هذا فالعالم المحسوس منشأ الجمع والإفراد، وفيه الانفصال والاتصال، والتحيز والمغايرة، والاتفاق والاختلاف، فما ظنه بالعالم الإلهي الذي لا يقال فيه كل ولا بعض، ولا ينطق في أمره بلفظ من الألفاظ المسموعة، إلا وتوهم فيه شيء على خلاف الحقيقة، فلا يعرفه إلا من شاهده؛ ولا تثبت حقيقته إلا عند من حصل فيه.
واما قوله: حتى انخلعت عن غريزة العقلاء، واطرحت حكم المعقول.
فنحن نسلم له ذلك، ونتركه مع عقله وعقلائه، فان العقل الذي يعنيه هو أمثاله، انما هو القوة الناطقة التي تتصفح أشخاص الموجودات المحسوسة، وتقتنص منها المعنى الكلي.
والعقلاء الذين يعنيهم، هم ينظرون من هذا النظر والنمط الذي كلامنا فيه فوق هذا كله، فليسد عنه سمعه من لا يعرف سوى المحسوسات وكلياتها، وليرجع إلى فريقه الذين "بسم الله الرحمن الرحيم" يعملون ظاهرًا من الحياة الدنيا. وهم عن الآخرة هم غافلون. صدق الله العظيم.
فان كنت ممن يقتنع بهذا النوع من التلويح والإشارة إلى ما في العالم الإلهي، ولا تحمل ألفاظًا من المعاني على ما جرت العادة بها في تحميلها إياه، فنحن نزيدك شيئًا مما شاهده حي بن يقظان في مقام أولي الصدق الذي تقدم ذكره، فتقول: انه بعض الاستغراق المحض، والفناء التام، وحقيقة الوصول، وشاهد للفلك الأعلى، الذي لا جسم له، ورأى ذاتًا بريئة عن المادة، ليست هي ذات الواحد الحق، ولا هي نفس الفلك، ولا هي غيرها؛ وكأنها صورة الشمس التي تظهر في مرآة من المرائي الصقيلة، فانها ليست هي الشمس ولا المرأة ولا غيرهما.
وراى لذات ذلك الفلك المفارقة من الكمال والبهاء والحسن، ما يعظم عن إن يوصف بلسان، ويدق إن يكسى بحرف آو صوت، وراه في غاية من اللذة والسرور، والغبطة والفرح، بمشاهدة ذات الحق ﷻ.
وشاهد ايضًا للفلك الذي يليه، وهو فلك الكواكب الثابتة، ذاتًا بريئة عن المادة أيضًا، ليست هي ذات الواحد الحق، ولا ذات الفلك الأعلى المفارقة، ولا نفسه، ولا هي غيرها.
وكأنها صورة الشمس التي تظهر في المرآة قد انعكست إليها من مرآة أخرى مقابلة للشمس، ورأى لهذه الذات ايضًا من البهاء والحسن واللذة مثل ما راى لتلك التي للفلك الأعلى.
وشاهد ايضًا للفلك الذي يلي هذا، وهو فلك زحل ذاتًا مفارقة للمادة ليست هي شيئًا من الدواب التي شاهدها قبله ولا هي غيرها؛ وكأنها صورة الشمس التي تظهر في مرآة قد انعكست إليها الصورة من مرآة مقابلة للشمس؛ وراى لهذه الذات ايضًا مثل ما راى آمل قبلها من البهاء واللذة.
ومازال يشاهد لكل فلك ذاتًا مفارقة بريئة عن المادة ليست هي شيئًا من الذوات التي قبلها ولا هي غيرها وكأنها صورة الشمس التي تنعكس من مرآة على مرآة، على رتب مرتبة بحسب ترتيب الأفلاك.
وشاهد لكل ذات من هذه الذوات من الحسن والبهاء، واللذة والفرح، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
إلى أن انتهى إلى عالم الكون والفساد، وهو جميعه حشو فلك القمر.
فرأى له ذاتًا بريئة عن المادة ليست شيئًا من الذوات التي شاهدها قبلها، ولا هي سواها.
ولهذه سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف فم، في كل فم سبعون ألف لسان، يسبح بها ذات الواحد الحق، ويقدسها ويمجدها، لا يفتر؛ ورأى لهذه الذات، التي توهم فيها الكثرة وليست كثيرة، من الكمال واللذة، مثل الذي رآه لما قبلها.
وكأن هذه الذات صورة الشمس التي تظهر في ماء مترجرج، وقد انعكست إليها الصورة من آخر المرايا التي انتهى إليها الانعكاس على الترتيب المتقدم من المرآة الأولى التي قابلت الشمس بعينها.
ثم شاهد لنفسه ذاتًا مفارقة، لو جاز إن تتبعض ذات السبعين ألف وجه، لقلنا انها بعضها.
ولولا إن هذه الذات حدثت بعد إن لم تكن، لقلنا إنها هي! ولولا اختصاصها ببدنه عند حدوثه، لقلنا إنها لم تحدث! وشاهد في هذه الرتبة ذواتًا، مثل ذاته، لاجسام كانت ثم اضمحلت، ولاجسام لم تزل معه في الوجود، وهي من الكثرة في حد بحيث لا تتناهى إن جاز أن يقال لها كثيرة، أو هي كلها متحدة إن جاز إن يقال لها واحدة.
وراى لذاته ولتلك الذوات التي في رتبته من الحسن والبهاء واللذة غير المتناهية، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولا يصفه الواصفون، ولا يعقله إلا الواصلون العارفون.
1 / 24