وقد نظر إلى جسمه كأنه تحفة غالية، وفهم من الطهارة أكثر مما نفهم فجعلها في أمعائه؛ إذ رفض أن يجعل جسمه خيانة لجثث الحيوانات. والتزم الطعام النباتي وعاش 94 عاما سليما، فبرهن على أنه كان بصيرا بالغذاء الملائم للتعمير والصحة، وقد كان التعمير بعض أهدافه، كما كان بعض فلسفته، فإنه كان يقول: إن أعمارنا قصيرة لا تتسع للدرس والعمل والاستمتاع، ويجب أن نعيش نحو ثلاثمائة سنة على سبيل العلاج الوقتي لمشكلاتنا الاجتماعية، أما الهدف الأخير فيجب ألا تقل أعمارنا فيه عن ألوف السنين؛ لأنه إذا طالت أعمارنا اهتممنا بالدنيا وأصلحناها، أما ما دامت أعمارنا قصيرة فإننا نخطف اللذة والمتعة، ولا نبالي إصلاح هذه الدنيا؛ لأننا زائلون منها قريبا.
وقد أحب واشتعل في نفسه لهب العشق فلم يطفئه، ولكنه أيضا لم يؤججه حتى لا يحترق به، فقد عرف الممثلة «إلين ترى» وكانت الروعة في الجمال والحكمة في العيش، وكانت تجمع إلى هذا ذكاء الإحساس، فكان يذهب إليها كل مساء ويراها وهي تمثل، فإذا كان الصباح التالي كتب إليها خطابا يتسامى فيه بحبه وبسط لها أعاجيب من إحساسه وذكائه في تفطن وحماسة. ولم يقابل أحدهما الآخر. وقد طبعت مراسلاتهما بعد ذلك، وهي جديرة بأن تكون دليلا للمحبين الذين يرتفعون بالحب إلى الثلث الأعلى من الجسم البشري.
ولم يحظ بتعليم جامعي ولا مدرسي، ولكن أوروبا الفهيمة عرفت فيه بعد ذلك أسمى نفس بشرية تعيش في عصرنا، ذلك أنه جعل سني عمره الطويل جميعها سني دراسة. ومؤلفاته هي مشكلات اجتماعية قد سلط عليها جهده وذكاءه فدرسها وأخرجها في درامة كوميدية فنية، نقرؤها أو نراها على المسرح، فنحس بالضمير الواخز، والعامل الحافز حتى حين نضحك من أشخاصها ووقائعها. وقد كان المسرح قبله ميدانا للشخصيات، فأحاله إلى ميدان للأفكار، وكان ميدانا للتبذخ بوصف الحياة في القصور، أو صلصلة السيوف، أو الخيانة الزوجية الرخيصة، بإيجاد الشخص الثالث بين الزوجين، فجعله مكانا للتفطن في معاني الحب والبطولة، ومعايش الفقراء والمبئوسين، ومعالجة الطموح الديني وتطور الإنسان بعد آلاف السنين. وكل هذه المشكلات كانت مشكلاته الخاصة التي درسها؛ لأنها بعض تربيته.
عرف برنارد شو الفقر والثراء، وعرف الكفاح في السياسة والفلسفة والعلم والأدب، وصرخ صرخة فولتير في مأساة دنشواي، وكشف عن لؤم السياسة الإمبراطورية البريطانية في الحرب الكبرى الأولى، ونال جائزة نوبل فسلمها لجمعية تنمية العلاقات بين نروج وبريطانيا. ودفع ثلاثين ألف جنيه لبناء منازل للعمال. ولم يعرف قط التدخين، وكان يقاطع الخمر إلى ما قبل وفاته بنحو عشر سنوات. وطاف حول الدنيا، وصادق العظيمين سدني ويب وزوجته، وكانا يرتفعان إلى مستواه في روح البر بالدنيا، وكانا يمتازان بالدراسة الاقتصادية. •••
قبل أن ألقى برنارد شو وجها لوجه كنت قد قرأت بعض مؤلفاته، فوجدت القوة التحريرية فيها تعادل أو تزيد على ما لقيته في فولتير ونيتشه، ولما التقيت به في الجمعية الفابية في لندن أحسست كأني إزاء أجمل رجل في العالم؛ فقد كان مهديد القامة، أحمر شعر اللحية والرأس، وكان في نغمات صوته صحلة خفيفة محببة. وكانت كلماته للساسة الإنجليز بشأن دنشواي قد جعلتني أحس كأنه واحد منا نحن المظلومين المضرورين المشنوقين؛ لأنه بكى كما بكينا. ولم أترك له كلمة بعد ذلك لم أقرأها إلى يوم وفاته، بل إن حبي له قد حملني إلى أن أقتدي به في التزام الطعام النباتي، وبقيت على ذلك سنة كدت أموت في نهايتها من الهزال، ولم يكن هزالي بسبب المذهب النباتي وإنما كان لجهلي قيمة البيض واللبن عند النباتيين.
كان برنارد شو يعد نفسه صحفيا قبل كل شيء، وقد رأينا نحن فيه الفيلسوف العميق، والمؤلف المسرحي المبدع، والأديب الرصين، بل أحيانا العالم الذي يستطيع أن يجادل العلميين في أخص نظرياتهم، ولكنه كان يجهل كل هذه الكفاءات بقوله إنها «صحفية» من حيث إنها تتصل بالمشكلات العصرية، والصحفي العالمي يجب أن يرتفع في تفسير هذه المشكلات ومعها إلى المستوى الفلسفي، وأن يكون العلم والأدب بعض شئونه الدراسية.
ولد برنارد شو في عام 1856، أي: قبل افتتاح قناة السويس بثلاث عشرة سنة، وكانت سنه 26 سنة حين وطئت أقدام الإنجليز أرض وطننا، ولست أذكر هذين التاريخين اعتباطا، ذلك أن الحادث الأول قد أبرز مصر في وجدان الأوروبيين، وأما الحادث الثاني فقد أبرز للمفكرين من الإنجليز رجال حزب الأحرار ودناءتهم ورياءهم بشأن الحرية التي داسوها في مصر، ونفوا زعيمها العظيم إلى سيلان، وكان من هذا أن مكر بعض الأحرار في ترك حزب الأحرار وإنشاء الجمعية الفابية لنشر الدعوة الاشتراكية، وكادت هذه الجمعية التي التحقت أنا بها، والتي أحالتني من شرقي خاف إلى أوربي متمدن، كانت السبب الأول لإيجاد حزب العمال الذي أسندت إليه رئاسة الحكومة البريطانية أكثر من مرة، وكان برنارد شو أحد مؤسسيها وأكبر داعية لنشر الاشتراكية الفابية؛ أي التدريجية التي تحلل وتعالج دون أن تثور وتهدم.
عاش برنارد شو طوال عمره وهو يدعو إلى الاشتراكية، وقد اتخذ الطرف اليساري منها هذه السنين الأخيرة من عمره، ولكنا على الرغم من أننا نجد أن نظرياته ثورية، فإن خططه كانت عملية؛ وهو لذلك يعنى أكبر العناية بالبحث في مسائل المجالس البلدية التي يجد فيها بؤرة العمل الاشتراكي، وهو أفلاطوني الذهن حين يتحدث عن العمال؛ إذ يستصغر شأنهم ويقول بإيجاد صفوة معينة لمعالجة الساسة، وكأنه هنا فاشي يتحدث، كما كان يتحدث موسوليني، ولكن فترات اليأس هذه قليلة عنده، وسرعان ما كان يفيق منها إلى الاعتماد على الشعب. وهو بالطبع عدو الاستعمار وعدم الاستغلال، ويقول بالتأميم. ومؤلفاته رسائل وكتبا عن الاشتراكية عديدة وهي تتسم جميعها بأنها شعبية وإيضاحية. واختصاص برنارد شو الأدبي هو التأليف المسرحي، وهو يضع لكل درامة أو كوميديا مقدمة قد تزيد أحيانا على مائة صفحة، يوضح فيها وجهته الفلسفية التي حملته على تأليف هذه المسرحية، بل هو أحيانا يزيد على المقدمة بملحق يبرز أو يشرح فيه بعض ما احتاج إلى إيجازه على لسان أحد الممثلين، ومن هنا نقرأ الدرامة أو الكوميديا كأنها كتاب مستقل زيادة على قيمتها المسرحية. وأسلوب برنارد شو هو الأسلوب العصري؛ أي الأسلوب الديمقراطي، فهو يكتب للشعب بلغة الشعب، وهو لا يعرف التبذخ أو التظرف فضلا عن التبهرج، ونحن نقرؤه كما لو كنا نقرأ مؤلفا في الدين أو الفلسفة أو التاريخ، ومرجعه - أي: مرد جذوره - في المسرح، هو «هنريك إبسن» الذي جعل الدرامة الأوروبية اجتماعية.
وقد ألف برنارد شو في بداية حياته الأدبية كتبا في الدفاع عن إبسن، ولكن إبسن كان فنانا مسرحيا قبل أن يكون باحثا اجتماعيا، أما برنارد شو فعكس ذلك؛ إذ هو باحث اجتماعي قبل كل شيء، وهو يستعمل المسرح وسيلة لشرح المشكلات الاجتماعية، وليس هو مع ذلك الوسيلة الوحيدة، وقد بحث الدين ومستقبل الإنسان، والحب، والحكومة، والبغاء، والفلسفة في نحو ثلاثين أو أربعين مسرحية، ومعظم مسرحياته كوميديات قد طعم فيها التفكير الاجتماعي بالفكاهة، وقد تجددت المسارح الأوروبية بهذا الاتجاه الجديد الذي ابتدعه هنريك إبسن، ودعمه برنارد شو، فالدرامة الأوروبية واقعية، تجابه الحقائق وتعالج المشكلات، وليست رومانتية خيالية تعيش في الأحلام والأماني. •••
الكلام عن فلسفة برنارد شو يحتوي أيضا بحث ديانته وأدبه وفنه؛ لأنه يعالجها جميعها بالروح الديني، وقد ولد قبل أن يظهر كتاب داروين «أصل الأنواع» بثلاث سنوات، ورأى واشتبك في المعارك الثقافية حول هذا الموضوع، ورأى الصدمة التي أحدثتها العقيدة الجديدة، وهي أن الإنسان والحيوان من أصل واحد.
অজানা পৃষ্ঠা