وهذا الشيء الذي هو بمنزلة الطين في هذا المثال هو الذي يسميه النظار المادة والهيولى وهي عارية عن الصورة جملة.
فلما نظره إلى هذا الحد، وفارق المحسوس بعض مفارقة، وأشرف على تخوم العالم العقلي، استوحش وحن إلى ما ألفه من عالم الحس، فتقهقر قليلًا وترك الجسم على الإطلاق، إذ هو أمر لا يدركه الحس، ولا يقدر على تناوله.
فاخذ أبسط الأجسام المحسوسة التي شاهدها، وهي تلك الأربعة التي كان قد وقف نظره عليها.
فأول ما نظر إلى الماء فرأى انه إذا خلي وما تقتضيه صورته، ظهر منه برد محسوس، وطلب النزول إلى اسفل فإذا سخن أما بالنار واما بحرارة الشمس، زال عنه البرد أولًا وبقي فيه طلب النزول، فإذا أفرط عليه بالتسخين، زال عنه طلب النزول إلى اسفل.
وصار يطلب الصعود إلى فوق.
فزال عنه بالجملة الوصفان اللذان كانا أبدًا يصدران عن صورته، ولم يعرف من صورته أكثر من صدور هذين الفعلين عنها.
فلما زال هذان الفعلان بطل حكم الصورة، فزالت الصورة المائية عن ذلك الجسم عندما ظهرت منه أفعال من شأنها أن تصدر عن صورة أخرى، وحدثت له صورة أخرى، بعد أن لم تكن، وصدر عنه بها أفعال لم يكن من شأنها أن تصدر عنه وهو بصورته الأولى.
فعلم بالضرورة أن كل حادث لا بد له من محدث.
فارتسم في نفسه بهذا الاعتبار، فاعل للصورة، ارتسامًا على العموم دون تفصيل.
ثم أنه تتبع الصور التي كان قد عاينها قبل ذلك، صورة صورة، فرأى أنها كلها حادثة، وأنها لا بد لها من فاعل.
ثم نظر إلى ذوات، الصور، فلم ير أنها شيء أكثر من استعداد الجسم لان يصدر عنه ذلك الفعل، مثل الماء، فانه إذا افرط عليه التسخين، استعد للحركة إلى فوق وصلح لها.
فذلك الاستعداد هو صورته، إذ ليس ها هنا إلا جسم وأشياء تحس عنه، بعد أن لم تكن؛ فصلوح الجسم لبعض الحركات دون بعض، واستعداده بصورته، ولاح له مثل ذلك في جميع الصور، فتبين له أن الأفعال الصادرة عنها، ليست في الحقيقة لها، وانما هي لفاعل يفعل بها الأفعال المنسوبة إليها؛ وهذا المعنى الذي لاح له، هو قول الرسول الله ﵊: "كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به" وفي محكم التنزيل: "بسم الله الرحمن الرحيم" فان تقتلوهم ولكن الله قتلهم؛ وما رميت إذا رميت، ولكن الله رمى! صدق الله العظيم.
فلما لاح له من أمر هذا الفاعل، ما لاح على الإجمال دون تفصيل، حدث له شوق حثيث إلى معرفته على التفصيل، ولانه لم يكن بعد فارق عالم الحس، جعل يطلب هذا الفاعل على جهة المحسوسات، وهو لا يعلم بعد هل هو واحد أو كثير؟ فتصفح جميع الأجسام التي لديه، وهي التي كانت فكرته أبدًا فيها، فرأها كلها تتكون تارة وتفسد أخرى، وما لم يقف على فساد جملته، وقف على الفساد أجزائه مثل الماء والأرض، فانه راى أجزاءهما تفسد بالنار، وكذلك الهواء رآه يفسد بشدة البرد، حتى بتكون منه الثلج فيسيل ماء.
وكذلك سائر الأجسام التي كانت لديه، ولم ير منها شيئًا بريئًا عن الحدوث والافتقار إلى الفاعل المختار، فاطرحها كلها وانتقلت فكرته إلى الأجسام السماوية.
وانتهى إلى هذا النظر على رأس أربعة أسابيع من منشئه، وذلك ثمانية وعشرون عامًا.
فعلم إن السماء وما فيها من كواكب الأجسام، لأنها ممتدة في الأقطار الثلاثة: الطول، والعرض، والعمق؛ لا ينفك شيء منها عن هذه الصفة، وكل ما لا ينفك عن هذه الصفة، فهو جسم؛ فهي إذن كلها أجسام.
ثم تفكر هل هي ممتدة إلى ما لا نهاية، وذاهبة أبدًا في الطول والعرض والعمق إلى ما لا نهاية، أو هي متناهية محدودة بحدود تنقطع عندها، ولا يمكن أن يكون وراءها شيء من الامتداد؟ فتحير بعد ذلك بعض الحيرة.
1 / 12