قالوا: فلما تعلق هذا الروح بتلك القرارة، خضعت له جميع القوى وسجدت له وسخرت بأمر الله تعالى في كمالها، فتكون بازاء تلك القرارة نفاخة أخرى منقسمة إلى ثلاث قرارت بينهما حجب لطيفة، ومسالك نافذة، وامتلأت بمثل ذلك الهوائي الذي امتلأت منه القرارة الأولى؛ إلا أنه ألطف منه.
وفي هذه البطون الثلاثة المنقسمة من واحد، طائفة من تلك القوى التي خضعت له وتوكلت بحراستها والقيام عليها، وإنهاء ما يطرأ فيها من دقيق الأشياء وجليلها إلى الروح الأول المتعلق بالقرارة الأولى.
وتكون بازاء هذه القرارة من الجهة المقابلة للقراءة الثانية، نفاخة ثالثة مملوءة جسمًا هوائيًا، إلا أنه أغلظ من الأولين وسكن في هذه القرارة فريق من تلك القوى الخاضعة، وتوكلت بحفظها والقيام عليها؛ فكانت هذه القرارة الأولى والثانية والثالثة، أول ما تخلق من تلك الطينة المتحمرة على الترتيب الذي ذكرناه.
واحتاج بعضها إلى بعض: فالأولى منها حاجتها إلى الآخرين، حاجة استخدام وتسخير.
والأخريان حاجتهما إلى الأولى حاجة المرؤوس إلى الرئيس، والمدبر إلى المدبر؛ وكلاهما لما يتخلق بعدهما من الأعضاء رئيس لا مرؤوس.
وأحدهما، وهو الثاني، أتمم رئاسة من الثالث فالأول منهما لما تعلق به الروح، واشتعلت حرارته تشكل بشكل النار لصنوبري وتشكل أيضًا الجسم الغليظ المحدق به على شكله، وتكون لحمًا صلبًا، وصار عليه غلاف صفيق يحفظه وسمي العضو كله قلبًا واحتاج لما يتبع الحرارة من التحليل وافناء الرطوبات إلى شيء يمده ويغذوه، ويخلف ما تحلل منه على الدوام، وإلا لم يطل بقاؤه، واحتاج أيضًا إلى تحسس بما يلائمه فيجذبه، وبما يخالفه فيدفعه.
فتكفل له العضو الواحد بما فيه من القوى التي أصلها منه بحاجته الواحدة، وتكفل له العضو الآخر بحاجته الأخرى.
وكان المتكفل بالحس هو الدماغو المتكفل بالغذاء هو الكبد؛ واحتاج كل واحد من هذين إليه في أن يمدها بحرارته، وبالقوى المخصوصة بهما التي أصلها منه، فانتسجت بينهما لذلك كله مسالك وطرق: بعضها أوسع من بعض بحسب ما تدعواليه الضرورة، فكانت الشرايين والعروق.
وصفه الطبيعيون في خلقة الجنين في الرحم، لم يغادروا من ذلك شيئًا، إلى أن كمل خلقه، وتمت أعضاؤه، وحصل في حد خروج الجنين من البطن، واستعانوا في وصف كمال ذلك بتلك الطينة الكبيرة المتخمرة، وأنها كانت قد تهيأت لان يتخلق منها كل ما يحتاج إليه في خلق الإنسان من الأغشية المجللة لجملة بدنه وغيرها فلما كمل انشقت عنه تلك الأغشية، بشبه المخاض، وتصدع باقي الطينة إذ كان قد لحقه الجفاف.
ثم استغاث ذلك الطفل عند فناء مادة غذائه واشتداد جوعه، فلبته ظبية فقدت طلاها.
ثم استوى عبد ما وصفه هؤلاء بعد هذا الموضع، وما وصفه الطائفة الأولى في معنى التربية؛ فقالوا جميعًا: إن الظبية التي تكفلت به وافقت خصبًا ومرعى أثيثًا، فكثر لحمها وكثر لبنها، حتى قام بغذاء ذلك الطفل أحسن قيام.
وكانت معه لا تبعد عنه إلا لضرورة الرعي.
وألف الطفل تلك الظبية حتى كان بحيث إذا هي أبطأت عنه اشتد بكاؤه فطارت إليه.
ولم يكن بتلك الجزيرة شيء من السباع العادية، فتربى الطفل ونما واغتذى بلبن تلك الظبية إلى أن تم له حولان، وتدرج في المشي وأثغر فكان يتبع تلك الظبية، وكانت هي ترفق به وترحمه وتحمله إلى مواضع فيها شجر مثمر فكانت تطعمه ما تساقط من ثمراتها الحلوة النضيجة؛ وما كان منها صلب القشر كسرته له بطواحنها؛ ومتى عاد إلى اللبن أروته، ومتى ظمئ إلى الماء أرودته، متى ضحا ظللته؛ ومتى خصر أدفأته.
وإذا جن الليل صرفته إلى مكان الأول وجللته بنفسها وبريش كان هناك؛ مما ملئ به التابوت أولًا في وقت وضع الطفل فيه.
وكان في غدوهما ورواحهما قد ألفهما ربرب يسرح ويبيت معهما حيث مبيتهما.
فما زال الطفل مع الظباء على تلك الحال: يحكي نغمتها بصوته حتى لا يكاد يفرق بينهما؛ وكذلك كان يحكي جميع ما يسمعه من أصوات الطير وأنواع سائر الحيوان محاكاة شديدة لقوة انفعاله لما يريده ما كانت محاكاته لأصوات الظباء في الاستصراخ والاستئلاف والاستدعاء والاستدفاع.
إذ للحيوانات في هذه الأحوال المختلفة أصوات مختلفة فألفته الوحوش وألفها؛ ولم تنكره ولا أنكرها.
1 / 3