كانت تشب على أطراف أصابعها؛ لتطل برأسها الصغير، من فوق جدار الشرفة المبني بالطوب الأحمر، واستطاعت بعد محاولات كثيرة أن ترى العربة الصغيرة الزرقاء، وهي واقفة أمام الباب تحت الشرفة، تهتز وتنتفض وتصدر عنها أصوات، لا تعرف مصدرها تشبه «الشخشخة»، التي تسمعها وهي تتفرج على المركب الصغيرة تسبح في حوض الماء، تلك اللعبة الجميلة التي أحضرتها لها أمها منذ أيام في عيد ميلادها الرابع.
وشبت على أطراف أصابعها أكثر وأكثر ، حتى استطاعت أن تدلي رأسها من الشرفة لترى العربة الزرقاء، وهي تنطلق مسرعة في الشارع القصير، ثم تنحني إلى اليسار وتختفي، وأسندت ذقنها الصغير على حائط الشرفة، والدموع تنهمر من عينيها الصغيرتين، ونظراتها الزائغة اليائسة تتعلق بنهاية الشارع الذي ابتلع العربة، لا تدري إلى أين، وقلبها الطفل يدق دقا سريعا متواصلا، وقد اجتاحه شعور بالخوف والفقدان، وأن تلك القوة التي ترعاه وتحميه قد ركبت العربة واختفت في نهاية الشارع.
ونادت بصوتها الرفيع الباكي: «ماما، ماما ...» وظلت نظراتها اليائسة ترقب نهاية الطريق، وقد صور لها أمل ضعيف، أن العربة الزرقاء ستعود منه فجأة.
ولكن العربة لم تعد. وبقيت نهاية الشارع خاوية مقفرة، كخرابة مهجورة، ولم تعرف أي وقت مضى وهي واقفة، متكئة بدقنها ويديها على الحائط، حتى جفت الدموع على خديها، وكفت عن نداء أمها، وأغمضت عينيها وراحت في النوم.
وفتحت عينيها بعد فترة، فوجدت نفسها في السرير الكبير ترتجف من البرد، وقد بللت الفراش وتعرى جسمها الصغير، بعد أن رفست عنها الغطاء وهي نائمة كعادة الأطفال. ونهضت من السرير مسرعة، وخرجت إلى الشرفة ونظرت إلى نهاية الشارع علها تجد العربة الصغيرة مقبلة. ولما لم تجد شيئا دخلت يائسة إلى الحجرة، وقد بدأت تحس بالجوع، ودارت في حجرات البيت الواسعة الخاوية لتبحث عن دادة فاطمة، ووجدتها كعادتها متكومة حول نفسها على الأريكة، في حجرة النوم المهجورة في أقصى البيت، والتي ليس بها إلا سرير قديم، تنام عليه دادة فاطمة، وبعض الأثاث العتيق الذي استغنت عنه الأسرة. - جوعتي يا حبيبتي؟ ده انتي من الصبح ما كلتيش يا ضنايا، تاكلي إيه؟ أجيب لك شوية رز وفاصوليا ولحمة؟
وفكت قدميها ويديها، وفردت جسمها النحيل اليابس، وقامت في تكاسل وهي تقول لنفسها: «أنا عارفة قلب امك ده إيه! حجر؟ يا قلبها ياختي، تهون عليها بنتها كدة؟!» ومسحت بكفها دمعة سالت على خدها؛ فقد تذكرت ابنتها الطفلة أيضا، وقد تركتها في البلدة مع أبيها المشلول، وجاءت هي إلى القاهرة لتشتغل وتعولهما، وقالت لنفسها: «طيب أنا سايباها عشان أأكلها وأشربها، لكن دي سايبة بنتها ليه؟ عشان الراجل! اخص عليها، راجل إيه وهم إيه! هو فيه بعد الضنى حاجة؟!»
وجلست سوسن على المائدة تراقب دادة فاطمة، وهي تروح وتجيء وتضع الأطباق أمامها، وتأملت أصابعها الغليظة الجافة وهي تمسك بالأطباق، فتذكرت أمها بأصابعها الرفيعة الرقيقة، وهي تعد لها الطعام في بيتها. - هي ماما بتروح فين يا دادة؟ - بتروح المدرسة يا حبيبتي، عشان تدرس للأطفال وتعلمهم الحساب. - أنا عاوزة أروح معاها المدرسة. - لما تكبري يا حبيبتي شوية كمان تروحي المدرسة. - وهي ماما بتبات فين؟ في المدرسة؟ - أيوة في المدرسة.
وتنهدت دادة فاطمة، ومسحت عينيها بكمها، ثم جرت هيكلها النحيل، وذهبت إلى حجرتها، وجلست سوسن تأكل وحدها، ثم تذكرت المركب، فقفزت من فوق كرسيها، وذهبت إلى صوانها الصغير، وأخرجت منه المركب، وملأت الحوض بالماء، وجلست تتفرج على المركب وهي تسبح في الماء، وتحدث شخشخة غريبة، تشبه الصوت الذي تحدثه عربة أمها الصغيرة، حينما تهتز وتتحرك، وتأخذ أمها وتجري في الشارع ثم تختفي.
وضاع رونق المركب في عينيها، وفقدت اللعبة لذتها، فأمسكتها بيدها وأغرقتها في الماء، ثم جرت إلى الشرفة لتنظر إلى الشارع؛ علها تجد عربة أمها قادمة إليها، لكنها لم تجد شيئا، فشبت على أصابعها لترى الشارع أكثر، لعل العربة مختبئة هناك تحت الشرفة، وتدلت رأسها في الهواء دون أن ترى شيئا، فعادت إلى دادة فاطمة منكسة الرأس، تبكي بلا دموع وقالت لها: «عاوزة أروح لماما، وديني يا دادة لماما.» - يا قلب امك يا حبيبتي!
ومدت دادة فاطمة يديها المعروقتين، وأخذت الطفلة بين ذراعيها وربتت عليها: يا ضنايا أوديكي لماما، حاضر أوديكي لماما.
অজানা পৃষ্ঠা