كانت نائلة تتحلى بهذه الصفة النادرة ، فلم يدر حديثها مع ابن زيدون على السجن والآمال الضائعة، ولكنه كان حديثا لطيفا عذبا تتخلله الضحكات، وتمتزج به الفكاهات، كما لو كانت تسامره في بهو دارها، والدنيا مقبلة، وثغر الزمان بسام، وكأن تلك الفواجع الجسام من قبض واعتقال وتعذيب، قد خط عليها في سجل الماضي، كما خط في القرطاس سطر على سطر. ولكن ولادة كانت من طابع آخر، كانت من الصنف الذي يعتقد أن الأحزان لا تنقشع إلا بالحديث فيها، وأن الحزين إنما يخف حزنه إذا أكثر ألم الناس له وامتزجت دموعهم بدموعه. لم ترقأ لها عين، ولم يهدأ لها وجيب قلب، وكانت كلما نظرت إلى حبيبها وهو في تلك الغرفة المظلمة المعفنة الهواء في سرداب الجامع الكبير، زادت شجونها، وفاضت شئونها.
2
فسألت ابن زيدون: من الذي دعا ابن جهور إلى الذهاب إلى دار ابن المكري؟ فأجاب في نبرة حزينة: لا أدري يا سيدتي، إلا أنه فجأنا بغتة فرأيناه في الدار من حيث لم نكن نحتسب.
وأسرعت نائلة تقول: ما لنا وللحديث في هذا الآن يا ابنة الخليفة! يجب ألا ننظر إلى الخلف، وأن نتجه دائما إلى الأمام، فكثيرا ما أضاع الناس حياتهم بالنظر إلى الماضي، والغفلة عن الحاضر والمستقبل، وكم طارت منهم فرص لو رأوها وهي مقبلة عليهم لاقتنصوها. أنا أعرف كيف دبرت الدسيسة، وكيف دعي ابن جهور إلى دار ابن المكري، وسأعرف كيف أنتقم من الدساسين. دعينا بالله يا فتاة من الخوض في هذا الحديث، وقولي لأبي الوليد خبر العجوز المراكشية.
فانفرجت شفتا ولادة عن ابتسامة حزينة، وقالت: إن أمر هذه المرأة كان عجبا من العجب، كنت أجلس بالأمس أنا ونائلة في شرفة القصر، فسمعنا صياحا وضجيجا، فنظرنا فإذا عدد عظيم من الصبيان يتبعون عجوزا تحمل فوق رأسها سفطا،
3
وتجر وراءها كلبا ومعزاة، وكانت ثياب العجوز ممزقة بالية، وكان وجهها يتكلم بما هي فيه من فقر وجهد. وتملك الصبيان شيطان الشر، فأخذوا يقذفونها بالحجارة وهي تتقي سهامهم بالانحراف عنها يمنة ويسرة، حتى إذا أحردوها لجأت إلى باب القصر فدخلته وأغلقت بابه، ثم سقطت وراءه من الإعياء لا تكاد تتنفس، فأسرعت إليها جاريتي عتبة، وأخذت تسري عنها بعض ما هي فيه وأحضرت لها طعاما وشرابا، فلما سكن ما بها، وأفرخ روعها، نزلنا لمعرفة أمرها فأخبرتنا: أنها من مراكش، وأنها جاءت من إشبيلية ماشية حافية. ثم سألناها عن الكلب والمعزاة فقالت: هذا أخي يجود علي بأمانته ووفائه، وهذه أختي تجود علي بلبنها وزبدها. ثم سألناها عن مورد رزقها فقالت: إنني عرافة، وإنني ألمح في سطور الكف ما حجبه الماضي في موجاته، وما يخبؤه المستقبل في طياته، وأقرأ ما في نفس سائلي كأنما أقرأ في كتاب مفتوح. ثم تناولت كفي في خشونة وجفوة، فلما نظرت فيها صاحت: هذه كف عجيبة! هذا خط الملك يا سيدتي، ولكنه واحسرتاه ينحرف نحو اليسار قليلا، فسبحان من لا يبيد ملكه! له الملك وله الأمر وهو على كل شيء قدير. تاج هوى، وصولجان تحطم، ثم جذبتها إلى عينيها كأنها تريد أن تصوب النظر إلى خطوطها وقالت: وهذا الخط خط الحب، ماذا به؟ إنه يتدارك ما فات من انحراف خط الملك، هو أعمق خط رأيته في حياتي. حب يملك القلوب، ويخضع جامحات النفوس، ولكنه كان حائرا مضطربا مختلج العزيمة، كلما جلس فوق عرش من القلوب قلق به الموضع، فطار يبتغي سواه، ولكنه استقر الآن، نعم إنه استقر في قاعة مظلمة تحت مسجد كبير. إني أسمع شكوى، وأسمع أنينا في هذه القاعة المظلمة، وأرى فتى كان يملأ الدنيا همة ونبوغا يحصره مكان ضيق ليس به إلا نافذة صغيرة في أعلاه. ثم بدا على وجهها الدهش وصاحت: انظري يا سيدتي، إن النافذة تتسع، انظري بالله عليك إلى قضبانها، إنها تتحطم وتطير في الهواء. ما هذا؟ لقد أصبحت النافذة بابا، والفتى الحزين يهم بالخروج من الباب. ثم قهقهت وصاحت: لقد خرج إلى الهواء والنور! إنه طليق ينفض أثوابه كما يصفق الطائر بجناحيه إذا هم بالطيران. إنه يضحك ويمزح، ويستقبل الحياة كأشهى ما تكون الحياة. سبحانك يا رب! ما أقصر الزمن في هذه الدنيا بين الحزن والسرور! وما أوهى الحد بين الأفراح والأتراح؛ ثم عادت إلى عبوسها وقالت: ولكن الحب شحيح ضنين، فهل يجمع في هذه المرة بين القلبين ويأسو مرهمه الجرحين؟ ثم التفتت إلي وقالت: اضحكي يا سيدتي واستبشري واغتنمي فرصة الشباب فإن الشباب لن يعود!
فتنهدت نائلة وقالت: أي والله إن الشباب لن يعود؛ ووددت لو كان بالسجن مرآة لترى في وجهها منه بقية. وابتسم ابن زيدون لولادة وقال: لن يطول سجني يا فتاتي وستزيد مرارة الماضي في حلاوة ما يقتبل من الأيام.
ويعود ابن زيدون بعد خروج حبيبتيه الوفيتين إلى أشجانه، ويتمرد على سجنه، وتثور نفسه، ويتذكر أصدقاءه، ويرجو حسن شفاعتهم فيه، فيكتب إلى صديقه أبي الوليد ابن عميد الجماعة متوسلا:
هل النداء الذي أعلنت مستمع
অজানা পৃষ্ঠা