وهي فتاة ذات جمال وفتنة، ولها لسان وبيان، وما يمنعها دينها ولا شيء من تقاليد أهلها أن يكون لها مجلس من الرجال في ساعة في يوم من كل أسبوع، يضم من شعراء العربية ورجالاتها أشتاتا لا يؤلفها إلا هذا المجلس المعطر بعطر الشعر وعطر المرأة الجميلة، أفتراهم يجتمعون في دارها كل أسبوع لتتوارى منهم خلف حجاب فلا سمر ولا حديث؟!
والرافعي غيور شموس كثير الأثرة، لا يرضيه إلا أن يكون على رأس الجماعة، وقالت له نفسه: «أأنت هنا وحدك أم ترى لكل واحد من هؤلاء هنا هوى وحبيبا ...؟» •••
وكانت القطيعة بين الرافعي وبينها من أجل ذلك كله، من أجل أن له ذاتا وكبرياء، وما يريد أن تفنى ذاته وكبرياؤه في امرأة، ومن أجل أنها فيلسوفة وشاعرة، وما تجتمع الفلسفة والحب في قلب حواء، ومن أجل أنها أنثى وأنه رجل له دين ومروءة وزوجة ودار، ومن أجل أنه بلغ مبلغه منها حين وجد الألم في حبها فوجد ينبوع الشعر الذي كان يفتقد، ومن أجل أنه الرافعي الغيور الظنين الكثير الأثرة والاعتداد بالنفس ...!
وخيل إليه حين كتب إليها رسالة القطيعة في يناير سنة 1924 أنه يبغضها، وأن هذا الحب الذي قطعه عن دنيا الناس عاما بحاله قد انتهى من تاريخه وطواه القدر في مدرجة الفناء، وأن نفسا كانت في الأسر قد خرجت إلى فضاء الله ...
وأحس في نفسه حديثا طويلا يريد أن يفضي به، وشعر كأن في قلبه نارا تلظى، واصطرعت في نفسه ذكريات وذكريات، وخيل إليه أنه يكاد يختنق، فصاح من كل ذلك مغيظا محنقا يقول: «أيتها المحبوبة، إنني أبغضك ... إنني أبغضك أيتها المحبوبة!»
ليت شعري، أكان الرافعي يعني ما يقول؟ أكان على يقين حين زعم أنه يبغضها؟ أم أنه استعار للحب لفظا متكبرا من كبريائه العاتية فسماه البغض، وما هو به، ولكنها ثورة الحب حين يبلغ عنفوانه فتختلط به مذاهب الفكر ومذاهب النظر فلا يبقى فيه شيء على حقيقته؟
كلا، ما أبغض الرافعي صاحبته يوما منذ كانت، ولا استطاع أن يفك نفسه من وثاقها، وما هذه الثورة التي ألهمته كتابيه «رسائل الأحزان»، و«السحاب الأحمر» إلا لون من ذلك الحب وفصل من فصوله وكان الخطأ في العنوان، فلما ثابت إليه نفسه نزا به الحنين إلى الماضي، ولكن كبرياءه وقفت في سبيله، فظل حيث هو، ولكن قلبه ظل يتنزى بالشوق والحنين ...!
وجاءت صاحبته إلى طنطا بعد ذلك بقليل، مدعوة إلى حفلة خيرية لتخطب، وكان الرافعي مدعوا لمثل ما دعيت له، وعلى غفلة التقت العيون، فدار رأس الرافعي وذهب به، وعاد الزمان القهقرى، لينشر ماضيه على عينيه، وزلزلت نفسه زلزالا شديدا، حتى أوشك أن تغشاه غاشية، وحاول أن يتحدث فوقفت الكبرياء بين قلبه ولسانه، وخشي أن يفتضح فنهض عن كرسيه منطلقا إلى الباب، ولحقه صديقه الأديب جورج إبراهيم، فأفضى إليه بذات صدره وودع صاحبته بعين تختلج، ومضى ...
وانتهى الحفل، ووقفت «هي» تدير عينيها في المكان فما استقرتا على شيء، ووجدت في نفسها الجرأة على أن تقول: «أين الرافعي؟» فما وجدت جوابا ... وكان الرافعي وقتئذ جالسا إلى مكتبه ينشئ قصيدة لمجلة المقتطف عن بعث الحب ... وكان آخر لقاء ...! •••
ولقيت الرافعي في خريف سنة 1932، فتسرحنا في الحديث عن الحب، فكشف لي عن صدره في عبارات محمومة وكلمات ترتعش، ثم قال: «... وإن صوتا ليهتف بي من الغيب أن الماضي سيعود، وأنني سألقاها، وسيكون ذلك في تمام عشر سنين من رسالة القطيعة، في يناير سنة 1934 ...» وأخذ يقبض أصابعه ويبسطها، ثم قال: «نعم، بعد أربعة عشر شهرا سيكون هذا اللقاء ... إن قلبي يحس، بل إنني لموقن ... بعد أربعة عشر شهرا، في تمام السنة العاشرة منذ فارقتها مغضبا، سنلتقي ثانية، ويعود ذلك الماضي الجميل، إنها تنتظر، وإنني أنتظر ...!» وظل على هذا اليقين أشهرا وهو يحصي الأيام والأسابيع كأنه منها على ميعاد ...!
অজানা পৃষ্ঠা