85

وهذه الآيات قد نزلت - في زعم أصحاب قصة الغرانيق - في تلك القصة المكذوبة كما قد رأيت، وهذان المحدثان يردانها إلى قصة نقض الصحيفة. وقد نزلت هذه الآيات في حديث عطاء عن ابن عباس في وفد ثقيف؛ إذ طلبوا إلى محمد أن يحرم واديهم كما حرمت مكة شجرها وطيرها ووحشها؛ فتردد النبي عليه السلام حتى نزلت. ومهما تكن الحقيقة الثابتة التي لا تختلف الروايات عليها للواقعة أو الوقائع التي نزلت الآيات فيها، فإنها تصور ناحية من نواحي العظمة النفسية لمحمد، كما تصور صدق إخلاصه تصويرا قويا. وهذه الناحية تصورها كذلك الآيات التي نقلنا من سورة «عبس» ويشهد بها تاريخ محمد كله. تلك أنه يصارح الناس بأنه بشر مثلهم يوحي ربه إليه لهدايتهم، وأنه وهو بشر مثلهم معرض للخطأ لولا عصمة الله إياه. فهو قد أخطأ حين عبس لابن أم مكتوم وتولى عنه، وهو قد كاد يخطئ فيما نزلت آيات الإسراء في شأنه، وكاد يفتن عن الذي أوحي إليه ليفتري غيره. فإذا نزل عليه الوحي ينبهه إلى ما صنع في أمر الأعمى، وفي أمر هذه الفتنة التي كادت قريش تدفعه إليها، وصدق في تبليغ هذا الوحي إلى الناس صدقه في تبليغ رسالات ربه ولم يقف حائل من أنفة أو كبرياء ولا وقف اعتبار إنساني، حتى مما يسيغ الفضلاء، دون إعلان هذا الحق في أمر نفسه؛ فالحق إذن، والحق وحده، كان رسالته. وإذا كان احتمال أذى الغير في سبيل ما نؤمن به بعض ما تطيق النفوس الكبيرة، فإن إقرار العظيم بأنه كاد يفتن ليس مما ألف الناس صدوره حتى من العظماء. إنما يخفي هؤلاء أمثال ذلك من الأمور، ويكتفون بحساب النفس عليه ولو حسابا عسيرا، فهو شيء إذن أكبر من العظمة وأعظم من كل عظيم ذلك الذي يتيح للنفس هذا السمو فتكشف عن الحق كله. ذلك الشيء الذي يسمو على العظمة ويفوق كل عظيم هو النبوة التي تملي على الرسول صدق الإخلاص في إبلاغ رسالة الحق جل شأنه.

عاد محمد ومن معه من الشعب بعد تمزيق الصحيفة، وجعل من جديد يذيع دعوته في مكة وفي القبائل التي تجيء إليها في الأشهر الحرم. ومع ما ذاع من أمر محمد بين قبائل العرب جميعا وما كان من كثرة الذين اتبعوه، لقد ظل لا يسلم أصحابه من أذى قريش، ولا يستطيع هو لهم منعا. ولم تمض إلا شهور على نقض الصحيفة حتى فجأت محمدا في عام واحد فاجعتان اهتزت لهما نفسه؛ هما موت أبي طالب وخديجة دراكا. وكان أبو طالب يومئذ قد نيف على الثمانين. فلما اشتكى وبلغ قريشا أنه موف على ختام حياته، خشيت ما يكون بينها وبين محمد وأصحابه من بعد، وفيهم حمزة وعمر المعروفان بشدتهما وبطشهما، فمشى أشرافها إلى أبي طالب وقالوا له: يا أبا طالب، أنت منا حيث قد علمت وحضرك ما ترى وتخوفنا عليك. وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه. وجاء محمد والقوم في حضرة عمه. فلما عرف ما جاءوا فيه قال: نعم؛ كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم! قال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر كلمات. قال. تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه. قال بعضهم: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟! ثم قال بعضهم لبعض: والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون؛ وانطلقوا. وتوفي أبو طالب والأمر بين محمد وقريش أشد مما كان.

ومن بعد أبي طالب توفيت خديجة؛ خديجة التي كانت سند محمد بما توليه من حبها وبرها، ومن رقة نفسها وطهارة قلبها وقوة إيمانها. خديجة التي كانت تهون عليه كل شدة وتزيل من نفسه كل خشية، والتي كانت ملك رحمة، يرى في عينيها وعلى ثغرها من معاني الإيمان به ما يزيده إيمانا بنفسه. وتوفي أبو طالب الذي كان لمحمد حمى وملاذا من خصومه وأعدائه. أي أثر تركت هاتان الفاجعتان الأليمتان في نفس محمد عليه السلام؟! إنهما لجديرتان بأن تتركا أقوى النفوس كليمة مضعضعة، يدس إليها اليأس سموم الضعف، ويدفع إليها الأسى والحزن من لواذع الهم المبرح ما يجعلها تنهد أمامهما ولا تفكر في شيء سواهما.

ما لبث محمد بعد أن فقد هذين النصيرين أن رأى قريشا تزيد في إيذائه، وكان من أيسر ذلك أن اعترضه سفيه من سفهاء قريش فرمى على رأسه ترابا، أفتدري ما صنع؟ دخل إلى بيته والتراب على رأسه؛ فقامت إليه فاطمة ابنته وجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي. وليس أوجع لنفوسنا من أن نسمع بكاء أبنائنا، وأوجع منه أن نسمع بكاء بناتنا. كل دمعة ألم تسيل من مآقي البنت قطرة حمم تهوي على قلوبنا فينقبض انزعاجا، حتى لنكاد من شدة الانزعاج نصيح ألما. وكل أنة حزن تثير في الحشا وفي الكبد أنات ما أقساها، تختنق لها حلوقنا وتكاد تهمي بالدمع مع وقعها عيوننا. وقد كان محمد أبر أب ببناته وأحناه عليهن. فماذا تراه صنع لبكاء هذه البنت التي فقدت منذ قريب أمها، ولبكائها هي من أجل ما أصاب أباها؟ لم يزده ذلك كله إلا توجها بقلبه إلى الله وإيمانا بنصره إياه. قال لابنته وعينها تهمي بالدمع: لا تبكي يا بنية! فإن الله مانع أباك. ثم كان يردد: والله ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب.

وكثرت مساءات قريش من بعد ذلك لمحمد حتى ضاق بهم ذرعا. فخرج إلى الطائف وحيدا منفردا لا يعلم بأمره أحد، يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه، ويرجو إسلامهم، لكنه رجع منهم بشر جواب. فرجاهم ألا يذكروا من استنصاره بهم شيئا حتى لا يشمت به قومه. ولم يسمعوا له بل أغروا به سفهاءهم يسبونه ويصيحون به؛ ففر منهم إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة فاحتمى به، فرجع السفهاء عنه. وجلس إلى ظل شجرة من عنب وابنا ربيعة ينظران إليه وإلى ما هو فيه من شدة الكرب. فلما اطمأن رفع عليه السلام رأسه إلى السماء ضارعا في شكاية وألم وقال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني! إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل علي سخطك. لك العتبى حتى ترضى؛ ولا حول ولا قوة إلا بك.»

منظر عام لمنى.

وطال تحديق ابني ربيعة فيه، فتحركت نفساهما رحمة له وإشفاقا من سوء ما لقي، وبعثا غلامهما النصراني عداسا إليه بقطف من عنب الحائط. فلما وضع محمد يده فيه قال: باسم الله، ثم أكل. ونظر عداس دهشا، وقال: هذا كلام لا يقوله أهل هذه البلاد! فسأله محمد عن بلده ودينه، فلما علم أنه نصراني من نينوى قال له: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فسأله عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال محمد: ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي. فأكب عداس على محمد يقبل رأسه ويديه وقدميه. وعجب ابنا ربيعة لما رأيا وإن لم يصرفهما ذلك عن دينهما، ولم يمنعهما من التحدث إلى عداس حين عاد إليهما يقولان: يا عداس، لا يصرفنك هذا الرجل عن دينك فهو خير من دينه.

وكأن ما أصاب محمدا من أذى خفف من سخط ثقيف وإن لم يغير من جمودهم عن متابعته. وعرفت قريش الأمر فازدادت لمحمد إيذاء، فلم يصرفه ذلك عن الدعوة إلى دين الله. وجعل يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب يدعوهم إلى الحق، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه. غير أن عمه عبد العزى بن عبد المطلب أبا لهب لم يكن يدعه، بل كان يتبعه أينما ذهب ويحرض الناس ألا يستمعوا له. ولم يكتف محمد بعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج بمكة، بل أتى كندة في منازلها، وأتى كلبا في منازلها، وأتى بني حنيفة وبني عامر بن صعصعة، فلم يسمع منهم أحد. وردوه جميعا ردا غير جميل، بل رده بنو حنيفة ردا قبيحا. أما بنو عامر فطمعوا إذا هو انتصر بهم أن يكون لهم الأمر من بعده. فلما قال لهم: إن الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء لووا عنه وجوههم وردوه كما رده غيرهم.

هل أصرت هذه القبائل على عناد محمد لمثل الأسباب التي أصرت قريش من أجلها على عناده؟ لقد رأيت بني عامر وكيف كانوا يطمعون في الملك إذا هم انتصروا وإياه. أما ثقيف فكان لها رأي آخر. فالطائف فضلا عن أنها كانت مصيف أهل مكة لجمال جوها وحلو أعنابها، قد كانت مستقر عبادة اللات، وكان لها هناك صنم يعبد ويحج إليه. فلو أن ثقيفا تابعت محمدا لفقدت اللات مكانتها، ولقامت بينها وبين قريش خصومة تترك لا ريب أثرها الاقتصادي في موسم الاصطياف. وكذلك كانت لكل قبيلة علة محلية اقتصادية كانت أقوى أثرا في إعراضها عن الإسلام من تعلقها بدينها ودين آبائها وبعبادة أصنامها.

زاد عناد هذه القبائل محمدا عزلة، كما زاده إمعان قريش في أذى أصحابه ألما وهما. وانقضى زمن الحداد على خديجة، ففكر في أن يتزوج؛ لعله يجد في زوجه من العزاء ما كانت خديجة تأسو به جراحه. على أنه رأى أن يزيد الأواصر بينه وبين السابقين إلى الإسلام متانة وقربى؛ فخطب إلى أبي بكر ابنته عائشة. ولما كانت لا تزال طفلة في السابعة من عمرها عقد عليها ولم يبن بها إلا بعد سنتين حين بلغت التاسعة. وفي هذه الأثناء تزوج من سودة أرملة أحد المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة وعادوا إلى مكة وماتوا بها. وأحسب القارئ يلمح ما في هاتين الصلتين من معنى يزداد وضوحا من بعد في صلات زواج محمد ومصاهرته.

অজানা পৃষ্ঠা