حاولت نتف الشعر من آنافهم
هات اسقنيها بالكبير وغنني
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
واشتد الرشيد على البرامكة شدة ليس فيها تسامح، ولا لين، ولا كرم؛ فقد نهى عن ذكر اسمهم، وعن وقوف الشعراء ببابهم أو مقابرهم، وعن رثائهم، ولعل عذره في ذلك أن البرامكة كانوا قبضوا على زمام كل الأمور، واصطنعوا كثيرا من الشعراء والفنانين، وكان لهم أنصار من الفرس يأتمرون بأمرهم، وينتهون بنهيهم، ويعتزون بعزتهم، فلعل هذا كله يسبب ثورة تطيح بعرش الخلافة نفسها.
ومن أجل ذلك أيضا خشي أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني، ومع هذا بلغ من بعض الناس الوفاء حتى عرضوا أنفسهم للقتل من حسن ما فعل البرامكة معهم.
مآثر البرامكة
ومن ذلك ما يروى أن بعض الحرس وجد إنسانا واقفا في بعض الخرابات وفي يده رثاء للبرامكة، فأخذ الحارس الرجل، وأتى به الرشيد، فقال له: «أما سمعت تحريمي لرثائهم؟» فقال الرجل: «إن أذنت لي يا أمير المؤمنين في حكاية حالي حكيتها، ثم بعد ذلك أنت ورأيك» فقال: «قل!» قال: «كنت من أصغر كتاب يحيى بن خالد وأرقهم حالا»، فقال لي يحيى: «أريد أن تضيفني في دارك يوما!» فقلت: «يا مولانا أنا دون ذلك! ... فداري لا تصلح لهذا» قال يحيى: «لا بد من ذلك»، قلت: «فإن كان لا بد فأمهلني مدة حتى أصلح من شأني ومنزلي، ثم بعد ذلك أنت ورأيك» قال: «كم أمهلك؟» قلت: «سنة»، قال: «كثير»، قلت: «فشهور»، قال: «نعم.»
فمضيت وشرعت في إصلاح المنزل، وتهيئة أسباب الدعوة، فلما تهيأت أعلنت الوزير بذلك، فقال: «نحن غدا عندك» فمضيت، وتهيأت في الطعام والشراب، وما يحتاج إليه، فحضر الوزير في غده، ومعه ابناه: جعفر والفضل، وعدة يسيرة من خواصه وأتباعه، فنزل عن دابته، وقال: «يا فلان إني جائع فعجل لي بشيء»، وقال لي الفضل ابنه: «الوزير يحب الفراريخ المشوية فعجل منها ما حضر» فدخلت، وأحضرت منها شيئا فأكل الوزير، ثم قام يمشي، وقال: «يا فلان فرجنا في دارك.»
فقلت: «يا مولانا هذه داري ليس لي غيرها» قال: «بل لك غيرها» قلت: «والله ما أملك سواها» فقال الوزير: «هاتوا بناء» فلما حضر قال له: «افتح في هذا الحائط بابا» فمضى ليفتح، فقلت: «يا مولانا كيف يجوز أن يفتح باب إلى بيوت الجيران، والله أوصى بحفظ الجار؟» قال: «لا بأس في ذلك»، ثم فتح الباب، فقام الوزير وابناه فدخلوا فيها، وأنا معهم، فخرجوا منها إلى بستان حسن كثير الأشجار والماء يتدفق فيه، وبه من المقاعد والمساكن ما يروق كل ناظر، وفيه من الأثاث والفرش والخدم والجواري كل جميل بديع، فقال: «هذا المنزل وجميع ما فيه لك!»
فقبلت يده ودعوت له، فقال لابنه جعفر: «يا بني هذا منزل وعيال، فالمادة من أين تكون له؟» فقال جعفر: «قد أعطيته الضيعة الفلانية بما فيها، وسأكتب بذلك كتابها»، والتفت إلى الفضل، وقال له: «يا بني فمن الآن إلى أن يدخل دخل هذه الضيعة ما الذي ينفق؟» فقال الفضل: «علي عشرة آلاف دينار أحملها إليه»، فقال: «فعجلا له ما قلتما.»
অজানা পৃষ্ঠা