379

وقد أراد ربيع أن يتزوج من أسرة كريمة، ولكن طلبه رفض، فأدرك أن أصله لا يغني عن فقره وتفاهة عمله، وإن الفقر يفضح معايب يسترها الثراء عادة؛ مثل انتمائه إلى سماحة ذي الوجه القبيح، وجلال المجنون، وزهيرة السفاحة، وزينات الشقراء الداعرة، ونور الصباح العجمي الغانية. سلسلة صدئة من الدعارة والإجرام والجنون؛ لذلك غشيته كآبة ثقيلة ممتدة فقرر أن يمضي حياته أعزب متسربلا بالوحدة والكبرياء. وماتت فردوس هانم بعد أن جاوز الخمسين، فاضطر إلى أن يقيم في شقة صغيرة من حجرتين وحيدا. ولم يطق الوحدة المطلقة، وضاق بإهمال بيته الصغير فبحث عمن يقوم بخدمته، فجاءه أولاد الحلال بأرملة في الثلاثين من آل الناجي تدعى حليمة البركة. وجدها جادة وأمينة مقبولة الصورة، قوية الشخصية رغم فقرها ، فكانت تنظف البيت وتعد الطعام، ثم تذهب للمبيت في بدرومها.‏ ومع الأيام مالت نفسه إليها فرغب أن يتخذ منها خليلة، ولكن المرأة أبت ذلك في حزم وقالت له: سأذهب يا سيدي ولكني لن أعود.

وجد نفسه وحيدا بائسا كما كان أو أشد بأسا، ولم يعد في وسعه أن يتحمل الوحدة والحرمان العاطفي، إلى خوف من المرض والموت، وحنين إلى الذرية، فعرض على المرأة الزواج وسرعان ما قبلت وهي سعيدة. هكذا تزوج ربيع سماحة الناجي من حليمة البركة بعد أن عبر الخمسين بثلاث سنوات. وسعد بحياته الزوجية، ووجد في شريكته سيدة بيت حازمة، ورعة متدينة، فخورا بانتمائها إلى الناجي، مسحورة بأمجاد الأسرة الأصيلة، وأنجب منها ثلاثة؛ فائز وضياء وعاشور. ومات ربيع، وبكريه فائز في العاشرة، وضياء في الثامنة، وعاشور في السادسة. مات دون أن يترك لأسرته مليما واحدا.

2

تركت حليمة البركة لتواجه الحياة وحيدة. كان أهلها من الحرافيش فقررت أن تعتمد على نفسها، مستعينة بالعزيمة لا بالدموع. انتقلت إلى بدروم مكون من حجرة ودهليز. باعت فائض الأثاث البسيط. استغلت مواهبها في بيع المخلل والمفتقة والخدمة كبلانة ودلالة. لم تولع بترديد الشكوى والحسرة على الماضي، وواجهت زبائنها بوجه مشرق كأنه سعيد، ولم تخل من أحلام عذبة عن مستقبل مجهول.

أدخلت أبناءها الكتاب، وعند السن المناسبة عمل فائز سواق كارو، وضياء شيالا في محل النحاس. وهانت شدة الحياة قليلا، ولكن لم تزل تطالب حليمة بالعمل وقد بلغت الخمسين.

وكان فائز أول من واجه الحياة من أسرته. وجدها معادية معاندة، وأنه يؤاخذ فيها على جرائم أجداد وجدات لم يعرفهم. كان طويلا نحيلا، بارز الأنف، ضيق العينين، قوي الشدقين، وكان يزدرد السخريات ويكبت مشاعره ويمضي في عمله. عرف عن أمه جانبا مضيئا من تاريخ الأسرة، ولكنه عرف جانبها المظلم في الحارة بين الناس. في البيت تلقن معاني الزاوية والسبيل والكتاب والحوض، وفي الخارج دهمه مغزى المئذنة العملاقة المجنونة. وهذه الدور الرائعة التي كانت مقاما لأجداده، ثم أصبحت مساكن للتجار والوجهاء الأغراب. كم يتأملها بغرابة ويحلم ! كم يتخيل تلك الأيام الخوالي! ولا يخلو دماغه منها حتى وهو ينخز الحمار لينطلق بالكارو في أرجاء الحي العتيق. إذن فهذه هي الدنيا، ولكن كيف ينبغي أن نتعامل معها؟

3

وأعلن سخطه على مسمع من أمه وأخويه، فقالت له حليمة: كان جدك عاشور وليا!

فقال فائز بحدة: مضى زمن المعجزات، أما الدور فهي في قبضة الآخرين.

فقالت الأم بحرارة: من الحرام جاءت وفي سبيل الحرام هلكت.

অজানা পৃষ্ঠা