وأقام محمد في الصحراء سنتين ترضعه حليمة وتحضنه ابنتها الشيماء؛ ويجد هو في هواء الصحراء وخشونة عيش البادية ما يسرع به إلى النمو ويزيد في وسامة خلقه وحسن تكوينه. فلما أتم سنتيه وآن فصاله ذهبت به حليمة إلى أمه ثم عادت به إلى البادية، رغبة من أمه، في رواية، ومن حليمة في رواية أخرى؛ عادت به حتى يغلظ، وخوفا عليه من وباء مكة. وأقام الطفل بالصحراء سنتين أخريين يمرح في جو باديتها الصحو الطلق لا يعرف قيدا من قيود الروح ولا من قيود المادة.
في هذه الفترة وقبل أن يبلغ الثالثة تقع الرواية التي يقصونها من أنه كان مع أخيه الطفل من سنه في بهم لأهله خلف بيوتهم؛ إذ عاد أخوه الطفل السعدي يعدو ويقول لأبيه وأمه: ذلك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه فشقا بطنه، فهما يسوطانه.
1
ويروى عن حليمة أنها قالت عن نفسها وزوجها: «فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدناه قائما ممتقعا وجهه، فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا له: ما لك يا بني؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني فشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لم أدر ما هو.» ورجعت حليمة ورجع أبوه إلى خبائهما. وخشي الرجل أن يكون الغلام أصابته الجن، فاحتملاه إلى أمه بمكة. ويروي ابن إسحاق في هذه الواقعة حديثا عن النبي بعد بعثه، لكن ابن إسحاق يحتاط بعد أن يقص هذه القصة ويذكر أن السبب في رده إلى أمه لم يكن حكاية الملكين وإنما كان - على ما روته حليمة لآمنة - أن نفرا من نصارى الحبشة رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه، فنظروا إليه وسألوها عنه وقلبوه ثم قالوا: لنأخذن هذا الغلام فلنذهب به إلى ملكنا وبلدنا؛ فإن هذا غلام كائن له شأن نحن نعرف أمره. ولم تكد حليمة تنفلت به منهم. وكذلك يرويها الطبري، لكنه يحيطها بالريبة؛ إذ يذكرها في هذه السنة من حياة محمد، ثم يعود فيذكر أنها وقعت قبيل البعث وسنه أربعون سنة.
لا يطمئن المستشرقون ولا يطمئن جماعة من المسلمين كذلك إلى قصة الملكين هذه ويرونها ضعيفة السند. فالذي رأى الرجلين في رواية كتاب السيرة إنما هو طفل لا يزيد على سنتين إلا قليلا، وكانت كذلك سن محمد يومئذ، والروايات تجمع على أن محمدا أقام ببني سعد إلى الخامسة من عمره، فلو كان هذا الحادث قد وقع وسنه سنتان ونصف سنة، ورجعت حليمة وزوجها إذ ذاك به إلى أمه، لكان في الروايتين تناقض غير مقبول؛ ولذلك يرى بعض الكتاب أنه عاد مع حليمة مرة ثالثة.
ولا يرضى المستشرق سير وليم موير أن يشير إلى قصة الرجلين في ثيابهما البيضاء، ويذكر أنه إن كانت حليمة وزوجها قد نبها لشيء أصاب الطفل فلعله نوبة عصبية أصابته، ولم يكن لها أن تؤذي صحته لحسن تكوينه، ولعل آخرين يقولون: إنه لم يكن في حاجة إلى من يشق بطنه أو صدره ما دام الله قد أعده من يوم خلقه لتلقي رسالته. ويرى درمنجم أن هذه القصة لا تستند إلى شيء غير ما يفهم من ظاهر الآيات:
ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك
2
وأن ما يشير القرآن إليه إنما هو عمل روحي بحت، والغاية منه تطهير هذا القلب وتنظيفه ليتلقى الرسالة القدسية خالصا ويؤديها مخلصا تماما الإخلاص محتملا عبء الرسالة المضني.
وإنما يدعو المستشرقين ويدعو المفكرين من المسلمين إلى هذا الموقف من ذلك الحديث أن حياة محمد كانت كلها إنسانية سامية، وأنه لم يلجأ في إثبات رسالته إلى ما لجأ إليه من سبقه من أصحاب الخوارق، وهم في هذا يجدون من المؤرخين العرب والمسلمين سندا حين ينكرون من حياة النبي العربي كل ما لا يدخل في معروف العقل، ويرون ما ورد من ذلك غير متفق مع ما دعا القرآن إليه من النظر في خلق الله، وأن سنة الله لن تجد لها تبديلا، غير متفق مع تعيير القرآن للمشركين أنهم لا يفقهون أن ليست لهم قلوب يعقلون بها.
অজানা পৃষ্ঠা