ولقد أثرت هذه الطبائع البدوية، إلى حد كبير، في البلاد القليلة الصغيرة التي نشأت في أنحاء شبه الجزيرة بسبب تجارة القوافل على نحو ما قدمناه، والتي يأوي إليها التجار يقطعون عندها متاعب رحلاتهم المضنية، ويجدون بها هياكل عبادة يشكرون فيها الآلهة أن منت عليهم بالنجاة من أخطار الفلوات، وأن جلبت تجارتهم سالمة إلى حيث وصلوا. من هذه البلاد مكة والطائف ويثرب، وأشباهها من الواحات المنتثرة بين الجبال أو خلال رمال الصحراء. تأثرت هذه البلاد بطبائع البادية؛ فكانت أقرب إلى البداوة منها إلى الحضارة في نظام قبائلها وطوائفها، وفي أخلاق أهلها وعاداتهم وفي شدة نفورهم من كل حد لحريتهم، وإن أكرهتهم حياة الاستقرار على نوع من الحياة غير ما اعتاد أهل البادية. وسترى شيئا من تفصيل ذلك عند الكلام في الفصول الآتية عن مكة وعن يثرب.
هذه البيئة الطبيعية وما ترتب عليها من هذه الأحوال الخلقية والسياسية والاجتماعية كان لها أثر مشابه في الحال الدينية. فهل تأثرت اليمن - بطبيعة اتصالها بمسيحية الروم ومجوسية الفرس - بهذين الدينين وأثرت بهما في سائر بلاد شبه الجزيرة؟ هذا ما يتبادر إلى الذهن؛ وهو كذلك بنوع خاص في أمر المسيحية. فالمبشرون بدين عيسى كان لهم في ذلك العصر ما لهم اليوم من نشاط في الدعوة إلى دينهم والتبشير به. وفي طبيعة حياة البادية من تحريك المعاني الدينية في النفس ما ليس في طبيعة حياة الحضر. في حياة البادية يتصل الإنسان بالكون ويحس لا نهاية الكون في مختلف صورها، ويشعر بضرورة تنظيم ما بينه وبين الوجود في لا نهايته . أما رجل الحاضر فمحجوب عن اللانهاية بمشاغله، محجوب عنها بحماية الجماعة إياه لقاء نزوله للجماعة عن جانب من حريته. وإذعانه لسلطان الحاكم كي ينال حمايته يقصر به عن الاتصال بما وراء الحاكم من القوى الطبيعية القوية الأثر في الحياة، ويضعف لذلك عنده روح الاتصال بعناصر الطبيعة المحيطة به. ولا شيء من ذلك يحول بين رجل البادية والمعاني الدينية التي تحركها حياة البادية في النفس.
ترى هل أفادت المسيحية الجمة النشاط منذ عصورها الأولى من هذه الظروف كلها في سبيل ذيوعها وانتشارها؟ ربما انتهى الأمر إلى ذلك لولا أمور أخرى حالت دونه، وأبقت بلاد العرب كلها واليمن معها على الوثنية دين آبائها وأجدادها، إلا قليلا كان من القبائل التي لانت للدعوة المسيحية.
فقد كانت أقوى مظاهر الحضارة العالمية في ذلك العصر تحيط، كما رأيت، بحوضي البحر الأبيض «بحر الروم» والبحر الأحمر «بحر القلزم». وكانت المسيحية واليهودية تتجاوران في ذلك المحيط تجاورا إلا يكن فيه عداء ظاهر فليست فيه مودة ظاهرة. وكان اليهود إلى يومئذ، كما لا يزالون، يذكرون ثورة عيسى بهم وخروجه على دينهم. فكانوا يعملون في الخفية ما استطاعوا لصد تيار المسيحية التي أخرجتهم من أرض المعاد، والتي استظلت بلواء الروم في إمبراطوريتها الفسيحة المترامية الأطراف. وكان لليهود في بلاد العرب جاليات كبيرة يقيم أكثرها في اليمن وفي يثرب.
ثم كانت مجوسية الفرس تقف في وجه القوات المسيحية حتى لا تعبر الفرات إلى فارس، وتؤيد بقوتها المعنوية أوضاع الوثنية حيثما وجدت الوثنية. وكان سقوط رومية وزوال سلطانها بعد انتقال عاصمة حضارة العالم إلى بزنطية وما تلا ذلك من بوادر التحلل، قد أكثر الشيع في المسيحية كثرة جعلتها - كما قدمنا - تتناحر وتقتتل وتهوي من عليا مراتب الإيمان إلى الجدل في الصور والألفاظ وفي مبلغ قدس مريم وتقدمها على ابنها المسيح أو تقدمه عليها. جدلا هو النذير أنى وجد بتدهور ما يجري في شأنه وما يحتدم من أجله؛ ذلك بأنه يذر اللب ويأخذ بالقشور، ويظل يكدس من هذه القشور فوق اللب ما يخفيه وما يجعل من المحال على الناس إدراكه أو اختراق حجب القشور إليه.
وقد كان ما يحتدم جدل نصارى الشام حوله غير ما يحتدم جدل أهل الحيرة أو أهل الحبشة حوله. ولم يكن اليهود بطبيعة صلتهم بالنصارى ليعملوا على تهدئة هذا الجدل أو التسكين من حدته. لذلك كان طبيعيا أن يظل العرب الذين يتصلون بنصارى الشام وبنصارى اليمن في رحلتي الشتاء والصيف وبمن يفدون عليهم من نصارى الحبشة بعيدين عن أن ينتصروا لفريق على فريق مطمئنين إلى وثنيتهم التي ولدوا فيها وتابعوا آباءهم عليها. ولذلك ظلت عبادة الأصنام مزدهرة عندهم، حتى امتد شيء من أثرها إلى جيرانهم نصارى نجران ويهود يثرب الذين تسامحوا في أمرها ثم احتملوها ثم اطمأنوا إليها، أن كانت من صلات التجارة الحسنة بينهم وبين هؤلاء العرب الذين يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى.
ولعل تناحر الفرق المسيحية لم يكن وحده السبب في إصرار العرب على وثنيتهم؛ فقد كانت الوثنيات المختلفة ما تزال لها بقايا في الأمم التي انتشرت المسيحية فيها. كانت الوثنية المصرية والوثنية الإغريقية ما تزالان تتبديان من خلال المذاهب المختلفة، ومن خلال بعض المذاهب المسيحية نفسها، وكانت مدرسة الإسكندرية وفلسفتها ما تزال ذات أثر، إن يكن أقل كثيرا مما كان في عهد البطالسة وفي أول العهد المسيحي، فقد كان على كل حال ما يزال متغلغلا في النفوس، وما يزال منطقه البراق المظهر، وإن يكن سفسطائي الجوهر، يغري الوثنية المتعددة الآلهة، القريبة بآلهتها إلى سلطان الإنسان، المحببة لذلك إليه. وأكبر ظني أن هذا هو ما يشد النفوس الضعيفة إلى الحرص على الوثنية في كل الأزمان، وفي زماننا هذا. فالنفوس الضعيفة أعجز من أن تسمو حتى تتصل بالوجود كله كيما تدرك وحدته ممثلة فيما هو أسمى من كل ما في الوجود، ممثلة في الله ذي الجلال. وهي لذلك تقف عند مظهر من مظاهر هذا الوجود كالشمس أو كالقمر أو كالنار، ثم تضعف عن السمو إلى تصور ما يدل هذا المظهر عليه من وحدة الوجود.
هذه النفوس الضعيفة تكتفي بوثن يتمثل لها في معنى مبهم وضيع من الوجود ووحدته ، فتتصل بهذا الوثن وتخلع عليه من صور التقديس ما لا نزال نراه في بلاد العالم جميعا، مع ما يزعم هذا العالم من تقدم في العلم وسمو في الحضارة. من ذلك ما يراه الذين يزورون كنيسة القديس بطرس رومية؛ فهم يرون قدم التمثال المقام بها للقديس تبريها قبلات عباده المؤمنين، ثم تضطر الكنيسة إلى تغييرها كلما انبرت. وما نحسبنا ونحن نرى ذلك إلا نلتمس العذر لأولئك الذين لما يكن الله قد هداهم إلى الإيمان، والذين كانوا يرون تناحر جيرانهم النصارى وبقاء أوضاع الوثنية بينهم، حتى يقيمون على عبادة الأوثان التي كان يعبد آباؤهم. وكيف لا نعذرهم وهذه الأوضاع متأصلة في العالم باقية بقاء لم ينقطع حتى اليوم وما أحسبه ينقطع أبدا؛ بقاء يفسر هذه الوثنية التي يرتضيها المسلمون اليوم في دينهم، وهو الذي جاء حربا على الوثنية، وهو الذي قضى على كل عبادة غير عبادة الله ذي الجلال.
ولقد كانت للعرب في عبادة الأوثان أفانين شتى يصعب على باحث اليوم أن يحيط بها. فقد حطم النبي الأصنام وأمر أصحابه بتحطيمها حيثما ثقفوها؛ وتناهى المسلمون عن التحدث عنها بعد أن عفوا على آثارها وأزالوا من الوجود في التاريخ وفي الأدب كل ما يتصل بها. على أن ما ورد من ذكرها في القرآن وما تناقلته الروايات في القرن الثاني للهجرة عنها، بعد إذ أمن المسلمون فتنتها. ينبئ عما كان لها قبل الإسلام من جليل المكانة وما كانت عليه من مختلف الصور، ويدل على أنها كانت تتفاوت في درجات التقديس. وقد كان لكل قبيلة صنم تدين له بالعبادة. وكانت هذه المعبودات الجاهلية تختلف ما بين الصنم والوثن والنصب؛ فالصنم ما كان على شكل الإنسان من معدن أو خشب والوثن ما كان على شكله من حجر. أما النصب فصخرة ليست لها صورة معينة، تجرى عليها قبيلة من القبائل أوضاع العبادة، لما تزعمه من أصلها السماوي أن كانت حجرا بركانيا أو ما يشبهه. ولعل أدق الأصنام صنعا ما كان لأهل اليمن. ولا عجب فحظهم من الحضارة لم يعرف أهل الحجاز ولا عرفه أهل نجد وكندة. على أن كتب الأصنام لا تشير بالدقة إلى شيء من صور هذه الأصنام إلا ما قيل عن هبل من أنه كان من العقيق على صورة الإنسان، وأن ذراعه كسرت فأبدله القرشيون منها ذراعا من ذهب. وهبل كان كبير آلهة العرب وساكن الكعبة بمكة، فكان الناس يحجون إليه من كل فج عميق.
ولم يكن العرب ليكتفوا بهذه الأصنام الكبرى يقدمون إليها صلواتهم وقرابينهم، بل كان أكثرهم يتخذ له صنما أو نصبا في بيته، يطوف به حين خروجه وساعة أوبته، ويأخذه معه عند سفره إذا أذن له هذا الصنم في السفر.
অজানা পৃষ্ঠা