كان بترو الأسباني صاحب أكبر حانة بالمدينة، وكانت له عين بصيرة بالجمال، وأذن موسيقية تدرك أدق الفروق، وتحس بأخفى درجات النشوز. وكان يجلب إلى حانته أبرع الفاتنات الأسبانيات وأجملهن، وامتدت تجارته إلى ما وراء الأندلس، فكان سماسرته في الغرب والشرق يبعثون إليه أجمل بضائعهم من فرنسا ومراكش ومصر والشام وبغداد، وكانت حانته مثابة لفتيان قرطبة المترفين الذين أطغاهم الفراغ والشباب وأفسدتهم الجدة.
رأى بترو فلورندا فملكه الدهش، وعز عليه أن يرى تلك اللؤلؤة اللامعة، وتلك الثروة الفنية الغالية، تتقاذف بها طرقات قرطبة، هذا يرمي لها بدرهم، وهذا يلوي وجهه عنها كلما مدت إليه يدها بدفها.
دهش بترو وعجب، فمد يده إلى جيبه وأخرج دينارا، فلما مرت الفتاة تستجدي بدفها، رمى فيه الدينار. فنظرت إليه مبهورة وقالت: هذا دينار يا سيدي!
فأظهر بترو الحيرة والتردد وقال: أصحيح هو دينار؟ لقد أخطأت يا فتاة، فقد أردت درهما وأراد جمالك وفنك دينارا خذيه باركت العذراء لك فيه؛ فأخذته فلورندا وهي لا تكاد تصدق أن أصابعها تنطبق على دينار. وطافت برأسها أماني وأحلام، وأخذت تفكر في خير الطرق التي تفجأ بها أباها لتطلعه على ذلك الكنز الثمين. ثم سارت لتعقد حلقة أخرى بسوق الصيارف، ولكنها رأت بترو يتبع خطواتها، فلما دنا منها قال: ما اسمك يا فتاة؟ - فلورندا.
ما أجمل الاسم، لولا أنه يثير في نفس الأسباني ذكريات لا تطفئ نيرانها الدموع! - ذكريات؟ أنا لا أفهم ما تقول. - عجيب. ألا تعرفين شيئا من تاريخ أسبانيا يا فتاتي؟ ألم تحدثك العجائز بتلك الداهية الدهياء التي حلت بأسبانيا بنزول العرب فيها؟
فظهرت سذاجة الجهل واضحة على وجه فلورندا الجميل وقالت وهي تهز رأسها: لا. لم يحدثني أحد. - إن فلورندا بنت يوليان هي التي أضاعت ملك أسبانيا، ووضعته لقمة سائغة في فم العرب. - امرأة فعلت هذا؟! - امرأة ورجل، وقديما أخرجت الجنة من ظلالها رجلا وامرأة. فثارت رغبة فلورندا لمعرفة ما يقصد، لأنها في الحق لم تفهم إلا قليلا فقالت: حدثني بحق «جوليوس» كيف أضاعت فلورندا جنة الأندلس؟ - فلورندا يا فتاتي كانت في بلاط لذريق ملك أسبانيا، فوصل إلى علم أبيها عن الملك ما يمس شرفه، فغضب، ودفعه حب الانتقام إلى أن يذهب إلى موسى بن نصير قائد العرب بإفريقية، ويمده بالسفن، ويرشده إلى مواطن الضعف في الدولة، ويذلل له السبيل لفتحها. - لعن الله لذريق، ولعن الله فلورندا هذه؛ لن أتسمى بهذا الاسم بعد اليوم. آه يا سيدي ... فأسرع بترو يلقنها اسمه: بترو. - آه يا سيدي بترو لو رأيت ما فعله العرب بولايتنا لرأيت ما تشيب له النواصي، إنهم شياطين مردة، ينسفون الجبال، ويثبون فوق الأنهار، كأنهم أسود لها أجنحة النسور. وهنا طفرت الدموع من عينيها فلم تستطع لها دفعا وقالت: بهؤلاء العرب فقدت أمي يا سيدي بترو، لقد وثبوا على شنت ياقب كأنهم العاصفة الهوجاء التي لا تبقي ولا تذر، فخرجنا من المدينة ليقتلنا البرد والجوع والكلال. - أنت من شنت ياقب إذا؟ - نعم. - مع من تعيشين يا فتاتي؟ - مع أبي جارسيا. - وأين تسكنين؟ - في قاعة بزقاق الصيادين. - سأزور أباك الليلة، ثم مد إليها يده فحياها وانصرف وهو يحدث نفسه ويغمغم: إنها كنز ثمين. إنها بوق الساحر الذي إذا نفخت فيه ألقى إلي فتيان قرطبة ما في جيوبهم ذاهلين مأخوذين. عجيب أمر هذه المصادفات، تلقي بين يديك في سهولة ويسر ما لو ضربت في الأرض إليه أعواما لم تجده! وكثيرا ما تضع هذه المصادفات التبر في الأرض الجرداء، وكثيرا ما تقذف باللآلئ بين القمامات، والناس يمرون بها، وقد نهكهم الفقر، ونالت منهم البأساء، وهي على قيد نظرة منهم. فلورندا؛ لو بعثت إلى أقصى بلاد الروم، وأبعد مطارح التركستان لم أجد لها مثيلا!
والتقت فلورندا بأبيها في حجرتهما المظلمة بعد أن أجهدهما كد النهار، فرأته عابسا منهوكا، فإنه لم يترك بقرطبة وأرباضها سوقا أو طريقا إلا سلكه صائحا مرغبا في اقتناء فاكهته، واصفا جمالها ولذة مذاقها، ولكن الناس كانوا في هذا اليوم في صمم عنه وعن فاكهته، كأنهم أقسموا يمينا مؤكدة ألا يذوقوا للفاكهة طعما، أو كأنهم رأوا في الفاكهة سما زعافا فخافوا أن تمسها أيديهم.
قالت فلورندا بعد أن قبلت أباها: كيف الحال يا أبت اليوم؟ فابتسم جارسيا ابتسامة اليائس وقال: أحسن حال يا حبيبتي؛ حملت الفاكهة في الصباح، وجئت بها كاملة في المساء، بعد أن تمتع التفاح بمشاهدة كل ما في المدينة من أسواق وميادين ثم عاد سالما إلى مقره، ولكن الخبيث كان يلح علي قبل أن تدخلي في أن أريه المدينة غدا وبعد غد، فقبلت غير أني اشترطت عليه ألا أحمل الميزان، فقد أصبحت في غير حاجة إليه! - ما الخبر؟ - لم أبع بدانق. فإذا كان لديك درهم أو درهمان فاذهبي وأتينا بما نتبلع به الليلة. فتصنعت فلورندا الجزع، وأمرت سحابة من اليأس أن تغيم على وجهها ثم قالت: إنني لم أكسب دانقا
4
اليوم، فماذا نعمل؟ - عظيم! نبيت على الطوى يا حبيبتي، وندعو للمنصور بن أبي عامر بدوام النصر والتأييد؟ أتعرفين لم حرمنا الرزق هذا اليوم يا فلورندا؟ حرمنا لأنه يوم أحد، وهو يوم الراحة منذ خلق الله السموات والأرض. - نعم إنه يوم الأحد. ثم هزت ثوبها فسقط منه شيء لامع التقى بأشعة المصباح الواهنة، فأرسل شعاعا وهاجا أسر عيني جارسيا فصاح: ما هذا؟ ثم مد إليه كفه فالتقطه، وقد انتابه ما يشبه الجنون، وأخذ يتمتم: دينار! دينار! هذا دينار يا فلورندا! أنى لك هذا؟ وكيف ظفرت به؟
অজানা পৃষ্ঠা