وهذا أيضا غير صحيح؛ لأن عظمة الحضارة في عصر المأمون، كانت أكبر منها في عهد الرشيد.
وإنما السبب الذي يجعل هذا الرأي صحيحا - في نظري - هو أنه في عهد الرشيد تجلت العصبيات، وبلغت فيه الذروة ... فالأمويون كانوا متعصبين تعصبا عربيا؛ فالولاة عرب وكل شيء عربي، أما الموالي فأذلاء خافتو الأصوات، حتى ليظن العربي أن أخاه المولى لا يستحق أن يرث كما يرث، وكان العربي أحيانا لا يريد أن يصلي وراء الإمام المولى.
فلما جاءت الدولة العباسية انتقلت العصبية للعرب إلى عصبية للفرس؛ فكانت التقاليد والأعياد، وغير ذلك فارسية، وانحط شأن العرب؛ لأن الدعوة العباسية قامت بأهل خراسان فحفظ العباسيون لهم جميلهم، وجاء البرامكة فزادوا هذه العصبية قوة، فهم كانوا ينشرون الثقافة الفارسية، ويؤيدون كل ما هو فارسي، حتى روي أن الرشيد مرة أراد أن يهدم إيوان كسرى فارتاع من ذلك البرامكة ... وقال له يحيى: «لا تهدم بناء دار دل على فخامته شأن بانيه الذي غلبته، وأخذت ملكه» قال الرشيد: «هذا من ميلك إلى المجوس، لا بد من هدمه» فقدر للنفقة على هدمه شيئا استكثره الرشيد فأمر بترك هدمه، فقال له يحيى: «لم يكن ينبغي أن تأمر بهدمه، أما وقد أمرت فليس يحسن أن تظهر عجزا من هدم بناء بناه عدوك» فلم يقبل قوله، ولم يهدمه .
فلما نكب البرامكة - وكانوا فرسا - ضعفت العصبية للفرس أيضا كما ضعفت للعرب من قبل، وكان القتال بين الأمين والمأمون - الذي سببه غلط الرشيد في توليتهما العهد من بعده - سببا آخر في ضعف العصبيتين ... فقد تعصب العرب للأمين، وتعصب الفرس للمأمون، فضعفت العصبيتان معا؛ لأن القتال العنيف يضعف الغالب والمغلوب، ولذلك لما جاء المعتصم لم يستطع أن يعتمد على العرب ولا على الفرس، وأتى بعنصر ثالث وهو الأتراك، واعتمد عليهم، وقد تعصبوا لعنصرهم، وحاولوا إذلال العرب والفرس جميعا، ورفع شأن العنصر التركي عليهم، فنكلوا بالعرب ثم بالفرس، ثم نكلوا بالخلفاء أنفسهم ... فمنهم من قتلوه، ومنهم من سملوا عينيه، وكلهم قد سلبوا سلطته، وجردوه من حوله.
وهذا ما يصح من أجله أن يعد عهد الرشيد أول عهد بدأت فيه عناصر انحطاط الدولة العباسية، ويكون كلام المستشرق صحيحا بهذا المعنى؛ فالأتراك نتيجة لنكبة البرامكة، والأتراك هم الذين أضعفوا شأن الخلفاء وأذلوهم، وما زالوا بهم حتى سلبوهم كل سلطة ... ثم ختمت المأساة بغزوة التتار.
نقطة سوداء
وعلى الجملة كانت نكبة البرامكة نقطة سوداء في تاريخ الرشيد؛ فقد أعلى البرامكة، ثم فتك بهم، وقد زلزلت الحادثة الشرق والغرب معا؛ لأن البرامكة كانوا يحسنون معاملة الرعية، ويتولون كل شؤونهم، ويتقربون إلى الشعراء حتى قل أن نرى شاعرا لم يقل فيهم شعرا، كالذي قاله بعضهم:
ألم تر أن الشمس كانت سجينة
فلما ولى هارون أشرق نورها
بيمن أمين الله هارون ذي الندى
অজানা পৃষ্ঠা