والدلالة الأخلاقية لهذا النظر الجديد هي أننا إذا تركنا الناس أو بعض الفئات تعيش في عادات سيئة، فإننا سوف نرى السوء لا يقتصر على الجيل القائم، بل ينتقل إلى الأجيال القادمة بالوراثة، والوراثة في جمودها الذي اعتقده فيسمان تشبه القدر؛ لأننا نعجز عن تغييرها، والإيمان بها يدعو إلى التشاؤم وإلى اليأس من إصلاح الطبيعة البشرية بغير الوسائل الإنتاجية التي لا تتفق دواما وما نفهمه من العدالة والإنسانية. وقد كانت الوراثة هي المركب السيكلوجي السيئ الذي ختم على عقل «لومبروزو» وجعله يقول إن إصلاح المجرم غير ممكن؛ لأنه يرث النزعة الإجرامية. وإني عندما أقلب صفحات ذاكرتي أجد مركبات ذهنية كبيرة انتفعت بها، ولكن المركبات التي نشأت في ذهني من الإيمان بالوراثة قد أفسدت تفكيري نحو أربعين سنة، بل أفسدت أخلاقي وجعلتني أتشاءم كثيرا. أما إيماني بالوسط فقد أعاد إلي اتزاني الذهني والأخلاقي، وملأني تفاؤلا بمستقبل البشر. هذه هي قصة الكتاب الذي أفسد ذهني، ولكن المناخ الذهني في بداية هذا القرن كان يهيئ للإيمان بالوراثة ويؤيدها.
هنريك إبسن
داعية الشخصية
هنريك إبسن هو داعية الاستقلال الروحي للإنسان عامة وللمرأة خاصة، وقد ألف درامته «لعبة البيت» في دعوة المرأة الأوروبية إلى أن تستقل، وتنشد الآفاق، وتجرب التجارب، وتختبر الدنيا، وتربي نفسها، بدلا من أن تعيش خلف الرجل يكسب حولها ويحوطها برعايته ويدللها في البيت ويقصر حياتها على الزواج والأمومة.
والاتجاه القديم للمرأة ، سواء في الشرق أو في الغرب، كان ينظر إليها باعتبار أنها تابعة للرجل، وأنها خلقت للبيت، وفي أمم الشرق القديمة بولغ في هذا الاتجاه حتى انتهى إلى أن المرأة أنثى فقط تزود الرجل بلذاته الجنسية، وفي هذا قال شاعر عربي:
ما للنساء وللخطابة
والقراءة والكتابة
هذا لنا ولهن منا ... ... ... ...
ولم يكن العرب متفردين في هذا النظر فإن أوروبا على الرغم من المظاهر الخادعة كانت تنظر أيضا إلى المرأة هذه النظرة في القرون الوسطى. ولكن أوروبا كانت تمتاز بميزة كبرى، هي أنها لم تفصل قط بين الجنسين في المجتمع، ولم تعرف الحجاب إلا في أيام الإغريق، ومع ذلك لم يكن هذا الحجاب الإغريقي يغلق الأبواب إغلاقا محكما كما كانت الحال عندنا أيام القرون الوسطى، ولكن مظهر الحرية الأوروبية كان خلابا خادعا أكثر مما كان واقعيا حقيقيا إلى بداية القرن التاسع عشر، فإن كثيرا من الأمم الأوروبية كان يحرم المرأة الميراث، كما كان يحرمها التعلم في الجامعات؛ ولذلك بقيت محرومة من الاحتراف والاستقلال والكسب بممارسة الطب أو الهندسة أو سائر العلوم والفنون.
ولكن الضمير الأوروبي كان في بداية القرن التاسع عشر قد تنبه إلى وجدان جديد هو استقلال العقل البشري، وطرح التقاليد بفصل الدين من الدولة. كما أن الحركة الصناعية كانت قد جذبت آلافا وملايين العمال الزراعيين من الريف إلى المدينة. والمناخ الذهني في المدن هو مناخ الحرية والاستقلال والتساؤل والشك، ولذلك وجدت الأفكار التحريرية تربة خصبة في المصانع والمدن. وقد جذبت الصناعة أيضا عددا كبيرا من النساء إلى المصنع، ووجدت المرأة في هذه المصانع جوا منعشا بعث فيها الإقدام والاستقلال.
অজানা পৃষ্ঠা