وفي الفصل السادس يتحدث عن حب الأم في قصة والدة ضل ولداها الصغيران ثم اهتدت إليهما: «الحب! ما الحب إلا لهفة تهدر هديرها في الدم، وما خلقت لهفة الحب أول ما خلقت إلا في قلب الأم على طفلها ... حب الأم في التسمية كالشجرة، تغرس من عود ضعيف، ثم لا تزال بها الفصول وآثارها ولا تزال تتمكن بجذورها وتمتد بفروعها حتى تكتمل شجرة بعد أن تفني عداد أوراقها ليالي وأياما، وحب العاشقين كالثمرة؛ ما أسرع ما تنبت، وما أسرع ما تنضج، وما أسرع ما تقطف، ولكنها تنسي الشفاه التي تذوقها ذلك التاريخ الطويل من عمل الأرض والشمس والماء في الشجرة القائمة ... ... لا لذة في الشجرة، ولكنها مع ذلك هي الباقية وهي المنتجة، ولا بقاء للثمرة، ولكنها على ذلك هي الحلوة وهي اللذيذة وهي المنفردة باسمها ...
وهكذا الرجل أغواه الشيطان في السماء بثمرة فنسي الله حينا، ويغويه الحب في الأرض بثمرة أخرى فينسى معها الأم أحيانا!»
وتراه في الفصول الثلاثة الباقية كأنما يحاول أن يروض نفسه على السلوان ويقنعها بأن الحب ليس هو رجولة الرجل، وليس هو إنسانية الإنسان، وليس هو كل ما في الحياة من لذة ومتاع، في كلام يجريه على ألسنة شيوخه وأصدقائه: الشيخ علي، والشيخ أحمد، والشيخ محمد عبده، يحاورهم ويحاورونه فتستمع في هذا الحوار إلى النجوى بينه وبين نفسه، وإلى الصراع بين عقله وهواه.
إن الرافعي بكبريائه وخلقه ودينه واعتداده بنفسه، لم يخلق للحب! ولكنه أحب؛ فمن ذلك كان حبه سلسلة من الآلام، وصراعا دائما بين طبيعته التي هو بها هو، وفطرته التي هو بها إنسان، وإنك لتلمح هذا الصراع الدائم في كل فصل من فصول السحاب الأحمر. •••
وفي كتاب السحاب الأحمر، تقرأ رأي الرافعي في القضاء والقدر، وإنه ليشعرك برأيه ذلك مقدار ما فعل به الحب وما فل من إرادته، فتراه يؤمن بأن الإنسان في دنياه ليس له كسب ولا اختيار فيما يعمل، ولكنه قضاء مقدور عليه منذ الأزل لا طاقة له على الفكاك منه، وإنه على ذلك لموقن بأن لله حكمة فيما قضى وقدر، وإن دقت حكمته على الأفهام: «ألا يا ماء البحر، ما أنت على أرض من الملح، فبماذا أصبحت زعاقا لا تحلو ولا تساغ ولا تشرب؟ إنك لست على أرض من الملح، ولكنك يا ماء البحر ذابت فيك الحكمة الملحة ...!»
قلت في الفصل السابق: إن رسائل الأحزان عند أكثر قراء العربية هو شيء من البيان المصنوع تكلفه كاتبه؛ ليحاول به أن يستحدث فنا في العربية لم يوفق إلى تجويده ... لأنه بقية قصة لم تنشر معه ...
أما السحاب الأحمر فهو كتاب كامل، احذف منه فصلا أو فصلين في أوله، وشيئا من فضول القول في سائره، تجد فنا في العربية لا يقدر عليه إلا الرافعي، فجرده من قصته أو انسبه إليها، فإنك واجد فيه أدبا يستحق الخلود، وبيانا يزهى على البيان، وشعرا وحكمة ما زال الأدباء يدورون عليهما حتى وجدوهما في أدب الرافعي. •••
في رسائل الأحزان أراد الرافعي أن تعرف صاحبته من حاله ومن خبره ما أراد، فأغراها بالترفع والدلال عليه، وفي السحاب الأحمر حاول أن يشعرها أنه قد فرغ من أمرها وفرغت من أمره فما لها عنده إلا البغض والإهمال، وما له عندها إلا اللهفة على ما كان من أيامه. أفتراه في السحاب الأحمر قد بلغ ما أراد؟
هيهات أن يخفى الهوى!
استمع إليه يحاول أن يهيج فيها الغيرة ويبعث اللهفة ويوقظ الحنين ويؤرث البغضاء ويثير الندم، فلا يكاد يبلغ آخر الرسالة حتى ينسى ما قصد إليه ليدع لقلبه أن يقول:
অজানা পৃষ্ঠা