كل صباح بداية من منتصف شهر يوليو - وقد كان هذا آخر صيف أقضيه في جوبيلي - اتخذت عادة؛ وهي أن أتمشى في وسط المدينة بين الساعة التاسعة والعاشرة. كنت أمشي حتى مبنى جريدة «هيرالد أدفانس»، ثم أتطلع إلى نافذته الأمامية ثم أعود أدراجي. كنت أنتظر نتائج الاختبار الذي تقدمت إليه في شهر يونيو. كانت النتائج ستأتينا عبر البريد، لكنها كانت تأتي إلى الجريدة قبلها بيوم، وكانت تلصق على النافذة الأمامية، وإذا لم تأت في البريد الصباحي فلن تأتي طوال اليوم. كل صباح عندما كنت أجد أنه لا يوجد شيء معلق على الواجهة - لا أجد سوى ثمرة البطاطس التي تشبه حمامة، والتي وجدها بورك تشايلدز في حديقته، والتي كانت مستقرة على حافة النافذة تنتظر ثمار القرع المزدوج والجزر المشوه واليقطين الضخم الذي سينضم إليها لاحقا ولا شك - كنت أشعر وكأن حكما ما قد تأجل، فيمكنني الشعور بالارتياح ليوم آخر، فأنا أعلم أن أدائي في الاختبارات لم يكن على خير ما يرام. لقد دمرني الحب، ولم يكن من المحتمل أن أنال المنحة الدراسية التي ظللت أعول عليها لسنين عدة - أنا وجميع من حولي - كي تحملني إلى خارج جوبيلي.
ذات صباح بعد أن قمت برحلتي اليومية إلى جريدة «هيرالد أدفانس»، مررت من أمام منزل آل شيريف بدلا من العودة عن طريق الشارع الرئيسي، ففوجئت ببوبي شيريف واقفا عند بوابة المنزل وقال: «صباح الخير.» «صباح الخير.» «هل لي أن أقنعك بأن تدخلي إلى فنائي وتتناولي قطعة من الكعك؟ هذا ما قاله العنكبوت للذبابة، أليس كذلك؟» كان أسلوبه المهذب يتسم بالتواضع وأيضا - في رأيي - بالسخرية. استأنف حديثه قائلا: «ذهبت أمي إلى تورونتو مستقلة قطار الساعة السادسة، ففكرت بما أنني مستيقظ على أية حال، فلماذا لا أجرب أن أخبز كعكة؟»
أمسك الباب فاتحا إياه، ولم أدر كيف أتملص من هذه الدعوة، فتبعته مرتقية درجات السلم. «الجو لطيف وبارد في الشرفة، يمكنك أن تجلسي هناك، هل تريدين كأسا من عصير الليمون؟ فأنا خبير في إعداد عصير الليمون.»
وهكذا جلست في شرفة منزل آل شيريف وأنا أتمنى ألا يمر أحد من هنا ويراني، أحضر لي بوبي شيريف قطعة من الكعك على طبق صغير مع شوكة مناسبة للكعك ومنديل مائدة مطرز. ثم دخل مرة أخرى ليعود بكأس عصير ليمون بها مكعبات ثلج وأوراق النعناع وكرز ماراشينو، واعتذر لأنه لم يحضر الكعكة وعصير الليمون معا على صينية ، وقال إن الصواني في خزانة الأواني تحت كومة من الأطباق؛ ومن ثم تعسر عليه إخراج واحدة، وإنه فضل أن يقضي الوقت معي على أن يضيعه جاثيا على ركبتيه يعبث في خزانة الأواني المظلمة، ثم اعتذر عن عدم جودة الكعكة قائلا إنه ليس خبازا ماهرا، كل ما في الأمر أنه يحب أن يجرب وصفة جديدة بين الحين والآخر، وشعر أنه لم يكن يجدر به أن يقدم لي الكعك دون أن يكون مغطى بالكريمة، لكنه لم يتقن قط فن صنع الكريمة، وكان يعتمد على أن تعدها والدته، لكن هذا ما حدث. ثم قال إنه يتمنى أن أكون قد أحببت أوراق النعناع في عصير الليمون، كما لو أن معظم الناس يدققون بشدة في هذا الأمر، وإنه لا يمكن قط أن نعرف ما إذا كان سيخطر ببالهم إخراج أوراق النعناع ورميها. كان يتصرف كما لو كان مجرد جلوسي في الشرفة وتناول الطعام والشراب هو عملا في غاية اللباقة والتهذيب وصنيع معروف لم يكن يتوقعه.
كانت هناك سجادة طويلة رفيعة على أرضية الشرفة الخشبية العريضة المشققة والمطلية باللون الرمادي. كانت تبدو كسجادة تفرش في البهو، لكنها كانت قديمة وبالية بحيث لم يكن من الممكن استعمالها داخل المنزل. وكنا نجلس على كرسيين من الخيزران البني عليهما وسائد باهتة اللون من الكريتون بها الكثير من الكتل وأمامنا طاولة من الخيزران كذلك. وعلى الطاولة كان ثمة ما يشبه الكوب الفخاري الصيني أو المزهرية التي ليس بها أزهار وإنما بها راية حمراء صغيرة والعلم البريطاني، كانت تلك واحدة من التذكارات التي كانت تباع أثناء زيارة الملك والملكة إلى كندا عام 1939، وكانت وجوههم الملكية الشابة تشع نورا رقيقا، كما في اللوحة المعلقة أمام فصل الصف الثامن في المدرسة الحكومية. وكان وجود هذا الشيء على الطاولة لا يعني أن آل شيريف أناس وطنيون بصورة خاصة؛ فهذه التذكارات كانت تتواجد في كثير من بيوت جوبيلي. هذا هو كل شيء. وحقيقة أن كل شيء بالمكان كان عاديا وغير مميز أوقفت تدفق أفكار القصة في ذهني فجأة ، وجعلتني أتذكر؛ فهذا هو بيت آل شيريف. استطعت من مكاني أن أرى جزءا من الرواق عبر الباب السلكي، وكان مغطى بورق حائط يجمع بين اللونين البني والوردي. هذا هو مدخل البيت الذي سارت فيها ماريون في طريقها إلى المدرسة، وفي طريقها للعب التنس، وفي طريقها لنهر واواناش. لقد كانت ماريون هي كارولين؛ فهي كل ما لدي لأبدأ به روايتي: تصرفها وسريتها. لم أفكر في هذا حين دخلت إلى فناء منزل آل شيريف، أو عندما كنت أجلس في الشرفة منتظرة أن يأتيني بوبي بالكعك. لم أفكر في روايتي، بل إنني لم أعد أفكر فيها تقريبا. لم أحدث نفسي قط بأنني فقدت فكرة الرواية، وإنما كنت أعتقد أنها محفوظة في مكان ما، مستعدة للخروج مجددا في وقت ما في المستقبل، لكن الحقيقة هي أنها قد أصابها بعض الضرر الذي أيقنت أنه لا يمكن إصلاحه. لقد وقع الضرر وفقدت كارولين وباقي أفراد أسرة هالوواي وبلدتهم قوتها المقنعة، وفقدت أنا إيماني. لكنني لم أرد أن أفكر في هذا، ولم أفكر فيه.
لكنني تذكرت في تلك اللحظة بدهشة كيف اختلقت هذه القصة، هذا الكيان الغامض الذي اتضح بعد ذلك أنه غير موثوق به، هذا الكيان القائم على هذا البيت وعلى أسرة آل شيريف وعلى حقائق قليلة ضعيفة وعلى كل الأمور التي لم ترو.
قال لي بوبي شيريف بخجل: «أنا أعرفك، ألم تظني أنني أعرفك؟ أنت الفتاة التي ستذهب إلى الجامعة بمنحة دراسية.» «لم أحصل عليها بعد.» «أنت فتاة ذكية.»
سألت نفسي ماذا حدث لماريون؟ ليس لكارولين، بل ماذا حدث لماريون؟ وماذا حدث لبوبي شيريف، عندما كان يضطر للتوقف عن خبز الكعك والعودة مرة أخرى إلى المصحة؟ مثل هذه الأسئلة تظل عالقة، بصرف النظر عن الروايات. إنها لصدمة حقا؛ صدمة أن تغير الواقع بقوة ودهاء ثم تعود إليه لتدرك أنه كما هو ولم يتغير. هل سيظهر لي بوبي شيريف الآن أية علامة على الجنون؟ هل سيقول بصوته المهذب الودود: «إن نابليون هو أبي »؟ هل سيبصق في شقوق الأرض ويقول: «إنني أسقط المطر على صحراء جوبي»؟ هل هذه هي نوعية الأمور التي يقوم بها؟ «هل تعرفين أنني ارتدت الجامعة؛ جامعة تورونتو، في كلية الثالوث؟ نعم فعلت.»
صمت لدقيقة، ثم واصل حديثه - كما لو كنت قد سألته: «لم أنل أي منح دراسية، فقد كنت طالبا عاديا، فكرت أمي أنه من الممكن أن يعدوني لأصبح محاميا، كانت تضحية منهم أن يرسلوني إلى الجامعة، فقد كان ذلك في وقت الكساد الكبير كما تعلمين، وفي فترة الكساد لم يكن أحد يملك أي أموال، أما الآن فيبدو أن الجميع يملكون الأموال. نعم، منذ وقت الحرب، الجميع يشتري، هل تعرفين فيرجوس كولبي - صاحب متجر كولبي موتورز - لقد أراني قائمة بمن سجلوا أسماءهم كي يشتروا سيارات أولدزموبيل الجديدة، وسيارات شيفروليه الجديدة.
عندما تذهبين إلى الجامعة، لا بد أن تعتني بنظامك الغذائي، فهذا أمر شديد الأهمية، فالجميع في الجامعة يميلون إلى تناول المأكولات النشوية لأنها مشبعة ورخيصة. كنت أعرف فتاة اعتادت أن تطهو الطعام في غرفتها، وكانت تعيش على المكرونة والخبز، فقط المكرونة والخبز! إنني أعزو الانهيار الذي حدث لي إلى الطعام الذي كنت أتناوله، فلم يكن هناك غذاء للمخ، ولا بد للمخ من تغذية كي نستخدمه، وما يفيد المخ حقا فيتامينات ب: فيتامين ب
অজানা পৃষ্ঠা