وتطل الأصنام بعيونها الحجرية على مجالس السمر هذه، وللسامرين فيها من الحماية أن جعلت الكعبة بيتا حراما ومكة بلد آمنا، وللأصنام على السامرين ألا يدخل مكة كتابي إلا أن يكون أجيرا لا يتحدث بشيء من أمر دينه ومن أمر كتابه؛ ولذلك لم تكن ثمة جاليات من اليهود كما كانت بيثرب، ولا من النصارى كما كانت بنجران. بل كانت كعبتها قدس أقداس الوثنية تحميها من كل مجدف في أمرها، وتحتمي بها من العدوان عليها. وكذلك استقلت مكة بنفسها كما كانت تستقل قبائل العرب بنفسها، ولا ترضى لغيرها عليها سلطانا، ولا ترضى من استقلالها بديلا ولا تعنى من الحياة بغير هذا الاستقلال في حمى أوثانها؛ لا تضار قبيلة قبيلة أخرى، ولا تفكر طائفة من القبائل في الارتباط لتكون جماعة قوية لها ما للروم أو للفرس من مطامع في السيادة والغزو، ومن ثم ظلت القبائل جميعا ولا كيان لها غير كيان البداوة تنتجع في ظلاله المرعى، وتعيش في كنفه عيشا خشنا، يحببه إليها ما فيه من استقلال وحرية وأنفة وفروسية.
وكانت منازل أهل مكة تحيط بدارة الكعبة، تقترب منها أو تبتعد عنها تبعا لما لكل أسرة وفخذ من جلال خطر وجليل مقام؛ فكان القرشيون أقربهم إليها دارا وأكثرهم بها اتصالا، كما كانت لهم سدانتها وسقاية زمزم وكل ألقاب التشريف الوثنية التي قامت في سبيلها حروب، وانعقدت من أجلها أحلاف، وضعت من أجلها بين القبائل معاهدات صلح كانت تحفظ في الكعبة تسجيلا لها، وإشهادا لآلهتهم على ما فيها حتى تنزل غضبها بمن يخل بتعهداتها. وفيما وراء منازل قريش كانت تجيء منازل القبائل التي تليها في الخطر، ثم تلي هذه منازل من دونهم، حتى تكون منازل العبيد والخلعاء المستهترين. وكان النصارى واليهود بمكة عبيدا. كما قدمنا، فكان مقامهم بهذه المنازل البعيدة عن الكعبة المتاخمة للصحراء؛ ولذلك كان ما يتحدثون به من قصص دينية عن النصرانية واليهودية بعيدا عن أن يتصل بسمع أمجاد قريش وأشراف أهل البلد الحرام. وأتاح لهم بعده أن يصموا دونه آذانهم. كما جعله بحيث لا يشغل بالهم، وهم قد كانوا يسمعون مثله أثناء رحلاتهم كلما مروا بدير من الأديار أو صومعة من الصوامع.
على أن ما بدأ يقال يومئذ عن نبي يظهر بين العرب قد أخذ يقض بعض المضاجع. ولقد عتب أبو سفيان يوما على أمية بن أبي الصلت كثرة تكريره لما يذكره الرهبان من هذا الأمر. وربما كان من حق أبي سفيان يومئذ أن يقول لصاحبه: إن هؤلاء الرهبان إنما يتحدثون من ذلك بما يتحدثون لأنهم في جهل من أمر دينهم. فهم في حاجة إلى نبي يدلهم عليه؛ أما ونحن نتخذ الأصنام ليقربونا إلى الله زلفى فلا حاجة بنا إلى شيء من هذا؛ ويجب علينا أن نحارب كل حديث من مثله. كان من حقه أن يقول هذا؛ لأنه في تعصبه لمكة ووثنيتها لم يكن يقدر أن ساعة الهدى بالباب، وأن نبوة محمد عليه السلام اقتربت، وأن من بلاد العرب الوثنية المتدابرة سيضيء العالم كله نور التوحيد وكلمة الحق.
وكان عبد الله بن عبد المطلب فتى وسيما جميل الطلعة. وكان أوانس مكة ونساؤها معجبات لذلك به، وزادهن به إعجابا حديث الفداء والمائة من الإبل التي لم يرض هبل بما دونها فداء له، لكن القدر كان قد أعد عبد الله لأكرم أبوة عرفها التاريخ، وأعد آمنة بنت وهب لتكون أما لابن عبد الله؛ لذلك تزوجها ولم تك إلا أشهر بعد زواجه منها حتى مات، لم ينجه من الموت فداء أيا كان نوعه. وبقيت آمنة من بعد لتلد محمدا ولتموت وما يزال طفلا.
ونضع أمام نظر القارئ رسما توضيحيا لشجرة النسب النبوي مبينا عليها أقرب التواريخ لميلاد أصحابها.
الفصل الثالث
محمد: من ميلاده إلى زواجه
(زواج عبد الله من آمنة - وفاة عبد الله - مولد محمد - رضاعه في بني سعد - قصة الملكين - مقامه خمس سنوات بالبادية - موت آمنة - كفالة عبد المطلب إياه - موت عبد المطلب - كفالة أبي طالب إياه - خروجه إلى الشام في الثانية عشرة من عمره - حرب الفجار - رعيه الغنم - خروجه في تجارة خديجة إلى الشام - زواجه بخديجة) ***
كان عبد المطلب قد جاوز السبعين أو ناهزها حين حاول أبرهة مهاجمة مكة وهدم البيت العتيق. وكان ابنه عبد الله في الرابعة والعشرين من سنه. فرأى أن يزوجه، فاختار له آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة سيد بني زهرة إذ ذاك سنا وشرفا. وخرج به حتى أتى منازل بني زهرة ودخل وإياه عند وهب وخطب إليه ابنته. ويذهب بعض المؤرخين إلى أنه إنما ذهب إلى أهيب عم آمنة؛ لأن أباها كان هلك وكانت هي في كفالة عمها. وفي اليوم الذي تزوج عبد الله فيه من آمنة تزوج عبد المطلب من ابنة عمها هالة، فأولدها حمزة عم النبي وضريبه في سنه.
وأقام عبد الله مع آمنة في بيت أهلها ثلاثة أيام، على عادة العرب حين يتم الزواج في بيت العروس. فلما انتقل وإياها إلى منازل بني عبد المطلب لم يقم معها طويلا، إذ خرج في تجارة إلى الشام، وتركها حاملا، وتختلف الروايات في أمر عبد الله وهل تزوج غير آمنة، وهل عرضت عليه نساء غيرها أنفسهن. والوقوف لتقصي أمثال هذه الروايات لا غناء فيه. وكل ما يمكن الاطمئنان إليه أن عبد الله كان شابا وسيما قويا؛ فلم يكن عجبا أن تطمع غير آمنة في الزواج منه. فلما بنى بها تقطعت بغيرها أسباب الأمل ولو إلى حين. ومن يدري، لعلهن قد انتظرن أوبته من رحلته إلى الشام ليكن زوجات له مع آمنة. ومكث عبد الله في رحلته هذه الأشهر التي يقتضيها الذهاب إلى غزة والعود منها، ثم عرج على أخواله بالمدينة يستريح عندهم من وعثاء السفر ليقوم بعد ذلك في قافلة إلى مكة؛ لكنه مرض عند أخواله فتركه رفاقه؛ حتى إذا بلغوا مكة أخبروا أباه بمرضه. ولم يلبث عبد المطلب حين سمع منهم أن أوفد الحارث أكبر بنيه إلى المدينة ليعود بأخيه بعد إبلاله. وعلم الحارث حين بلغ المدينة أن عبد الله مات ودفن بها بعد شهر من مسير القافلة إلى مكة، فرجع أدراجه ينعى أخاه إلى أهله ويثير من قلب عبد المطلب ومن قلب آمنة هما وشجنا، لفقد زوج كانت آمنة ترجو في حياته هناءة وسعادة. وكان عبد المطلب عليه حريصا حتى افتداه من آلهته فداء لم تسمع العرب من قبل بمثله.
অজানা পৃষ্ঠা