كانت أسرة نائلة من الأسر الطارئة على الأندلس، استدعى عبد الرحمن الناصر لدين الله جدها من الشام سنة ثلاثين وثلاثمائة، وكان ذا معرفة بزراعة الأرض وطرق استنبات الفاكهة، فوكل إليه شئون ضياعه الواسعة، فقام عليها أحسن قيام، وأشرف أدق إشراف، وبذل فيها من جهده وفنه خير ما يبذل العامل القوي الأمين، حتى أصبحت بعد سنوات جنات وافرة الثمار، كثيرة الغلة، فمنحه الخليفة جزاء إخلاصه أرضا تقرب من قرطبة تمتد على شاطئ الوادي الكبير إلى مسافة بعيدة، فعمل فيها الدمشقي جادا، ونقل إليها من الشام كثيرا من أشجار الفاكهة مما جعلها مضرب المثل في النماء والازدهار، وأخرجت من أنواع الثمار ما يندر أن يكون له مثيل في المشرق، فزاد دخله، وعظمت ثروته وأصبح من كبار أثرياء المدينة، ولما أدركته المنية، ترك ثروته لابنه الذي لم يرزق سواه. وكان ابنه قد تزوج فتاة جميلة لها مجد ومكانة وثروة، فولدت له نائلة. ثم مرت سنون مات في غضونها أبو نائلة وترك لها مالا وجاها. وتزوجت بعد وفاته أحد أبناء عمومتها فسعدت بزواجها، غير أن سعادتها لم تدم طويلا فمات لها ولد في ريعانه، ثم قتل زوجها في أعوام الفتنة، قتله البربر فيمن قتلوا في ذلك اليوم العصيب حين دخلوا قرطبة عنوة لإعادة المستعين بالله إلى عرش ملكه. وقد حزنت نائلة لفقد زوجها، غير أن الحزن ككل شيء في هذا الوجود قلق ملول، لا يلازم أصحابه طويلا. فما كاد يمر عام أو بعض عام حتى عادت إلى مرحها وما فطرت عليه من لهو وإسراف. كان لها مال وجمال وفراغ، وكانت لها ثروة من أدب وتثقيف ولطف حديث ودعابة حلوة، وكان أظهر ما تمتاز به بين أترابها إجادتها اللغة الأسبانية، شغفت بها منذ نشأتها، وتلقتها عن أساتذة من اليهود والقساوسة الأسبان. كانت امرأة ضحوكا تحب الحياة وتعشق كل ما فيها من بهجة ونعيم، فأصبحت ندوتها حافلة بوزراء قرطبة وعظمائها وأدبائها.
جلست نائلة في سريرها وقد ارتفع الضحا، فأقبل عليها جواريها ليقمن بواجب الخدمة على عادتهن في كل صباح، فهذه تملأ أخاديد الوجه بالمساحيق، وهذه تكحل العينين وتزجج
1
الحاجبين، وهذه تطارد كل شعرة بيضاء في رأسها نصل عنها الخضاب، فتعيدها سوداء كحالك الليل، وهذه تدلك الساقين الباردتين لترد إليهما حرارة الحياة. وجملة القول إنهن كن ينشئنها إنشاء في كل صباح، ويصانعن جيش الطبيعة التتاري المدمر بألوان من الخداع لا تجوز عليه ولا على الناس.
جلست نائلة في سريرها تتثاءب في تكاسل. ثم دعت إليها سعدى قهرمانة القصر فاتجهت إليها وقالت: أريد أن تبذلي كل فنونك في أن تكون حفلة الليلة من أروع ما صنع بقرطبة من حفلات، لا تدخري مالا، ولا تتحرجي من لوم المتزمتين، وقد أعلمتك أمس بضيوفي، ولكل منهم ميل، ولكل منهم نزعة، فأعدي لكل واحد ما ترتاح إليه نفسه، ثم أعدي لهم جميعا ما يبعث المرح ويطلق النفوس المكبوتة، أريد أن تتحدث قرطبة كلها بما يكون في هذه الليلة من مبتدعات السرور أريد أن أعيد بها عظمة الأندلس، ومرح الأندلس، وعبث الأندلس، فماذا تقولين؟ - فأطرقت سعدى كالمفكرة، وأخذت تمر بسبابتها فوق جبهتها ثم قالت: أما أنواع الطعام وألوانها فقد دونتها في صحيفة بالأمس، وهي تجمع كل ما يخطر وما لا يخطر ببال من لذائذ الطعام، وبقبو القصر كل صنوف الشراب، وكل رحيق مختوم مزاجه من تسنيم. أما ضروب اللهو الأخرى فإني أنتظر أمرك فيها. - أرسلي إلى «غاية المنى» المغنية، وإلى «جمانة» الراقصة، ثم إلى الراقصات الأسبانيات «بحانة راميرز»، وادعي «الزرافة» المضحك الممخرق، ولا تنسي يا سعدى شيئا مما يبهج النفس ويثير الطرب. وهذا مفتاح خزانتي فخذي منها من المال ما شئت.
وما كادت سعدى تغادر الغرفة حتى دخلت إحدى جواريها لتنبئها بأن امرأة محجبة الوجه تلح في لقائها، وتأبى أن تبوح باسمها، أو تذكر حاجتها. فأطرقت نائلة طويلا، ثم رفعت رأسها وقد طافت بوجهها ابتسامة طائرة، وقالت: دعيها تدخل يا نشوة. فدخلت بعد قليل امرأة ملففة بخمارها، كأنها قطعة من الليل، فلما جاوزت باب الغرفة، رفعت قناعها فإذا هي «غالية» جارية عائشة بنت غالب. وبعد أن حيت نائلة قالت : إن الحرب يا سيدتي في دارنا قد صفت جنودها، وأرهفت سيوفها، ولن تمضي أيام حتى يندلع لهيبها في أرجاء قرطبة. - أعرف يا غالية أن عائشة ممن يحرق مدينة بأسرها ليقتل فيها عدوا واحدا، وأعرف أنها لن تترك لعدوها فرصا ليعد عدته أو يأخذ حذره، ولذلك سبقت للاستعانة بك لتكوني ناقوس الخطر بيننا وبينها حتى نستطيع إحباط كل شر تدبره، وإخماد كل نار تشعلها. ماذا فعلت حينما وصلت إليها رسالة ابن زيدون؟ - أرأيت جبال النار يا سيدتي؟ كانت جبل نار. أرأيت البحر الثائر حينما يشتد النوء، وتعصف الزعازع. كانت البحر الثائر. أرأيت .... - كفى يا غالية! أعرف كل هذا وأكثر من هذا، ولكني أريد أن أعرف ما اعتزمته، أريد أن أعرف السلاح الأول الذي اختارته، ثم ناحية الهجوم التي تصوب إليها سهامها. - إن سلاحها الأول مسموم قاتل يا سيدتي، وهو أحط سلاح وأحقره، وقد تبينت من حديثها أن سيدي ابن زيدون أيام تدلهه في هواها، لم يحترس ولم يحترز، فكان يبعث إليها برسائل فيها سخرية وتندر واستخفاف بعميد الجماعة ابن جهور ورجال دولته. وقد حفظت الملعونة هذه الرسائل في خزانتها لتشهرها في وجهه إذا حدثته نفسه بالانفلات من يديها. وأعلنت بالأمس في صراحة أنها ستضع هذه الرسائل في يد ابن جهور. - ويل للفاجرة! إن لها شيطانا عبقريا. أهكذا ونحن على أبواب الوزارة تنقض علينا هذه الحية الرقطاء لتفسد كل شيء؟ ثم صمتت طويلا وقالت: سأزورها غدا يا غالية ثم يكون ما يكون. أين تضع هذه الرسائل؟ - في خزانة بجانب مرآتها بالغرفة الغربية. - وأين تحفظ مفتاح الخزانة؟ - إنها لا تتركه يا سيدتي في يقظة أو في منام، فهو دائما معلق بخيط من حرير في عنقها. - حسن يا غالية، حسن جدا. وهنا عادت إلى وجه نائلة ابتسامته، ومدت يدها تحت وسادتها، فأخرجت قبضة من دنانير ألقتها في يد غالية وهي تقول: شكرا يا فتاة. إن خبرك هذا يساوي أضعاف هذه الدنانير. ثم سألت كأن خاطرا جديدا عرض لها: - ألا يزال ذلك الأسباني الطالب بجامعة قرطبة يزورها؟ - يزورها الآن قليلا يا سيدتي. - هل بينها وبينه صلة غرام؟
فابتسمت غالية وقالت: لا يا سيدتي، إنه شاب دميم سقيم الجسم، لا يتحدث إلا عن دروسه بالجامعة، وأساتذته بالجامعة. - لعل وراء الأكمة ما وراءها يا غالية! - يجوز يا سيدتي، ولكن لا يظهر لي إلى الآن من زيارته شيء إلا أن عائشة تعطف عليه لأنه أسباني، ولأنه طالب علم فقير. - ما اسمه؟ - أسبيوتو. وهو يدرس الطب على ابن زهر. - أسبيوتو! يدرس الطب على ابن زهر! ثم تنهدت وقالت: ندع هذا الرجل الآن. ولكن افتحي عينيك يا غالية والله معك ومعنا. فشكرتها الفتاة وخرجت محجبة كما دخلت.
وجاء المساء، وتوافد على القصر وزراء قرطبة وعظماؤها وشعراؤها، وأديبات قرطبة وكرائم أسرها. وكان بين الجمع من كبار المدعوين أبو الوليد محمد بن عميد الجماعة، وأبو حفص بن برد، وأبو مروان بن حيان المؤرخ، وابن زيدون، وابن عبدوس، وابن الحناط الكفيف الشاعر الطبيب. وكان بين المدعوات أم العلاء الحجازية الأديبة الشاعرة، ومريم العروضية مولاة ابن غلبون، وقد ازدان الجمع بكثير من الفتيات اللاتي نشأن في النعيم، ودرجن في باحة العز والثراء، وصورهن الله فتنة لخلق الله في هذه الأرض. والجمال العربي الأسباني مزيج عجيب من سحر الشرق وقسامة الغرب، وصورة رائعة لما تستطيع أن تبدعه الصحراء الجافية إذا نعمت بالظل والماء، ونفحها برد الشمال. وإذا أضيف إلى هذا الجمال لطف الحديث وأدب الطبع ونزاهة الخلق، كان فتنة العيون، وشرك الألباب.
وبعد قليل وصلت محفة ولادة ومهجة القرطبية إلى القصر، فهرعت نائلة للقائهما، وأقبل الضيوف إليهما يحيونهما في حفاوة وتكريم. وحينما تقدم ابن زيدون لتحية ولادة، قالت نائلة: هذا يا ابنة الخليفة شاعر قرطبة أحمد بن زيدون الذي جعل شعره مرايا للحسان، فمدت ولادة يدها إليه في ابتسامة زهراء وقالت: أرجو أن تكون مراياك صادقة يا سيدي، فبهر ابن زيدون وتلعثم لسانه، ثم قال: إنني يا سيدتي سأحطم مرايا شعري كلها، لأنها أصبحت لا تعجبني، وسأصطنع مرآة جديدة لأجمل فتاة في أرجاء الأندلس.
فأرسلت ولادة ضحكة هادئة، ثم قالت في صوت ساحر، ودهشة مصنوعة: أجمل فتاة في أرجاء الأندلس؟ من هي؟ ليتني كنت أعرفها! - لو نظرت في مرآتك لعرفتها لأول نظرة. فاحمر وجهها من الخفر،
অজানা পৃষ্ঠা