Hegel’s Ladder: A Commentary on Hegel’s
(Hackett, Indianapolis, 1995); and Michael N. Forster,
Hegel’s Idea of a Phenomenology of Spirit (University of Chicago Press, Chicago, 1998).
On Hegel’s life, see
Hegel: A Biography
by Terry P. Pinkard (Cambridge University Press, Cambridge, 2000). The two volumes
Hegel’s Development: Towards the Sunlight, 1770-1801
and
Hegel’s Development: Night Thoughts (Jena 1801-1806)
by H. S. Harris (Clarendon Press, Oxford, 1972, 1983) is a fine study of Hegel’s early years. The influential work by George Lukacs,
The Young Hegel,
is available in an English translation by R. Livingstone (Merlin Press, London, 1975).
Tom Rockmore puts Hegel’s theory of knowledge into its historical context in
Before and After Hegel: A Historical Introduction to Hegel’s Thought (University of California, Berkeley and Los Angeles, 1993). Older, but still useful works are: Edward Caird,
Hegel (Blackwood, Edinburgh, 1901); Benedetto Croce,
What is Living and What is Dead in the
tr. D. Ainslie (Russell & Russell, New York, 1969); W. T. Stace,
The Philosophy of Hegel (Dover, New York, 1955); and J. N. Findlay,
Hegel: A Re-examination (Allen & Unwin, London, 1958).
Among notable books on Hegel’s social and political ideas are: Herbert Marcuse,
Reason and Revolution (Humanities Press, New York, 1954); Shlomo Avineri,
Hegel’s Theory of the Modern State (Cambridge University Press, Cambridge, 1972); Raymond Plant,
Hegel (Allen & Unwin, London, 1973); and Judith Shklar,
Freedom and Independence: A Study of the Political Ideas of Hegel’s 'Phenomenology of Mind’ (Cambridge University Press, Cambridge, 1976). Some heated exchanges over the extent to which Hegel’s philosophy supports the authoritarian state have been collected by Walter Kaufmann in a volume entitled
Hegel’s Political Philosophy (Atherton
Hegel’s Political
(Cambridge University Press, Cambridge, 1971). Alan
Hegel’s Idea of Freedom (Oxford University Press, New York, 1999) gives an accessible account of Hegel’s social and political philosophy. Together with this one might read-though with considerable caution-Karl Popper’s provocative attempt to find the origins of totalitarianism in Hegel’s thought: see
The Open Society and Its Enemies , vol. II, chapter 12 (Routledge & Kegan
For further study of the religious aspect of Hegel’s thought, see Emil Fackenheim,
The Religious Dimension of Hegel’s Thought (Indiana University Press, Bloomington, 1967), and Bernard Reardon,
Hegel’s Philosophy of Religion (Macmillan, London, 1977). See also Robert C. Whittemore’s article, 'Hegel as Panentheist’ in
Tulane Studies in Philosophy , vol. IX (1960), pp. 134-64. This volume is a special issue on Hegel.
There are innumerable scholarly articles on Hegel in the philosophical journals. Some of the best have been collected in Alasdair MacIntyre (ed.),
Hegel: A Collection of Critical Essays (Anchor, New York, 1972).
The Cambridge Companion to Hegel,
edited by Frederick C. Beiser (Cambridge University Press, Cambridge, 1993) is useful for the serious student of Hegel.
Finally, the various transformations of Hegel’s thought by the Young Hegelians are well described in Sidney Hook,
From Hegel to Marx (Humanities Press, New York, 1958), and also in David McLellan,
The Young Hegelians and Karl Marx (Macmillan, London, 1969).
مصادر الصور
(1-1) Photo: AKG London. (1-2) © Gianni Dagli Orti/Corbis. (1-3) Hulton Getty Picture Collection. (1-4) Hulton Getty Picture Collection. (2-1) © Luca I Tettoni/Corbis. (2-2) © Corbis. (2-3) © Gianni Dagli Orti/Corbis. (3-1) Hulton Getty Picture Collection. (3-2) Photo: AKG London. (3-3) Merton College, Oxford. (3-4) Hulton Getty Picture Collection. (3-5) FPG/Telegraph Colour Library. (4-1) Photo: AKG London. (4-2) © Vince Streano/Corbis. (4-3) Hulton Getty Picture Collection. (4-4) © Araldo de Luca/Corbis. (5-1) Collection International Institute of Social History, Amsterdam. (6-1) Collection International Institute of Social History, Amsterdam. (6-2) Mary Evans Picture Library.
অজানা পৃষ্ঠা