ومن اعتداد الرافعي بهذه القصة وبما بلغ فيها من التوفيق، جعلها فاتحة الجزء الأول من كتابه «وحي القلم».
ولم يكفه أسبوع للاستجمام والخلاص مما يعاني من وجع الضرس وتعب الأعصاب، فاستراح أسبوعا آخر وبعث إلى الرسالة بالجزء الرابع من «كلمة وكليمة». •••
ثم وقعت حادثة اهتزت لها نفس الرافعي اهتزازا عنيفا ونقلته من حال إلى حال: جلست يوما إليه نتحدث من أحاديثنا فقال: «... إن صديقنا الأستاذ «م» لم يكتب إلينا من زمان ... ليت شعري ما منعه عنا، إن بي قلقا عليه وفي نفسي أن أراه أو أعرف من خبره!»
وفي صبيحة اليوم التالي طالعتنا الأهرام بخبر غامض: «... أن شابا من الأدباء، هو ابن شيخ كبير من شيوخ الأزهر، قد حاول الانتحار بقطع شريان في يده! ...»
وقرأ الرافعي الخبر فاربد وجهه وانفعلت نفسه، وقال: «اقرأ، إنه هو ...!»
قلت: «من تعني؟»
قال: «صديقنا «م» لقد غلبه شيطانه على دينه آخر الأمر. غفر الله له!»
فجزعت وطارت نفسي، وقلت له وأكاد أغص بريقي: «م؟ إنك لتتوهم، وإنك مما تفكر في شأنه ليخيل إليك، إن لصديقنا دينا، وإن فيه تحرجا وخشية وما أراه في أي أحواله يقدم على مثل هذه الجريمة.»
ولكن الرافعي لم يلتفت إلى ما أقول، وأخذ يحوقل ويسترجع ويستعيذ بالله من غلبة الهوى وفتنة الشيطان، ثم مد يده إلى مكتبه فكتب رسالة إلى «م» يسأل عن حاله وخبره ويرجو له العافية في دينه ودنياه، ثم يطلب إليه أن يصف له ما كان منه وما حمله عليه وما آل إليه أمره، ولم ينس مع كل أولئك ومع ما تفيض به نفسه من الحزن والألم أن يرجوه «الدقة في وصف المرحلة التي كان فيها بين الحياة والموت، فإنها المرحلة التي لا يحسن أن يصفها إلا من أحس بها ...»
وصديقنا الأستاذ م أديب واسع المعرفة، له دين ومروءة، وفيه تحرج وخشية، وقد نشأ في بيت له ماض في الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه والذود عن حرماته، وهو شاب عزب، بعيد الخيال، دقيق الحس، مرهف الأعصاب، وعلى أنه يعيش في ظل وارف ونعمة سابغة، فإنه من سعة خياله ودقة حسه وحدة أعصابه متشائم النظرة، لا تراه إلا رأيت في وجهه وعلى طرف لسانه معنى دفينا من معاني الألم، وما يرى نفسه في أكثر أحواله إلا غريبا في هذا العالم وبين هذا الناس، فإن له من خياله دنيا غير دنيا الناس، وعالما غير هذا العالم، يتمثل فيه المثل الأعلى الذي أعياه أن يبلغه على هذه الأرض، وكان بينه وبين الرافعي ود وله في نفسه مكان، فكان له سره ونجواه منذ كان فتى يافعا لم يبلغ العشرين.
অজানা পৃষ্ঠা