وهكذا فلا يعد من قبيل التبجح قولنا الآن، إن السوريين واللبنانيين، سواء أفي مواطنهم أم في مهاجرهم، وسواء أفي الحقل النظري أم في المضمار العملي؛ كانوا إلى عهد غير بعيد، طليعة العاملين على صب الحركة الوطنية الاستقلالية في البلاد العربية، في بوتقة «القومية الصرف» التي لا غبار عليها من التفرقة الدينية، أو الصبغة الإقليمية. ليس في قولنا أثر للتبجح، فذاك حادث تاريخي - طبيعي - حتمته ظروفنا الخاصة ووضعنا السياسي والاجتماعي، في داخل البلاد وخارجها، لكنه على كل حال مما يحمل على الابتهاج، ويبعث على التفائل؛ لأن التكتل في العالم إنما يستوحي في تطوره الأخير، هذه المبادئ، ويمشي إلى هذه الغايات؛ إن عالم الغد سيكون عالم القوميات الحرة المتضامنة.
ليس من الضروري أن يتفلسف أحدنا، أو أن يتعرض لتهمة «التفلسف»، بل ليس من الضروري أن يكون على رأي من الآراء، أو مذهب من المذاهب في التاريخ والاجتماع، كي يدعي بأن للعامل الاقتصادي شأنا أساسيا في حياة الأفراد والجماعات، يتناول جميع مظاهر حياتهم ومقوماتها. إن أهمية هذا العامل صارت من البروز والوضوح والشمول بحيث يكفي «العقل العصري السليم» أن ينظر ويفكر فيما حوله، فيما هو فيه، حتى يذعن لحقيقة أو لضرورة تفرض كل هنيهة نفسها، ويذكر كل شيء بها، في الدائرة الأوسع فالأوسع، فإذا نحن أخيرا محشورون في تلك الدائرة العالمية الكبرى، أو الشبكة المتكاثرة خطوطا، المتداخلة المتعاسكة إلى أقصى حد. ولقد كان هذا الشرق الأدنى والأوسط - وبوسعنا أن نسميه الشرق العربي - يؤلف في ماضيه السحيق والقريب على السواء (وفي حاضره أيضا) جزءا من الأجزاء «الممتازة» بتعقدها في الشبكة العالمية الكثيفة، تتعدد فيه الخطوط، متداخلة متعاكسة، وأكبر الظن أنه سيبقى كذلك حتى يقضي الله أمره. فنحن لسنا على مفترق الطرق، طرق النزهة والاصطياف، أو الزيارات الدينية والأثرية، بقدر ما نحن عند مصطدم المرافق والمصالح الدولية الاقتصادية العظمى.
ومن المؤرخين الذين يؤمنون بخطر العامل الاقتصادي، بأهميته الأساسية في أحداث التاريخ الجسام، حتى هذه التي لا تمت في ظاهرها إلى الشئون أو العوامل «المادية» بسبب - لا تمت إليها في الظاهر فقط - من أولئك المؤرخين نفر كانوا يطلقون على الشرق الأدنى والأوسط، هذا الاسم الشعري: «الهلال الأخضر» وبالطبع يعنون: الخصيب. الهلال الأخضر أو الخصيب الذي تنتظم أقنيته أرض الرافدين ووادي النيل، ثم ما يتصل بهما أو يقع بينهما، من حاضر وباد. وإن أولئك المؤرخين، وهم أبعد الخلق عن التنجيم، ليعزون إلى الهلال الأخضر بعض، بل أكثر، بل كل الحركات أو الأحداث التاريخية الكبرى التي لا يندر أن تنشأ، أو تتولد في أقصى الأرض، ولا سيما بعد أن انطوت الصحائف المشرقية من سفر الإنسانية الكبير. فمن لي الآن، بمن يقرئ عني أولئك السادة المؤرخين السلام؟ من لي بمن يقول لهم - على الماشي أو على الطاير، كيف يشاء - إن الهلال، ولله الحمد، لم يزل الهلال الخصيب، بل لم يكن في زمن أخصب منه اليوم. سوى أنه كان الهلال الأخضر، فأمسى الأسود، وكان الهلال ذا الأقنية، فأمسى ذا الأنابيب، لكنه لم يزل بفضل النفط العربي الهلال الخصيب، ينتظم هذه المرة الجزيرة وشبه الجزيرة، وما يتصل بهما ويقع بينهما من حاضرة وبادية. لم يتغير شيء، أو لم يكد؛ لقد «اصطلح» التاريخ والجغرافيا على أن يجعلانا دائما وأبدا، في إحدى النقاط المركزية الممتازة الحساسة من التقائهما، بل من اشتباكهما.
ولا يحملن أحد كلامي هذا على محمل تهجم أو تشاؤم، ولا تذمر أو تنكر؛ فهذا النفط قد ظهر في شبه الجزيرة، حيث تقوم الدولة العربية السعودية، وهي أقرب الدول العربية إلى تحقيق معاني الاستقلال أو السيادة بأنواعها، كما أنه قد ظهر في عهد ميثاق الأطلسي وتضامن الشعوب، كثيفها وخفيفها، صغيرها وكبيرها؛ عهد يبشر بمنح الأمم المغلوبة على أمرها حريتها واستقلالها، على أساس من المصالح المتبادلة والتعاون العادل. ومن يدري، فلعل النفط العربي يحدث في حياة هذا الشرق انقلابا من أعظم الانقلابات التي عرفها تاريخه. على أنه في كل حال، جدير بأن يرسل منذ الآن على المشاورات العربية «نورا ساطعا»، ثم بأن يدفع - أكثر من أي عامل آخر - بالتعاون بين الأقطار العربية، مهما يكن من شكله، خطى واسعة إلى الأمام.
لا أحسب أن أحدا تأخذه الدهشة إذا قلت إن شغل اليوم الذي لا شغل سواه في لبنان هو الاستقلال. لن تأخذكم الدهشة، كما أننا لم تأخذنا نحن الحيرة؛ فالاستقلال كلمة لم يهمس بها لبنان في الأيام الأخيرة همسا، بل هتف هتافا.
ليس لبنان عظيما في رقعة الأرض، ولا الشعب اللبناني ضخما بين الشعوب، لكن لبنان مشى قدما نحو حريته واستقلاله في مزدحم الأمم الضخمة والدول العظيمة، في سياق تاريخه الدامي، حتى صار له من المؤهلات ما يجعل ممارسة هذا الحق كالنتيجة الطبيعية المتحتمة، ثم أصبح الحق «الطبيعي» حقا شرعيا أو رسميا إذا صح التعبير، بما قطعته الأمم الحليفة على نفسها ونحو لبنان من مواثيق وعهود. كذلك لم يكن لبنان على خطأ؛ إذ وقف منذ البداية في صف الديمقراطيات الكبرى التي أعلنت على النازية - وهي شر أنواع الاستعمار - حربا لا هوادة فيها؛ وإذ ساهم لبنان في هذه الحرب ولا يزال مساهمة ذات وزن؛ وإذ أدى لبنان، المقيم والمهاجر على السواء، قسطه في الجهاد عن طيب خاطر، موفورا غير مضمون.
وليست أول مرة يهتف فيها الشعب اللبناني لحريته، ويتنادى لاستقلاله، ويغضب لكرامته؛ فهذه الألفاظ الشريفة: الحرية والاستقلال والكرامة، لم تكن غريبة على جونا النظري والعملي. لا، لكن يخيل إلينا أن لهذه الألفاظ اليوم، صدى بل معنى جديدا، كأنما كانت في الهواء، فداخلت وجدان الأمة القومي، بل كأن الحرية والاستقلال والكرامة كانت تعني عند فريق شيئا، وعند فريق شيئا آخر، فإذا بهذه الألفاظ تسترد اليوم معانيها الصحيحة السليمة، فتأتلف وتنسجم في فكر واحد، وشعور واحد، أو بكلمة في «كيان» واحد. ذلك هو المغزى الجديد الرائع لحركتنا الوطنية الأخيرة، كأنما ولد الوطن اللبناني واستقلاله في وقت معا.
كان من الممكن، وسط النزاع الضخم الذي يعانيه العالم منذ خمس سنوات، كل يوم منها حافل بأحداث عسكرية أو سياسية خطيرة تتوقف عليها إلى حد ما نتيجة هذه الحرب الكونية العظمى. كان من الممكن أن يقع الحدث اللبناني أو ما يشبهه، ثم ينقضي دون أن يثير في أنحاء المسكونة ما ملأ الآذان من أصدائه المدوية المتجاوبة المدهشة. ذلك ما كان، لأول وهلة، ممكنا أو منتظرا، ولا سيما عند من ينزع فكره إلى تبسط الأشياء، أو يكتفي بظواهر الأمور، فإذا بالحدث اللبناني، على الضد، يشغل حيزا «محترما» من مشاغل العالم الكبرى، وإذا بأخباره تصطدم على موجات الأثير، وأخبار المعارك الطاحنة في مختلف الميادين، حتى قال بعضهم إن لبنان في تاريخه الطويل لم تتداول ذكره الألسنة والأقلام بمثل ما تداولته في هذه الأيام.
فكيف كان ذلك؟ ما هو العامل الذي جعل لبنان خلال هذه الأزمة الكونية العظمى في هذه الحقبة القصيرة - الحاسمة - من تاريخه الحديث، ملء الأذهان والأسماع؟
لم يكن ذلك على ما نرى نتيجة عامل واحد، بل نتيجة عوامل متعددة، ولعل في رأس هذه العوامل، لعل أول ما يتبادر منها إلى الذهن، بتأثير ظروف الحرب العالمية، أن العلاقات بين الأمم والبلدان، بل بين القارات، أصبحت من التوثق والتداخل والاشتباك بحيث يكاد العالم بأجزائه المتباينة - مهما تباينت - يؤلف وحدة دقيقة الإحساس، لم تكن في زمن أدق منها إحساسا، كالجسم الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت سائر الأعضاء. ويزيد هذا الواقع وضوحا وبروزا وتمكنا، أن العالم المحترب اليوم يعيش في جو لا عهد له به، أو بكل عناصره، هو الجو الذي أوجدته الحركة التحررية العامة - العاصفة بالأفراد والشعوب - التي تستهدف خلق عالم جديد، تقوم فيه العلاقات بين الأفراد وبين الشعوب، على أسس أقرب إلى الإنصاف والحق والخير؛ ففي جو عالمي كهذا الجو، لم يكن في الإمكان أن يبقى الحدث اللبناني حدثا لبنانيا وحسب، وهكذا كان الحدث اللبناني حدثا عالميا أيضا.
অজানা পৃষ্ঠা