ورد عليه آخر: الشيطان شاطر.
غير أن نبوية التي تتميز عن نساء العزبة بأرداف وارفة وخلخال فضة سميك يكاد يطبق على نهاية ساقيها المكتنزتين، نبوية هذه لم تلبث أن أخرست كل الألسن حين شاهدها المأمور ومن حوله وقد علقت «السبت» في يدها وراحت تطرق الأبواب وهي في أتم صحة وتسأل عن البيض. استدارت الأنظار حينئذ شامتة إلى صالح تكاد من حدتها أن تخرق طاقيته الصوف وعمامته البيضاء وجلبابه الأسود الثقيل الذي لا يغيره أبدا. وتشاغل صالح عن الأنظار المصوبة إليه بأن مد يده في جيبه وأخرج صندوق سجائره وانتحى مكانا بعيدا - من قبيل التأدب - ومضى يلف سيجارة.
أما المأمور فقد غامت ملامحه لدى رؤية نبوية وأسرع بمغادرة المكان وقد بدأ صدره يضيق، وزعق بصوت مرتفع: الركوبة يا عبد المطلب.
لم يعد ثمة أمل إلا أن يجد الفاعلة بين أنفار الترحيلة الذين يعملون في الغيط.
وجاءت الركوبة بعد قليل، حمار ناعم ممتلئ لا يظهر منه عرقوب، ولا تبدو في بياضه الناصع سوادة واحدة، يرن لجامه إذا ما خطا، وخطوه خطو حصاوي أصيل.
استند المأمور إلى كتف عبد المطلب، وبدفعة قوية من جسده كاد ينخ لها الخفير ارتقى السرح المكسو الأنيق.
وما كاد الحمار يحس باستواء راكبه فوقه حتى نهق نهيقا طويلا فيه كبرياء، ثم اندفع إلى الأمام وانطلق وراءه كل الخولة وبعض التملية وعبد المطلب الخفير والأسطى محمد العجوز. •••
كانت الشمس - إذ ذاك - قد غادرت قمم أشجار الكافور العالية المزروعة كالسور المهيب حول أرض التفتيش، وبدأت تحث الخطا إلى قلب السماء. وكان الطريق الذي سلكه المأمور قفرا ليس على جانبيه شجرة، ولا حتى تنبت فوقه حشيشة، بل مجرد خط ثخين من التراب على يمينه مئات الأفدنة وعلى يساره مئات. وكان الغيط أيضا ساكنا ذلك السكون الأبدي الذي يذكرك دائما بوجوده فيئز ذلك الأزيز المتواصل العنيد. ولم يكن يخدش ذلك السكون سوى دقات أرجل الركوبة الأربع. وهي تدق الأرض واحدة وراء الأخرى، فتكاد تغوص في التراب تثير سحاب الغبار، والغبار ينهال على وجوه اللاهثين خلف المأمور وركوبته، غبار كالذباب لاسع وعنيد وشمس لا ترحم بدأت تشوي رءوسهم وظهورهم، حتى ذيول أثوابهم لم تفلح في منع نارها. أما فكري أفندي فقد وضع منديله أسفل الطربوش محاولا أن يجعل منه قبعة، وكال للركوبة ضربتين بكعب حذائه وأعقبهما بنخزة من طرف خيزرانته المدببة التي وضع في آخرها مسمار صغير معد لهذا الغرض بالذات، نخزة جاءت بين الأكتاف، ولم تكن الركوبة في حاجة إلى ضرب أو نخز فقد كانت منطلقة بكل ما تملك من قوة.
ظل الركب الصغير ينهب أرض المشاية، وهو ومأموره وتابعوه وحتى سحب الغبار التي يثيرها، لا يتعدى مجرد نقطة صغيرة متحركة في ذلك المسطح الشمسي الواسع الذي لا تدرك العين مداه. ظل الركب ماضيا في صمت، الركوبة تلهث والرجال يلهثون والعرق يسيل، حتى عرق فكري أفندي - الوحيد الجالس - كان هو الآخر يسيل. ظل الركب ماضيا هكذا مدة أدرك بعدها الأسطى محمد العجوز - وكأنما فجأة - أن لا ناقة له ولا جمل في الأمر، فكف عن الجري ونفض يده من حكاية اللقيط وجلس على حافة الطريق يكمل لهثه ويستريح. جلس على الحشيش القصير النابت على شاطئ الخليج، وكأنه شجيرة عجوز نبتت بينه فجأة، بل ما لبث أن فعل مثل شجيرات الحشيش الجالس عليه، فكما مدت هي جذورها إلى الماء الجاري في الخليج، مد هو الآخر قدميه وساقيه يبللها بالماء، وكأنما يسقي بهذا روحه التي كاد يقضي عليها لظى الشمس.
أما بقية القافلة فقد مضت في طريقها وكأنما لم تحس بتخلف العجوز وكل منهم مشغول بعرقه وشقاه وحاله.
অজানা পৃষ্ঠা