وبعد أيام قليلة من قيام الوزير بعمله في الوزارة، جاءتني بطاقة صغيرة من بطاقات الدعوة إلى مكتبه، محدود فيها للمقابلة ساعة قبيل الظهر من ذلك النهار.
وكدت أجزم بالباعث إلى دعوتي لمقابلة الوزير، وأنا موظف في أصغر درجات الوظائف في سلك الخدمة في الديوان.
وماذا يكون الباعث إلا أنني من المشهورين بإدارة الديوان، وأنني ممن تتجه المظنة إليهم في الكتابة عنه بالصحف والعلم بأسراره من المذكرات، وكتابة المذكرات؟
ليس فيها قولان كما هو ظاهر ...
ولكنه في الواقع كان تخمينا نادرا يدل على وجوب التردد في قبول التخمينات مهما تبلغ من الرجاحة والقوة، فإن الوزير لم يتعرض لمسلكي في قضية الديوان بغير التلميح من بعيد ... وإنما خاطبني في أمر مقالة من مقالاتي نشرتها في الصحف، وذيلتها بتوقيعي الصريح، وهي مقالة كتبتها تأبينا للشيخ علي يوسف صاحب المؤيد - رحمه الله - ونشرتها صحيفة «عكاظ » الأسبوعية التي كنا نخصها برسائلنا النقدية أنا، والمازني، وشكري، وبعض الزملاء ...
ومن أضاحيك المصادفة أن الوزير كان صديقا للشيخ علي يوسف، وكان وكيلا لحزبه وخصما لكثير من خصومه ... وكان من أشياعه القليلين الذين مشوا في جنازته، وأشرت إليهم في بعض ما ذكرته عن وفاء المشيعين له بعد الوفاة.
من فصول الشيطنة
وكان الشيخ علي يوسف قد ترك «المؤيد» وهجر الحياة العامة، واصطلحت عليه العلل والنكبات ... وقضى نحبه غير مذكور من أقرب المقربين إليه، فلم يسر في جنازته منهم غير آحاد معدودين، بينهم وزير الأوقاف ...
وقلت في تأبينه: إن الرجل كان «نفاعا ضرارا»، ولكنه كان ينفع ويضر لتمكين نفوذه، واستصلاح الأعوان في مشكلاته وقضاياه ... فمن وصلت إليه يد من أياديه لم يكافئه عليها بالمحبة وخلوص النية، ولكنه يحس أنه مدين مطالب بدين يوفيه في يوم من الأيام ... فلا جرم يشيعونه غير محزونين، ويمضون في جنازته متحدثين متشاغلين؛ لأنهم في حالة نفسية أشبه بحالة المدين الذي أعفاه موت الدائن من الوفاء له بما عليه ...
خاطبني الوزير بلهجة هادئة كأنها لهجة الأستاذ الذي يلوم تلميذه على فصل من فصول الشيطنة، لا يبلغ عنده مبلغ السخط الشديد، ولا يخلو من بعض الرضا، فقال بعد الإشارة إلى مقال التأبين: «كان أحرى بقلمك الناشئ أن يتخذ له في تأبين الموتى منهجا أطيب من هذا المنهج.
অজানা পৃষ্ঠা