وبعد أن اطمأن مسيحة أفندي إلى لهجة العريضة، وضعها في كيس المخدة تمهيدا لإعطائها في الصباح للشيخ «أبو» إبراهيم لينسخها ويرسلها.
وحين رقد مسيحة أفندي أخيرا والعريضة قد أصبحت في كيس المخدة تحت رأسه، بدأ بعض التردد ينتابه، لماذا؟ لم يكن يدري. إنه لم يتردد أبدا في إرسال أية عريضة من قبل، فلماذا يتردد الآن؟ ولماذا يحس ببعض الخجل وصورة الظليلة الراقدة تحتها عزيزة تراود خياله وصراخها وتخريفاتها تطن في رأسه وتشير إليه وتحاصره؟
وحين استيقظ في الصباح تردد بين أن يأخذ العريضة وبين أن يتركها، وأسلمه التردد إلى أن يسأل دميان قائلا - دون أن يعرفه بشيء عن موضوع سؤاله: آخذها ولا أسيبها يا دميان؟
وبلل دميان إصبعيه وفرد كمه ورفع رأسه إلى السقف وقال: سيبها يا خويا ربنا يسهل لك.
وبقيت العريضة مطوية في كيس المخدة. •••
ظلت عزيزة راقدة في تلك البقعة المكشوفة التي تصليها الشمس بنارها صباح مساء، لا يفلح سقف الظليلة الرقيق المملوء بالثقوب في دفع وهج الشمس عنها، ولا ينفع فيها صب الخل أو تدليك الجسد أو علاج الأسطى زكى الحلاق. ظلت عزيزة وأزيز الحمى في جسدها تكاد تسمعه جارتها أم الحسن وتحس به كلما أمسكت يدها. الذباب يعف عليها والعرق يكسوها وفترات غيبوبتها تطول وتعمق. بل انقلب تخريفها آخر الأمر إلى صراخ. إذا أفاقت من غيبوبتها لا تكاد تفتح عينيها وتقول لها أم الحسن: إزيك يا أختي دلوقتي؟ حتى تدب على صدرها بكلتا يديها وتقول: يا لهوي! ثم تأخذ في لطم خدودها وتمزيق ثيابها ولحمها بأظافرها رغم كل مجهودات جارتها - ومن يتصادف مروره أو وجوده - في محاولة شل حركتها وتكتيف يديها، فلا تزيدها محاولات إيقافها إلا ثورة وهياجا، ولا تكف عن تمزيق نفسها إلا حين تهوي مرة أخرى في سراديب الغيبوبة.
ولم تعد الظليلة تلك السبة في جبين الغرابوة يحاولون إخفاءها وصرف الأنظار عنها. فحين عرفت الحكاية على أوسع نطاق وتمت إشاعتها بكل دقائقها وتفاصيلها لم يعد هناك ما يخجل له الغرابوة، أصبحت شيئا مثل لغتهم وفقرهم واحتياجهم لا يحالون إخفاءه أو التستر عليه. وأهل التفتيش أيضا، أولئك الذين كانوا يتداولون حكايتها في السر وبإحساس من يتداول حراما أو أمرا مخجلا، أصبحوا يتحدثون عن الموضوع وكأن لم يعد فيه ما يدعو للخجل. تحول اهتمام الكل من حكاية عزيزة إلى عزيزة نفسها، عزيزة المريضة المسعورة التي تتعذب، حتى أصبحت الظليلة التي ترقد تحتها وكأنها قبة شيخ، الفائت لا يمكن أن يمر دون أن يلقي نظرة، ليست نظرة حب استطلاع أو تشف ولكن نظرة عطف ومشاركة، نظرة من يود لو كان باستطاعته أن يفعل شيئا ليخفف عن تلك المسكينة المحمومة المعذبة.
تحول اهتمام الكل إلى عزيزة، وتحولت عزيزة إلى ذئبة ضارية فاقدة العقل إذا أفاقت، جثة هامدة لا يربطها بالحياة إلا تلك الحرارة المريضة التي تتصاعد منها إذا غابت عن الوعي.
إلى أن جاء اليوم العاشر.
ومن أوله استيقظت أم الحسن فوجدت بوادر التحسن بادية على عزيزة، حرارتها قد انخفضت كثيرا عن ذي قبل، وعيناها مفتوحتان بلا غيبوبة ولا هذيان، وأنفاسها تتردد بطيئة في صدرها، ولكنها منتظمة وممتلئة، وفي الضحى انفرجت شفتا عزيزة، وأصاخت أم الحسن أسماعها ولكنها لم تستطع أن تلتقط شيئا من بين الشفتين المنفرجتين، وأخيرا - وبعد بذل المجهود - استطاعت أن تتبين أن عزيزة تقول: أشرب! وقامت أم الحسن من فورها هالعة، وأحضرت لها كوز ماء من زلعتها وقربته من فمها، وشربته عزيزة على دفعات، ولكنها أتت عليه كله. وسألتها إن كانت تريد ماء آخر؟ وانفرجت شفتا عزيزة وقالت بكلمات واضحة هذه المرة: أشرب، وجرت أم الحسن وأحضرت كوزا آخر شربته عزيزة، وما لبثت أن أغلقت عينيها وبدا أنها ستنام ذلك النوم الذي حرمت منه طويلا.
অজানা পৃষ্ঠা