ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين .
3
وهو يجري في ذلك بالشيء الكثير. ثم إن الحجة لا تدفع علميا إلا إذا ذكرت ودونت بأمانة ودقة. ولقد قصدت من هذا الكتاب إلى البحث العلمي توخيا للحقيقة العلمية وحدها. وقصدت به إلى أن يقرأه المسلمون وغير المسلمين آملا أن أقنعهم جميعا بهذه الحقيقة العلمية. ولا تبلغ هذه الغاية إلا إذا كان الباحث نزيها في حرصه على الحقيقة، لا يتقيد باعتبار غير هذا الحرص، ولا يتردد في الاعتراف بالحق أيا كان مصدره.
كتب السيرة وكتب الحديث
ونعود إلى المأخذ الأول، الذي أخذه علي بعض المشتغلين بالعلوم الدينية الإسلامية في رفق ومجادلة بالتي هي أحسن. ذلك قولهم إنني لم آخذ بما سجلته كتب السيرة وكتب الحديث، ولم أنهج في التعبير عن مختلف الحوادث نهجها. ولقد كان يكفيني ردا على هذا أنني أجري في هذا البحث على الطريقة العلمية الحديثة وأكتبه بأسلوب العصر، وأنني أفعل ذلك لأنه الوسيلة الصالحة في نظر المعاصرين لكتابة التاريخ وغير التاريخ من العلوم والفنون. وما كان لي، وذلك شأني، أن أتقيد بنهج الكتب القديمة وأساليبها، وبين هذين وبين النهج والأساليب في عصرنا الحاضر بون عظيم، أيسره أن النقد في الكتب القديمة لم يكن مباحا بالقدر الذي يباح به اليوم، وأن كثرة الكتب القديمة كانت تكتب لغاية دينية تعبدية، على حين يتقيد كتاب العصر الحاضر بالنهج العلمي والنقد العلمي. كان يكفيني هذا تسويغا للطريقة التي عالجت بها بحثي ودفعا لكل اعتراض عليه، لكني رأيت من الخير أن أتبسط بعض الشيء في بيان الأسباب التي دعت المفكرين من أئمة المسلمين فيما مضى، وتدعوهم اليوم، كما تدعو كل باحث مدقق، إلى عدم الأخذ جزافا بكل ما ورد في كتب السيرة وفي كتب الحديث، وإلى التقيد بقواعد النقد العلمي تقيدا يعصم من الزلل ما استطاع الإنسان أن يعصم نفسه منه.
الخلاف بين هذه الكتب
وأول هذه الأسباب ما بين هذه الكتب من خلاف في رواية الكثير من الأمور المنسوبة إلى النبي العربي منذ مولده إلى وفاته؛ فقد لاحظ الذين درسوا هذه الكتب أن ما روته من أنباء الخوارق والمعجزات ومن كثير غيرها من الأنباء، كان يزيد وينقص دون مسوغ إلا اختلاف الأزمان التي وضعت هذه الكتب فيها. فقديمها أقل رواية للخوارق من متأخرها. وما ورد من الخوارق في الكتب القديمة أقل بعدا عن مقتضى العقل مما ورد في كتب المتأخرين. وهذه سيرة ابن هشام أقدم السير المعروفة اليوم تغفل كثيرا مما ذكره أبو الفداء في تاريخه، ومما ذكره القاضي عياض في كتاب الشفاء، ومما ذكر في كتب المتأخرين جميعا. وكذلك الشأن في كتب الحديث واختلافها؛ فبعضها يروي قصة من القصص، وبعضها يغفلها وبعضها يضعفها. فلا بد للباحث في هذه الكتب جميعا بحثا علميا أن يضع مقياسا يعرض عليه ما اختلفت فيه وما اتفقت عليه. فما صدقه هذا المقياس أقره الباحث، وما لم يصدقه وضعه موضع التمحيص إذا كان مما يقبل التمحيص.
وقد أخذ السلف بهذه الطريقة في بعض الأمور وأغفلوها في بعضها. من ذلك قصة الغرانيق التي تذهب إلى أن النبي لما ضاق ذرعا بسادات قريش تلا عليهم سوة النجم، حتى إذا بلغ منها قوله تعالى:
أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى
4
অজানা পৃষ্ঠা