وتركته وروحت إلى داري وهو شاك متبرم ينكر موضعه من الحياة ومكانه بين أهل الأدب. فلما كان عصر اليوم التالي دعاني ليملي علي «قلت لنفسي ... وقالت لي ...»
من أراد أن يعرف الرافعي العرفان الحق، فليقرأ هذا الحديث يعرف نفسه الصريحة على فطرتها، ثم يعرف مذهبه في الأدب وهدفه في الحياة.
إن غاية ما ينشده الباحث عندما يهم بالبحث في حياة إنسان له أثر في تاريخ الحياة أو تاريخ الأدب، أن يعرف مضمر نفسه من ثنايا أعماله أو من حديث معاصريه، وإنه مع ذلك ليخطئ أو يصيب سبيل المعرفة، ولكن ها هنا إنسانا يتحدث عن نفسه وتتحدث نفسه إليه، حديثا كله صدق لا اختراع فيه ولا تزوير، ولا سبيل فيه إلى الخطأ.
وأشهد أني رأيته قبل أن يملي علي الحديث وإن في وجهه لمعانيه قبل أن يكون كلاما، فما رأيته ورأيت حديثه من بعد إلا كما تصور معركة في حكاية وصف، هذه هي هذه، وكانت حركات صامتة فصارت عبارة ناطقة.
وأكثر معانيه في هذا الحديث قديم في نفسه، وقد نظم شيئا منها قبل ذلك بسنتين أو ثلاث في قصيدة نشرها في مجلة المقتطف. ... وكما تثوب إلى المحزون نفسه إذا صرح بشكاته إلى صاحب سره، هدأت نفس الرافعي بعد إملاء هذا المقال وثاب إلى الطمأنينة والرضا، وكأنما نفض همومه وأحزانه في هذه الكلمات وكانت تثقل رأسه، أو كأنما كان يستمع إلى مداولة الرأي في محكمة الضمير بين نفسه وهواه، فما هو إلا أن استوعب ما قال وقالت حتى اطمأنت نفسه إلى الحكم الأخير، وانتصرت الروح السامية على ما كان ينازعها من أهواء البشرية ...
ثم كان هلال رمضان، فأنشأ مقالة «شهر للثورة» وهي السابعة مما أنشأ من المقالات الدينية لقراء الرسالة. •••
كان خير أوقات الكتابة عند الرافعي في المساء، حين يعتدل الجو، وتسكن الحركة، وتخف المعدة؛ إذ كان عمله في المحكمة يملأ بياض نهاره، فلما كان رمضان سنة 1353 / 1934 الميلادية سألني: «كيف نصنع يا شيخ سعيد في هذا الشهر، وأي أوقاته نجعلها للكتابة؟» قلت: «فانظر فيما تراه خيرا لك، ولست أرى ما يمنع أن تستمر على عادتك فتجعل مجلسك للكتابة بعد العشاء.» قال: «لا سبيل إلى ذلك والمعدة مثقلة بعد خلاء، ولكني سأحاول أن أكتب في العصر؛ فإنه حيثما امتلأت المعدة، ثقل الرأس، فلعل فراغها في النهار أن يشحذ الذهن ويصقل الفكر.»
وحاول أن يكون ذلك فلم يقدر عليه، ومضى يوم ويوم ويوم، وانتهى الأسبوع الأول من رمضان ولم يكتب شيئا للرسالة، واستحيا أن يعتذر، فلم طائفة من «فتات المكتب» وجعلها الجزء الثاني من «كلمة وكليمة» وبعث بها.
في هذه الكلمات المنشورة بالعدد 76 كلمات عن السياسة تفسرها الحالة السياسية في مصر في أوائل عهد وزارة المرحوم نسيم، وفيها حديث عن الزكاة والصوم، وفيها كلمات عن الزواج والمرأة، وفيها رسائل إلى «فلانة»!
ثم كانت مقالة الأسبوع التالي هي قصة «سمو الحب».
অজানা পৃষ্ঠা