4
ويرى فيه الأمرين في تصحيح جمله وتفهمهما، ويعرض علينا ما يقف فيه، فنطيل النظر لتفهم العبارة. وقد نوفق وقد لا نوفق، وكل منهما صبور أشد الصبر، يتعبد بعمله كما يتعبد الراهب في صومعته.
وهذا «إسماعيل أفندي صائب»
5
رجل مسن وقور طيب القلب يعرف كل ما في مكتبات الآستانة من كتب. وما هو قيم وما هو ليس بقيم، ويقف نفسه لخدمة كل من أراد منه علما بهذا الموضوع. زاهد في الدنيا راض بالقليل، عرض عليه أن يكون أستاذا للأدب العربي في جامعة إستانبول بمرتب كبير فرفض لأن هذا المنصب مدني يضطر صاحبه في العهد الجديد أن يلبس البدلة والقبعة، وهو حريص جد الحرص على أن يكون شيخا معمما، والعمامة لا يسمح بها إلا لرجل له عمل ديني رسمي، فهو يفضل العمل الديني القليل الأجر على العمل المدني الكبير الأجر.
وهذا الشيخ «رشيد الحواصلي» سوري الأصل عاش في الآستانة زمنا طويلا؛ وصاحب السيد جمال الدين يوم كان فيها وسمع الكثير من أحاديثه، ورأى الآستانة في عهدها القديم وعهدها الجديد، وعرك الدهر وعركه الدهر، وهو إلى جانب ذلك تاجر في الكتب ماهر، يعرف كيف يبيع وكيف يشتري وكيف ينتهز الفرص - وجدناه فرصة لنا نعرف منه أحوال الآستانة قديمها وحديثها والانقلاب الحديث وموقعه في نفوس الناس، إلى آخر ما عرفنا من شخصيات.
خير أوقاتنا ما نخرج فيه من الآستانة إلى الضواحي، فيوما نركب وابور البحر في البسفور إلى شرشر صو، وكانت رحلة ممتعة رأينا فيها جمال البسفور وما حوله، والمساكن منتثرة في الجبال المزروعة على شكل مدرج، والجبال مكسوة بالأشجار، أشجار الكريز، والبندق، والجوز، وعيون الماء تنبع فيه فيخرج منها ماء بارد عذب زلال لذة للشاربين، وفي الطريق بلاد يمر عليها وابور البحر، فيقف عندها، فنجد سوقا نظيفا فيه ما يحتاج الإنسان من فاكهة نظيفة وفطائر وبقول ونحو ذلك.
الأطفال الصغار والرجال الكبار في غاية النظافة، وأكثر المبيعات تعرض من الداخل، فالجزار مثلا لحمه في داخل دكانه.
ومرة ركبنا باخرة إلى جزيرة الأمراء؛ وهي جزر ثلاث، ذهبنا إلى أكبرها، وهي جبل مدرج يحيط به الماء كسي بالأشجار والنبات، بنى الناس فيه مساكن ظريفة على البحر، وقد صعدناه إلى قمته وتغدينا هناك، ومتعنا نفوسنا بالمنظر الجميل والجو الجميل.
والأتراك حريصون على أن يقضوا يوم الجمعة في الضواحي إذ هو يوم العطلة الرسمية، تغلق فيه الحوانيت وتعطل الأعمال، فيخرجون زرافات ووحدانا إلى المنازه ومعهم أكلهم، وقد يكون معهم موسيقاهم، مرحين مبتهجين. ومرة خرجنا والجو صحو جميل، فلما وصلنا إلى ضاحية من الضواحي أمطرت السماء مطرا غزيرا على المتنزهين، فجروا كل يبحث عن ملجأ يلجأ إليه، وهم يتضاحكون مستبشرين يسخرون من الجو الذي سخر بهم، ويضحكون من السماء التي تضحك منهم، فكان يوما جميلا ومنظرا رائعا.
অজানা পৃষ্ঠা