وجاء تشخيص ستوكه للعلة مطابقا تشخيص أوميرا، بل زاد عليه أن المناخ هو العامل الأكبر في مرض الجنرال بونابرت، فكان هذا الاعتراف شكوى صارخة ضد الحكومة الإنكليزية عادت عليه بسوء المغبة؛ إذ أرسل له الأميرال بمغادرة الجزيرة حالا والمثول أمام محكمة عسكرية.
وكانت التهم الموجهة إلى الطبيب ستوكه عشرا، منها أنه تحدث مع الجنرال وحاشيته فيما هو خارج عن موضوع الطب، وأنه في تقريره الأول سمى الجنرال بغير ما تقرر تسميته به فدعاه «المريض» في حين لم يكن هدسون لو يعترف بمرضه، وبعد مرافعة أربعة أيام حكم على ستوكه بشطب اسمه من البحرية وإنزال معاشه إلى 2500 فرنك في العام، ولكن نابوليون كان قد نفحه من قبل بما رأى فيه التعويض الكافي، فضلا عما وقفته له الوالدة وبعض أعضاء الأسرة الإمبراطورية.
وقد جاء هذا الحكم مثبطا للعزائم ونذيرا لكل طبيب يريد أن يحافظ على الذمة والضمير، فإما أن يقول الحقيقة فيتعرض لغضب الحاكم وانتقامه، أو يعلن أن بونابرت ليس مريضا وإذن فلا حاجة إلى معالجته.
وغضب مندوب النمسا وروسيا لهذه المعاملة، فاحتجا بشدة، وأنذرا الحاكم أنه إذا قضى الإمبراطور نحبه فهما لا يتحملان تبعة ما ينتج عن ذلك من القيل والقال.
كل هذا وهدسون لو باق على عناده واعتقاده، فلا يحيد قيد شعرة عن الخطة التي اختطها لنفسه في معاملة أسيره فاتحا بتصرفه بابا واسعا للأخبار الكاذبة والإشاعات التي ما أنزل الله بها من سلطان، فكان سكان الجزيرة يقولون تارة: إن نابوليون صار راعيا واشترى أجمل الأغنام وهو يتسلى بإطعامها بيده، وقد وضع في أعناقها أجراسا كي لا تضيع بين الصخور. وطورا: إنه يخرج للتنزه في لباس الصباح وعلى رأسه عمامة حمراء وفي يمناه عصا البلياردو وفي يسراه نظارة تقرب الأبعاد، والويل لمن يجسر أن يدعي أنه عليل.
وبقيت مسألة طبيبه مشكلة المشاكل، وكلما عرض الحاكم واحدا رفض نابوليون مقابلته إلى أن جاء الجزيرة الدكتور أنتومارشي موفدا من قبل الوالدة وعمه الكردينال.
جاء أنتومارشي فكانت زيارته الأولى للحاكم الذي أحسن استقباله وانتهز الفرصة لإقناعه أن مرض السجين ليس إلا خداعا، وقد كفت هذه الزيارة ليجعل الإمبراطور ينظر إليه بغير عين الرضا، إلا أنه أغضى الطرف أخيرا عندما عرف أن في حقيبة أنتومارشي كتبا من تأليف أوميرا وفيها طعن بهدسون لو.
نابوليون في ساعة الموت (عن رسم صنع قبلا).
وساعد على الرضا تحسن صحته فجأة، فأخذ ينزل إلى الحديقة ويشتغل بيديه في غرس الأشجار وسقي الأزهار مسرورا بما تجلبه له هذه الرياضة من لهو الخاطر وتناسي الحاضر، فعادت إليه شهوة الأكل وانقشع عنه ضباب الأسى والسوداء، وخف أرقه وسكن هياجه، إلا أن ذلك لم يطل، فما عتم الداء أن أعاد الكرة عليه بشدة، وقوي الألم في معدته، وكان هذه المرة أشبه بطعن المدية، ولم تفد معالجته أنتومارشي، بل كانت تزيده تأججا بما كان يعطيه من المقيئات والمسهلات حتى صاح نابوليون الغوث من هذه الأدوية، وسأل طبيبه أن يبعد عنه كأسها القاتل، ولكن أنتومارشي لم يسمع شكواه، ولم يفهم وظل على غيه في وصفها وتدبيرها إلى أن تذكر نابوليون أن كورفيزار أشار عليه يوما في حال مثل هذه أن يستعمل الكي، فقال للطبيب في ذلك، ففضل هذا «الحراقة» على الكي، فقال له العليل المسكين: «ألا ترى إذن كفاية في تعذيب هدسون لي؟! فاعمل ما بدا لك.» ولكن أنتومارشي كان يجهل حتى طريقة وضع «الحراقة»، فلم يقطعها بالشكل الموافق، ولم يحلق الشعر في الموضع الذي اختاره لها، فلما عاد في اليوم التالي ليرى فعلها استقبله نابوليون باللوم والتقريع قائلا: «ليس من العدل أن يقضى عل مسكين مثلي بهذا الوجه! فأنت جاهل، وأنا أجهل منك لقبولي علاجك.»
وفي رأس عام 1821 أراد الإمبراطور أن يستقبل «هيئة بلاطه»، فلم يقو على ذلك، وجرب بعد ذلك ركوب الخيل فعاد بعد ساعتين منهوك القوى، وكان يقوم في الليل ويشرب ليموناده «لإطفاء النار المتقدة في أحشائه»، وعند الصباح يزوره أنتومارشي كالعادة فيكتب له الدواء ويعده بعجائبه الموهومة، وكلما جر الحديث إلى استشارة طبيب آخر كان الجواب التسويف حتى شهر آذار، فجاء الدكتور أرنولت وقال لمونتولون: «لا أعلم ما ينتظرني، ولكني أعدك إذا تشرفت بمقابلة الإمبراطور أن أتصرف كجندي لا يطيع إلا ضميره والشرف.»
অজানা পৃষ্ঠা