فقال بحقد: الحقيقة هي ما أقول، لقد وجدك في الممر مهجورا من أم فاسقة! - رحم الله الطيبين. - بشرفي ورحمة أخي إنك لقيط ابن حرام! لماذا يتخلصون من وليد بليل؟!
فاستاء عاشور وصمت، فراح درويش يقول: ضيعت جهدي! أغلقت باب الرزق في وجهك، إنك قوي ولكنك جبان، وهاك الدليل.
وهوى بكفه على وجهه بجامع قوته، فبوغت عاشور بأول لطمة يتلقاها في حياته، وصاح درويش بجنون: أيها الجبان الرعديد!
عصف الغضب بعاشور. اجتاحت عاصفته جدران معبد الليل. وجه من راحته الكبيرة ضربة إلى رأس معلمه هوى على أثرها فاقد الوعي. لبث يصارع غضبته حتى تراخت للسكون. أدرك خطورة ما أقدم عليه. غمغم: غفرانك يا شيخ عفرة.
انحنى فوق الرجل فحمله بين يديه. مضى به يشق سبيله بين القبور حتى دخل به البيت. أنامه على الكنبة. أشعل المصباح. مضى ينظر إليه في قلق وإشفاق. تتابعت دقائق ثقيلة حتى فتح عينيه وحرك رأسه.
تطاير من عيني درويش شرر ينم على التذكر. ترامقا مليا في صمت. خيل إلى عاشور أن عفرة وسكينة حاضران ينظران في وجوم.
غادر عاشور البيت مغمغما: توكلت على خالق السموات والأرض.
8
هام عاشور على وجهه. مأواه الأرض، هي الأم والأب لمن لا أم ولا أب له. يلتقط الرزق حيثما اتفق. في الليالي الدافئة ينام تحت سور التكية، في الليالي الباردة ينام تحت القبو. ما قاله درويش عن أصله قد صدقه. طاردته الحقيقة المرة وأحدقت به. لقد عرف من حقائق الدنيا على يد درويش في ليال ما لم يعرفه طيلة عشرين عاما في كنف الشيخ الطيب عفرة زيدان. الأشرار معلمون قساة وصادقون. خطيئة أوجدته، توارى الخطاة، ها هو يواجه الدنيا وحده، ولعله يعيش الآن ذكرى محرقة في قلب مؤرق.
ومن شدة حزنه استمع إلى أناشيد التكية بحب. معانيها المترنمة تختفي وراء ألفاظها الأعجمية كما يختفي أبواه وراء وجوه الغرباء. وربما عثر ذات يوم على امرأة أو رجل أو معنى، وربما فك ذات يوم رمزا، أو أرسل دمعة رضا، أو تجسدت إحدى رغائبه في مخلوق حنون. ويتأمل الحديقة بأشجارها الرشيقة الحانية، ووجهها المعشوشب، وعصافيرها المعششة الشادية، ويتأمل الدراويش بعباءاتهم الفضفاضة، وقاووقاتهم الطويلة، وخطواتهم الخفيفة.
অজানা পৃষ্ঠা