وزاط دميان للاقتراح، لا لأنه سيأكل الرءوس والجناحين كعادته كلما ذبحوا دجاجا، ولكن لأن معنى هذا أن يتاح له أن ينظف الريش عن الطير المذبوح، وأهم من هذا سيتاح له أن يفتح «القوانص» بالسكين، وفرحته الكبرى كانت حين يخرج أحشاء الدجاجة أو البطة ويتناول منها «القونصة» ويجري عليها السكين فيقسمها نصفين، ويتحسس الحصا الأصفر الذي يعثر عليه داخلها ثم يزيل قشرتها الداخلية التي تطلع في اليد مرة واحدة دون تمزق وبلا مجهود، وتصبح القونصة بعدها نظيفة تكاد - من نظافتها - أن يلتهمها دميان التهاما وهي نيئة.
وضحكت لنده لمداعبات أبيها، وقليلا ما كان يداعبها، ووجدت الفرصة مناسبة فطلبت منه أن يسمح لها بزيارة أم إبراهيم زوجة «أبو» إبراهيم الفقي؛ إذ مرضت المسكينة وأرسلت تطلبها، والعادة كانت قد جرت ألا تخرج لنده إلا لزيارة أسرة المأمور أو في أفراح كبار الفلاحين إذا دعيت إلى فرح، ولكن مسيحة أفندي كان في الحالة التي ممكن أن يسمح فيها بأي شيء ولو كان خارقا للعادة. ألقى نظرة جانبية على أم لنده وكأنه يطلب رأيها، فرفعت حاجبيها حتى بدا أن رقبتها الرفيعة ترتفع هي الأخرى وتصبح أكثر طولا، وقالت: والله أنت حر.
فقال مسحية أفندي بتهليل: خلاص، روحي يا ست لنده، بس خدي بالك لحسن تعديكي، حاكم بيوت الفلاحين مليانة ميكروب. •••
وكان فكري أفندي المأمور أجدر الناس بالفرحة، فهو الذي - بالفطنة والسليقة - أشار إلى الترحيلة من أول لحظة وأكد أنهم الفاعلون، وهو الذي ظل يدأب ويسعى حتى كللت مساعيه بالنجاح وتحققت فراسته، وعثر على الجانية في الترحيلة.
ولكنه حين عاد إلى العزبة لم تكن على سيماه معالم فرح أو بشائر انتصار، بالعكس كانت ملامحه غائمة، فيها خيبة أمل وبوادر تفكير، حتى حين قابله محبوب البوسطجي الذي كان قد عاد إلى الحياة مع زكية بعدما تكفل المأمور برد عقلها وإصلاح ما بينهما حتى إنه جعلها تقبل أمامه قدمي محبوب، وفعلت هذا ومحبوب يستغيث ويرفض قائلا إنها ستخلص منه كل هذا حين تنفرد به في البيت بعيدا عن الناس. حتى حين قابله محبوب وهو لا يزال معلقا حقيبة الخطابات إلى جنبه مع أن عمله كان ينتهي بعد فوات قطار الرابعة، ولكنه كان يحب ألا يراه الناس إلا وتحت إبطه الحقيبة وكأنما ليميز نفسه بشيء عن بقية الناس. حين قابل «محبوب» ورآه مغموما أحب أن يسري عنه كعادته، وقال له إنه من يوم الحكاية إياها بدأ يتعلم القراءة والكتابة على يد الشيخ «أبو» إبراهيم الفقي حتى لا تستغفله زكية مرة أخرى، لم يضحك المأمور ولا حتى رد على محبوب أو حفل به، بل ما كاد يهبط من فوق الركوبة حتى توجه إلى بيته في الحال وقال لزوجته إنه يريد قهوة، وحين جاءت وجدته نائما على الكرسي فلم تشأ إيقاظه.
وفي إغفاءته رأى فكري أفندي نفسه نائما مع عزيزة تحت الظليلة والأنفار كلهم يتفرجون عليه وعليها، وكان زوجها - ببطنه المنتفخ - واقفا ممسكا خطا مع الأنفار، وكان هو الآخر يتفرج ولا يفعل شيئا أكثر من أن يقول: حرام عليك يا حضرة المأمور، حرام عليك، دي عيانة.
وأفاق فكري أفندي مختنقا وكأنه يعاني من كابوس. •••
ظلت اللعنات تنهال - طوال النهار - وتنصب على الترحيلة وتندد بهم حتى من جنيدي صاحب الدكان والوحيد الذي كان يستفيد من وجودهم في التفتيش، كان يلعنهم حتى في وجودهم، ويبدي اشمئزازه من أيديهم الكثيرة الممتدة إليه، قائلا لهم إنه قد أصبح يستبشع حتى مجرد لمس نكلهم وملاليهم، وكأنها هي الأخرى لقطاء جاءت من حرام وذاهبة إلى حرام وملمسها خطيئة.
أولاد الفلاحين وصبيانهم فقط هم الذين - دونا عن قاطني التفتيش - كان لهم رأي آخر في المساء. في النهار فعلوا مثل كل الناس، وكلما صادفوا امرأة من نساء الترحيلة كانوا يأخذون في زفها والتطبيل على صفيحة قديمة وراءها. أما حين جاء الليل فقد أصبح لهم رأي آخر، وأولاد العزبة - ككل الأولاد - يحبون الليل واللعب فيه. الليل حين يتشبع الفضاء المحيط بالعزبة بضوء القمر، ووسوسة الليل، ونقيق ضفادعه، والرائحة التي يضيفها الظلام على الأرض، حتى الزرع الأخضر تصبح له في الليل رائحة، وكأنه يدخر أزكى روائحه لليل. ينسى الأولاد - حينئذ - أحقاد النهار وخلافاته ومشاحناته، ينسون حتى آباءهم وزجرهم، وينسون اليوم الشاق الآتي، وكأنهم لا يعودون يذكرون إلا أنهم أبناء لحظتهم، أبناء الليل والأرض، وإخوة الضفادع والنجوم، وأحباء ذلك القمر الحنون النظيف ويلعبون. يلعبون الاستغماية، وضربونا مونا لما عمونا، وعسكر وحرامية، والحجر دقدق، وسرح. يبدءون اللعبة وفي دورين يكونون قد زهدوا فيها، فينتقلون بخفة وبساطة إلى غيرها وغيرها، ضاحكين صاخبين لا يعكر صفوهم معكر.
في تلك الليلة اقترح واحد من الأولاد على زملائه أن يذهبوا ويتفرجوا على الترحيلة وأولادها وهم يلعبون. وفوجئ صاحب الاقتراح نفسه بالضجيج العظيم الموافق الذي لاقاه اقتراحه؛ إذ هو قد اقترح هذا وهو خائف؛ ذلك أن من الأمور المتعارف عليها بين الفلاحين أهل العزبة أن من المستحيل على أولادهم أن يلعبوا مع أولاد الترحيلة أو حتى يقتربوا منهم، وكأنهم سيصابون بالجذام لو فعلوا هذا. ولم يكن أحد يسأل عن سر ذلك التحريم أو يحاول مناقشته، وهل يستطيع أحد أن يناقش أباه حين يقول له هذا عيب، أو هذا حرام، حين تذكر كلمات كهذه فعلى الولد أن يطيع وليس عليه أن يقول ثلث الثلاثة كام.
অজানা পৃষ্ঠা