وكان هذا يوما نموذجيا جرت الأيام بعده على نمطه، لم أتقدم في الفهم ولم أستسغ الأسلوب. وفكرت طويلا في عودتي إلى المدرسة فلم أستطع، وفي طريقة للهرب فلم أوفق؛ ولاحت مني مرة نظرة إلى فتيين أنيقين في مثل سني، يلبسان ملابس أنيقة، وتدل مظاهرهما وأناقتهما على النعمة. فعملت الحيلة للتعرف بهما فإذا هما فتيان قاهريان من أبناء العلماء كأبي، ولكنهما مدللان في بيوتهما، وفي معاملة أبويهما لهما، وكنت أتلهف على صداقة فصادقتهما، وأشتاق إلى ملء زمني فلازمتهما، وعلمت أثناء حديثهما أن لكل منهما خزانته وهي جزء من دولاب في رواق من أروقة الأزهر، يضع كل منهما فيها فروة نظيفة يجلس عليها في الدرس حتى لا تتسخ ثيابه، «ومزا» أصفر يلبسه في رجليه إذا سار في الأزهر حتى يحافظ على نظافة جوربه. ففعلت فعلهما وتأنقت تأنقهما، ولكن كان ذلك من وراء أبي لأنه لا يحب الأناقة ولا البهرجة، بل ضربني مرة لأني تأنقت في الحزام الذي أشد به وسطى وتركت له ذيلا، كما يفعل المتأنقون ووضعت ساعة في جيبي عن يميني، وكان أثناء ضربه يقول: «هل أنت ابن السيوفي» والسيوفي هذا كان غنيا مشهورا، وكان شاهبندر التجار. فتركت من يومها أناقتي ولم أعد أريه أني ابن السيوفي.
ورأيتهما يشكوان مما أشكو فلا يفهمان كما أني لا أفهم ولا يستفيدان كما أني لا أستفيد، واقترح أحدهما أن نهرب من بعض الدروس، ونلتمس مكانا في الأزهر بعيدا بعض الشيء عن الأنظار، نلعب فيه القمار، فلبينا الدعوة، إذ كان في هذا اللعب مسلاة عن ثقل الدرس، وراحة من عناء الشيخ. فكنا نصرف الساعات نقامر، وأخسر أحيانا فأبيع بعض ما معي من متاع، وأبي لا يعلم شيئا من ذلك، وأساتذتي لا يعلمون من أنا حتى يعلموا إن كنت حضرت أو غبت، وأذهب إلى بيتي مدعيا أني قضيت الوقت في الدرس والتحصيل، ولكن تنبه ضميري بعد أشهر وفهمت أن هذه الحال تؤدي إلى سوء المآل، فتركت صحبتهما والتفت إلى دروسي.
الفصل العاشر
رزقت صحبة طالب آخر في الأزهر من «شبين الكوم» ولا أذكر كيف تعرفت به، وكان يكبرني بخمس سنين أو ست. وكان رحمه الله بدينا مستدير الوجه طيب القلب مرحا في أدب، تزوج وترك زوجته وابنه في بلده وحضر إلى الأزهر يطلب العلم، وخلف أهله لأبيه ينفق عليهم كما ينفق عليه مع قلة دخله وضعف حاله.
كان هذا الطالب قد مر بالمرحلة الأولى الشاقة التي أمر بها ومرن على الطريقة الأزهرية ولقلقتها وفيهقتها.
وكان مستنير الذهن لم يعبأ بما يقوله شيوخ الأزهر في الشيخ محمد عبده من رمي بالزندقة والإلحاد، فكان يحضر دروسه في تفسير القرآن ويسمع منه كتاب دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، وكثيرا ما ألح علي أن أحضر دروس الشيخ معه فآبى، استصغارا لعقلي مع عظم دروسه، ولأن ذلك يضطرني أن أبقى في الأزهري إلى ما بعد العشاء. إذ كانت دروس الشيخ تبتدئ بعد صلاة المغرب وتستمر إلى آذان العشاء، وأخيرا تغلب علي وشوقني إلى دروسه بما كان ينقل إلى من آرائه. فحضرت درسين اثنين، فسمعت صوتا جميلا ورأيت منه منظرا جليلا، وفهمت منه ما لم أفهم من شيوخي الأزهريين، وندمت على ما فاتني من التلمذة عليه، واعتزمت أن أتابع دروسه، ولكن كان هذان الدرسان هما آخر دروسه رحمه الله.
وكانت دروسه مملوءة بالفكاهات الظريفة. فمرة مثلا دخلت في الدرس فتاة صغيرة تريد أن تسر إلى أبيها كلاما فجلست بجانبه، وكانت هذه الأيام حركة قاسم أمين. فقال الشيخ: إن هذه هي المرأة الجديدة. إذ كان قاسم أمين ألف كتابا سماه «المرأة الجديدة». ومرة حضرت درسا للشيخ ولم أفهم بعض العبارات، وسألت صاحبي عنها فلم يفهمها فاتفقنا على أن نكتب له خطابا، وكانت هذه عادة جارية، واخترنا أن نمضي الخطاب بحرف من اسمي وهو الميم وحرف من اسم صاحبي وهو الراء فجاء الشيخ بعد أن استلم الخطاب وقال: جاءني خطاب من شيخ اسمه «مر» أو مر ولم يفهم، ثم أخذ يشرح ما غمض علينا في أدب ووضوح. وكان دائما يلخص لنا ما ورد إليه من خطابات مهمة. وأذكر أنه أتاه خطاب يهدده بالقتل لأنه كافر ملحد، وبعد أن قص علينا القصة قال: «لتمنيت أن يكون هذا صحيحا فيوم يشجع المصري ويقتلني، أكون فخورا» ثم أنشد قول القائل:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا
أبشر بطول سلامة يا مربع
إلى أنه كان من حين إلى حين يستطرد في شرح حال المسلمين واعوجاجهم وطريقه علاجهم.
অজানা পৃষ্ঠা