ودخلت معه بيته لأول مرة، وهي تحس أنها ستبذل حياتها إرضاء لهذا الزوج الطيب، وأن تخلص له كل الإخلاص، لكنها لم تستطع؛ إذ شعرت بعد أيام قليلة، أن أمنيتها تحققت، وأن الناس عرفوا أنها تزوجت، ونادوها بالعروسة ثم كفوا عن النداء، وانتهى الحماس الذي كانت تحس به، نحو هذه الحياة الجديدة، ولم يعد عندها للزواج معنى بعد هذا سوى ذلك الزوج البارد، الذي يتحرك في البيت بشبحه البطيء البليد، فيثير في نفسها شعورا بالكآبة، كأنها تعيش في قبر وتدفن معها حيويتها وذكاءها وجاذبيتها. وحينما كان يجلس زوجها معها، يتكلم ويرى لسانه وهو يخرج ويدخل، ولعابه الأبيض وهو يتجمع عند زاويتي فمه، تشمئز من حديثه وغبائه، وتثور فيها نيران التمرد على هذا القيد السخيف، وتتأجج رغبتها في الانطلاق، في الحرية، في الاستهتار، في أن تعيش كل لحظات يومها وليلها، أن تنشر جاذبيتها أمام الرجال، وتستمتع بما تراه في عيونهم من رغبة ولهفة.
وصممت أن تطلق هذه الحياة الراكدة؛ فهي لا تؤمن بالزواج أيا كان، ولا تحتمل أن تبيع أنوثتها ومواهبها لرجل مقابل لا شيء، سوى قيود واحتكار والتزامات هي في غنى عنها.
وعادت فريدة بحقيبة ملابسها إلى بيتها، وقابلتها أمها بالدموع؛ فالأم لا يفجعها شيء مثل طلاق بنت من بناتها، ومسحت لأمها دموعها وهي تبتسم، وقالت لها إنها هي التي طلقت زوجها؛ لأنه أناني أراد أن يستولي على كل إيرادها، ولا يترك شيئا لأسرتها.
وتنفست فريدة بهدوء، كأنها أوقعت عصفورين بحجر واحد، وجففت أمها دموعها وهي تدعو على الرجل الأناني المخادع، وتقبل ابنتها في حب وامتنان، وهي تقول: ربنا يسعدك يا بنتي ويعوضك، طول عمرك بتضحي علشانا.
وعادت فريدة إلى حياتها الأولى، عادت رب البيت الذي ينفق ويدبر، ويدخل ويخرج بلا حساب، وعادت إليها ثقتها بنفسها، وشعورها بأهمية وجودها، وعادت حرة لا يمتلكها رجل، وتمتلك رجالا كثيرين يحبونها ولا تحبهم، وكلما أحبوهم لم تحبهم، وكلما كرهتهم أحبوها، لكنها تعرف كيف تجعلهم يضعون رءوسهم على حجرها، ويتنفسون بهدوء، وأصبحت الحياة تحت قدميها، كل شيء فيها موجود عندها في العزبة أو الثلاجة أو في الدولاب، أو في جيب رجل، ليس في الحياة مستحيلات عندها.
ورغم كل هذا لم تكن نمرة دائما، كان لها قلب ينبض من تحت الغبار الذي تراكم عليه، وحينما تحس بقلبها وهو ينبض، تتطلع حولها كالمشدوهة، وتموت الابتسامة الدائمة على شفتيها، وتضع يدها على قلبها، وهي ترى الحياة أمامها ضخمة كالعملاق، وهي تحت أقدامه لا تستطيع أن تلمسه، لكنها تحاول أن ترى شيئا، فتنظر من بين أقدامه كالشاردة إلى نفسها، إلى حقيقتها، فتجدها لا شيء.
حينما أكون تافهة
جلست على المقعد الخشبي المؤلم، وأسندت ذراعي التي تحمل رأسي على مكتبي، وأخذت أفكر رغم أنفي، ورغم أنني عاهدت نفسي على ألا أفكر، وأن أشتغل في هذه الوظيفة كما يشتغل الناس، لكني في هذه اللحظة شعرت بالعجز الكامل، عن مقاومة التفكير؛ فالأشياء التي تعيش داخل رأسي أحس لها دبيبا، وأسمع لها همسا عاليا يكاد يفلق رأسي نصفين.
واستسلمت في ضعف لأن أفكر، فوضعت الملف الغليظ في درج المكتب، وأغلقت القلم الحبر ووضعته في حقيبتي، وأعطيت ظهري للرجل الذي يجلس بالقرب مني؛ لأحجب عن عيني رأسه الغليظ ولأبعد أذني عن صوته الأجش.
وأخذت أفكاري تتقاذفني بسرعة هائلة، وأنا بينها أدور وألف كأنني داخل تروس ساقية، تدور وتئن وتزن.
অজানা পৃষ্ঠা