ونهضت إلى قصر ولادة، وطلبت إليها أن تدعو ابن زهر في الغد للعشاء، وأن تتمارض وتشكو له أية علة تمر بخاطرها. وعجبت ولادة، وحاولت أن تعرف السبب، ولكن نائلة غادرت القصر وهي تهمس في أذنها: ستعلمين نبأه بعد حين.
وجاء ابن زهر للعشاء، وشكت إليه ولادة صداعا شديدا يلم بها كل صباح، فوصف لها دواء، ثم سلك الحديث شعابا شتى، وجاء ذكر ابن زيدون وذكر حساده وما أوغروا به صدر ابن جهور عليه حتى سجنه. فقال ابن زهر: إن سجن ابن زيدون نكبة لقرطبة، وكل ذنب الرجل، إن كان له ذنب، أنه يريد أن يعيد مجد العرب وقوتهم، فقالت ولادة حزينة: هذا كلام قد يلقي بك في السجن غدا يا سيدي.
وأسرعت نائلة لتغير مجرى الحديث فقالت: هل يلقي مولانا دروسا في الطب بجامعة قرطبة؟ - نعم يا سيدتي. وهذه الجامعة مفخرة الأندلس، فيها آلاف من الطلاب يحجون إليها من أقصى بلاد الإفرنجة، ومن جميع أقطار المشرق، وتدرس بها جميع علوم الدين والعربية والأدب، إلى جانب فلسفة اليونان والطب والفلك والأرتماطيقي والجغرافية والكيمياء والطبيعيات. ويغرم أبناء الإفرنجة بالأدب العربي إغراما أفزع قساوستهم، حتى لقد أخبرني أحدهم، وهو يتحرق غيظا، بأن طلاب الجامعة الأسبان أصبحوا يبغضون لغتهم الأسبانية، لشغفهم بالعربية وآدابها، ولقد نسي كثير منهم لغته وأصبح لا يستسيغها، ولكنه إذا نظم شعرا عربيا أتى بالبديع الرائع.
فأسرعت نائلة إلى غرضها وسألت: هل بين تلاميذك أسبان وافدون من الشمال؟ - كثير يا سيدتي، وأكثرهم حريص على طلب العلم مشغوف بتفهم دقائقه. - إني أشعر - ولا أعرف علة لهذا الشعور - بعطف على هؤلاء الطلبة، قد يكون لأنهم غرباء مقصون عن أهلهم وذويهم، وقد يكون سببه الاعتزاز بأندلسيتي، وأن قرطبة أصبحت مشرق النور والعرفان للعالم أجمع، وأن هؤلاء الطلاب جاءوا إلينا ملتمسين مستنجدين قبسا من هذا النور، وقد يكون سببه معرفتي لغة الأسبان، فإن للغات صلات روحية تؤلف بين من ينطقون بها. - ربما كانت هذه الأسباب مجتمعة منشأ هذا العطف النبيل يا سيدتي. - سمعت من أبي إسحاق الطبيب أن بين طلابك شابا أسبانيا شديد الذكاء لا يحضرني الآن اسمه، ثم قالت: عجيب أمر هذه الأسماء، تطوف بالذهن حين لا نريدها، وتستعصي إذا طلبناها. أنا أعرف أن فيه سينا وباء، ولكن صورته تغيب عني، ثم أسرعت وقالت: لقد وجدته. أسبيوتو! أسبيوتو يا سيدي! - هو طالب ذكي حقا، ومجد حقا، ولكن يظهر أن شئونا في بلاده تلجئه إلى السفر مرتين أو ثلاثا في أثناء العام.
فبدت لنائلة بارقة أمل في صدق ظنها، وأن هذا السفر لم يكن إلا لنقل رسائل عائشة إلى ملك الأسبان، فهزت رأسها وقالت: لعله فقير يا سيدي، ولعل أهله لا يمدونه بالمال إلا إذا ذهب إليهم، وأخذه اقتسارا. - الظاهر من أمره أنه فقير حقيقة، ولكنه يخفي خصاصته بقناعته. - هل يتفضل سيدي بإرساله إلى داري في مساء غد لعلي أستطيع أن أسد خلته؟
1 - نعم وكرامة يا سيدتي.
والتفتت ولادة إلى نائلة كالمتسائلة عن سر كل هذا، ولكن نائلة لم تمهلها، فاستأذنت في الخروج وغادرت القصر.
لزمت نائلة دارها في اليوم التالي وهي تفكر وتدبر، فأخذت صحيفة وكتبت فيها بالأسبانية رسالة لملك الأسبان بها بعض أسرار مملكة قرطبة، ثم وضعت الصحيفة بين أوراق كتاب الأدوية ليونس الحراني، ووضعت الكتاب بين الكتب في خزانة كتبها. حتى إذا جاء المساء دخلت جاريتها نشوة تقول: إن شابا أسبانيا يطلب لقاء سيدتي. فأمرتها بإحضاره.
وكان أسبيوتو في نحو السابعة والعشرين، قصير القامة، نحيل الجسم تدل ملامح وجهه على الشر والقسوة، وإن سترها بغشاء من الذلة والتواضع. دخل مطرقا لا تفارق عيناه الأرض، فإذا تحدث رفعهما قليلا إلى محدثه ليطمئن إلى معارف وجهه.
حيته نائلة في حنان ورفق، ثم أمرته بالجلوس، وأخذت تحادثه بالأسبانية عن بلاده وأهله، حتى إذا اطمأنت نفسه، وذهبت وحشته قالت: إن الطبيب ابن زهر يثني عليك خير ثناء، حتى لقد أحببت أن أراك. والحق يا ولدي أن بين ما أحب شيئين أصبح القرطبيون يتندرون بهما هما: علم الطب واللغة الأسبانية. - أنت يا سيدتي تنطقين بالأسبانية كما ينطق بها أهلها.
অজানা পৃষ্ঠা