وما كان كمال يريد إلا معرفة هذه الأمور وقد عرفها، فقد شغله مجيء أنور بك، وخشي أن يقصد إليه العمدة فيضيق عليه الخناق، وقد كان كمال يخشى أن يضيق عليه الخناق وهو - بعد - لم يثبت دعائمه، ولم يرسها على العمد التي يبتغيها لها.
دارت بذهن كمال هذه الأمور وهو يستأذن العمدة أن يدخل إلى الدوار ليصيب فطوره، وليصيب أيضا ذلك الشيء الذي ما زال يهفو إليه: نظرة من درية. •••
أقبل المساء على القرية فأوى القوم جميعهم إلى البيوت يذودون عن أنفسهم ذلك الجو القاتل الذي شاع في القرية، والتقت أعين الأزواج والأولاد على نور المصباح المتهافت، فأحست القلوب في أضلاعها رجفة، هي هزة الخوف من الغد المجهول، فما يعلم أحد بماذا يطلع عليهم الصباح، وهي هزة الحب اغتلى في أفئدتهم، الحب للحياة التي يحيونها، لا يريدون أن يفارقوها مهما تلاقهم بهذا العنت الذي تلاقيهم به، والحب حب الزوجات لأزواجهن وحب الأزواج لزوجاتهم، وحب الأبناء لوالديهم وحب الوالدين لأبنائهم، يبلغ أقصاه في فورة الأحداث الراعدة حواليهم، والحب حب الجميع لله الكبير أملهم الذي لا أمل لهم غيره، وملاذهم الذي لا ملاذ لهم إلا هو. ومن خلال هذه الخيوط الناعمة القوية من الحب، ومن خلال هذه النظرات الصامتة العميقة، يستمد القوم بعض طمأنينة، تسكن إليها نفوسهم المضطربة بعض السكون. بعض سكون يستطيع أن يصحبهم إلى نوم، وإن يكن نوما مفزعا ينتظر النذير أو ينتظر الكارثة.
فإن مررت ثمة بالقرية فلا نيران ولا سمر، ولا جماعات تتحلق ولا أفراد تروح أو تغدو، إنما هم الخفراء في جلابيبهم علقوا على أكتافهم بنادقهم لا يستعملونها، فقد استعاضوا عن الأعيرة في الهواء بكحة يسعلونها يسلمها خفير إلى خفير، حتى الضفادع والصراصير، حتى الكلاب النابحة أحست بما أصاب الناس، فهي في صمت مطبق، فإن صات أحدها لم يجد جوابا فيعود إلى صمته. إن مررت - لا قدر الله لك أن تمر - لتشوقت إلى هذا الضجيج الذي كانت الضفادع والصراصير والكلاب تثيره في القرية ولتمنيت - وإن كنت تكره أصواتها - أن تعود الضفادع إلى النقيق والصراصير إلى الصفير والكلاب إلى النباح، ولرأيت في أمنيتك هذه أملا ضخما ترجو أن يتحقق، وإن أصاب السمع منك بما لا تحب، نعم، وإن ...
حتى الضياء الخافت الذي كان يتسرب من البيوت قد أقفلت دونه ألواح غليظة من ضلف النوافذ، فهو ثمة حبيس مع الناس لا يرى إلى القرية ولا يشتهي أن يراها.
ليس في القرية صوت وليس في القرية نار وليس في القرية نور، ولكن ضياء في السماء يأبى أن يترك القرية في سوادها الصامت الحزين، فثمة قمير صبي يطل على القرية بشعاعات تغشاها، فهي في زرقة من الضياء، فإن مررت - لا قدر الله لك أن تمر - لأمكنك أن ترى طريقك وأن ترى أيضا رفيق طريقك.
في هذا المساء الأزرق، وفي هذا السكون الهاجع، خرج أحمد أبو خليل متسللا متشحا بالسواد من حظيرة بهائمه، يسحب من خلفه جملين وقد حمل على كل منهما كيسين من القطن، وسار بهما وجهته إلى المدينة يريد أن يبلغها في الصباح.
وفي هذا المساء نفسه كان فتحي خفير العمدة ينتظر العمدة ومعه حماره عند القطار، تنفيذا لأوامره التي أرسلها في قطار الظهيرة الذي كانوا ينتظرونه فيه، تلك الأوامر التي تفيد أن المأمور قد أخره وأنه قادم في آخر قطار يصل إلى محطة بلدتهم.
والذي يريد أن يخرج من القرية قاصدا إلى المدينة لا بد له أن يمر أولا بطريق زراعي تحف به الحقول من الجانبين، وقد كانت الحقول في تلك الآونة مغطاة بالذرة لم يزلها أصحابها عن الأرض.
والذي يريد أن يقصد من المحطة إلى القرية لا بد له أن يمر بطريق تحده الصحراء من جانب، والطرف الآخر من حقول الذرة نفسها التي تحف بطريق القرية من جانب آخر.
অজানা পৃষ্ঠা