নতুন বিশ্বে চিন্তার জীবন
حياة الفكر في العالم الجديد
জনগুলি
ليس حق الفرد في الثورة على حكومته بقاصر على المقاومة الإيجابية، بل هو كذلك في المقاومة السلبية، في رفض الولاء للحكومة، فإذا حفزك ضميرك إلى الخروج على طاعة حكومتك، فلا يتحتم عليك أن تنتظر حتى يوافقك جيرانك على موقفك لتتكون منكم أغلبية تستطيع بقوتها أن تسقط الحكومة، بل عليك بالبدء بنفسك، ففيم انتظارك من يؤيدونك من الناس إذا كان الله - متمثلا في صوت ضميرك - إلى جانبك يؤيدك؟ هذا إلى أنه إذا كان الصواب في جانبك، فصواب واحد هو الأغلبية بالقياس إلى الكثرة المخطئة، لا عجب أن تصبح رسالة «ثورو» في العصيان المدني من الكتب الرئيسية التي أعجب بها المهاتما غاندي حين أعلن مثل هذا العصيان في الهند على حكومة المستعمر.
إن تطور التاريخ السياسي ليشهد في جلاء على أن الفرد يزداد وزنا وأهمية، فمن الملكية المطلقة المستبدة التي تغرق الأفراد في طغيانها إغراقا، تقدمت المدنية نحو ملكية مقيدة بإرادة الأفراد، ثم إلى ديمقراطية جمهورية كالتي كانت قائمة في الولايات المتحدة عندما كتب «ثورو»، لكن هذه الخطوة الأخيرة - على تقدمها في نظام الحكم والاعتراف بقيمة الفرد - لم تكن تشبع «ثورو» ولا تحقق له مثله الأعلى، إنما المثل الأعلى هو الذي يجعل كل فرد سيادة مستقلة، في مستطاعه أن ينشق عليها فلا يتدخل في أمورها، ولا هي تحرجه وتضيق عليه حر المسالك، وكلما ازداد عدد هؤلاء الأفراد الذين يستقلون عن الحكومة، ويحسنون التصرف نحو جيرانهم من تلقاء أنفسهم وبغير إلزام من القانون يزداد الطريق تمهيدا نحو تحقيق المثل الأعلى الذي هو زوال الحكومة زوالا تاما.
وفيم حاجة الفرد إلى دولة ترعاه؟ ماذا عساها أن تعطيه مما ليس عنده؟ أليس أعز ما يملك الإنسان هو روحه؟ ثم أليس الروح ملكا خاصا لا تضيف إليه الدولة شيئا، ولا تستطيع أن تنتقص منه شيئا؟ الروح المستقل بذاته لا يخشى على نفسه خطرا؛ وبالتالي فهو لا يحس الحاجة إلى دولة تقيه الخطر، إن مثل هذه الحرية الروحية تنبع من النفس، ولا تأتي من الخارج، إنها صناعة الفرد نفسه وليست هي بما يحتاج إلى جماعة ليتم تكوينها، إن كانت حاجتي إلى الدولة هي أن تيسر لي العمل والتجارة، فتلك حسنة لا أبيع حريتي واستقلالي في سبيلها، إن من يطيع الدولة الظالمة من أجل حسناتها المادية عبد رقيق يبيع روحه بمال وسلعة، أمن الحكمة أن أنتظر المشرعين في دور الحكومة في العاصمة أن يسنوا لي شريعة حياتي وحريتي مع أنهم هم العبيد الذين اشتروا الضلال بالهدى إذا اشتروا المناصب والمراكز بالأنفس والأرواح؟ كلا، فأنا المشرع لنفسي، ولا مشرع لها سواي.
وكسائر المتصوفة في شتى العصور، وفي مختلف الشعوب نبذ «ثورو» بصوفيته زخرف الدنيا وزينتها، فلا المال يغنيه ولا الجاه يغريه، وحسبه من الحياة روح فذ فريد يتصل بنفسه وبربه، وللحريصين على الذهب والفضة أن يذلوا أعناقهم لواهب الذهب والفضة، ثم كسائر المتصوفة في شتى العصور، وفي مختلف الشعوب، لم يكفه أن يتجرد من حاجات الدنيا العابرة ليلوذ بنفسه وينجو، بل أراد بعد ذلك، وفوق ذلك أن يتجرد من نفسه ذاتها؛ لينظر إليها كما ينظر إلى نفس غريبة عنه، وعندئذ يبلغ الغاية من الإمساك بزمامها «ألا ما أصلحها حكومة للفرد أن يحكم نفسه» وإنما يستطيع ذلك الحكم الذاتي من استطاع أن ينسلخ عن ذاته ليرى أحداثها وخبراتها كأنما هو ينظر إلى مسرح، وهل من شك في أنني مهما اندمجت في مشاعري فلا أزال أحس بين جنبي جزءا مني يقف موقف المتفرج الناقد؟ إذن فهذا الجزء مني وليس مني، إنه جزء من «أنا» وكأنه جزء من «أنت» يشهد في باطني مسرحية حياتي.
34
هكذا لبثت الفردية الاستقلالية تدفع «ثورو» حتى انعزل بها عن الناس انعزالا، فظنه الناس حالما شذ برأيه عن مألوف المجتمع، ولو استثنينا مقالته عن العصيان المدني، لكانت بقية كتابته أبعد ما تكون الكتابة عن التنسيق والتبويب، إنه لينثر أفكاره نثرا حسب ورودها على خاطره، ومع ذلك فقد أدلى بالرأي الناضج فيما يشغل المفكرين في يومه - وإلى يومنا - من أمهات المسائل، وجاءت مذكراته تلك التي كتبها متناثرة على مدى اثنين وعشرين عاما، من الغزارة بحيث امتلأ بها أربعة عشر مجلدا، فيها ما يشتهي القارئ من رأي وحكمة؛ فيها رأيه في الطبيعة وما يدبرها من عقل حكيم، ورأيه في الزمن وتغير الأشياء، وفي المعرفة مصدرها وحدودها، وفي الجمال والفن، وفي الحق والباطل، وفي الخيال والواقع، وفي مشكلة الأخلاق وحرية الإرادة وجبرها، وفي العواطف الإنسانية وما تؤدي إليه من خير وشر، وفي المجتمع والدين، وفي القانون والعدالة، وفي الحياة والموت والآخرة.
ولكن أنى لهذا الشاعر الفيلسوف تلك الثروة الفكرية الغزيرة؟ إنه لم يستمدها من الكتب، ولم يستعبد نفسه لشخصيات الأعلام من السالفين، نعم لقد طالع الأدب اليوناني والروماني وقرأ الشعراء الإنجليز، فضلا عما عرفه من معاصره وصديقه وأستاذه «إمرسن»، ولكن أين يقع هذا كله مما أنتج؟ إن مصدره الأول الأعظم هو سفر الكون العظيم، هو هذا الريف الجميل الذي كان له فتنة وسحرا؛ فقد أراد أن يتعقب سر الوجود في خدره ومكمنه، إن هذه الكائنات من حوله لأنغام لأنشودة خافية عن الآذان، سافرة لذوي الشعور الحي الملتهب، فليقصد إلى هذا النشيد في مصدره ومبعثه، لقد خلبه جمال الحياة وسرها، حزنها وسرورها، جهلها وحكمتها، خيرها وشرها، حياتها وموتها، فهو عليل هده المرض، ولكنه مع ذلك يأبى أن يؤمن بما ينتظره من فناء، وكيف يفنى وهو الذي علمه التأمل في خلق السموات والأرض أنه جزء من تلك القوة الروحية العليا التي خلقت العالم وأبدعته؟
وههنا نضع إصبعنا على محور فلسفته ولباب فكره، كما أنه محور الفلسفة المثالية كلها متمثلة في معاصريه من زملائه، فهذه الظواهر التي تدركها الحواس رموز تصيح بأن وراءها قوة فعالة مدبرة، والوسيلة إلى إدراكها هي الحدس أو العيان الروحي المباشر، فلئن كان العلم بمشاهداته وتجاربه يحصر نفسه في الظواهر واطرادها، فالفلسفة والشعر ينفذان خلال الظواهر بقوة الحدس، فيريان الحقيقة العليا الواحدة الأزلية الأبدية، ماذا يريد العلم حين يعالج ظواهر الوجود؟ يريد شيئا واحدا، ما يزال - ولن يزال إلى آخر الأبد - يجد في تحصيله، وذاك أن يصف اطراد الظواهر ليصوغ قوانين اطرادها، إن العلم ليسأل: كيف يحدث هذا الذي أرى؟ ثم ينطلق باحثا عن جواب ما سأل، أما إن أردت أن تعرف «لماذا» يقع في الطبيعة ما يقع فسل غير العلم والعلماء، سل الفيلسوف أو الشاعر «لماذا» يجبك الشاعر أو الفيلسوف، قل للعلم: ما الإنسان، ولم كان؟ يزعم لك أن الإنسان آلة من مادة تسيرها مؤثرات البيئة فتسير، أما الفلسفة المثالية، وإن شئت فقل الشعور الفياض والحدس الصافي - كما تراهما في «إمرسن» وفي «ثورو» - فترى أن وراء هذه الظواهر التي يقف عندها العلم، قوة عليا توجه ما في الكون من مادة وطاقة إلى ما ينبغي لها أن تكون.
إن «ثورو» - مثل «إمرسن» - يرى أن الحياة بكل ضروبها تسيرها نواميس معلومة مرسومة تشمل بسلطانها كل شيء، ولكنه يأبى أن يصف تلك النواميس بالآلية العمياء؛ لأنه يؤمن أنها شاعرة بما تفعل، ويشرف على فعلها قوة عليا تسع كل موجود في الوجود، فليست تلك القوة خالقة لما في الكون وكفى، بل إنها لا تنفك مدبرة له ومنظمة.
انظر إلى «ثورو» وقد ارتقى قمة الجبل يرقب السماء وأفلاكها، والأرض وأشجارها، ويلحظ الأطيار سابحة في الفضاء وصنوف الحيوان ساعية رائحة غادية، فيحتدم في صدره الشعور القوي بوجود ذلك الروح الأعلى الذي يعرف كل شيء؛ لأنه خلق كل شيء، بل هو هو كل شيء! ولقد شهد على مسرح الطبيعة - فيما شهد - المعارك الحامية تنشب بين طوائف النمل، ورأى أمهات الحيوان تقذف بصغارها للكلاب العادية وراءها لتنجو بنفسها، ولكنه رغم هذا الجانب المعتم القاتم من الحياة يصيح قائلا: «ومع ذلك فإني أومن بحكمتك يا رباه!»
অজানা পৃষ্ঠা