নতুন বিশ্বে চিন্তার জীবন
حياة الفكر في العالم الجديد
জনগুলি
خذ قطعة من الورق، أو خذ ريشة ومر بها على أي جزء تشاء من أجزاء جسدك، تجد لها - أينما مررت بها - صفة الحركة؛ بحيث لا تتغير هذه الصفة في طبيعتها بتغير الموضع الذي تتحرك فيه، لكن ضع الورقة أو الريشة بين عينيك أو في خياشيم أنفك، تثر فيك دغدغة لم تكن تحسها حين كنت تحركها على أجزاء جسدك الأخرى، وبديهي أن هذه الدغدغة فيك أنت وليست في الورقة أو الريشة. وأعود إلى فكرتي الأولى، فأقول: إن من الصفات التي ننسبها للأشياء ما لا يكون في الأشياء نفسها، بل يكون فينا نحن حين ندرك تلك الأشياء، ومن هذه الصفات صفة الحرارة، فالجسم الذي يحدث فينا الإحساس بالحرارة - وهو النار - ليس هو في حقيقته إلا عدد كبير من جسيمات ذوات أشكال معينة، تتحرك بسرعات معينة، ولو أزيل جسم الإنسان بحواسه، لما كانت الحرارة إلا لفظا بغير مدلول.»
للأشياء إذن نوعان من الصفات: صفات فيها وتكون جزءا من طبيعتها، وصفات نحسها نحن، وليست جزءا من طبيعتها، الأولى كالشكل والحجم، والثانية كالألوان والطعوم، وسؤالنا الآن هو هذا: ما العلاقة بين الأشياء المادية التي تقع في المكان والزمان المطلقين الخارجيين الرياضيين العامين، وبين الصفات النسبية الذاتية التي يكونها الإنسان بحواسه عند إدراكه للأشياء، دون أن تكون تلك الصفات جزءا من طبائع تلك الأشياء؟ بعبارة أخرى: ما العلاقة بين الإنسان والطبيعة؟
إنه سؤال سرعان ما يسوقنا إلى سؤال آخر، وهو: ما طبيعة الإنسان، هذا الذي يخلق عالمه بنفسه ولنفسه، ألم نقل إن علم الطبيعة النيوتوني قد فرق بين عالمين: فمن جهة هنالك العالم الطبيعي الخارجي ذو القوانين الرياضية، الذي لا يتأثر بالناس وإدراكهم، ومن جهة أخرى هناك العالم الذاتي الإدراكي المحس، الذي يخلق الصفات خلقا من عنده، ثم يخلعها على الأشياء، فيعطيها لونا وهي بغير لون، وطعما وهي بغير طعم، ورائحة وهي بغير رائحة وهلم جرا؟ إن كان الدفء الذي يحسه الإنسان هو فيه لا في الشمس التي تحدثه، وأريج الزهرة الذي يشمه الإنسان هو فيه لا في الزهرة التي تبعثه، ولون البرتقالة الذي يبصره الإنسان هو فيه لا في البرتقالة التي تسببه، فلنا إذن أن نسأل: ما طبيعة الإنسان؟ نعم إنه سؤال لا يهم علم الطبيعة، بل يهم عالم النفس والفيلسوف، غير أن علم الطبيعة يلقي ضوءا يعين على الجواب.
لو كان الإنسان ذرات مادية فقط - هكذا قال «جون لوك» - لما كان العالمان اللذان قال عنهما جاليليو ونيوتن، ولكان هناك العالم المادي الموضوعي الخارجي الرياضي وحده؛ إذ لو كان الإنسان كومة من ذرات مادية، شأنه في ذلك شأن سائر الأشياء، فمن أين - إذن - تأتي الصفات الذاتية كالألوان والروائح والطعوم، التي قال عنها جاليليو ونيوتن إنها لا تكون في الأشياء الخارجية؟ لا بد أن يكون الإنسان مغايرا في طبيعته لطبائع تلك الأشياء المادية؛ بحيث إذا تأثرت طبيعته بطبائع الأشياء المادية، أحدث هذا التأثر الصفات التي قيل عنها إنها تكون في الإنسان، ولا تكون في عالم الأشياء، فإن قلنا عن الشيء كما هو في الخارج إنه عنصر مادي، أفلا يجوز أن نقول عن الإنسان الذي يختلف بطبيعته عن طبائع الأشياء المادية، إنه عنصر عقلي؟ هكذا استخرج «لوك» النتيجة الحتمية التي تلزم عن علم الطبيعة النيوتوني، فكأنما «نيوتن» وهو يقوم بمشاهداته العلمية ليصل إلى قوانين الطبيعة المادية، كان كذلك - ضمنا - يثبت نظرية شعورية أخرى، وهي أن للإنسان عقلا يتأثر بالمؤثرات المادية فيخلق بعض الصفات التي يعود بدوره فيخلعها على عالم الأشياء.
وها هنا نضع أصابعنا على نقطة الارتكاز التي منها يبدأ الأساس الذي نبني عليه حق الأفراد في الحرية السياسية والدينية على السواء؛ فعلى هذه النقطة ترتكز نظرية «لوك» في الدولة وفي الكنيسة معا.
فلئن كان الإنسان عنصرا عقليا، بالقياس إلى دنيا الطبيعة التي قوامها عناصر مادية، إذن فالإنسان إنسان بعقله أو بروحه، لا بجسده؛ لأن الجسد هو كسائر الأشياء المادية عنصر مادي مثلها؛ فالجسم يتحرك - كما تتحرك بقية الأجسام - وفق قوانين الحركة التي استخلصها «نيوتن»، وهي قوانين لا تفرق بين أن يكون المتحرك حجرا أو جسما حيا، أما العقل فعنصر مختلف، لا تسري عليه ما يسري على المادة من قوانين الحركة، فإن قلنا - مثلا - إن الإنسان الفلاني يملك كذا وكذا من الأشياء، كان المعنى الصحيح لقولنا هو أنه يملك هذه الأشياء بعنصره العقلي، أما جسمه فلا يملك شيئا، بل جسمه هو نفسه من بين الأشياء الممتلكة كقطعة الأرض التي يفلحها والدار التي يسكنها؛ وهكذا يكون الفرد من الناس واحدا بعنصره العقلي، لكن ممتلكاته كثيرة.
هذا العنصر العقلي وحده، الفريد في نوعه بالنسبة إلى ما يحيط به من أشياء مادية، هو عنصر أولي بسيط التكوين لا يتجزأ، ولا يتحلل كما هو الشأن في الشيء المادي؛ ولهذا استحال فساده وتحلله بعد الموت؛ الموت يتناول الجسد وحده، وأما الروح فخالد لا يموت، وواضح أن الدين إنما يعنيه هذا العنصر من الإنسان، هذا العنصر العقلي المتفرد البسيط غير المتحلل، الذي يكتفي بذاته ويستقل بوجوده إذا شاء؛ لأن وجوده لا يتوقف على وجود أي شيء مادي، بل لا يتوقف على وجود أي عنصر عقلي آخر؛ فسواء أكان في العالم سواي من أفراد البشر أم لم يكن فلن يؤثر ذلك في وجود عنصري العقلي، بل سيظل هناك في روحانيته ووعيه لما يدور من حوله، وها هنا ندرك لماذا وبأي معنى يقول «جون لوك» إن الدين فردي خاص، معينه في نفسي، وأستنبطه من ذات نفسي، ويستحيل على إنسان آخر في الدنيا بأسرها أن يهديني في الدين سراطا مستقيما إذا لم تهدني نفسي؛ إن الاتصال بيني وبين سائر الناس، وبيني وبين الطبيعة إنما يكون بواسطة الجسد وما فيه من حواس، أما العنصر العقلي في داخلي فهو كائن قائم بذاته، يشعر بنفسه، ويوحي لنفسه، وهو الهادي وهو المهتدي؛ يقول «جون لوك» في رسالته عن التسامح: «إن الطريق الضيق الذي لا طريق سواه، والذي يؤدي إلى السماء، لا يعرفه القاضي بأفضل مما يعرفه كل إنسان لنفسه؛ لذلك لا أستطيع أن أتخذ من هذا القاضي - وأنا مطمئن - هاديا يهديني؛ لأنه قد يكون على جهل بالطريق مثل جهلي، واليقين هو أنه أقل اهتماما بنجاتي مني بنجاة نفسي ... لهذا كان روح الفرد من شأن صاحبه وحده دون سواه، ولا بد أن يترك وشأنه فيه.»
6
هكذا يكون الإنسان الفرد وحده دون سواه مسئولا عن عنصره العقلي، يستوحيه وينصت إليه في إملاء عقيدته، وصواب العقيدة مرهون بما يمليه العنصر العقلي ولا دخل لأحد سواه في الأمر؛ فأنت أنت الذي يحكم بصواب عقيدتك أو ضلالها، ولا يكون بالاحتكام إلى سواك يفتيك في أمر عقيدتك ما يجوز فيها وما لا يجوز؛ فانظر إلى هذه النتيجة البعيدة المدى كيف استنبطت استنباطا من علم الطبيعة النيوتوني، انظر كيف انتهت بنا التفرقة بين الطبيعة من جهة وإدراك الإنسان لها من جهة أخرى، إلى الاعتراف بالضمير الإنساني مشرعا لصاحبه وحكما له في صوابه وضلاله، وبهذا الأساس للتسامح الديني كما يريده «لوك» إذ كيف تتدخل في عقيدة سواك وله ضميره ولك ضميرك؟ كيف يجوز للسلطان المدني أن يتدخل في عقيدة أي فرد من الأفراد مع أن لهذا الفرد عنصرا عقليا خاصا به لا يشركه فيه إنسان آخر سفل أو علا؟ بل لا يجوز أن يقال للفرد إن كذا وكذا من أمر العقيدة الدينية هو رأي الأغلبية فاتبعه؛ لأن آراء الآخرين وإن عدت بالألوف لا تغير من الأمر شيئا.
وننتقل من الدين إلى السياسة، فنجد النتيجة عينها، أنه إذا استحالت الصلة بين روح وروح، بين عنصر عقلي في فرد، وعنصر عقلي آخر في فرد آخر، إذا استحالت الصلة بينهما، بحكم أن الصلة تكون تماسا في المكان، والعنصر العقلي بغير مكان، كان المجتمع المدني - كالمجتمع الديني - قوامه أفراد مستقل بعضهم عن بعض، كل فرد منهم وحدة قائمة بذاتها، يمكن أن تقوم وحدها، حتى ولو انعدم الآخرون جميعا ، وجود الفرد لا يعتمد على أي وجود آخر، إذن فمن ذا الذي يحق له أن يشرع لهذا الروح الفرد غير نفسه؟ إذا كانت شريعة العقيدة الدينية نفسها - كما رأينا - لا بد أن تنبع من ذات الفرد، وإذا كانت قوانين الطبيعة لا تسري على العناصر العقلية سريانها على العناصر المادية كما قرر «نيوتن» في علمه عن الطبيعة، فما بالك بالقوانين المدنية يضعها فرد مثلك أو أفراد؟ والنتيجة التي تنتج عن هذا كله هي أن القوانين المدنية عرف يتفق عليه الأفراد، ولا يجوز أبدا أن تفرض عليهم من الخارج فرضا بغض النظر عن رضاهم، القانون المدني سنده الوحيد هو قبول العنصر العقلي في الإنسان، ولما كان كل عنصر عقلي فردا مستقلا عن زميله، كانت أغلبية الآراء هنا هي السند الذي يستند إليه القانون المدني، وهكذا يبنى المجتمع بموافقة أعضائه فردا فردا، إذ ليس الفرد الواحد حجة على زميله.
অজানা পৃষ্ঠা