হায়াত মাসিহ
حياة المسيح: في التاريخ وكشوف العصر الحديث
জনগুলি
واقترنت نحلة «إيزيس» المصرية بنحلة «مثرا» الفارسية في غزو بلاد الرومان واليونان، فسماها اليونان «ديمتر» ونحلوها صفتها المصرية، وهي صفة الأمومة الكبرى، أو صفة الطبيعة الأم، وكان عبادها يوحدون بينها وبين القمر، ويعتبرونها من ثم ربة البحر والملاحة، ويرسمون لها صورا جميلة تنم على الطهارة والحنان، وفي حضنها طفل رضيع يشع النور من وجهه رمز الأمومة والبر والبراءة، وكان كهانها يحلقون رءوسهم في الغرب محاكاة للكهنة المصريين، وكان لها بينهم عابدون وعابدات يسمونها حامية البيت والأسرة، ومن ثم شيوع عبادتها بين الرومان الذين اشتهروا بتقاليد الأسرة، وتقديس حقوق الآباء، ولا شك أن المراسم السرية التي تلازم نحلة إيزيس كان لها أثرها في تشويق الناس إلى انتحالها، كما كان لها مثل هذا الأثر في عبادة مثرا وما شابهها من العبادات.
وخرجت من مصر أيضا نحلة قوية على قلة عدد المنتمين إليها، وهي نحلة المتنطسين
Therapeuts
التي ذكرها الحكيم الإسكندري اليهودي فيلون، وقال إن أتباعها كانوا يجتمعون يوم السبت، ويتفرقون بعد ذلك في الصوامع؛ للتأمل والدراسة الفلسفية، ورياضة الروح والجسد، واسمهم اليوناني معناه الأساة أو المتنطسون، وأكثر صوامعهم كانت على مقربة من الإسكندرية حول بحيرة مريوط القديمة، ويظن بعض المؤرخين أن هؤلاء المتنطسين هم أساتذة النساك اليهود الذين يسمون الآسين أو الآسينيين، وأشرنا إليهم في الكلام على فرق اليهود.
ومما يلاحظ أن نحلة «أورفيوس» اليونانية لم يكن لها من الأشياع بين الرومان ما كان للنحل الشرقية الخالصة، ولعلهم كانوا يحسبون «الأسرار» الدينية اختصاصا للشرق القديم، ويرجعون إلى اليونان في مسائل الفلسفة والفن والخطابة، وبخاصة بعد أن تحولت الديانة «الأورفية» إلى ديانة شرقية تجري على سنة الشرق في التقشف والأخوة الروحية، وقد نشأت الأورفية اليونانية نشأة فنية، وقيل في وصف أورفيوس إنه كان يعزف على أوتاره، فيقبل عليه الوحش والنعم والطير، وتنسى ضراوتها وهي تصغى إليه، ثم أصبح التأليف بين الضواري والنعم رمزا إلى التأليف بين القلوب وانتزاع الشر من نفوس الأقوياء، وجاء عصر الميلاد، والأورفيون يدينون بالزهد والتقشف، ويحرمون اللحوم، ويلبسون الثياب البيض، ولا يذوقون الخمر إلا في مراسم القربان، واحتفظوا بعقيدة اليونان الأقدمين في أساطيرهم عن أورفيوس الفنان، فزعموا أنه يزور عالم الموتى ويعود منه، وجعلوا لهم موعدا يحزنون فيه على موته، وموعدا يحتفلون فيه ببعثه، وتشابه الاحتفال ببعثه، والاحتفال ببعث أدونيس إله الربيع، وكثيرا ما قيل في كتب المقابلة بين الأديان إن آتون الإله المصري، وأدونيس الإله اليوناني، وأدوناي بمعنى السيد أو الرب باللغة العبرية؛ أسماء عدة ترجع إلى مصدرها المصري القديم. •••
ومن الواضح أن هذه النحل التي كانت تصطفي الأعضاء والمريدين، وتحتفظ بالعبادات والرموز للصلوات السرية، لم تكن ديانات عامة تبشر الأمم كافة بظواهرها وخوافيها، وإنما كانت في جوهرها أشبه بالروابط والجماعات التي تضم إليها المشتغلين بغرض واحد، أو المتفقين في المزاج والعاطفة، وكانت أقرب إلى الجماعات الفنية الرياضية التي تقوم على تخير الأذواق، وتوحيد العلاقات بين الأشباه والنظراء، فكان طلابها جميعا من الشبان الذين يستطلعون حقائق حياتهم المجهولة، ويعتقدون أو يرجحون أن هذه الحقائق سر من أسرار العلم والدراية يهديهم إليه الحكماء المجربون المدربون، وكان لها طلاب من الكهول والشيوخ بطلت عقيدتهم في الشعائر العامة، فانصرفوا عنها إلى حيث يلتمسون الحقيقة، ويشعرون براحة الضمير، في جو من الألفة واتفاق المطالب النفسية والفكرية، فمن لم تكن هذه النحل عنده حلقات رياضية أو فنية، فهي عنده بمثابة الأندية التي تصون روادها من الأخلاط و«الأغيار»، ولا سيما الأغيار من ذوي الجهالة والإسفاف.
ولكن الدلالة الكبرى التي تتجمع من شيوع هذه النحل في عصر الميلاد أنها «أولا» علامة على طلب الاعتقاد، وإحساس المخلصين المستعدين للإيمان بما يحيط بهم من الخواء في جو التقاليد والمعتقدات.
وإنها «ثانيا» علامة على الوجهة العالمية التي أخذت تسري في أنحاء العالم المعمور، وتؤلف بين أبناء الأمم المختلفة في طلب العقائد الروحية؛ لأن هذه النحل السرية لم تكن مقصورة على أمة، ولم تكن محرمة على أحد من أجل جنسه وأصله، فكل من يفتح وجدانه لعقائدها وآدابها فهو مقبول فيها مرشح لدرجاتها من أدناها إلى أعلاها.
أما جماهير الشعوب فلم تكن تحفل كثيرا بهذه النحل الخاصة المقصورة على طلابها ومريديها، وكانت على دأبها سادرة في عاداتها ومألوفاتها، ولكنها لم تخل في هذه العادات والمألوفات من وجهة عالمية تنزع الفوارق بين أتباع الديانات المختلفة، وتضمهم جميعا بين حين وآخر إلى محافل الأعياد العامة التي تقام لهذا «الرب» أو لتلك «الربة»، أو تتردد في مواسم الطبيعة بصبغتها التي كانت تمتزج بالدين على عادة الأقدمين، وكانت سياسة الدولة الرومانية تساير هذا الشعور، بل تشجعه وتحض عليه، إذ كانت القاعدة الذهبية عند دهاقين السياسة من الرومان أن الشعوب لا تهتم بمن يسوسها متى وجدت الخبز، واللعب بين يديها، ومن اللعب الذي لا يكلف الدولة شيئا أن تفرح جماهير العامة بالأعياد وتتسابق في المواسم والموالد وتصبغها كما تشاء بصبغة القداسة ، فذلك أسلم من التنازع والفتنة والصدام.
وجملة ما يقال عن الحياة الدينية يومئذ في العالم المعمور أنها كانت حياة تقليد أو حياة تطلع ورغبة في الاعتقاد عن بحث وبينة؛ أنفة من عقائد التقليد، وأنها كانت تجري في مجراها إلى «العالمية» التي تعم الناس، ولا تخص كل أمة بعقيدتها على حسب جنسها وأصلها، وأهم من هذه العالمية في النحل والمحافل «عالمية» في اللغة والثقافة حطمت أقوى الحواجز التي كانت قائمة قبل ذلك زهاء عشرة قرون؛ فقد كان العبرانيون يؤمنون أن العبرية هي لسان «يهوا» الذي يخاطب به الأنبياء، ويناجي به الكهان في المحاريب، فلم يلبثوا أن قبلوا الدعاء، واستمعوا إلى كتب الوحي باللغة الآرامية، وما يشابهها من اللهجات السريانية، ثم سمحت طائفة كبيرة منهم بترجمة التوراة إلى اللغة اليونانية في القرن الثاني قبل الميلاد، ثم استرسلت هذه الحركة إلى مداها في عصر الميلاد وما بعده، فكانت الآرامية هي اللغة التي بشر بها المسيح والتلاميذ، وكانت اليونانية هي لغة الأناجيل، وكانت السريانية لغة التوراة والإنجيل معا، ولما ينقض أكثر من قرن واحد على مولد السيد المسيح. •••
অজানা পৃষ্ঠা