88

وأنت واجد في غير ابن هشام من كتب السيرة وفي كتب التفسير أمورا أخرى غير هذه. ومن حق المؤرخ أن يسائل عن مبلغ التدقيق والتمحيص في أمر ذلك كله، وما يمكن أن يسند منه إلى النبي بسند صحيح؛ وما يمكن أن يكون من خيال المتصوفة وغيرهم. وإذا لم يكن المجال هاهنا متسعا للحكم في ذلك أو لاستقصائه، وإذا لم يكن هاهنا مجال القول في المعراج أو الإسراء أكانا بالجسم أم كان المعراج بالروح والإسراء بالجسم، أم كان المعراج والإسراء جميعا بالروح؟ فمما لا شك فيه أن لكل رأي من هذه الآراء سندا عند المتكلمين، وأنه لا جناح على من يقول بواحد دون غيره من هذه الآراء. فمن شاء أن يرى أن الإسراء والمعراج كانا بالروح فله من السند ما قدمنا وما تكرر في القرآن وعلى لسان الرسول:

إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ،

5

وأن كتاب الله وحده معجزة محمد، و

إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .

6

ولصاحب هذا الرأي أكثر من غيره أن يسأل عن حكمة الإسراء والمعراج ما هي؟ وهنا موضع الرأي الذي نريد أن نبديه ولا ندري أسبقنا إليه أم لم نسبق.

ففي الإسراء والمعراج في حياة محمد الروحية معنى سام غاية السمو، معنى أكبر من هذا الذي يصورون، والذي قد يشوب بعضه من خيال المتكلمة الخصب حظ غير قليل. فهذا الروح القوي قد اجتمعت فيه في ساعة الإسراء والمعراج وحدة هذا الوجود بالغة غاية كمالها لم يقف أمام ذهن محمد وروحه في تلك الساعة حجاب من الزمان أو المكان أو غيرهما من الحجب التي تجعل حكمنا نحن في الحياة نسبيا محدودا بحدود قوانا المحسة والمدبرة، والعاقلة. تداعت في هذه الساعة كل الحدود أمام بصيرة محمد، واجتمع الكون كله في روحه، فوعاه منذ أزله إلى أبده، وصوره في تطور وحدته إلى الكمال عن طريق الخير والفضل والجمال والحق في مغالبتها وتغلبها على الشر والنقص والقبح والباطل بفضل من الله ومغفرة.

وليس يستطيع هذا السمو إلا قوة فوق ما تعرف الطبائع الإنسانية. فإذا جاء بعد ذلك ممن اتبعوا محمدا من عجز عن متابعته في سمو فكرته وقوة إحاطته بوحدة الكون في كماله وفي جهاده لبلوغ هذا الكمال؛ فلا عجب في ذلك ولا عيب فيه. والممتازون من الناس والموهوبون منهم درجات. وبلوغنا الحقيقة معرض دائما لهذه الحدود التي تعجز قوانا عن تخطيها. وإذا كان من القياس مع الفارق أن نذكر، لمناسبة ما نحن الآن بصدده، قصة أولئك المكفوفين الذين أرادوا أن يعرفوا الفيل ما هو، فقال أحدهم: إنه حبل طويل لأنه صادف ذنبه، وقال الآخر: إنه غليظ كالشجرة لأنه صادف رجله، وقال ثالث: إنه مدبب كالرمح لأنه صادف سنه، وقال رابع: إنه مستدير ملتو كثير الحركة لأنه صادف خرطومه - فإن هذا المثل، مقرونا إلى الصورة التي تتكون لدى المبصر من الفيل لأول ما يراه، يسمح لنا بالموازنة بين إدراك محمد كنه وحدة الكون والوجود وتصويره في الإسراء والمعراج حيث يتصل بأول الزمن من قبل آدم إلى آخره يوم البعث، وحيث تنعدم نهائية المكان، إذ يطل بعين البصيرة من لدن سدرة المنتهى إلى هذا الكون يصبح أمامه سديما، وبين ما يستطيع الكثيرون إدراكه من حكمة هذا الإسراء والمعراج؛ إذ يقفون عند تفاصيل ليست من وحدة الكون وحياته إلا كذرات الجسم، بل كالذرات العالقة به من غير أن يتأثر بها نظامه. أين الواحدة من هذه الذرات من حياة هذا الجسم ومن نبض قلبه وإشراق روحه وضياء ذهنه وامتلائه بالحياة التي لا تعرف حدا؛ لأنها تتصل من الوجود بكل حياة الوجود؟

والإسراء بالروح هو في معناه كالإسراء والمعراج بالروح جميعا سموا وجمالا وجلالا. فهو تصوير قوي للوحدة الروحية من أزل الوجود إلى أبده، فهذا التعريج على جبل سيناء حيث كلم الله موسى تكليما، وعلى بيت لحم حيث ولد عيسى، وهذا الاجتماع الروحي ضمت الصلاة فيه محمدا وعيسى وموسى وإبراهيم، مظهر قوي لوحدة الحياة الدينية على أنها من قوام وحدة الكون في موره الدائم إلى الكمال.

অজানা পৃষ্ঠা