وجلست إليه في الزورة الثانية وبين يديه صحف، فدفع إلي صحيفة منها، كان منشورا فيها يومئذ قصيدة للشاعر خليل مطران بك، فطلب إلي رأيي في القصيدة، ولم أتنبه ساعتئذ إلى غرضه، وحسبته يقصد إلى أن يشاركني في لذة عقلية وجدها في هذا الشعر، فتناولت الصحيفة وقرأت القصيدة، ثم دفعتها إليه وقد أشرت بالقلم إلى عيون أبياتها، وتناول الصحيفة مني؛ ليرى اختياري ورأيي، فما عرفت إلا وقتئذ أنه كان يختبرني، ولكني - والحمد لله - نجحت في الامتحان قدرا من النجاح!
وتكرر هذا الاختبار، وهو لا يحسبني أدرك ما يعني، على أن إدراكي هذا قد جعلني من بعد أكثر تدقيقا في اختيار الحسن مما أقرأ، وأولاني ثقته على الأيام، فكان علي أن أقرأ أكثر ما يهدى إليه من الكتب؛ لأشير له إلى المواضع التي يعنيه أن يقرأ منها، وأدع ما لا جدوى عليه من قراءته؛ ضنا بوقته، وكنت أنا أكثر ربحا بذاك!
إني لأحس حين أذكره الساعة كأنني لست وحدي، وكأن روحا حبيبة تطيف بي وترف حولي بجناحين من نور، وكأن صوتا نديا رفيع النبرات يتحدث إلي من وراء الغيب حديثا أعرف جرسه ونغمته، ولكنني لا أرى، ولكنني لا أسمع، ولكنني هنا وحدي، تتغشاني الذكرى فتخيل إلي ما ليس في دنياي ...
لقد كان هنا صوت يتجاوب صداه بين أقطار العربية، لقد كان هنا إنسان يملأ فراغا من الزمان، لقد كان هنا قلم يصر صريرا، فيه رنات المثاني وفيه أنات الوجع، وفيه همسات الأماني وفيه صرخات الفزع، فيه نشيج البكاء وفيه موسيقى الفرح ... خفت الصوت، ومات الإنسان، وتحطم القلم، ولكن قلب الشاعر ما زال حيا ينبض؛ لأن قلب الشاعر أقوى من الفناء! •••
وجاءني نعي الرافعي في جريدة «البلاغ» بعد ظهر الإثنين 10 مايو سنة 1937، فغشيتني غشية من الهم والألم؛ سلبتني الفكر والإرادة وضبط النفس، فلم أكد أصدق فيما بيني وبين نفسي أن «صادق الرافعي» الذي ينعاه الناعي الساعة، هو الرجل الذي أعرف ويعرف الناس، ودار رأسي دورة جمعت لي الماضي كله بزمانه ومكانه في لحظة فكر، وتتابعت الصور أمام عيني تنقل إلي خيال هذا الماضي بألوانه وأشكاله ومجالسه وسمره وأحاديثه، من أول يوم لقيت فيه الرافعي إلى آخر يوم جلست فيه إليه ...
وعدت إلى النعي أقرؤه وفي النفس حسرة والتياع، فما زادتني قراءته شيئا من العلم، إلا أن مصطفى صادق الرافعي قد مات!
حينئذ أحسست كأن شيئا ينصب انصبابا في نفسي، وأن صوتا من الغيب يتناولني من جهاتي الأربع يهتف بي، وأن حياة من وراء الحياة تكتنفني ساعتئذ لتملي علي شيئا أو تتحدث إلي بشيء، وكأن عينين تطلان علي من وراء هذا العالم المنظور لتأمراني أمرا وتلهماني الفكر والبيان، هما عينا الرجل الذي أحببته حبا فوق الحب، وأخلصت له وأخلص لي إخلاصا ليس منه إخلاص الناس، ثم نزغ الشيطان بيني وبينه ففارقته وفي نفسي إليه نزوع وفي نفسه إلي، فلم ألقه من بعد إلا رسما في ورقة مجللة بالسواد ...!
2
وعرفت منذ الساعة أي واجب علي لهذا الراحل العزيز. •••
لقد عاش الرافعي في هذه الأمة وكأنه ليس منها، فما أدت له في حياته واجبا، ولا اعترفت له بحق، ولا أقامت معه على رأي، وكأنما اجتمع له هو وحده تراث الأجيال من هذه العربية المسلمة، فعاش ما عاش ينبهها إلى حقائق وجودها ومقومات قوميتها، على حين كانت تعيش هي في ضلال التقليد وأوهام التجديد، ورضي هو مقامه منها غريبا معتزلا عن الناس، لا يعرفه أحد إلا من خلال ما يؤلف من الكتب وينشر في الصحف، أو خلال ما يكتب عنه خصومه الأكثرون، وهو ماض على سنته سائر على نهجه، لا يبالي أن يكون منزله بين الناس في موضع الرضا أو موضع السخط والغضب، ولا ينظر لغير الهدف الذي جعله لنفسه منذ يومه الأول، وهو أن يكون من هذه الأمة لسانها العربي في هذه العجمة المستعربة، وأن يكون لهذا الدين حارسه وحاميه، يدفع عنه أسباب الزيغ والفتنة والضلال، وما كان - رحمه الله - يرى في ذلك إلا أن الله قد وضعه في هذا الموضع؛ ليكون عليه وحده حياطة الدين والعربية، لا ينال منهما نائل إلا انبرى له، ولا يتقحم عليهما متقحم إلا وقف في وجهه، كأن ذلك «فرض عين» عليه وهو على المسلمين «فرض كفاية»، وأحسبه قال لي مرة وقد كتب إليه صديق يلفته إلى مقال نشرته صحيفة من الصحف لكاتب من الكتاب تناول فيه آية من القرآن بسوء التأويل: «من تراه - يا بني - يقوم لهذا الأمر إن سكت الرافعي؟»
অজানা পৃষ্ঠা