علي أمري. فقرأ:
من ابن عبدوس إلى الرئيس الأكبر عميد الجماعة:
أما بعد فقد أخبرني الرجل الذي طلبت إليه أن يرافق ابن زيدون ويرقبه عن كثب: أنه منذ حضر من بطليوس، والحيرة لا تفارقه، فهو يتنقل من دار إلى دار، ويزور أقواما لم يكن يزورهم من قبل، وقد تردد في الأسبوع الفائت على دار راجح الصنهاجي، وكان يودعه عند الباب في كل مرة، وسمعته يقول له في إحدى المرات: سيكون الأمر هينا والجو ملائما. وزاره منذ يومين ثابت الغافقي، وخرج من عنده عابس الوجه يبدو عليه التفكير والقلق. وكان بالأمس مع ابن ذكوان عند ولادة، وخرجا قبيل الفجر، وأخذا يتهامسان في الطريق في جد واهتمام.
ما كاد أبو الوليد يتم قراءة الرسالة حتى صاح ابن جهور: أرأيت أن الرجل لا يخالط إلا المترددين المزعزعين الذين لا يحجبهم عن الفتنة إلا العجز أو الخوف من أن يكونوا حطبا لنارها؟ - إنني أخاف يا أبي أن يكون أعداء ابن زيدون قد أحكموا دهاءهم، ولاحت لهم فرصة من حسن استماعك لهم فراحوا يصورون لك أوهاما، لو ألقيت عليها نظرة واحدة من نظراتك الثاقبة لطارت في الهواء. ما هذا يا مولاي؟ كل الذي سمعته وقرأته في هذا المجلس أن ابن زيدون عبقري طموح، وليس في ذلك عيب ولا عار، وأنه مدح بعض الأمراء فأغرق ، وهو إذا مدحهم فبلسانك نطق، وإلى إعلاء دولتك قصد، لأنه سفيرك ووزيرك، وقد يرى من حسن الرأي، وخدع السياسة أن يمدح من يكون لك عدوا، ويحسن إلى من يكون لك مسيئا. على أن عبيد الله بن قيس الرقيات وهو زبيري المذهب خارج على بني أمية، كان يمدح مصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان في آن. وكان الكميت بن علي من مداحي الأمويين، ومن أشد الشعراء بغضا لهم. أما كل ما في هذه الورقة فهراء لا يقام له وزن، ولا يحسب له حساب، فليس فيها إلا أن ابن زيدون قابل فلانا وفلانا وفلانا، وماذا في هذا يا أبي؟ إنك أنت تقابلهم وتخالطهم وتزورهم في دورهم. ثم إن هذا كان عابسا، وهذا كان مفكرا، وهذا كان هامسا، هذا كلام لا ينهض بجناحين، ولا يسير على قدمين، فلو أن العبوس أو التفكير أو الهمس كان يدل على العمل لإسقاط الدول ما بقيت دولة في بقاع الأرض يوما واحدا. مزق يا مولاي هذه الورقة، وامح ما كان فيها من لوح فكرك، واترك عنك هذا الهاجس الذي ليس من ورائه إلا أن قوما يتخذون منك سيفا للقضاء على عدوهم، وازجر هؤلاء الوشاة الدساسين، فإنك لن تجد مثل أبي الوليد في كرم نصابه، وبعد همته، وجلالة قدره. - أرجو أن تكون موفق الرأي صادق الفراسة يا ولدي! فإن أود ما أوده أن يبقى ابن زيدون لهذه الدولة عضدا وزندا. - لا تأبه لحديث ابن عبدوس يا مولاي فإنه غريم ابن زيدون في الحب والسياسة. - في الحب؟ - نعم في حب ولادة. فابتسم ابن جهور وقال: هكذا رأينا الحب ينبت البغضاء! ثم نظر إلى ابنه نظرة طويلة وقال: اكتم هذا المجلس أبا الوليد ولا تحدث به نفسك في خلوتك، وأرجو الله أن يبعد عنا المكروه، ويوفقنا لما نحب ويحب.
وفي ضحا هذا اليوم ذهبت ولادة لزيارة نائلة فوجدتها لا تزال في سريرها تصلح لها جواريها ما أفسد الليل من زينة المساء، فقابلتها نائلة في شوق وشغف، وأمرت أن يقرب لها كرسي إلى جانبها، وقالت: كيف حال أبي الوليد؟ إن هذا الولد العاق لم يزرني منذ حين. - إن ابن زيدون في هذه الأيام ليس كعهد الناس به، فهو كثير الوجوم، بادي الهموم. وقد فارقه ذلك المرح الذي كان ينشر الأنس في كل مكان، ويغتصب الضحك من فم الحزين. - تزيد هموم الناس يا بنية إذا ارتفعت منازلهم وعظمت مناصبهم، وقد كنت تبغين أن يكون خطيبك وزيرا، فلما أصبح وزيرا برمت برزانته، وضقت ذرعا لصرامته وجده. - لا يا خالة. ليست المسألة مسألة رزانة أو صرامة، ولكني أشك في أن أمرا عظيما يشغل باله ويملك عليه نواحي نفسه.
فقهقهت نائلة وقالت: ليس الأمر كما تتوهمين يا ولادة. وإذا كان هناك ما يشغل باله فهو أنه أسير حبك، ينتظر اليوم الذي يصبح فيه بعلا لأجمل فتاة.
فابتسمت ولادة ابتسامة زهو وإعجاب وقالت: أخشى يا نائلة أن أعداءه يكيدون له، وأخشى أن يجدوا من ابن جهور أذنا صاغية. - ما أظن يا حبيبتي أن يجرؤ أعداؤه على منابذته، فإن أيديهم أقصر من أن تنال له ذيلا. على أن ابن جهور على تزمته وجفوته، من أطوع الناس لي عنانا، وهو في يدي كالعجينة في يد الخباز، وكلمة مني واحدة كفيلة بأن تطرد ما ألقى النمامون في أذنه من كلمات.
زارتني عائشة بنت غالب من أيام، وأظهرت لي تمام الود وصادق المحبة، واتخذت من سرقتي لرسائل ابن زيدون من خزانتها مجالا للفكاهة والضحك والتندر، وأقسمت أغلظ الأيمان أنها كانت تريد أن ترد إليه هذه الرسائل، وأن كل وعيدها وتهديدها كان كاذبا مصطنعا لم تقصد به إلا أن يعود إلى ظلال حبها، وأن يعيشا كما كانا سعيدين هانئين. ثم تفرست في وجهي طويلا، وتابعت حديثها تقول: ولكنه حين أبى، وحين يئست من عودته، طويت نفسي على آلامها، وتمنيت له خير ما يتمنى محب لحبيب. ولقد سرني والله قبل كل امرأة بقرطبة أن ينال تلك الحظوة التي نالها عند ابن جهور، وأن يرقى إلى منصب الوزارة، نبئيه يا خالتي أني أحفظ الناس لوده، وأبقاهم على عهده، وأزهاهم برفعته وعلو شأنه. لقد رأيته مرة «برحبة مغيث» فوق بغلته الشهباء، والأعوان من حوله، ورجال الديوان من ورائه، فسألت الله أن يصونه ويعمي عنه أعين الحاسدين، وتمثلت بقوله في صاحب بطليوس:
ألا هل سبيل إلى العيب فيه
فكم عين من قبله من كمل؟
অজানা পৃষ্ঠা